الخميس، 29 ديسمبر 2016

عالم المثل المفارق ..

د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

تلك هي العبارة التي كانت ترددها زوجتي (رشا البارودي) كلما مررنا بعدد من الاعلانات التجارية المنتصبة على أطراف الشوارع .. (عالم المثل المفارق .. هنا في بلادنا) ..
وقصة هذه العبارة وما ورائها من حقيقة ، أن (أفلاطون) Plato  الأعظم شهرة في تاريخ الفلسفة والفكر العالمي ، كان قد بنى مجمل تصوره للكون والإنسان والسياسة والمجتمع على افتراض عالمين بديعين .. أحدهما عالم الوقائع الحسية المادية والجزئية المتفرقة والذي نعيش فيه على الأرض وهو العالم الأخس أو الأدنى قيمة .. وعالم آخر عظيم هو عالم المثل المفارق الذي هو عالم عقلي فيه حقائق وكليات الأشياء ، هو عالم الخير المطلق والحق المطلق والجمال المطلق بلا حدود وبلا وصف .. وعالمنا الأرضي ما هو إلا صورة باهتة ناقصة التفاصيل لهذا العالم العظيم المفارق ، بنحو ذلك الكهف الذي افترض (أفلاطون) أن أناس ولدوا وعاشوا عمرهم مقيدي الأيدي والأرجل والأعناق باتجاه حائطه وخلفهم بابه لا يلتفتون إليه ولا يقدرون ، ذلك أنهم لا يرون فقط إلا خيالات وظلال الأجسام الأصلية في الخارج عندما تعكسها أشعة الشمس على جدار الكهف فيحسبون أن تلك الخيالات والظلال هي كل ما هنالك من حقيقة في العالم .. وعندما يكسرون القيد ويخرجون حينها يدركون الفرق بين الحقيقة والخيال ..
ولعل الحال - بحسب مقولة (رشا البارودي) – أن التناقض بين العالمين قد وقع على الحقيقة في حيز صغير من الكرة الأرضية .. هنا في البلد ..  فعندما يسير الراكب أو الراجل في الطرقات ويرفع رأسه قليلاً ليرى كل ذلك الزهو والأبهة والروعة والأناقة والنقاء والنظافة لصور البلد في لوحات الإعلانات التجارية أياً كان موضوعها .. ثم ما أن يخفض  هذا السائر رأسه وبصره نحو أرض الشارع الواقع تصعقه كل تلك الأهوال من أكداس النفايات والأوساخ ، والطرقات التي أبلت عزائمها أمطار الخريف .. فيعلم أن ما في تلك الصور واللافتات إن هو إلا عالم المثل المفارق ومحض خيال وظلال .. وعندما يشاهد ذي العينين هؤلاء الأشخاص اللامعين المنعمين المطرزين بالحلي والثياب القشيبة وعليهم دلالات الحياة المترفة بإعلانات التلفاز ، يحسب أن البلد لا شقاء فيها ولا عنت .. ولكن سرعان ما يلطمه الواقع بمشهد أبناء الشمس والشحاذين والبؤساء في أسواق المدن وزقائقها  كبئر معطلة دون قصر مشيد ..
لقد حاول الإعلام - كعادته – أن يرسم صور زائفة لواقع مغاير جداً لما عليه تلك الصور .. حتى يظن من يتصدع رأسه من غلبة الغناء والطرب على برامج قنوات البلد الفضائية الغثة أن الشعب كله يغني ويطرب ، ولا يرى مسحات الحزن ولوعات الأسى وغوائر الدموع الجافة على وجون رجالها ونسائها وأطفالها .. وحالهم كلهم الستر ..

وحتى الاعلام نفسه واقعه مغاير .. فمن صنع لذاته أمام الناس صورة أنه الحامل لهمومهم والمحاكم لمسئوليهم وحكامهم والمتفقد لمواطن السقط والزلل .. إنما هي مجرد صورة للشخص عينه وقد أثرى هو نفسه بتقربه خفية وزلفى لأولي الأمر من وراء حجب مهتوكة لم تستر عن فطنة الناس عوراته وطفح الثراء المحدث على محياه بغير حق .. وحتى يبلغ به المدى ليفتح قناة جديدة باسم البلد ليفسد ما بقي من قليل لم يفسد بعد .. ولكن الإنسان على نفسه بصيرا ولو ألقى معاذيره .. ذلك قانون الله باق في الخلق .. ويوم الدينونة تتطاير الصحف .. وإنه ديَن البلد لا بد أن يوفي من الأعناق لو يعلمون ولو طال الزمن .. فقد روعت الصدمات القلوب عند زيغ الخطو بالنقلة الكارثية من مشاهدة عالم افتراضي مثالي إلى معاينة واقع أليم مرير .. ولله الحمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق