"كعصفور العابور على قضيب الدبق" ..
حال البحث العلمي
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
"كعصفور العابور على قضيب الدبق"
عبارة مستعارة عن (مارون عبود) في كتابه (حبر على ورق) وصف بها من تعلقوا جماعات
على لوح الصيد اللزج كناية عن أصحاب الشهادات الكثر يصطفون طابوراً أمام مكتب التوظيف
ليفوز منهم واحد فقط ثم يسرح الباقون على وجوههم في الأرض , لا انتفعوا ولا نفعوا
..
هكذا يمكن أن يكون
وصف حال (البحث العلمي) في ديارنا وزماننا على الأغلب .. فقد ازداد مد القلم على
الأوراق لدى من ظنوا أنفسهم بحاثة وعمال علم ، في حين أنهم على الحقيقة أصحاب غث
.. فليلتفت أولئك إلى ماض من الزمان كان فيه رجال يموتون قتلاً أو حتف أنوفهم
لتشتعل الدنيا بعدهم بعلوم ومعارف وحقائق لا تموت ..
والأمر على صنفين من
بحاثة العلم .. صنف لم يأخذ من البحث العلمي إلا شكله إدعاءً بعد أن ضرب مراراً
بطون الأسفار على هيئاتها وهياكلها ، فلم يخرج منها إلا بحمأة وقليل ماء ونزر من
علم يسير دون باع له فيه .. وبرغم ذلك نراه قد أغرق اسواق الوراقين بآلاف الكتب
والصفحات ، ولكنها خرجت بلا مبتدأ ولا خبر من أجل حياة الناس واجتماعهم وهمومهم ،
عمله "كاجترار العنز في القيلولة" كما قال (مارون عبود) أيضاً .. فماذا
ينشد من وراء ذلك إلا عرض زائل ..
لقد كتب (هيجل) G. W. Hiegel
وهو من أعظم فلاسفة الجرمان كتباً ذات دسم ثقيل انهال عليه الشراح من كل حدب وصوب
.. ولكنه بكل هذا لم يمكنه أن يثبت الدولة (البروسية) في المانيا آنذاك من أن تزول
أقدامها وأن تصبح كما اراد لها أن تكون (نهاية التاريخ) .. إلى أن يأتي (ماركس) K. Marx فيقلب هرم (هيجل) نفسه رأسه على عقبه تماماً
فيقيم به على يد (لينين) V. Lenin دولة عظمى جثمت على نصف العالم سبعين سنة ..
أما الصنف الثاني ،
فهم ما قل وندر ولكنهم حققوا وقدموا .. وهم ما جرى على أيديهم شرط البحث العلمي ذو
الزنة والقيمة والنفع العام .. وهو شرط على ثلاثة وجوه :
أولاً - أن يتجاوز البحث الاقتصار على ملامسة سطح
الموضوع أو القضية بل ينفذ إلى المحاور والنقاطها المركزية والبنيات الأساسية .
ثانياً – أن يقوم
البحث اعتماداً على الاستدلالات التحليلية والبنائية لدى الباحث بنسبة لا تقل عن
79% من عموم البحث والباقي احالات توثيقية ، فمجهود الباحث ليس مجرد إطار يضفيه
على الموضوع فلا يكون الأمر سوى تبديل وتغيير أزياء وألوان ، وإنما عمل الباحث هو
خلق للبحث .
ثالثاً – أن يقدم
البحث إضافة معرفية حقيقية وإيجابية جديدة ومعتبرة على مستوى طرح المشكلات وصوغ
الفرضيات عليها ثم إثبات الحلول الفاعلة مع أصالة الصياغة العامة للبحث ، أي تطوير
المعرفة العلمية لموضوع البحث ..
وهكذا .. فلقد مات
الراهب (جونيبر) في رائعة (جسر سان لويس ري) لـ (ثورنتون وايلدر) محكوماً عليه
بالحرق مع كتابه الوحيد ، لأنه بحث فيه أن سيرة حياة الناس في الدنيا ليست بمحض
أقدار عمي لا يعلمها الله ولا العباد .. وإنما ربما هي قوانين ربانية واعية قاصدة
غرست في قلب الوجود ولا مكان فيها للصدفة ، ويمكن لجميع بني آدم معرفتها من غير
واسطة من راهب أو سلطان .. كتاب وحيد ولكنه عندما تسربت منه نسخة ما .. زلزلت
الأرض تحت سيطرة الآباء ..
فاختر أيها الصديق إما
أن تصير بين الناس أثراً ودرة تاج يحسبها الرائي خرزة عين بما قدمت يداك .. أو أن
تصير فيهم محض لقب يزهو بحامله عمر قصير (.. كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) فهذا
قول رب العالمين ..
وأردد دائماً لقلبي
.. لا يغرن نفسك الزبد الكثيف يغطي وجه البحر بياضاً ، فإنه يذهب جفاءً وإن كثر
ويبقى اللؤلؤ في أعماقه ساكناً ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق