علي
البارودي .. الرجل القابض على الجمر
د.
وائل أحمد خليل الكردي
شريان نبع من بطون حلفا وما وراءها .. هو رجل من
أولئك الرجال الذين تعرفهم فوراً ومنذ أول وهلة فظاهره يخبر عن باطنه دون إخفاء
ولا مداراه ودون اختلاق .. مهيب الطلعة .. قوي النظرة في استحياء .. عالي الهمة
والهامة .. يمشي سوياً على صراط مستقيم ..
تبدو للعيان مآثره الثرة عندما يبدأ حديثه .. وعندما يصمت تصبك نفحات
الوقار وسكون النفس . والرجل إن كان عادته الصمت فلقد حدث عن نفسه كثيراً فعلاً
وعملاً إذ كان حياً ، وبعدما مات وجب علينا نحن أن نحدث عنه قولاً وخبرا بعدما
انقطع العمل ..
لقد فاق (علي أحمد
البارودي) في صفاته مضارب الأمثال من أبناء العجم ذوي البشرة البيضاء فيما وراء
البحار نظاماً ونظافة وأمانة ودقة والتزام ، وهكذا المسلم حقاً .. لم يدع يوماً
صلاة الفجر في جماعة وتلاوة ورد من القرآن كل صباح .. وله دائماً مشياً قاصداً
بوقع الخطى قبل مغيب الشمس .. وبعد العشاء كان ككل الصالحين من السالفين يأوي إلى
نومه في الشطر الباكر من الليل ، فجمع بكل ذلك الخير من أطرافه .. كان كل شيء عنده
وكل شاردة وواردة بميعاد وساعة .. شغل نفسه بجادة الأمور عن لغو الخبر وأحاديث
الناس ..
أما عن أخلاقه فلا
أقول أنه غالب هوى نفسه وغلبه .. بل أن الهوى بفعل أدنى المنكرات لم يراود نفسه
أصلاً سجية وفطرةً ، فُيرى الصلاح في محياه طبعاً لا تكلفاً .. ولم يذكره ذاكر في
حال حياته وبعد موته إلا بالخير ثم الخير .. مات الرجل وكان لابد أن يموت فلقد ضرب
المثل وعقد القدوة .. هذا عن حاله مع نفسه .. أما عن حاله مع العمل الرسمي فلقد
كان الرجل مديراً للبنك الزراعي بـ (ود مدني) ، ثم ترقى من بعد مشرفاً عاماً على
كل أفرع البنك الزراعي بقطاع ولاية الجزيرة
.. ولم يشهد البنك الزراعي ازدهاراً وقوة – والشهادة للقائلين ممن عملوا
معه – مثلما شهد في عصره .. فلقد كانت أفرع ذلك القطاع أفضل البنوك عملاً وأقومها
منهجاً وأبرزها طهارة في المال والعقار بقيادة الرجل ، خاصة وأنها كانت تتعهد أخطر
وأعظم مشاريع الثروة في السودان (مشروع الجزيرة) ..
كم رد(علي البارودي)
هدايا وهبات كانت تأتيه سعياً من أصحاب المصالح بحسن نية أو بسوء نية سيان لديه ،
فلم يقبل .. كان يقف على رأس عمله ويرعى رعيته بنفسه بحسم وحزم دون ظلم أو بغي
فيرتدع كل مرتدع ويحذر كل حاذر ، ويأمن الكريم الخلوق في عمله فإن فوق رؤوسهم
القوي الأمين .. وكفى بما خطت يدا مدراء عموم البنك بخطابات الشكر والإشادة شاهدة
عليه وبما له من علو يد وفضل ..
أما المغذى من هذا
الذكر للرجل .. أن بلادنا كم هي مليئة بمثله ، وأن النماذج المثلى والقدوات العالية
لم تنتهي .. فهذا الإنسان هو رجل من زماننا .. كان كما السلف في ثوب عصري .. حكم
فيما يليه فعدل والتزم وأجاد بجدارة .. فلا ييئسن الناس بأن زمان الراشدين قد
انتهى .. فمن قبل كان (عمر بن عبد العزيز) مثلاً أعلى في العدل والحكمة والورع
وقوة القيادة وسياسة الناس على طريق الصلاح ، وهو الذي انقطع الطريق بينه وبين
أجيال النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه بسنوات طوال .. ولكنه وفي عامين فقط أزال
فيها كل ما ران على قلب الأمة من جور بني أمية ..وأحق الحق .. وفاض بيت المال ..
وانعدم كل مسكين وفقير إلا هو .. فكان لابد أن يموت .. كما كان لابد أن يموت (علي
البارودي) ليبقى بعدهم المثل والأمل ..
هي عبرة أنا قائلها ،
أخرج بها الأمر عن ضميري إلى الناس دون تزكية لأحد على الله إلا بذكر إحسان من
ماتوا وأقبروا .. فمتى لنا أن نقدر أمثاله من رجال بلادنا ونسائها ونكتب عن مآثرهم
ونحكي لأجيال قادمة تأتي وتمر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق