الخميس، 29 ديسمبر 2016

حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء ..
                 د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

كلنا يعلم أن الديانة المسيحية منذ مطلع عهودها على يد السيد المسيح عليه السلام هي ديانة التسامح العالي .. (فمن ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً .. ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً .. ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين).  ثم جاء الإسلام معضداً ومؤيداً لهذا التسامح العالي .. (ادفع بالتي هي أحسن .. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .. لا إكراه في الدين .. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصا ..) والكثير الكثير من التعاليم الربانية بإفشاء التسامح والسلام بين الناس جميعاً ..
لذا كان لابد أن يكون هناك تفسير آخر لتلك الأحداث الجسيمة والآلام التي تحدث عنها "إكتور أباد فاسيولينسي" H. A. faciolince في روايته الواقعية (النسيان) والتي كتبت بالأسبانية وذكر بخط صغير على مطلع صفحة العنوان (انتقامي الوحيد .. أن أقول الحقيقة)  فقد قال فيها ما نصه (إذا صح ما لاقاه شهداء المسيحية في سنواتها الأولى من شهادة بطولية عندما تقبلوا الموت على أيدي الرومان دفاعاً عن الصليب وعن فكرة الإله الواحد في مواجهة الآلهة الوثنية المتعددة ، ورغم تقبلهم الاستشهاد بألسنة النيران أو أنياب الأسود أو حد السيف بنفس غير مبالية ... فإن بطولتهم ... لم تكن أعظم أو أشد ألماً من بطولة السكان الأصليين الذين استشهدوا على أيدي ممثلي الإيمان المسيحي . فلم تكن قسوة المسيحيين ووحشيتهم في القارة الأمريكية بأقل مما ارتكب الرومان في حق المسيحيين في أوروبا القديمة ... باسم نفس الصليب الذي تكبدوا الشهادة من أجله ، أقدم الغزاة المسيحيون على قتل بشر آخرين ... سعياً لإبادة الشر المتمثل في مجتمعات تؤمن بلون آخر من ألوان العقائد الأخروية ... وكل هذا كي يفرضوا عن طريق الكراهية ما يفترض به أن يكون دين حب الأخر والرب الرحوم والتآخي بين الناس جميعاً ... وفي تلك الرقصة ، رقصة الموت ، حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء ..)  وربما استند في هذا الذي ذكره بالرواية – وهو الليبرالي الثائر ضد التقاليد الكاثوليكية – على ورد نصه في (انجيل متى 35,10) (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنه ضد حماتها ..) كذلك ربما استند على نفس النص اولئك الذين صاروا هم جلادو المساء بعد أن كانوا ضحايا الصباح ، بقتل وتعذيب من خالفهم العقائد والمذاهب ..

ولعلي إذا عدت بذاكرتي نحو عهد الصبا فيما مضى من الزمن حيث كنا تلاميذ بكلية (كمبوني) Commboni الخرطوم .. كيف كان الأب الإيطالي (جرومينو) Groumino ناظر الكلية – وهو من جملة بابوات طليان كثر في ذلك الوقت - يتلوا باللاتينية في طابور الصباح الصلوات الواجبة من (العهد الجديد) بخشوع وتضرع لله ، لدرجة قد يظن معها من يأتي عابراً عند الباب ويرى ذلك المشهد أن الملائكة تتنزل عليه في ذلك المكان وبتلك اللحظات .. ولكنه كان سرعان ما يمحو ذلك الخشوع بإسدال ستار عليه من العنف والقسوة البالغة في معاقبة من يأتي من الفتية دقيقة واحدة بعد بدء الصلوات .. وكان ذلك بأن يستدعيه إلى مكتبه ثم ينهال عليه بجلدات ساخنات ملهبة من سوط غليظ يختاره من بين ترسانة سياط معلقة كلها على جدار مكتبه الأنيق والمهيب أيضاُ .. وكم كانت تمر تلك اللحظات مرعبة تدمي القلب على الفتى وهو ينتظر فيها متى ينتهي سير الطوابير نحو الفصول ويرجع الأب (جرومينو) إلى مكتبه لتوقيع العقاب الأليم عليه .. اليوم فقط وجدت تفسيراً لكل ذلك .. بأن المشكلة ليست في تعاليم الدين ، وإنما تكمن في ذات الإنسان الذي يتأول هذه التعاليم مرة .. ويلتزم بها كما هي مرة أخرى .. ويضرب عنها صفحاً مرة ثالثة .. إن الإنسان هو المذنب دائماً وليس النصوص والآيات .. هو من في قلبه زيغ نحو ما يطمع فيه ويملئ به ما فرغ من جراب شخصيته .. الإنسان هو من إذا مسه الشر جذوعا وإذا مسه الخير منوعا .. الإنسان هو دائماً من يبرر لنفسه سوء نفسه وفساد قصده باقتطاع نصوص وآيات بعينها من أصولها في الكتاب فيجعلها (عضين) ويعيد رصها وترتيبها بحسب هواه لتبين في مجمل الأمر سنداً وحجة لضلاله .. حقاً  (إن الإنسان ليطغى ..) فلا ينبغي بعد هذا أن نخطئ الهدف (فالتختة بارزة) كما يقول العسكريون في بلادي .. والإنسان يقف هناك شاهداً  بجرمه على مدى التاريخ ..      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق