حوار ..
أم تفاوض
د. وائل أحمد خليل الكردي
يقولون انتشر الإسلام
بالسيف .. وأقول، بلى قد انتشر بالسيف في كثير من مواقع التاريخ .. ولكن ضد من كان
هذا السيف؟ .. لقد اعمل المسلمين السيف في الماضي ضد كل من تسيد على أبناء شعبه
فقمع أعينهم ، واستبد بأسباب حياتهم ، وألجم الأفواه وقطع الألسنة ، فلا سمع ولا
بصر ولا كلام .. ضد كل من اعتلى عرش سلطانه وقال (أنا ربكم الأعلى) (ما علمت لكم
من إله غيري) .. ضد كل من فوض حق الرب لنفسه خالصا في جباية حسنات الناس وذنوبهم ،
فدق الصكوك باسمه لمن شاء مغفرة .. وعلق رقاب المغضوب عليهم تحت المقاصل بلا جسد
.. على هؤلاء فقط كان السيف .. أما عن سواد الناس وعامتهم فلقد كان السيف لهم لا
عليهم حين صار دم المسلم أعظم حرمة عند الله من بيته المقدس .. وبعد أن صار المشرك
يستجير بالمؤمن فيبلغه مأمنه بعد أن يسمع كلام الله .. ثم من شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر .. فالحقيقة هي أن (لا إكراه في الدين) .. لقد انتشر الإسلام عندما رفع
السيف عن رقاب العباد ، أي عباد ، ظلم الطواغيت وقهر الملوك ..
والآن .. وفي زماننا
هذا .. يقولون ولى أوان السيف ، وأن لنا فحسب أن نجلس (للتفاوض) .. تلك الكلمة
التي بثت في ثقافة بني جلدتنا عندما خارت العزائم وتاهت الأنفس تضربها الأهواء في
كل مفرق وسبيل .. وصار التثاقل إلى الأرض شريعة وتربية وخارطة طريق .. فرضينا بحب
الدنيا وكراهية الموت ..
إن التفاوض الذي
يزعمون لم يكن كلمة من كلمات أصول الإسلام
الذي قال (خذوا ما أتيناكم بقوة) .. فلقد ارتبط مفهوم (التفاوض) دائما بمفهوم
(المعارضة) ارتباط الحرب بالسياسة .. والمستقرئ للأصول الإسلامية قد لا يرى لمفهوم
المعارضة أثراً في تلك الأصول ، بل إنه يجد من الدلالة هناك ما يمكن تسميته
(اعتراضاً) لا (معارضة) .. فالمعارضة إنما هي حالة مستمرة تنتج عن موقف مختلف
عقائدياً أو فكرياً ، وتستند في ذلك على نظام الديمقراطية المتحررة في إزالة أصل
الحكم على اعتبار أن المعيار في هذا هو إمضاء إرادة الأغلبية .. بينما في الإسلام فيجوز
مفهوم الاعتراض الذي هو حالة جزئية محدودة تنبع من ذات الموقف العقدي أو الفكري
للحكم الإسلامي ، ويعتمد في ذلك على نظام الشورى في توجيه وإرشاد وتقويم الحاكم
المسلم دون الخروج عليه أو إزالة حكمه ما أقام في الناس الصلاة ، والمرجعية في هذا
هي لتشريعات القران والسنة وليس لرأي الأغلبية ..
وهكذا يكون عدم الحذر
في استعارة المفاهيم من لدن ايدولوجيا
مغايرة وإدخالها إلى حيز التكييف الإسلامي لها هو أمر على قدر من الخطورة
وقد يؤدي إلى ضياع الهوية السياسية للحكم جملة .. وهو ما بدا في استتباع مفهوم
المعارضة لمفهوم التفاوض والذي غالباً ما ينشأ مزامنا للنزاعات المسلحة وفرض القوة
العسكرية ، ويفيد في عموم دلالته اللفظية معنى التنازل المشترك ، أي (أن تترك
للطرف الآخر في مقابل أن يترك هو لك) بما يظهر الندية والتساوي .. وهذا لا يوافق
الأصل الثابت في قول الله تعالى (ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) فهنا
الفرق الجسيم .. الذي يمحوا تماماً فكرة الندية بين المسلمين الحق وبين كل من هم
غيرهم .. وليكون شرط هذا الأمر عليهم هو (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على
الله) .. فهم يجنحون للسلم تنازلاً وهوناً ويجنح إليها المسلمون بعدهم رحمة ورفقاً
على من جنحوا للسلم قبلهم ، ولا يخشى المسلمون الحق في ذلك من قلة عتاد وسلاح
ورجال بعد أن حقق الله تعالى لهم جواب الشرط على إيمانهم المطلق (فإن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مائتين) .. فلنستبدل إذن مفهوم (التفاوض) الذي هو تنازل من
صاحب الحق لأجل السلم نتيجة الضعف ، بمفهوم أجدى هو مفهوم (الحوار) والذي هو عطاء
من عل لصاحب الحق دون تنازل عن مبادئ أو أرض ..
ولعل هناك من يستشهد
على حجية التفاوض بصلح الحديبية .. فليعلم أن الصلح أمر والتفاوض أمر آخر .. كما
أن هذا قد تم في حال نمو الرسالة دون اكتمالها ، وأما بعد اكتمالها فقد تبين الرشد
من الغي وحسمت الأمور .. ولا يخالف هذا أن نعود فنقول أن التفاوض ليس مرفوعاً رغم
ذلك بالكلية ، وإنما هو مقبول ومطلوب في النطاق الاجتماعي حيث الأمور المدنية
والقضائية والأحوال الشخصية .. ولنستنصر الله من بعد ونشكر فيزيد ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق