الخميس، 29 ديسمبر 2016

جامعة الخرطوم .. شرف الحجر وروح الجدران

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           

لما كان قد شهد في ضرب سالف من الزمان (بديع الزمان سعيد النورسي) بأن قال (إن طالب الحق يكسر خاطر نفسه من أجل خاطر الحق، وإذا رأى الحق بيد خصمه يقبل برضاً وينحاز إليه ويفرح ويسر) .. فلقد شهد الحجر من بعده بحق التاريخ منه وعليه .. ولكن دون أن ينكسر خاطر الحجر .. وإذا خلا الحجر حيناً من الأثر لم يفرح الحجر يوماً أو يسر.. ذلكم هو حال جامعة الخرطوم .. وحال كل ما لزم حالها .. فلم يبقى الصرح يوماً دون معنى .. ولم ينتظر دهراً أخرج فيه الأبناء الروح من جسد الأب قسراً .. ولن ينتظر ..
أما بعد ..
 فإن ارتباط الجامعة بمبانيها مسالة غير ثانوية..  فالمباني هي الشاهد التاريخي على الهوية الحضارية والوجودية لها وليس بكونها فقط مجرد مباني أثرية.. وقس على ذلك كل جامعات العالم العريقة مثل كمبردج وأكسفورد وهارفارد وحتى جامعة القاهرة في مصر.. ولم تكن الأهرامات يوماً إلا شاهداً على قبور فراعينها .. وهكذا ، فالمباني كشاهد تاريخي هو أمر عالي القيمة جدا لأنه يعني الإطار الكلي لمفهوم الجامعة من مكان وزمان لا انفصال بينهما ويظل هذا الشاهد التاريخي قائماً لتعضيد أي اجتهادات لإعادة النهضة لها في حال أصابتها الأمراض والوهن في فترات انحطاط يمكن تتعرض للمرور بها أي مؤسسة عريقة.. فهذه المباني إذن هي جزء أصيل من هوية هذه الجامعة فإذا ضيعت لأصبحت الجامعة مولودا جديدا يبدأ الآن منذ لحظة الصفر تعبث به الأهواء حيث لا أصل له ولا تاريخ..  ولضرب المثل فان المباني الشاهدة تاريخيا على جامعة القاهرة فرع الخرطوم لا يمكن لها أن تمنح أي عراقة أو هوية تاريخية لجامعة النيلين..  فجامعة النيلين ستظل دائما كيانا منبتا عن مبانيها التي ورثتها قصرا عن جامعة القاهرة فلا هذه أصل لتلك ولا تلك امتداد لازم لهذه..  لقد ماتت مباني جامعة القاهرة فرع الخرطوم لحظة موت ذلك الأثر الذي أنشأت لتشهد عليه ثم غاب عن الوجود..  ولم يبقى  منها إلا حجراً قائماً على حجر بلا روح ولا حياة .. يشهد على الماضي وليس على الحاضر ..  ومازالت تلك المباني تنتظر غائب قد يعود  وقد لا يعود ..
 وأيضاً .. إن مباني جامعة الخرطوم أنشأت خصيصا لتكون صرحا تعليميا لا لأي غرض آخر وحتى إذا تطورت فلابد أن تتطور في ذات هذا السياق لا أن تخرج عنه .. فمن كلية غوردون إلى جامعة الخرطوم هو سياق واحد ذو هوية واحدة تغير منها فقط مسماها لجعلها أكثر اتساعا وقومية لملائمة هذا التطور الطبيعي.. 

 وأيضاً .. إن إعلان مباني جامعة الخرطوم أثراً تاريخيا فهذا يدعم وحدتها ويقوي رسوخها وثباتها على نحو ما هي عليه وليس أي شيء آخر مما يجعله ادعى للحفاظ عليها كما هي.. فجامعة الخرطوم ليست اسما بل هي وجود متكامل اسم على مسماه القائم بالفعل ودلالة على أنها كائن موجود هنا ، بنحو ما يكون اسم أي إنسان منا دلالة على كونه ووجوده المشخص المعين وعليه تخرج أوراقه الاثباتية  فلا  ينتحله شخص آخر غيره وإلا عد ذلك من الجرائم ..  وعندما خرج الإعلان بان مباني جامعة الخرطوم هي اثر تاريخي من آثار الوطن السوداني كان حكما كليا على جسدها وعلى ما تحمله من روح وغاية لوجود هذا الجسد سواء بسواء وقياس بقياس..  فمباني جامعة الخرطوم غاية وجودها هو جامعة الخرطوم..  أي أن إعلان الأثرية هو إمعان في إثبات الهوية..  وان كل ما هنالك من غرض لهذا الإعلان أن لا تمس هذه المباني بضرر أو تغيير وان عبئ صيانتها سيقع من الآن فصاعداً على عاتق العمل الرسمي للدولة إلزاما وليس على الجهود الفردية أو الشعبية..  وليس أن يأتي هذا الإعلان خصما على هذه المباني بسلب هويتها الحضارية عنها.. 
إنها كلمة حق لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيمن لا يسمعها..  ولا ينبغي بحال إن تكون الجراح الغائرات في عمق النفوس لنزع الروح عن هذا البناء حكراً على خاصة أهله ومن تخرجوا فيه فصاروا حلقة منه أو أبناء له..  فالجرح جرح الكل في هذا الوطن من يغار بالحق على الحقيقة.. فأيا من نبت في  هذا الوطن كانت له جامعة الخرطوم حق وقيمة حتى ولو لم تطأ أرضها قدم منه في يوم قط.  ..  ولن نكون في يوم قططا تأكل أبنائها خشية عليهم ..  سواء في ذلك رأس السهم فينا أو موضع غرسه في وتر القوس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق