كمثل الحمار
يحمل أسفارا
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
مضمون الصورة :
منحوتة يابانية تجسد مشهد طفلة صغيرة ضئيلة الحجم تجلس على طرف أرجوحة وعلى جوارها
أربعة كتب كبيرة الحجم والدسم .. وعلى الطرف الآخر يجلس فتى كبير الجسم ضخم الجثة
يمسك بيديه كتاب صغير على سبيل الترفيه مما يبدو .. وتمام المشهد أن الأرجوحة رجحت
بكفة الطفلة الصغيرة إلى الأسفل بينما طارت كفة الفتى الكبير الحجم ذو الكتاب
الصغير إلى الأعلى ..
مغذى الصورة : أن وزن
وقيمة الإنسان هي بما يحمل من علم مهما خف وزنه وضؤل حجمه ..وأبان لنا ربنا العظيم
إذ قال (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)..
عندما أرسلت تلك
الصورة إلى صديقي السعودي الذي كان ثمرة كسبي من أيام غربتي لما علمته فيه من مثال
نادر للمفكر الحر والناقد الحصيف والمتأمل ثاقب النظرة والكلمة والباحث الذي لا
تفتر عزائمه .. أرسل الرد من فوره سؤال استدراكي يحوي في قلبه إجابات عميقة فقال :
( افترض أمن إنسانا أنفق السنوات الطوال في التحصيل المعرفي ، وأنه بلغ درجة عالية
في المعرفة ، وأصبح الأول في مجتمعه من حيث التحصيل المعرفي الشامل الغزير جداً ..
ولكن هذا الإنسان هو الأول في مجتمعه من حيث الإجرام والانحراف الأخلاقي ، فلم
يترك خلقاً قبيحاً ولا جريمة نكراء إلا ارتكبها .. سرق وضرب الناس واغتصب وسب وشتم
وكذب وأدمن المخدرات وروجها وأكل أموال الناس بالباطل .. إلى آخر القائمة الطويلة
من الفساد الوظيفي والمالي والإداري والأخلاقي وكل المستقبحات والمنكرات .. كيف
نقيم هذا الإنسان والحال كذلك ، وهل تنطبق عليه هذه الصورة ؟)
فما كان جوابي إلا أن
هذا الرجل العالم الفاسد قد فصل ما بين ما لا يمكن فصله وإلا صار كمثل الحمار يحمل
أسفارا .. وقد صار .. لأن الحقيقة هي أن لا انفصال في الإنسان بين علم وقيم .. أو
بلغة الفيلسوف الكبير (إيمانويل كانط) I. Kant، لا انفصال بين (العقل النظري أو المجرد)
القائم بالمدركات والعلوم وبين (العقل العملي) القائم بالأخلاق والقيم والمثل
العليا .. فما كان التفريق بينهما أصلاً إلا مجازا .. إن المسألة القيمية
والأخلاقية والذوقية مضمنة بالضرورة فيما نسميه دائما بالعملية المعرفية ومكون
بارزا من مكوناتها .. وحيث أن هذه العملية المعرفية إن خلت من الجانب الوظيفي في
ضد السياق العام للوجود والكون أصبحت لا قيمة لها بل وفاسدة لأنها فقدت شقها
الأساسي الآخر وهو الوظيفة القيمية تلك .. فالأمر على مثال من يقرأ القرآن والقرآن
يلعنه ، أو من أضله الله بالقرآن الذي هدى به غيره .. ولعل ما كان المقصود من
الصورة – والأقرب إلى فكر أولئك الشرقيين من أهل اليابان – هو المعرفة بمعناها
الكيفي المتكامل وليس بمعناها الكمي المتراكم بعضه فوق بعض في تراص دونما رابط
عميق ودونما رؤية كلية شاملة world-view .. ومن غير الممكن أن تكون هنالك رؤية كلية
شاملة ندير بها أمور حياتنا وشؤون دنيانا ما لم يكن السياق المعرفي كاملاً بشقيه الإدراكي
والقيمي .. أي العقل المجرد والعقل العملي معاً ..
ولقد فسد هذا الرجل
العارف وافسد حينما فصل بين عقله المجرد وعقله العملي .. عندما فصل بين روحه وجسده
.. عندما فصل بين كونه هو ، على الفطرة ، وبين ما يعلم .. ولله الحكمة أخيراً على
ما قد كثر في زماننا هذا من الرويبضة .. صخاب في أسواق العلم والدين .. ذاك الدعي
بكل معرفة وأمر حُصل في الصدور أو بدا للعيان شاهدا قائما .. يقول بهيئة العالم
على المنابر فيما لا علم له به ويسحر أعين الناس وعقولهم فيجني من الشهرة والمجد
والمال والآذان الصاغية ما لم يجنه علماء
خلد التاريخ أعمالهم وأسمائهم .. فعلينا إذن أن نسبر المدافن بحثاً عن عصا موسى
فنضرب بها كل فرعون آثم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق