الجمعة، 30 ديسمبر 2016

أوهام السوق.. (سحر الأدمغة وتزييف الكلام) د. وائل أحمد خليل الكردي

     أوهام السوق..
(سحر الأدمغة وتزييف الكلام)

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           
جاء في كتابات الرجل صاحب المنهج العلمي : "أن أوهام السوق هي أكثر الأوهام إزعاجا ، تلك الأوهام التي تسربت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء . ذلك أن عقلهم يتحكم في الألفاظ ، بينما الحقيقة أيضاً أن الألفاظ تعود وتشن هجوماً مضاداً على الفهم" ..
لقد أصبح التمييز بين ما يقال وما يفهم مما يقال فن رائج ، ولعبة الحاذق الماهر .. بعد أن صار سحر الأدمغة بألفاظ وصياغات اللغة وارد كل مورد ، وكل انبساط وطي .. في استخدام الحجة والبرهان .. في خطب السياسة والمكاتبات الرسمية .. في الاتفاقات والمواثيق المدونة والعهود .. في نقل العلم والمعلومات والتعلم والتعليم .. في مد جسور التواصل أو قطعها .. في الظن والشك واليقين .. في العقيدة وأغراض الدين .. وحتى عند المشاءون بالغيبة والنميمة وكشف الأستار وهتك الحدود..
لقد أثبت بنو (آدم) أن سحر الأدمغة وتزييف الكلام هو السلاح الأخطر في تاريخ الوجود .. وليس الأمر في هذا بجديد ، فقديماً قال الحكيم "أن الحركة وهم .. فأنت إن أردت أن تصلني في مكاني هذا وأنا واقف ، لما أمكنك .. لأنك لكي تبلغ ذلك فعليك أولاً أن تقطع نصف المسافة ، ولكي تقطع نصف المسافة فعليك قبل ذلك أن تقطع نصف النصف  .. ثم نصف نصف النصف .. وهكذا ، فستجد نفسك مطلوباً أن تقطع عدداً لا نهائياً من النقاط على هذه المسافة لتصل إلي ، وهذا مستحيل .. وفي النهاية لن تجد نفسك إلا واقفاً مكانك ، فالحركة إذن وهم وخداع بصر" .. تلك حجة صيغت بمجرد باللسان والألفاظ ولكنها غير وجه الواقع في أذهان الكثيرين إلى أن صارت مذهباً قام له المريدون والأتباع .. وبتزييف الكلام أيضاً علم (هاروت) و(ماروت) الناس السحر في (بابل) ففرقوا بين المرء وزوجه ..
وفي حاضرنا .. كان سحر الأدمغة وتزييف الكلام سبباً في ترويج كثير من السلع الفاسدة والخروج من المسائلة القانونية بسهولة طالما أن العقد هو شريعة المتعاقدين .. حتى صار تزييف الكلام هو بذاته سلعة تتداول ومهارة للتدريب .. وقد ورد في أحد كتب المنطق القضية التالية مثالاً على ذلك :
طرحت إحدى شركات إنتاج الأجهزة الإلكترونية - في زمان متأخر نسبياً – أجهزة تلفاز تحمل علامتها المسجلة في الأسواق .. ثم أعلنت الشركة منتجها في وسائل الإعلام بواسطة نص مؤلف من ثلاث فقرات بنحو ما يلي :
الفقرة الأولى : "أنك من الممكن أن تسافر في جميع أنحاء العالم دون أن تجد ما هو أفضل من أجهزتنا .."
الفقرة الثانية : "لقد شرعنا في بيع أجهزتنا منذ عشرين سنة ومازالت معظمها تعمل حتى الآن .."
الفقرة الثالثة : "إن أجهزتنا تحتوي على عناصر تجعلها تعمل بكفاءة أكبر من أي جهاز آخر لا يحتوي على مثل هذه العناصر .."
جذب هذا الإعلان أصحاب الطلب والحاجة فسارعوا إلى شرائها بثمن كلف .. ولكن وبعد أقل من شهرين من الاستعمال فسدت كل الأجهزة التي بيعت أو تدنت كفاءتها إلى حد كبير .. فلجأ الناس إلى القضاء بالشكوى .. ولما كان هذا الحدث واقعاً في بلد تجرم قوانينه الرسمية بشدة أي إعلان كاذب على سلعة من السلع فقد تم استدعاء صاحب الشركة والمسئول عن الإعلان ليمثل أمام القضاء ويواجه الاتهام بأن النص الإعلاني الذي روجت به هذه الأجهزة الفاسدة كان نص كاذب تأكيد صلاحيتها .. فماذا كان ظننا برد صاحب الشركة في تفنيد الاتهام؟ .. لقد تبسم في زهو وقال بثقة "الإعلان صحيح تماماً" .. وإليكم التفسير :
في الفقرة الأولى قلت (من الممكن) ولم أقل (من المؤكد) .. فمن الممكن أن يكون كذلك ومن الممكن لا ، تتساوى في ذلك احتمالات السلب والإيجاب ..
وفي الفقرة الثانية قلت (لقد شرعنا منذ عشرين سنة) .. وقد حدث هذا بالفعل ، فلقد شرعنا في البيع منذ عشرين سنة لمدة يومين فقط ثم أوقفنا البيع عشرين سنة وتم تخزين الكمية الباقية بحالتها الجديدة في المخازن ،إلى أن عدنا لبيعها ألان ، فبالتأكيد ستعمل جيداً عند أول تشغيل لها. وبعد ذلك يكون ضمان إستمراريتها بنفس الجودة أمر آخر لم أتحدث عنه في الإعلان ..
وفي الفقرة الأخيرة .. تحدثت عن عناصر تحتويها أجهزتنا ولكني لم أفصح في الإعلان عن ما هي هذه العناصر أو أسميها .. وربما أضمرت في نفسي أن المقصود بهذه العناصر شيء مثل (الشاشة) في التلفاز ، فمن البداهة أن جهاز تلفاز مزود بشاشة يكون هو بلا شك أفضل من أي تلفاز لا يحتوي عليها ..
وهكذا خرج صاحب الشركة والإعلان الساحر من الادعاء الموجه ضده ، وسقطت القضية في أيدي القضاة وأيدي الناس ..

ولا أجد تعليقاً على هذا أبلغ من قول رسولنا الكريم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" .. لقد علم الله (آدم) الأسماء كلها .. ولكننا من بعده حرفنا الكلم عن مواضعه ، فسادت أوهام واستترت حقائق..  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق