السبت، 27 فبراير 2016

حجاب النساء .. وحجة سقراط د. وائل أحمد خليل الكردي

حجاب النساء .. وحجة سقراط 
                                   د. وائل أحمد خليل  الكردي  
wailahkhkordi@gmail.com                           

كان ذلك في العام 1988م  وكان اليوم ذكرى وفاة (قاسم أمين) الشهير بمحرر المرأة في مطلع القرن العشرين .. وكان الاحتفال بهذه الذكرى من جانب دعاة التيارات اليسارية على أشده منذ أول النهار في باحة نشاط جامعة القاهرة بالخرطوم  .. المحاضرات مشتعلة بكل جدية في القاعات وأروقة التحصيل الدراسي .. والباحة في الأسفل مشتعلة بالغناء والرقص والاختلاط الفاحش والمجون  وكل أشكل الرفض والتمرد على الحدود والقيم، الدين .. والزى المحتشم .. والوقار الإنساني .. ومكارم الفضائل والأخلاق،  كل ذلك تم التعبير عن رفضه وبشدة في ذلك اليوم .. فكما دعا (قاسم أمين) إلى تحرير المرأة في الماضي بعنف .. تكون الدعوة إلى تحريرها في ذكراه اليوم أعنف .. وعلى كل حال فالمشهد كان صادماً لكل من دخل الجامعة في ذلك اليوم سواء من أبنائها أو من ضيوفها وزوارها .. وعند منتصف النهار وقد بلغت سكرة العزة بالإثم ذروتها .. وقف شاب يكبرنا في العمر قليلاً وتبدو عليه علامات الجدية والوعي وازداد وجه هيبة بفعل اللحية التي تكسوه وتلتحم مع شاربه كما هو حال (ماركس) أو (انجلز) .. وصعد إلى المنصة وتناول المايكروفون من المغني وتكلم .. قال - أمام حشد كبير من طلاب الجامعة - أن لا رب للناس إلا العلم المادي وأن لا مرشد لهم إلا الطبيعة الصماء من حولهم .. وأن كفى بالمرأة رضوخاً واستتاراً وراء حجاب ونقاب وخمار بدعوى أنها محط شهوة وأن صوتها حتى من خلف ثقب الباب  عوره (كما قال نزار قباني) .. وأن الطبيعة تقول فلتخلع المرأة الأنثى قيودها وحراملها الكثيفة وتبرز للحياة وللجمال كما برز لها من قبل أجدادنا القدماء في الكهوف لا يحملون على أنفسهم عبئاً إلا ورقة التوت البرية .. وأن الطبيعة كما توجب على الرجال أن يظهروا ما حبتهم به من قوة وبأس وصلف .. فكذلك توجب على النساء أن يظهرن ما حبتهن به من جمال وأنوثة ورقة في القول والطبع .. بل وحتى أنه يجب عليهن أن ينزعن عن أنفسهن نون النسوة تلك التي خبأتهن عمراً طويلاً خلف الخمار .. فلتنبذ إذن هذا التخلف وتنزع عنها أي ستار أو خمار وتسفر عن شعرها الذي هو إعلان أنوثتها وتحررها وتحضرها .. وأن الأوان قد آن لنهجر جميعنا تلك الأسمال البالية المسماة بـ (الدين) ... 
لا استطيع أن أصف النار التي اشتعلت في جسدي غضباً من هذا القول التافه .. وخلت لوهلة أنه سينفلت صبري عن عقاله واهجم على هذا الرجل الفاجر فلا اتركه إلا قتيلا .. ولكن رحمة الله أدركتني وألهمت أن أحاول على الأقل الرد عليه على رؤوس هذا الجمع الغفير، فإن ألزمته الحجة أمامهم فذلك الفوز الكبير وإلا فلي ثواب المحاولة وبذل الجهد .. ولعدد من الثواني أخذت أفكر في الطريقة المناسبة التي تجعله يرضخ للمناظرة دون أن تأخذه العزة بالإثم ويكابر .. ولما كنت طالباً نابهاً في قسم الفلسفة فقد رأيت أن اتبع معه الطريقة السقراطية في جدال بالتهكم والتوليد عن طريق السؤال  وحتى يقيم الحجة بذلك على نفسه في آخر المناظرة .. فادعيت الجهل بما يقول ورفعت يدي طلباً للإذن بالتحدث وطرح بعض الأسئلة بغرض مزيد من الفهم والاستيعاب .. ومن باب ادعاء الديمقراطية فقد سمحوا لي على الفور .. ومن ثم فقد بادرت بطرح الأسئلة  وسار الأمر على النحو التالي (بين المحاور والخصم):

(المحاور)-  حسناً، أنت لا تؤمن إذن بغير العلم والكون المادي .. أليس كذلك؟

(الخصم)-  بكل تأكيد .. فكل ما يمكن أن يوجد لا يمكن أن يوجد إلا على هيئة وصورة مادية يمكن فقط قياسها فيزيائياً.

(المحاور)-  أنا أريد أن أفهم .. كيف يمكن القياس فيزيائيا للتأثيرات العاطفية والانفعالية والذهنية في الآخرين، بل في الأشياء .. لقد رأيت كيف استطاع (هتلر) بقدرته الخطابية الهائلة وتأثيره ألظهوري البالغ أن يؤثر في شعب بأكمله وهو شعب مشهود له بأنه من أذكى وأقدر شعوب الدنيا  وأقنعة بصورة يبدو سالبة للإرادة أن يخوض حرباً ضدد العالم كله .. فقط بعد أن خرج على شرفة مبنى الرايشستاج (البرلمان الألماني) وفقط قال للجماهير: نحارب؟ .. أجاب الكل في حالة أقرب إلى الهستيريا : نحارب .. نحارب ..، وذلك فقط لأن (هتلر) قالها. وحتى بعد بلغت الحرب نهايتها وخسر (هتلر) ودخل إلى المخابئ هو وأركان حربه واقتحمت جيوش الحلفاء برلين واجتاحت عموم ألمانيا، ظل من تبقى من الشبيبة الهتلرية وهم فتية مراهقين يدافعون حتى آخر طلقة حماية عن (هتلر)، بل أنهم كانوا يقودون الطائرات ويدفعون بها وبأنفسهم للتفجير في قلب صفوف الحلفاء في عمليات انتحارية .. لاحظ أنهم فتية صغار، و(هتلر) خسر الحرب .. أي قوة نفسية هذه التي تؤثر فيهم وتسيطر على عقولهم وتدفعهم للموت من أجل رجل واحد .. ثم أي قوة تلك التي تجعل حياة كبار الرجال وعظمائهم رخيصة هينة أمام أمر من ذلك الرجل بأن ينهوا حياتهم انتحاراً في لحظة واحدة. .. بالله عليك كيف تفسر الفيزياء ذلك؟ ..

(الخصم)-  الأمر في غاية الوضوح والبساطة .. فإن ما نسميه تفاعلاً وتأثيراً ذهنياً وعاطفياً من جانب الإنسان تجاه موضوع ما أو شخص معين ما هو إلا ذبذبات موجية كهرومغناطيسية تنطلق عن طريق التفكير المركز من الحقل الكهرومغناطيسي لهذا الإنسان تجاه موضوعه أو دماغ الشخص المستهدف فيؤثر فيه بحسب شدة أو ضعف هذه التموجات أو الذبذبات بما هو مطلوب .. فلقد أثبت علماء الإتحاد السوفيتي أنني عندما أفكر في شيء أريده من شخص فإن هذه الفكرة حتماً تصطدم عبر الحامل الكهرومغناطيسي بذهن هذا الشخص ولكن قدراتنا الذهن في أغلب الأحيان تكون أضعف من أن تجعل هذه الذبذبات تؤثر فيه بما يجعله يستجيب وينصاع لأمري .. ولكن كثير من البشر ممن لهم قوة ذهنية فإن هذا الأمر ينجح معهم .. ولكن الشرط الأساسي في أي تأثير ذهني أو عاطفي هو تركيز جميع الانتباه مع توجيه النظر بالعين إلى عين ووجه من يراد التأثير عليه، فالوجه والعينين على وجه الخصوص هم المنفذ الرئيسي للإنسان إلى خارجه ومدخل منافذ الآخرين إلى داخله .. هذا كل ما هنالك ..
(المحاور)-  إذن، فأنت تقول أن الشرط الأساسي للتأثير على الآخرين هو جمع تركيز الانتباه والنظر بالعين إلى الوجه .. حسناً، فإذا كان المقام مقام الحديث عن المرأة وخمار المرأة كما شرعه الإسلام .. لنجري إذن الحديث على هذا المنوال .. فمثلاً، إذا علمت أنت أنني من أولئك النفر الذين يتمتعون بنفوذ وقدرة ذهنية ونفسية ظاهرة في التأثير على الآخرين وجذبهم .. ثم علمت أنني حالياً بصدد ممارسة التأثير لصالحي على فتاة يعنيك أمرها جداً .. وكنت تدري أن نواياي في هذا ليست مبرأة عن الطمع أو منزه عن الخبث .. فهل ستسمح لي أن أفعل؟

(الخصم)-  بالطبع لن أسمح لك .. وليس لهذا علاقة بدين أو بأخلاق .. فالمسألة مسألة استغلال وفرض سيطرة على حرية إنسان .. ولن اسمح لك أن تفعل ذلك دون إرادة كاملة منها ورغبة أكيدة في ذلك لديها ..

(المحاور)-  فإذا علمت أنني ماضي فيما أريد .. فماذا ستفعل لمنع ذلك؟ وهل الأمر له علاقة بالعلم المادي أيضاً أم بشيء بعيد عنه؟

(الخصم)-  سأمنعك .. وبالعلم المادي أيضاً فكل شيء تفسيره وفعله لا يتم ألا بالعلم المادي.

(المحاور)-  إذن كيف ستفعل؟

(الخصم)-  أولاً وقبل كل شيء سأعمل على ضرب موطن تركيز الانتباه لديك على تلك الفتاة .. وليس معنى ذلك أني سأعمل على الاعتداء عليك .. ولكن ما سأفعله هو أمر على نفس مثال فكرة تشويش الرادار، فيتعذر بث الرسالة الذهنية بصورة واضحة ومؤثرة.

(المحاور)-  مزيد من التوضيح؟

(الخصم)-  حسناً .. لكي تحدث الرسالة الذهنية الصادرة عن شخص تأثيراً كاملاً على شخص آخر لابد من عزل موطن التأثير عن كافة العناصر والمؤثرات المحيطة به حتى يتم تجميع تركيز الانتباه للمرسل على نقطة التأثير والاستجابة والتي هي وجه وعين المتلقي تماماً كما يحدث في تشويش رسائل الرادار بذبذبات معارضة ومختلطة .. هل وضحت الفكرة؟

(المحاور)-  نوعاً ما .. ولكن لتأكيد الفهم هل يمكن هل يمكن ضرب مثال بارز .. ودعني أقترح لديك هذا المثال لترى هل فهمت أنا وكافة الحاضرين مغذى ما تريد قوله أم لا ..

(الخصم)-  لا بأس .. تفضل.

(المحاور)-  حسناً .. هل تقصد أنت بفكرة منع التأثير الذهني عن طريق التشويش شيء على غرار لوحة معلقة على جدار في أحد المعارض .. فإذا كانت هذه اللوحة تحوي في معظم ألوانها نفس لون الجدار المعلقة عليه .. وليكن مثلاً اللون الأحمر، فهل يمكن للناقد الحصيف والمتذوق أن يدرك ويتلقى كافة معاني وأبعاد هذه اللوحة؟

(الخصم)-  كلا بالطبع .. إذ لابد لتمام التذوق والنقد للوحة تلك أن يتم عزلها عن الجدار الخلفي لئلا يختلط لون الجدار مع اللون الغالب في تكوين اللوحة، وذلك حتى يتم جمع تركيز الانتباه عليها دون غيرها من خلفيات ومؤثرات..
(المحاور)-  ماذا نفعل إذن لتحقيق هذا العزل للوحة ووضعها في مركز الانتباه؟

(الخصم)-  الأمر بديهي .. نضرب إطاراً من كافة الجهات (برواز) وهذا يكفي لعزلها عن الجدار الخلفي مهما بدت ألوانه متداخلة مع ألوان اللوحة ..

(المحاور)-  إذن .. نفهم من ذلك أنه بقدر ما يكون الإطار بارزاً وملفتاً بقدر ما ينجح في أداء وظيفته بعزل اللوحة عن خلفيتها، ومن ثم تمام وضعها في مركز الانتباه ..

(الخصم)-  بكل تأكيد .. الأمر الآن أصبح واضحاً لديك ..

(المحاور)-  إذن، لنسحب هذا المثال الآن على الفتاة موضوع حديثنا .. ولنفترض أن وجه تلك الفتاة – والذي هو موطن الاستجابة لذبذبات وموجات رسائلي الذهنية – هو بمثابة تلك اللوحة على الجدار في معرض الصور، ولابد من وضعه في مركز تجميع الانتباه لدي حتى يحدث الأثر المطلوب .. فما أنت فاعل لمنع ذلك؟  

(الخصم)-  إن كان لابد من تشويش وإضعاف التركيز على اللوحة ..  فلا محالة أن ننزع الإطار فتنصهر العناصر اللونية للوحة مع ألوان الجدار  فلا يعود التركيز وجمع الانتباه ممكناً..

(المحاور)-  إذن .. ستنزع إطار الفتاة؟؟ ..

(الخصم)-  بالتأكيد ..

(المحاور)-  وما هو هذا الإطار؟ .. وكيف ستنزعه؟؟ ..

(الخصم)-  الاستدلال يقودنا إلى احتمال واحد فقط .. فلابد أن نعترف بأن الإطار الجميل الذي يزين وجه الفتاة ويحقق بالتالي درجة جذب عالية للانتباه عليه ومن ثم خضوعها للتأثير .. هو الشعر .. وبقدر ما يكون شعر المرأة مصففاً وسافرا بقدر ما يعزل وجهها عن كل المؤثرات الخارجية المحيطة به ويتهيأ ليكون مناط التأثر والاستجابة ..

(المحاور)-  إذن، كيف ستنزعه عن الفتاة؟؟ .. هل ستزيله؟؟ ..

(الخصم)-  بل .. سأغطيه .. ولا مفر، حتى أبطل أو على الأقل اضعف حدة جذبه للانتباه نحو وجهها من جانبك .. فلا يكون لك تأثير يذكر عليها ..

(المحاور)-  تغطي شعرها؟؟ .. إذن، هو الخمار؟؟ ..

(الخصم)-  سمه ما شئت .. 

(المحاور)-  الآن عرفت دلالة قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" ..


(صمت برهة .. ثم نزل عن المنصة وتوارى، ثم عاد المغني ينشد .. ولكن ما عاد الحال كما بدأ ..)

تخرج الرجل من الجامعة وانقطع أثره .. إلى أن قابلته دون توقع بعد عدة سنوات .. لم يقل شيئا .. وخلت أنه لم يعرفني .. ولكنه أخرج مصحفاً من جيبه ولم يتكلم .. ففهمت أنه قد صار يحمله دوماً منذ ذلك اليوم .. مرت السنوات الطوال ولم أقابله بعدها أبداً ولم أعد أعلم عنه شيئاً .. ولكن أثر السعادة التي تذوقتها حينها ما زال في حلقي إلى اليوم كأنه حدث بالأمس فقط .. ألا رحم الله صديقي (عمر)  ..





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق