وأوشك
الجمر أن يصير رماداً ..
د.
وائل أحمد خليل الكردي
لم أنسى عندما كلفني
في وقت مضى ذلك الرجل البالغ الشأن الدكتور أحمد عبد العال (رحمه الله) التشكيلي
البارز والمحاضر المفوه – أنا وزميلي المحترم بأن نعد إحصاءً تحليلياً وراصداً
موجزاً لمضمون كل كتاب من تلك الكتب التي الموروثة عن مؤسسة الدولة للسينما بعد أن
أغلقت أبوابها وطويت صفحتها .. تلك الكتب التي كانت في الأصل ملكاً لزوجين
يونانيين من أولئك الذين أقاموا في السودان ردحاً فطاب لهم المقام كما طاب
للكثيرين غيرهم .. حينها وجدت أن أبرز ما يميز قسماً كبيراً من تلك الكتب (وجميعها
قد طبعت في انجلترا) أنها تاريخاً انفعالياً ووجدانياً لأحداث ووقائع وأزمان
مختلفة .. وما قد ميزها عن كتب التاريخ المتخصصة أنها كتبت بصياغة أدب المذكرات
التوثيقية لمن عايشوا عياناً تلك الوقائع والأحداث في أيامها .. فدونوها نثراً
وشعراً وقصصاً بكلمات مخلوطة بآثار انفعالاتهم واستجاباتهم العقلية والعاطفية ،
ومعبرة عن ردود أفعالهم الحية بصدد دقائق وتفاصيل ومواقف كثيراً ما لا يذكرها
التاريخ العام للأحداث .. فكانت أروع ما يكون مضرباً للمثل في كساء الأحداث بكسوة
إنسانية صادقة لا تتاح لمدونات التاريخ الجاف .. فالشهادة على الواقع في أدب
المذكرات تجيء مكتملة الحبكة والأركان الوصفية والحسية للوقائع التاريخية ..
هنا يمكن القول بأن
التاريخ إذا كان من شأنه أن يستدعي فقط وقائع الماضي .. فإن مدونات المذكرات
التوثيقية الشخصية تعيد سرد تاريخ نفس الوقائع ولكن في اختلاطها بدماء ولحوم
الإنسان الشاهد عليها والمعايش لها . وهذا المنهج في تدوين المعايشة التاريخية
للأحداث المستقى من المذكرات الشخصية والشهادة الوجودية على العصر له أن يوفر
التوثيق العميق والدقيق لأنماط وطرق حياة الشعوب والقبائل والأفراد والمهن وآمال
الناس وأحلامهم وربما نواياهم .. وله أن يصير معياراً لقياس الراهن من الأمر
ومستقبله في أحوال المجتمعات .. وله أن يكون راصداً لتطور العقل واللغة والنمط
الحضاري لمن هم في محل زمان ومكان تلك المدونات بما يثبت علاقة الكل مع الكل
بأرجاء العالم ..
كثيراً ما أضطر كتاب
الدراما أن يكسبوا الوقائع التاريخية العامة أثناء تشخيصهم لها الشيء غير اليسير
من الانفعالات والعواطف والوشائج المتخيلة تخيلاً واصطناعاً مما يستدعي اختلاف
السيناريوهات في صفها .. فإذا أولي الاهتمام بمدونات المذكرات الشخصية لوقائع
التاريخ فإن ذلك يوفر مصدراً كافياً لبناء المادة السينمائية الوثائقية على أسس شاهدة
وليست متخيلة .. والمبدأ في هذا (أن واجهة الأحداث تظهر لعموم الناس .. ولكن
الحقيقة الحق ليست إلا لمن عايش ما وراء الأسطر وطي الأوراق) ..
لقد اهتم الأوروبيون
كثيراً منذ عهد (شكسبير) بمدونات دب المذكرات التوثيقية الشخصية المعاشة فعلاً من
جانب الكاتب لها .. فكانوا بذلك أقدر على رسم فلسفات للتاريخ أكبر نفعا وأشد أثراً
من مجرد الاعتماد على أسفار التاريخ الوصفية المجرد وبلا عنصر للحياة فيها .. ونحن
في بلادنا لدينا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في تحريك أحداث الواقع على أيامهم
ودولهم وبما يثبت نسب كل طارف إلى أصل تليد .. فإن كانوا دونوا ما عايشوه فقد صار
إرثاً ووثيقة تاريخية بكامل جوانبها وأبعادها (الوقائعية والانفعالية) .. وإن لم
يكونوا قد دونوا فقد ذهبت إذن أدراج القبور في صدورهم حين غيبهم الموت تاركة فجوة
سوداء في سلسلة التاريخ وسياق الأحداث .. وما يعتصر القلب له أسفاً وتكدرا أن أكثر
تلك الشهادات والمعايشات العيانية والانفعالية مدفونة تحت أضرحة الموتى حيث لا
سبيل من بعد إلى تحريرها .. فليس أقل منذ الآن أن نسارع إلى من بقي ما زال بين
ظهرانينا حياً وهو نجل زمان قديم شاهد عليه بما لم يره آخرون ، فندون عنه ما تجود
به ذاكرته في ميدانه لننقذ به جزءاً نادراً من تاريخنا المتكامل قبل أن يصير الجمر
رماداً ، على أن لا نحقر في ذلك من المعروف أدنى صغير ..وألا ليت من سامع .. وألا
ليت من ملبي ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق