خُشب مسنٌدةٍ
.. وأذنابُ بقر
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في جانب من وقائع
كتابه الفذ (بحوث فلسفية) دون الفيلسوف اللغوي الانجليزي نمساوي الأصل والأشهر على
مر القرن العشرين (لدفيش فيتجنشتاين) L. Wittgenstein ما يلي : (إن فهم جملة ما يستلزم بالضرورة الانتماء لعضوية طريقة معينة في الحياة وفهم
الألعاب – اللغوية language - games الخاصة بها .. فإن عقل الحاسبات الآلية لا يفهم الجمل التي
يعالجها ، ليس من جهة أنها تجري عمليات تفتقر إلى المركبات العصبية بشكل كاف وإنما
من جهة أنها ليست ومن غير الممكن أن تكون أعضاء في الثقافة التي تنتمي إليها هذه
الجملة ) .. ولقد ظل (فيتجنشتاين) - رغم عمره المديد في انجلترا إلى أن مات ، وأستاذيته
بجامعة (كمبريدج) وتدريسه فيها للطلاب الانجليز باللغة الانجليزية - وفياً للغته
الألمانية الأم في كتابة جميع أوراقه وبحوثه ومقالاته ..
وهذا الزمان .. وفي
بلادي .. عجبت لمن كان أمره بين يديه عظيم ، ثم صار يرنوا لما بيد العصفور الصغير
ذاك في واديه السحيق .. ولو يدري لعلم أنه من قوم أعلون بما لديهم ، ولكن النفس في
أهوائها أحياناً ترجوا السقط من متاع قوم بالٍ .. فكيف لم يدرك أولئك ألآباء فداحة
ما يخسرون من ثمار أبنائهم عندما حسبوا أن التعليم في المهد منذ نعومة الأظافر
لابد أن يكون بحسب مسالك ودروب اللسان الانجليزي في تلقي جميع المعارف .. وكيف لم
يتبينوا أن تلكم النعمة لديهم لو بيد أبناء العم سام لجالدوهم عليها بالسيوف أن نشئوا
في اللغة العربية الزاخرة .. لغة السماء تلك التي بدت من علٍ فاستعصمت دونها لغات
الأرض جبراً عن الإتيان بخير من نحوها وصرفها ..
وليت أولئك الآباء يعلمون أن حرثهم لأجل امتلاك
أبنائهم لغات العالم قدرة وعلماً رهين بعمق امتلاكهم لناصية لغتهم العربية الأم ..
لكن ما قد يدمي القلوب في صدورها أن صار الدفع بالصغار إلى مدارس ناطقة بانجليزية
صرفة في كل موادها مثار افتخار وبهاء بين ذوي الفقر والحاجة على السواء كما ذوي
الحياة المخملية بأترافها ونعمائها .. وربما كله إلى ضياع .. وليشهد هؤلاء بانفسهم
حقيقة الأمر بأن أعظم فلاسفة الانجليز – على مثال من ذكرنا في البدء – قد برهنوا
على أن المنهج الأمثل في صقل العقول وشحذ القرائح وتنمية المواهب والمهارات وصناعة
الأفذاذ منذ عهد الطفولة المبكرة إنما يكون بالتنشئة (من أسفل إلى أعلى) وليس (من
الأعلى إلى أسفل) .. أي بإنبات الإنسان من باطن تربة طريقته في الحياة التي قدر له
الله منذ الأزل أن يقوم فيها وليس بزرعه نبتاً شيطانياً بلا جذور ولا عروق في أرض
غريب .. وأن الإنسان عليه أن يجيد بلا تكلف ألعاب أمه اللغوية في كل صحوةٍ ونومة ، وفي كل بادية وحضر .. وشهد
التاريخ أن أعظم روائع المبدعين إنما صدرت بلغات أمهاتهم وطرائق حياتهم .. وأهم
كلما تمكنوا منها وتملكوا ناصيتها كلما ازداد إبداعهم إبداعاً ..
لقد فشل الاستعمار
البريطاني في الحفاظ على مستعمراته في الهند والسودان ومصر وبلاد كثيرة في أفريقيا
وغيرها عندما ظن المستعمرون أن المنهج العلمي التجريبي في الفيزياء إذا كان قد
أثبت نجاحاً عملياً في نتائجه المعملية في تفسير العالم والكون ، فإن ذات المنهج
عينه ووحده هو ما سينجح في تفسير الإنسان والمجتمع على الحقيقية .. فبالقياس إلى ذلك يكون النموذج والبرنامج
التنموي لديهم الذي أبدع بريطانيا العظمى المعاصرة هو عينه النموذج الذي سيجعل من
تلك المستعمرات بريطانيا ثانية وثالثة ورابعة .. فأنزلوه من أعلى إلى أسفل على
أعناق الشعوب عنوة .. فإذا بالمستعمر ترتد السهام عليه وتلفظ الشعوب بعد حين تلك
المسامير الغريبة عن جلدهم في وجه المطارق الضاربة فوق رؤوسها كل ضحىً وليل ..
ولكن فرنسا ربما
أحرزت نجاحاً أوفق على مستعمراتها ، حيث لم تلبس البيت ثوباً قشيباً من الخارج
ليغطيه - كما فعل البريطانيون – فيسهل على البيت خلعه وتمزيقه ويظل البيت قائما ..
بل عمدوا إلى طلاء البيت من داخله وفي عقر قلبه وعقله لوناً جديداً حتى اختلط
الحابل بالنابل وذابت الأصول في الفروع وراحت اللغة الأم – عربية وأفريقية - كحبات الملح في ماء الفرنسية الحار ..
سنظل هكذا دوماً
قوماً تبعاً لغيرنا ما لم ننشٌئ أجيالنا من باطن طريقة حياتنا وألعابنا في اللغة
الأم .. وكيف لنا أن نسمح لعقول أبنائنا أن تعمل بقوة طاقتها وبالغ بدائعها على كل
علم وفن إذا نحن ألزمناهم كسر أعناقهم لحمل سمات ولغة قوم آخرين لهم وأضعنا بها
معالم ثباتهم على الأرض.. أولم يخلقنا الله شعوباً وقبائل بحكمته .. فإن أضعنا ذلك
في أبنائنا قتلناهم داخل أجسادهم وهم أحياء .. فلا يعودون أحراراً في مستقبل
أيامهم ولا هم يتعارفون .. فأي جريمة تلك
وأي ذنب عظيم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق