العهدة
الجسيمة ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كتب السير (جيمس
روبرتسون) في تقديمه لكتاب (العهدة الجسيمة) A GREAT TRUSTEESHIP الذي ألفه بالإنكليزية (محمد النجومي) ونشر في
لندن 1957م .. ما يلي نصه :
"لقد كانت غاية
البريطانيين الذين خدموا في السودان – أولاً وقبل كل شيئ – إنشاء دولة حديثة في
تلك البلاد ، والتي كانت حين وفدوا إليها خالية من كافة المقومات الأساسية اللازمة
لأي أمة من الأمم باستثناء الأناس الذين يتسمون بالجرأة وشدة البأس. فلم يكن هنالك
اتصالات ولا مدارس ولا مؤسسات تعليمية ، وكذا الحال في الصحة والزراعة وحتى الري
كان يعتمد في استجلابه على العجلات والشواديف Shadufs ... وبعد أن تم إرساء هذه الأصول وتوطدت اركان
الإدارة البريطانية شرعت تدريجياً في إلحاق الكوادر السودانية للمشاركة في حكم
أراضيهم . وعندما شارف حكم هذه الإدارة على الانتهاء كان الانجاز البارز هو رؤية
السودانيين وقد أصبحوا يملكون حق تقرير مصيرهم وأنهم لن يعتمدوا منذ الآن فصاعداً
على أي حكومة منتدبة من جانب قوى أجنبية "
انتهى كلام سير (روبرتسون) ..
والآن .. وقد استلمنا
نحن هذه العهدة الجسيمة ، وجاء هذا الكتاب لكي يشهد على تاريخ سلف وحتى نتبين من
الوقوف في كل ذكرى للاستقلال على منجزات هذا التاريخ في زمانه وكيف أصبحنا نحن منه
الآن في زماننا .. هل بالفعل مضينا قدماً نحو صياغة مجتمع حضاري واع متقدم في كافة
جوانبه العمرانية والإنسانية ، أم أننا مازلنا نتراجع القهقرى كل سنة خطوة إلى
الوراء أو خطوتين .. لقد وضع البريطانيون في السودان قالباً حضارياً صنعوه هم هناك
في بريطانيا العظمى على نحو ما فعلوا مع بلاد الهند وأغلب المستعمرات تحت التاج
البريطاني .. لذلك لم تهضمه أجيال من أبناء السودانيين أتت من بعدهم .. فلقد أتى
البريطانيون إلى مستعمراتهم بالمبدأ الفلسفي الأساسي في كمبريدج Cambridge
آنذاك وهو (من أعلى إلى أسفل) أي تصميم كل منجزات الحضارة لدى الملكية البريطانية
ومن ثم إنزالها جاهزة على ما دونها وما تحت ايديها .. والآن وبعدما تم الإنزال على
أرضنا .. فلقد رفضنا الصورة الاستعمارية لهذه المنجزات وكان هذا أمر طبيعي وضروري
من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية .. ولكن على الجانب المقابل فقد أصبح لدينا من
العمران والبنيات التحتية والنظم العامة ونظم الخدمة المدنية والعسكرية وقوانين
الإدارة والمحاسبة أمراً واقعاً وصورة أنجزها هؤلاء .. فهل نضيعها بدعوى أننا لسنا
نحن من أقامها ولكي نبدأ مرة أخرى من أسفل إلى أعلى – على نحو ما يقول أصحاب مدرسة
اكسفورد Oxford
الفلسفية – فنجتهد في بناء نموذجنا الخاص منذ أول السلم الحضاري .. حتى إذا ما
خرجت رؤوسنا بعد حين من الدهر لم نجد من ينتظرنا في محطة الأمم بل أن الكل قد
رحلوا إلى القرون البعيدة .. أم أن الأفضل لهم ولنا ولأجيال تأتي من بعدنا أن
نعتبر تلك العهدة الجسيمة منصة انطلاق يسرها لنا الله طيبة خضرة على ايدي نفر من
عباده وإن كانوا على غير ملتنا ووطننا .. لقد تركت لنا تلك العهدة في أول يوم من
العام 1956م لكي تكون عتبة أولى على درج طويل صاعد دائماً نحو المستقبل ولا
ينتظر أحداً .. فالأمة الفطنة هي ما حافظت على عمران نمى على أرضها ولو كانت صنيعة
ليد الغريب ، ثم تعاهدوها بالرعاية والإضافة إليها عمراناً جديداً فالله ربنا قال
(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) ..
إن ذكرى الاستقلال في
عهدها الماسي الراهن تمر في كل سنة عقب سنة عرضاً لصور من ماضي تلك العهدة وتكراراً لأناشيد قد مات مؤلفيها ومنشديها منذ
عقود .. ثم ينتهي يوم الذكرى ليبقى مجرد ذكرى .. ثم ليتكرر نفس الشيء السنوات
التاليات .. حتى بات يظن من دان منا لوطنه أننا صرنا أمة قد خلت ولم يعد لنا هاهنا
حاضر ومستقبل .. ولعلى أحسب أن الاحتفال الثر المثمر بذكرى استقلال بلادنا يكون –
أضعف الإيمان - بعقد مؤتمر في نفس يومه يسمى (المؤتمر البرلماني) الأول أو الثاني
أو السابع .. وهكذا ، تقدم فيه أطروحات المفكرين ورؤاهم ومداولاتهم المدونة حول
" ماذا فعلنا في تلك العهدة الجسيمة منذ استلمناها ؟ " و" ماذا
نفعل فيها الآن ؟ " و" ماذا يبدو لنا أن نفعل فيها عند شروق شمس يوم
جديد وحين نترك يومنا هذا أمساً وراء ظهورنا ؟ " .. الأمر مطروح للتدافع ..
ولعله نداء قبل أن يصبح المنادي هو أيضاً يوماً ما ذكرى منسية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق