القيم
المعلقة في الهواء .. (جسر سان لويس ري) ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
"في ظهر يوم
الجمعة الثاني عشر من شهر يوليو سنة 1714 انهار أجمل جسور (بيرو) وأدقها صنعاً
وقذف بخمسة كانوا يعبرونه إلى الهوة العميقة من تحته" .
هكذا افتتح (ثورنتون
وايلدر) Thornton
Wilder روايته الواقعية (جسر سان لويس ري) The Bridge of sans Luis ray فكان الشاهد في الأمر هو موقف أهل البلدة من
الحادثة :
"كان الناس
يعتقدون أن الجسر باق للأبد، ولم يدر في خلد أحد أنه يمكن أن ينهار يوما ما . لذلك
كان كل من سمع بالحادث من سكان بيرو يرسم علامة الصليب، ويروح يفكر متى عبر الجسر
آخر مرة ، ومتى كان ينوي أن يعبره في المرة القادمة؟ واستولى عليهم العجب ، وأخذوا
يغمغمون كالمأخوذين ، وقد خيل لهم الوهم أنهم يسقطون في الهوة العميقة. وأقيمت
صلاة جامعة في الكاتدرائية ، بينما كانت أشلاء الضحايا قد جمعت وفرق بعضها عن بعض
.. واستولى على سكان (ليما) الجميل شعور قوي بالتوبة والندم ، فردت الخادمات ما كن
سرقنه من أساور سيداتهن ، واضطر المرابون أن يدافعوا بحرارة عن الربا أمام زوجاتهم
.. وكان غريباً أن يتأثر أهل ليما بهذا الحادث كل هذا التأثر . فلم تكن تلك
الكوارث التي لم يتورع بعض الناس أن ينعتوها بأنها من صنع الله شيئاً غير مألوف في
تلك الأرض . فكثيراً ما محا طغيان المد مدناً بأكملها ، وكثيراً ما دفن أحسن
الرجال وأجمل النساء تحت أنقاض البروج التي كانت تتهاوى كل يوم ، وكانت الأمراض
تنتشر في هذه الولاية أو تنطلق من تلك ، وكانت الشيخوخة تقضي كل يوم على كثير من
خيرة المواطنين . لهذا كان غريباً أن يحدث انهيار الجسر هذا الأثر في نفوسهم".
إنها القيم المعلقة
في الهواء .. وصدق الله العظيم إذ قال "إن الإنسان خلق هلوعاً . إذا مسه الشر
جزوعاً . وإذا مسه الخير منوعاً" .
أحسب أن الأمر قد بدأ
عندنا مع أخريات عهد الخلافة العثمانية ، حيث تسربت إلى النفوس بنحو تلقائي خلط
الدين في أوامره ونواهيه وإباحاته ومحرماته بما ألفوه من عادات وتقاليد وموروثات
في رسم وبناء القيم ، فأصبح الدين بتعاليمه وعناصره جزءاً منصهراً في قلب التقاليد
والعادات وثوباً ضمن عباءتها ، فنشأ من ذلك الدمج والانصهار عرف وليد في تاريخنا
الاجتماعي سمي (بالاتجاه المحافظ) في التنشئة والتربية وهو الاتجاه الذي أسبغ
الدين على الموروثات السلوكية في أول الأمر شيء من الضبط والالتزام واصطناع الوقار
.. وسرعان ما بلغ الاندماج حداً لم يعد يعرف معه أين يبدأ الدين وأين ينتهي
الموروث السلوكي أو العكس . فلقد قام الآباء والأجداد بطعن تلك الحقن التربوية في
الأنجال منذ نعومة الأظافر لبث هذه التغذية إلى مجاري الدم للقلب والعقل فينشأ
ناشئ الفتيان علم ما كان قد تعود ولكن دون أن يدري لم وكيف .. فقط ينبغي عليه أن
يلتزم ويحافظ على تلك العادات والتقاليد . واستبدل الناس في زمان لاحق عبارات (هذا
حلال بأمر الله) و(هذا حرام بأمر الله) بعبارات من نوع (هذا عيب بأمر المجتمع)
و(هذا حميد وحسن بأمر المجتمع) .. ويبدو أن الأمر بهذا النحو قد استفحل تماماً
وبوضوح بالغ مع صعود قدم (كمال أتاتورك) على حطام عرش الخلافة العثمانية بعد دبت
الهشاشة في أوصالها وصارت رجلاً مريضاً.. ومن ثم إعلان العلمانية البحتة وجذب
الأمة الإسلامية إلى وجهات المجتمعات الأوروبية في رسم القيم والمبادئ .. فكان من
السهل أن ينحى الاتجاه المحافظ لدينا بدوره نحواً آخر إلى تلك الوجهات باعتبارها
المثال العالي للذوق والفن والوسم الشخصي والاجتماعي .. فلبسنا في بلادنا قبعاتهم
وأزيائهم وطعمنا بالشوك والسكين ومقهرنا أرواحنا لنطرب فصراً لسيمفونيات (بتهوفن)
و(موتسارت) و(باخ) .. وصار التعليم الراقي للصغار هو ما تغذى بالفرنسية
والانكليزية والأسبانية واللاتينية ومقاطع من رائعات (شكسبير) و(موليير) وآخرين من
دونهم .. لقد صارت قيمنا وأخلاقنا بفعل التقليد الأعمى من ناحية وبتذويب الدين في
ثنايا العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية بالصورة التي أضاعت ملامحه وحدوده
ومقاصده من ناحية أخرى .. قيماً وأخلاقاً معلقة في الهواء .. وتحولنا نحن إلى محض
رؤوس في قطعان نوق وإبل .. وظهر الدليل على ذلك جلياً عندما صدمت بلاد أوروبا
بفظائع حربين عالميتين وسألت الشعوب بعد موت الملايين : بأي ذنب جنت يداها أدخلت
هذه النيران في الدنيا .. ولما حارت الإجابة أتى التمرد رداً عملياً في ستينات
وسبعينات القرن العشرين فتحولوا جذريا عما كانوا عليه من أخلاق وأعراف وتجلى ذلك
حتى في المظهر العام حيث صار الزى الرسمي الكامل للرجل بربطة العنق إلى قميص ضيق
جداً مفتوح ليكشف الصدر العاري حتى منتصف البطن وبنطال شديد الضيق من أعلى وبالغ
الإفاضة من أسفل الركبة تعبيراً عن الدعوة إلى قلب القيم رأساً على عقب .. كما
تحول زى النساء من الفستان الساتر لكافة الجسد زحفاً على الأرض وقبعة الرأس
العريضة و(اليشمك) والانتقاب إلى موضات آلميني والميكرو جيب وإظهار كل ما قد خفي
.. وانقلب زوق الغرب في فنونهم من موسيقى السيمفوني الأوركسترا لي إلى صخب الروك أند رول والجاز .. لقد انفلتت الحياة تماماً وطارت الفطن
من العقول وانتزع الصبر من من صدور بني آدم .. ونحن في بلادنا حزونا حزوهم بوقع
الحافر على الحافر ودخلنا ورائهم جحر الضب وأيضاً دون أن نعي كيف؟ ولم؟ .. إن من
يلزم نفسه بقيم معلقة في الهواء هو كمن أمن جسر سان لويس أن ينهار يوما .. فإذا حدث
وانهار صار "كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق"
.. ولذلك فقد انقلبت بلادنا بسبب تلك القيم المعلقة في الهواء عل أعقابها .. وما
يخشى هو خسران الدنيا والآخرة .. لقد سبق الكتاب بأن كل خلق وكل سلوك لم يسند حكمه
إلى ما قاله الله تعالى وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا أمل له أن يمكث في
الأرض وسيضربه كل ضارب حتى لا تكون إلا كزبد البحر يذهب جفاءً.
لقد جسدت الدراما العربية
فكرة القيم المعلقة في الهواء هذه تجسيداً عميقاً حتى رسختها في عقول أجيال تلو
أجيال .. فكثيراً ما صورت أبطالاً
أخلاقيين قد ارتدوا عن أخلاقهم وكفروا بقيمهم لأنهم اصطدموا بواقع الحياة
وتحولاتها وقوة الشر فيها .. وكم من أبطال أخلاقيين ظلوا يدعون إلى مكارم الأخلاق
والفضائل على صورتها المعلقة في الهواء تلك فسدت أمامهم الطريق .. ومن قبل في زمن
بعيد مجدت الحكاية الإغريقية أسطورة (هوميروس) في إعلاء القيم المطلقة والثابتة ..
كما مجدت الحكاية الرومانية ذلك الجندي الحارس الذي قطع العهد على نفسه أن يظل
واقفاً في مكان حراسته دون أن يتحرك وقد هرب الجميع لانفجار بركان (فيزوف) واشتعاله
ناراً وحمماً لا تبقي ولا تذر .. وهاهي توراة اليهود تفسر الشجرة المحرمة التي أكل
منها (آدم) و(حواء) بأنها شجرة معرفة الخير والشر، وما ذاك إلا لأن القيم هي أعظم
شيء إطلاقا وثباتاً، فإن أكلا منها يصيرا إلهين. ولكن الناس تفرقوا شيعاَ ومذاهب
في تعيين ماهية هذه القيم المطلقة والثابتة وأصلها فلم يتفقوا .. ولكن الله تعالى
قال في القرآن العظيم كلمته وألف القلوب وجمع الحكمة والعلوم فكان الدستور العالمي
للأخلاق بالحجة والبرهان وفوق عادات الشعوب وتقاليدها بلا مساس بطرق الحياة
وضروبها بين الناس والتي ألفت منهم الشعوب والقبائل فصارت القيم بين كل الناس هي
الكلمة السواء لأن الله تعالى قال ذلك .. وصارت العادات والتقاليد تحت رايتها
سلعاً ينضح بها كل إناء بما فيه ويجود بها كل شعب وقبيلة لمن سواهم فيتعارفوا ..
وبذلك أمروا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق