أي عدد
على ما لا نهاية .. يساوي صفر
د.
وائل أحمد خليل الكردي
بالأمس القريب
استوقفتني قصة قصيرة جداً كتبها في بضعة وريقات معدودات عملاق الأدب الروسي (أنطون
تشيخوف) Anton
Chekhov ..قصة بعنوان (الرهان) .. لقد بدت هذه القصة القصيرة هي نوع من
الكبسولات الدوائية التي تبدو أصغر ما تكون في حجمها .. ولكنها متى ما ولجت إلى
جوف الإنسان سرعان ما تنفجر فتحدث أثراً عظيماً لا يتصور من مدى حجمها الضئيل في
الخارج ..
هكذا كانت قصة
(الرهان).. والتي تدور أحداثها في رهان بين صيرفي ثري ومحام شاب متواضع الحال ..
فقد نشأ خلاف بينهما حول أيهما أكثر أخلاقية ورحمة (حكم الإعدام) أم (السجن
المؤبد) .. وكان المحامي الشاب يقول بالمؤبد ، أما الصيرفي فيقول بالإعدام .. فقام
الرهان بينهما على أن يمكث المحامي الشاب خمسة عشر عاماً في حبس إنفرادي دون انقطاع
، مقابل أن يدفع له الصيرفي الثري مبلغ مليوني (روبل) روسي .. فالصيرفي إذن قد
راهن بمليوني روبل أن الشاب لن يحتمل في الحبس الانفرادي أكثر من بضعة أشهر ..
بينما راهن المحامي الشاب بحريته لخمسة عشر سنة لا تنقص دقيقة واحدة .. وبدأ
التنفيذ في الليلة المتفق عليها .. ودخل الشاب الحبس الانفرادي بمحض إرادته في قبو
فيلا الصيرفي وليس من حق له في دنياه الجديدة إلا كل ما يريده من الكتب وفي أي
موضوع ، وآلة موسيقية، ورسائل يرسلها دون أن يكون من حقه تلقي رد عليها .. مرت
السنوات ، وقرأ الشاب آلاف الكتب من قصص وروايات وعلوم وآداب وفلسفة وتاريخ .. ثم
انتهى إلى الكتب الروحية واللاهوتية الدينية .. كل هذا بعد أن تعلم بنفسه في سجنه
ستة لغات مختلفة قرأ بها كل تلك الآلاف من الكتب وعاش معها مئات الحيوات والحضارات
والشخوص .. ولكنه بعد أن انتهى إلى الإغراق في الكتب الدينية والروحية بلغ منتهى
القناعة لديه بالعالم أنه يساوي صفراً أمام الموت وبطلان الحياة الدنيوية في مقابل
الخلود الأبدي.. كتب المحامي هذه النتيجة في رسالة مطولة إلى سجانه واحتقر له فيها
الدنيا وكل متعلقاتها حتى تلك الاثنين مليون روبل الموعودة .. وصلت هذه الرسالة
إلى السجان بعد أن لم يتبقى على نهاية مدة حبسه سوى دقائق ، وفي الوقت الذي انتاب
الصيرفي فيه كل اليأس من أن يربح الرهان لاسيما وأنه قد خسر في إحدى مغامراته
المالية كل ثروته ولم يتبقى منها سوى الاثنين مليون روبل قيد الرهان .. ولكن بعد
أن بلغ به اليأس حداً إلى التفكير الجدي في قتل سجينه ، استوقفته العبارات الأخيرة
في رسالته أنه قد قرر التخلي عن الرهان وخسارة الاثنين مليون روبل وأنه عندما تصله
الرسالة سيكون قد غادر القبو بعد كل هذه السنوات من الحبس الانفرادي الاختياري
إمعاناً في احتقار السجان والدنيا والمال وأنه لا يوجد ما يستحق ..
ولنا أن نستفيد من
هذه القصة ثلاثة قيم أساسية :
القيمة الأولى - أن
العمر الحقيقي للإنسان أمام الموت هو أن (أي عدد على لا نهاية يساوي صفر .. فعدد
أيام عمر الفرد من الناس لا تساوي قيمة حقيقية إذا ما قيست بصيغة السؤال (كم ؟) ..
ولكن الحساب يبدأ إذا قسنا بصيغة (كيف؟) .. فكيف فعل بعمره ، وماذا قدم ، وماذا
ترك .. والرابح هو من تجاوز الزمن في عمره وعدد الأيام وحواجز الأمكنة والأشياء
القريبة .. وإليك المثل الأعظم في سيد الخلق (محمد) صل الله عليه وسلم ، عاش فقط
ثلاثة وستون عاماً ولكن عمره أمتد إلى مئات السنين منذ أن كان وحتى الآن ، بل
وسيظل يمتد إلى قيام الساعة .. وكذلك يكون كل من ترك خلفه بعد مماته ما لا ينقطع
به عمله ..
ولعل النعمة المغبون
فيها كثير من الناس (الفراغ) هي فترات في عمر الإنسان يخلو فيها من كل شغل أو
إنشغال .. فإما أن يضيع هذه الفترات ، وإما أن يستثمرها فيكسب بها أعماراً إلى
عمره ، فهي ليست فراغاً مطلقاً وإنما توقف للحظات قد تطول وقد تقصر .. هي فرصة
يأخذها الإنسان طوعاً أو قصراً .. وربما لا يأخذها أبداً .. فيجعل منها ميدان لمزيد
من التعلم وبناء الذات والعطاء المجرد عن كل أجر إلا أجر الله تعالى ..
والقيمة الثانية –
فهي المعنى الكبير للكتاب .. فمعظمنا كان يري (الكتاب) على وظيفته كمادة للعلم
والمعرفة ، يستفيد منه دروسه وخطبه وأوراقه وكتب جديدة ينتجها ويصدرها للناس ..
وحسب . ولكن القيمة الجديدة هنا هو أن (يعيش) القارئ أنماطاً واسعة من الحياة ..
ليس فقط يتعلم بل يعيش .. يعيش عادات ومعتقدات وعلاقات آلاف البشر الذين لم يعرفهم
في حياته أبداً ..
والقيمة الثالثة –
فإن الرجل إذا أصدر قراراً من فيهِ بشأن نفسه ، فعليه أن يمضيه .. وأن لا يكون في
ذلك من شيء ذا اعتبار عنده في التراجع إلا
أن يظن أنه يصيب من حدود الله ما حرم على عباده .. ونحن هنا نعيش بأيام نحتاج فيها
من القرارات أصعبها دون أهونها .. وأن لا نرخي العزائم في العض على أصول الشجر .. وأن
يظل التحدي قائماً ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق