ويلسون
.. ذاك الإنسان
د.
وائل أحمد خليل الكردي
فيلم (Cast away) لبطله (تو م هانكس) الممثل الأمريكي المشهور، هو أحد الأفلام التي
ليس للعقل إلا أن يتوقف عندها ويعمل فيها التحليل النقدي. وذلك لأنه من تلك
الأفلام التي نحسب أنها تنتسب إلى ما يعرف بالرمزية symbolism المفهومة أو الواضحة وليست تلك الرمزية
التقليدية التي تعطي خطاباً مغلقاً يستشكل على الإنسان العادي فهمه أو حل شفرته.
وتتميز الرمزية المفهومة أو الواضحة بأنها ضرب من ضروب الرومانسية
ولكنها أقل استغلاقاً من العاطفية، فهي لا تهدف إلى مجرد تصوير الجوانب الظاهرة من
الواقع أو محاكاتها بل تتجاوز إلى الحث على تغيير العالم وإعادة خلق الواقع بصور
جديدة وذلك بكون الرمز لا يقتصر عمله على القيمة الذاتية وإنما يشمل أيضاً القيمة
الخارجية ولكن بتحويل ذاتي يمنح العمل قيمته الفكرية والأخلاقية والعاطفية ..
فمؤلف الدراما مثلاً يحاول من خلال الرؤية أن يبين سلسلة من المعاني والقيم يشعر
بأنه لا يستطيع أن يعبر عنها تعبيراً وافياً أو مقنعاً إلا إذا سلك تلك المسالك
القصيرة إلى المستويات العميقة من العواطف والوجدان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما
نسميه بالرمزية الواضحة أو المفهومة هي تلك الرمزية التي تخاطب ما يعرف بالحس
المشترك Common
Sense ليس عن طريق ملكة العقل المنطقي الحسابي وإنما
عن طريق ملكة (الحدس) التي هي وسيلة الإدراك المباشر للأحداث دونما وسيط بينهما،
فهي – أي ملكة الحدس – وسيلة من وسائل الوعي الإنساني تقوم على الانفعال الوجداني والاستجابة
الشعورية والتفاعل الحي للحدث، وهنا تسمى نتيجة هذا النشاط الإدراكي ليس بالمعرفة
وإنما بالمعايشة. والأداة التي ترسم بها الرمزية الواضحة أو المفهومة علامتها
الرمزية في العمل الفني أو غيره إنما هي اللغة العادية Ordinary Language وذلك بوصفها التعبير
الأمثل عن أنماط وطرق الحياة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف النمساوي المعاصر (لدفيش
فيتجنشتاين) Ludwig
Wittgenstein وهذا بدوره ما يجعل تلك الرمزية الواضحة تلتحم
بعض الشيء وبنحو من الأنحاء مع ما يعرف بالواقعية النقدية Critical Realism تلك
المفاهيم ما يمكننا من قراءة فيلم (Cast away) وفك
رمز شخصية (ويلسون) على النحو الذي نحن بصدده فيما يلي:
تتلخص فكرة الفيلم في وجود بطل القصة منعزلاً بمفرده عن العالم بجزيرة
في عرض المحيط بعد تحطم طائرته، فيجد نفسه مضطراً لاكتشاف وتوليف أسباب الحياة
وحتى تتاح له العودة مرة أخرى إلى بلاده ويستأنف حياته الاجتماعية التقليدية من
جديد.
وفي معرض التحليل للعلامات الرمزية في الفيلم نجد في البدء الإشارة الأولى
لقيمة وضرورة (اجتماعية الإنسان) كشرط جوهري يؤلف جزءاً كبيراً من حقيقة وجوده وهو
ما يجعل الإنسان الذي فقد المجتمع يحاول أن يخلقه بصورة من الصور حتى يظل ممارساً
لذاته وكينونته بالتعبير عن نفسه أمام الآخرين فيما يعرف (بالشخصية) حيث تتمثل هذه
الشخصية وتميزها وقيمة ومعنى وجودها في التواصل باللغة والجسد والانفعال الوجداني
والتبادل الوظيفي للأدوار الاجتماعية بينه وبين الأفراد الآخرين، فإن فقد هذا
التواصل فقد تبعاً قيمة ومعنى وجوده، وهذا بالضبط ما حدا بالبطل في قصة فيلم (Cast away) إلى الانتباه إلى
الكرة ماركة (ويلسون) بعد أن ضربها بيده المخضبة بالدماء أثناء ثورة غضب عارمة
انتابته جراء جرح سطحي أصاب يده مع بدايات محاولاته للتأقلم على الحياة في جزيرة
منعزلة لا إنسان فيها ولا حيوان إلا الأشجار والمياه والأسماك، فما كان من كفه
الجريح أن طبع بالدماء على الكرة أثر الضربة. هنا ثار الانتباه إلى مدى تحويل شكل
الكف المرسوم بالدماء إلى صورة لوجه إنسان فيه فتحتي العينان والفم وأصابع الكف
تمثل شعر الرأس مما أوحي إليه أن يستمد من هذا الشكل الصامت إحساساً متخيلاً لوجود
شخص آخر معه على هذه الجزيرة ولاسيما أن الشكل على الكرة مرسوم بدماء حية كانت هي
دماؤه فكان الإيحاء بذلك أن الكرة (ويلسون) هذه تحمل شيئاً من روحه وليست مجرد
كائن جامد. فالدماء على الكرة أعطت دلالة الحياة لها لتتحول بذلك من مجرد أنها كرة
إلى إنسان متخيل ليمثل قطباً اجتماعياً يسمع ويجادل هذا الرجل في وحدته حتى ولو لم
يكن في مقدوره أن ينطق ببنت شفه.
هنا يقوم التبرير بالإقناع الذاتي في وجود نوع من التواصل الاجتماعي
بينه وبين آخر يحفظ له كيانه السوي إذ يمكن له أن يؤدي أمام هذا الآخر وبحرية تامة
كل ما يعن له من مظاهر إنسانية من قول وحركة وغضب ورضا وفرح وحزن وألم وسعادة
وصراخ وضيق وضحك وخطأ واعتذار وأيضاً وضعه أمامه عند أي شيء يقوم به بحيث يكون
النظر إليه والحديث معه بمثابة مشاركة ذاك الآخر له في كل ما يفعل. وإن كان الرجل
بطل الفيلم يكبر عبر السنوات الأربع التي عاشها في الجزيرة كذلك كان (ويلسون)
الكرة يكبر معه درجة بدرجة بفعل الشمس
والرياح والأمطار، وكان في هذا أكبر الدلالة على ضرورة الصداقة الحميمة والتي كان
يجب أن تنشأ بين الرجل و(ويلسون) الذي صاحبه في صمت وصبر كبيرين عبر كل مرحلة من
مراحل تطور قدرات الرجل على توظيف أسباب الحياة على الجزيرة كما أن (ويلسون) بهذه
المشاركة التي أضفاها عليه الرجل من ذاته قد حفظ للرجل عليه وعيه ولغته وذكرياته
في حياته السالفة.
الإشارة الثانية هي البقاء والمشاركة من جانب (ويلسون) للرجل في كافة
الأوقات العصيبة حيث ظل هذا الـ (ويلسون) صامداً أمام العواصف والرياح الشديدة
والأعاصير والأمواج وكل ثورات الطبيعة منذ بداية السنوات الأربع وحتى لحظات الرحيل
عن الجزيرة وبداية مشوار العودة على قارب من جذوع الشجر ومخلفات الطائرة المحطمة
والذي تعرض فيه إلى أعنف ثورات المحيط ورغم ذلك ظل (ويلسون) باقياً إلى جوار
الرجل، حتى يجيء المشهد الأكثر أهمية في الأبعاد الرمزية للفيلم وهو مشهد استقرار
الماء وخلود الرجل إلى نوم يشبه الإغماء بعد طول عناء، عندها ينحل الحبل الذي ربط
به (ويلسون) على القارب لينسل (ويلسون) إلى الماء الساكن شيئاً فشيئاً بهدوء شديد
ويمضي مع الماء كمن يعرف طريقه. ولما استيقظ الرجل كان (ويلسون) قد يرى بعيداً على
مرمى البصر عندها كان لابد أن يجن جنون الرجل ويأخذ في الصراخ باسم (ويلسون) وحاول
بكل قواه أن يلحق به ليعيده ولكن كانت المعادلة الصعبة التي واجهته سبباً في فشل
هذه المحاولات، إذ لو ذهب وراء (ويلسون) لفقد القارب ولو احتفظ بالقارب لفقد
(ويلسون)، فكان أن تغلبت غريزة الرغبة في الحياة وعاد إلى القارب في حالة من
الأزمة النفسية الشديدة والبكاء الحار والاعتذار والأسف لفقدان (ويلسون) ذاك
الصديق الوفي والوحيد طوال سنوات خلت. ثم لتأتي مجريات الفيلم وليعود الرجل إلى
حياته الاجتماعية السوية في بلاده.
ولعلنا نجد في هذه الإشارات الدلالات التالية:
أولاً: ضرورة وجود الإنسان في مجتمع وحرصه على هذا الوجود، حتى ولو
كان مجتمعاً وهمياً في أدنى وحداته بين أثنين فقط، وفي أقصى وحداته في تكوين
الشعوب والقبائل.
ثانياً: إنسانية (ويلسون) في قيمة الوفاء والالتزام والصبر بالبقاء مع
الرجل في مرحلة الصعاب القاسية، وقيمة التضحية والإيثار والتعاطف الذكي عند التنحي
والمفارقة في حالة الاستقرار والإقبال على الخلاص للرجل لتركه يعود إلى حالته
الاجتماعية السوية والطبيعية.
ثالثاً: إثبات أن التلازم العاطفي والأخلاقي يشكلان وجدان الإنسان
ويحول اتجاهات القيم لديه، فعلاقته بالكرة (ويلسون) لو استمرت بعد العودة إلى
المجتمع العادي لظل الارتباط الوجداني به قائم على أشده مما يصور الرجل أمام
المجتمع بالمجنون فاقد العقل والاتزان، ويصور المجتمع بدوره أمام الرجل بالظالم
الجائر، ويبقى مصدر هذه العلاقة قيمة أن أقوى ارتباط وجداني هو ما ينشأ عند أحلك
أوقات الشدة والأزمة. لذا كانت القيمة الأخلاقية العالية لدى (ويلسون) بعد أن أدى
دوره كبديل إنساني في الفترة التي فقد فيها الرجل المجتمع الحقيقي أن يرحل من
تلقاء ذاته مضحياً بنفسه بالضياع في البحر عندما تهيأ الرجل لاستقبال المجتمع
الحقيقي مرة أخرى.
رابعاً: هنالك فرضية بعيدة عن الأذهان ولكنها تحضر بقوة في قصة
(ويلسون) وهي مسألة إثبات حيوية وعاطفة الجمادات. فإذا كان في السابق قد ثبت أن
مبدأ حرية الإرادة هو مبدأ عام في الوجود ويحمله جميع من هنالك من شيء ونبات
وحيوان وإنسان وذلك من بعد المقولة التي أطلقها علماء نظرية ميكانيكا الكم Quantum Mechanics في الفيزياء وهي
مقولة حرية إرادة الإلكترون حيث يدور الإلكترون حول نواة الذرة في مدار دائري محدد
ولكنه فجأة يخرج عنه ليسبح في مدار آخر ثم ليعود تارة أخرى إلى مداره هكذا بنحو من
حرية الإرادة والفعل والحركة أسقطت معها قدرة التنبؤ العلمي لدى العلماء بمستقبل الظواهر
في الكون وبما سيكون عليه حال ووضع هذا الإلكترون في اللحظة القادمة.
هذا، ومن قبل ذلك عندما تحدث القرآن الكريم عن عرض الأمانة على
السماوات والأرض والجبال بأنهم أبين أن يحملنها بل وأشفقن منها وهو ما يؤكد لديهم
صفة العقل الانفعالي والحدس الشعوري كما الإنسان. ولربما كان هذا الإنسان على ما
يظن في نفسه من تفوق هو أدنى درجات الموجودات ذكاءً وعقلاً وعلماً فهو من رضي بحمل
الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال حملها أشفقن منها فكان بذلك ظلوماً
جهولا عن استحقاق. فإذا كان القياس بأن السماوات والأرض والجبال إضافة إلى عنصر
الإلكترون هم ما يحوي كل ما هنالك من وجود وكائنات فليس من الشاذ تصور تأويل
الرمزية في فعل (ويلسون) على النحو الذي ذهبنا إليه لتصويره كإرادة عقل وفعل
وأخلاق. لقد كان (ويلسون) تجربة إنسانية عالية بمقياس منطق تسلسل الأحداث والمواقف
والمشاهد، وبمقياس القيم والمثل العليا والضمير الإنساني. لكن يظل السؤال: من حل رباط (ويلسون) عن
القارب؟ إنه الرمز الذي يقبل التأويل عليه بما يعطي بني الإنسان درساً في
الإنسانية.
أخيراً، لقد أصبح (ويلسون) ذكرى لصديق حميم
مات ولكنه لن ينسى. دل على ذلك المشهد قبل الأخير من الفيلم والذي يصور كرة (فولي
بول) ماركة (ويلسون) جديدة في المقعد الخلفي لسيارة بطل الفيلم.
جريدة (الأحداث) الصادرة بالخرطوم في 22 يناير 2008م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق