ملاحظات في نقد العقل السوداني
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
اعتمدنا
في تقرير هذه الملاحظات على المنهجية التحليلية المعاصرة في قرأه (العقول الأخرى) Other Minds
من قواعد متبعة، ومقاربة المشابهات العائلية، وكشف الألعاب اللغوية وكيفيات
الاستخدام للمعاني والدلالات. (للمزيد من المعلومات حول هذه المنهجية وتفصيلاتها
راجع المؤلفات المتأخرة – لدفيش فيتجنشتاين وأصحاب مدرسة أكسفورد)
لقد كتب كثيراً حول
خصائص الإنسان السوداني وطريقة حياته وعاداته وتقاليده وكيفيات تعامله مع البيئة
المحيطة والعالم الخارجي، وذلك بواسطة كتاب أجانب وكتاب سودانيون على السواء. ولكن
ما يمكن ملاحظته حول أغلب تلك الكتابات أنها كانت إما كتابات فلكلورية تاريخية
تعتمد المنهج الوصفي، وإما كتابات أخلاقية – سلوكية تتضمن المنظور ألتقييمي نسبة
إلى مرجع نموذجي معياري مغاير وفي كلا الحالتين يكون إصدار الحكم – على ما يبدو –
على نحو جزئي تبعاً لتخصصات بعينها في مجال معين. ودون الانطلاق من قاعدة منطقية
محددة في التفسير والتعميم لنتائج بحث تلك الظواهر. لعلنا في هذه الملاحظات نحاول
تقديم مراجعة تفسيرية نقدية أولية للحالة النوعية للعقل السوداني من خلال رؤية أو
موقف منطقي يعتمد القياس والتمثيل والاستنباط، فلربما أفاد التعميم في ذلك لفتاً
للانتباه نحو ضرورة المراجعة الشاملة للتاريخ والأخلاق والفعل السوداني.
عليه، تقوم هذه
(الملاحظات) بنقد للعقل السوداني من خلال قضية أولية نصطلح عليها "بخاصية خلع
المسؤولية الإدارية العقلية على نموذج أعلى"، والمرجو من ذلك إصابة ملامح
كلية - قد تكون سالبة أو موجبة – لعناصر
البناء النفسي للإنسان السوداني.
الموضوع/
يمكن لنا تقسيم مظاهر
خاصية (خلع المسؤولية الإدارية العقلية على نموذج أعلى) على نحو فعاليات مست حاجة
الإنسان السوداني في مجالات دون غيرها وهي: الفقه والتصوف والسياسة والمصالح
الإدارية، وتجب الإشارة إلى هنا إلى أن المعني (بالإنسان السوداني) هو الوصف العام
المشترك بين أعراق متباينة يجمعهم تفاعل نوعي نتلازم وضروري وبحكم الانتماء موحد
النظم والمصالح والدساتير وأيضاً المشكلات.
كما يجدر التقديم
للموضوع بالإشارة إلى أن صفة (خلع المسؤولية العقلية الإدارية على نموذج أعلى) هي
ليست بالصفة أو الخاصة الحديثة نسبياً، كما أنها ليست بالإقليمية المحدودة في إطار
المجتمع السوداني بعينه، فلربما وجدناها تضرب بجذورها في عمق الفكر الغربي منذ
القديم والذي أسس على قواعد فلسفية وأيديولوجية على نحو ما نرى لدى (أفلاطون) –
الفيلسوف الإغريقي فيما قبل ميلاد المسيح والأكثر شهرة في عصره وفيمن تلاه – إذ
ذهب إلى إثبات الخصوصية المعرفية على نحو عرقي بناء على ما أوضحه أستاذه (سقراط)
بأن ليس جميع الناس بعالمين بمكامن الحقيقة والحق في باطنهم وعمق عقولهم، إلا أن
يثار ذلك ويظهر عبر جدل من شخص يملك ناصية الحكمة بأن يصعد إليها عبر جدل صاعد من
المحسوسات إلى المعقولات ليدرك في منتهاه معاينة الأنماط الكلية Universal Types
أو (المثل) وهي الحقائق المطلقة والمجردة للذوات في عالم الشهود الحسي.
ولئن كان الحال مع
(الحكيم) على ذاك النحو، فهو من ثم – وبقوة الحجة والبرهان – أقدر البشر على قيادة
البشر، لاسيما وأن حكمة الحكيم تلك إن هي إلا حكراً عرقياً خصه الإله به بأن خلقه
من فئة معدن (الذهب) الذي هو أسرف المعادن، يليها (الفضة) الذي هو خاصة فئة الجنود
والتجار والعامة، وأوضعها معدن (البرونز) الذي هو خاصة فئة الحرفيين وعمال اليد
والعبيد.
فكان بذلك الحكيم
صاحب معدن الذهب هو المفوض – بحكم العرق – أن يتحمل المسؤولية المعرفية لكافة
الشعب، وذلك بجدل هابط يأتي به من معاينته العقلية لمثال الخير في عالم المثل فيحق
له به أن يسوس الدولة بقيادة حاكمة. هذا نموذج من أصول الفكر الغربي حول التقنين
الفلسفي والنظري بل والعلمي لخاصية خلع المسؤولية الإدارية والعقلية على نموذج
أعلى.
كذلك من أصول الفكر
النهضوي التجريبي الحديث – تحديداً في انجلترا – كان نموذج (العقد الاجتماعي) Social Contract
الذي تصوره (توماس هوبز) Th. Hobbs والمطروح في كتابه الشهير (التنين) Leviathan
حول التقسيم التاريخي – الاجتماعي بين (حالة الطبيعة أو الفطرة) State of Nature أي المجتمع المنظم والمنضبط
العلاقات بحقوق وواجبات. وكان تبرير (هوبز) لنموذجه في العقد الاجتماعي من خلال
هذا التقسيم راجع إلى وصفه حالة الطبيعة أو الفطرة بأنها حالة (حرب الكل ضد الكل)،
فالإنسان في أصله (ذئب على أخيه الإنسان). لذا استثارت الحاجة إلى مقومات الحياة
غريزة الشر والحرب لدى الإنسان. فاتسمت حالة الطبيعة أو الفطرة أو مرحلة ما قبل
الدولة والمجتمع المنظم بسمة أساسية هي (فقدان الأمن) مما استوجب معه الانتقال
الضروري والحتمي إلى حالة الدولة للحد من أسباب فناء الجنس البشري جراء الحرب
الدائمة، الأمر الذي كان يعني أن حجر الزاوية في هذا الانتقال هو تحقيق الأمن ومنع
الحرب – فأقام على ذلك (هوبز) شرطه على العقد الاجتماعي بأنه تعاقد ينص على
التنازل التام من جانب الشعب عن كافة حرياتهم القانونية والتشريعية والدستورية
والسياسية لفرد واحد يكون هو الحاكم بأمره في كافة شؤون الدولة والرعايا. وهذا
التعاقد إنما يتم بين أفراد الشعب وبعضهم، أي أن الحاكم ليس طرفاً في هذا العقد،
وبالتالي لا يحق لأي فرد من الأفراد فسخ العقد أو إحداث ثورة للتغيير إلا بموجب
الإخلال بالشرط الابتدائي القائم عليه التنازل وهو (تحقيق الأمن). فهذه إذن صورة
نموذجية – على المستوى النظري – لصفة خلع المسؤولية على نموذج أعلى بإبرام تعاقد
بين طرفين لصالح طرف ثالث يقضي بوضع الحريات في مقابل الأمن.
إذن فليس من المستغرب
وجود تلك الخاصية في مجتمعنا وإن كانت غير مطروحة على مستوى التنظير وإنما تستخرج
استنباطاً باستقراء سيرة الناس في حياتهم اليومية. فلربما بدا لنا أن المبررات
التي ساقها (هوبز) كشرط للانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الدولة وصياغة العقد
الاجتماعي على النحو الذي قرره، هي عينها المبررات المفسرة لنسبة تلك الصفة أو
الخاصية إلى العقل السوداني. فكما كانت الحرب مبرراً لإطلاق مسؤولية الحاكم
السلطوية بشرط تحقيق الأمن، كذلك كانت النفسية السودانية في عناصرها الأولية
البعيدة والكامنة قد تشكلت تبعاً لحياة الغاب، أي أنها تحمل العقلية القتالية نسبة
للبيئة الاستوائية الناشئة فيها مما يتسق جدلياً وبروز خاصية (خلع المسؤولية) كسمة
من سمات البناء النفسي لذاك الإنسان السوداني – من أجل الشعور بالأمن والاستقرار
والاطمئنان. فإذا نظرنا إلى المستوى الديني أو ألتديني بالأحرى، لوجدنا أولاً
الاتجاه الفقهي في السودان هو اتجاه يدعم بنحو ضمني ظاهرة خلع المسؤولية الإدارية
العقلية على نموذج الفقيه المفتي. وذلك باعتماد المذهب المالكي الذي عرف عنه بأنه
يأتي في المرتبة الثانية في قائمة الالتزام بالتشدد بعد مذهب الحنابلة. فإذا كان
الفقه – على نحو ما ذهب إليه (ابن خلدون) في مقدمته – يعرف بأنه الفهم والعلم
بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وينصب على معرفة أحكام الله تعالى في أفعال
المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة من مصدرها في القرآن الكريم
والسنة النبوية الشريفة، فإن هذا مجمع عليه بين كافة أهل المذاهب دون استثناء فلم
يكن بذلك سبباً في المذهبية، ولكن ما قام عليه الخلاف وأدى إلى التباين والتنوع
المذهبي إنما هو (علم أصول الفقه) الذي يعود تأسيسه منهجياً إلى الإمام الشافعي في
رسالته وهو علم اختص ببيان الأساليب المنهجية المتعددة في تحقيق الغرض الفقهي. فإن
كان (الفقه) متفق عليه كانت سمة الاختلاف في المقابل هي الحال في (علم أصول
الفقه). عليه، كان في اختلاف النظر إلى الأساليب المنهجية في علم أصول الفقه لدى
المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة مبرراً ومسوغاً جينالوجياً ضرورياً لظهور
خاصية خلع المسؤولية لدى العقل السوداني، باعتماد ذلك العقل التيار المالكي كمذهب
رسمي له وفق أساليبه المنهجية المحققة للأغراض الفقهية العامة، وبيان إثبات تلك
العلاقة بين اعتماد المذهب المالكي (فقهياً) ونسبة خاصية خلع المسؤولية الإدارية
العقلية على نموذج أعلى (نفسياً) هو في تضييق دائرة ودور العقل في القياس الفقهي
ومن ثم تقليص المسؤولية الإدارية العقلية للفرد في وضع الأحكام، وذلك بالاستخدام
مع القياس مناهج الاستصحاب وسد الذرائع والمصالح المرسلة والرأي والاستحسان، مما
جعل المذهب المالكي هو ثاني المذاهب الفقهية تشدداً في إصدار الأحكام الفقهية بعد
المذهب الحنبلي، وذلك في مقابل المذهب الشافعي الذي انتشر في بلاد الشام ومصر
والذي يأتي في المرتبة الثانية في التيسير بعد المذهب الحنفي. فباعتبار ما حاول
(الشافعي) بتأليف رسالته في الأصول من فحص ونقد مناهج الأدلة من رأي وقياس
واستحسان وسد ذرائع والمصالح المرسلة وغيرها، ثم ما خلص إليه من ردها جميعاً
باستثناء القياس - وما يتضمنه من سبر وتقسيم ودوران وتعليل وما إلى ذلك – كان من
شأنه توسيع دائرة فاعلية العقل وبالتالي زيادة المسؤولية الإدارية العقلية للفرد
الفقيه في استنباط الأحكام. وزيادة في تأكيد تلك المسؤولية العقلية هو مدى موافقة
اتجاه (الشافعي) في علم أصول الفقه مع مقررات الوعي الأوروبي القائم استناداً على
العقلانية Rationalism
وتأسيسه لعلوم المنطق Logic والعلاقات الدلالية Semiotics والمناهج الألسنية ووظائف الكليات Universals وغير ذلك.
كذلك إذا نظرنا
للموضوع من ناحية النزع الصوفي وممارسته في السودان لأمكننا القول بأن التصوف جاء
فطرة في أهل السودان ولم يجيء مفروضاً عليهم، أي أن التصوف كان قد وجد أرضاً خصبة
في السودان ونفساً مهيأة له دون حواجز وحجب على نحو ما ألمح إلى ذلك الدكتور عبد
القادر محمود في كتابه (التصوف في السودان). ولقد كان التصوف دائماً هو أحد أبرز
الأنظمة المحققة لخاصية خلع المسؤولية الإدارية على نموذج أعلى باعتباره يمثل
امتداداً دينياً (لفلسفات الخلاص) كما تناولها أعلام الفكر اليوناني الذين قالوا
ببلوغ حالة (الأتراكسيا) Atraxia أو الخلو من الألم مثل مدارس (الأبيقورية)
و(الرواقية) Stoics
و(الشكية) Skepticism،
وف الهند مع البوذية الروحانية، وفي أوروبا القرن التاسع عشر مع (شوبنهور) Schopenhauer وغيرهم. ونجد ذلك الارتباط في محض دلالة المصطلح
(تصوف) والذي هو على الأرجح الآراء اشتقاق معرب عن أصل يوناني هو (ثيوصوفيا) Theosophy
الذي يعني (الحكمة الإلهية) وقد أطلقه اليونانيون على نمط الممارسات والأفكار
والطقوس الرومانية المتصلة بالآلهة والوافدة إلى الوعي الغربي من بلاد الشرق (راجع
في ذلك محاورات أفلاطون). وما قد يؤكد نسبة تلك الدلالة إلى مصطلح تصوف هو أن
ظهوره وتسميته كان عقب عصر الترجمة وبعد نقل كتب التراث اليوناني إلى اللغة
العربية.
هذا وقد نشأ التصوف
كردة فعل على مذاهب المتكلمين في قولهم في العقائد، والإلوهية، والذات والصفات،
والنبوة، والإمامة، والجبر والاختيار. والذي بدئوا به أول الأمر كدفاع عن عقيدة
الإسلام وإثبات إلوهية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم انحرف طريق
المتكلمين بعد ذلك نحو الدعاوى السياسية، وكان في ذلك ذريعة للتفرق والتشيع طلبا
للحق السلطوي من خلال تبرير وتأويل، وانحلال الأمة والإغراق في حب الدنيا والركض
وراء المصالح الشخصية. ومن هنا نشأ التيار الصوفي – كما نشأ في محاذاته التيار
السلفي والوهابي – ليخلع المسؤولية الإدارية العقلية على نموذجاً على هو شخصية
الشيخ المرشد للطريق من خلال الانصراف نحو الروحانية المجردة والخلاص والجذب
والفناء، وفي ذلك ابتعاد عن الجدل الفقهي بالممارسة الروحانية الذاتية تبع طريقة
معينة. إذن، فشيخ الطريقة الصوفية هو الممثل لنموذج (هوبز) في العقد الاجتماعي
باعتباره المستلم لإرادات الأتباع والمريدين والموصل لها إلى غايات المقامات دون
بذل عقلي منهم، فكانت بذلك سمة التصوف الأساسية هي الفردية وانعدام القاعدة
المشتركة بانعدام التبرير المنهجي العقلي، فكان هذا حال الكثير من أهل السودان
بنزعهم الفطري نحو طريق صوفي سواء كان برهانياً أو قادرياً أو سمانياً أو تجانياً
أو غير ذلك.
ثم نجد هنالك تياراً
مضادا لذاك النزع الصوفي في السودان ألا وهو التيار السلفي والوهابي. فكما كان التيار الصوفي هو
ردة فعل سالبة على علم الكلام بالبحث عن حالة الخلاص، كذلك كان التيار السلفي
والوهابي ردة فعل موجبة على علم الكلام بالإفراط في القواعد، وكان هذا معبراً عن
خاصية خلع المسؤولية الإدارية العقلية على نموذج أعلى كصفة من صفات العقل والفعل
السوداني. والأمر على ذات النحو في الطرف المقابل، فلربما وجدنا مبرر تلك الخاصية
لدى نمط التيار السلفي الوهابي بوقوفهم عند أول دلالات النص تفسيراً وليس تأويلاً والانشغال
بالتفاصيل الطقوسية والفصل بين علم الدين وعلم الدنيا، فكان ذلك بمثابة رسم لقواعد
صارمة على أساس الإطار الشكلاني، فالشكلانية Formalism وفق تلك النظرة هي أبلغ دفاع يمكن أن يقدم ضد
تأويلات المتكلمين، إذ أن التجريد الصوري لمضامين النص القرآني وسيرة سلوك السلف
الصالح هي - في رأيهم – من شأنها أن ترتقي فوق حدود إمكانية الموافقة والموائمة مع
متغيرات عصرية، وأن فصل بين علم ديني وعلم دنيوي من شأنه حماية الدين والعقيدة من
مأزق الرؤى العلمية الطبيعية والإنسانية للكون.
ولعلنا في ردنا على
ذلك نجنح إلى القول بأن هذه الشكلانية وفصل العلم الديني والدنيوي – والتي ظل عبرها
يعاني ذلك التيار من خلع المسؤولية الإدارية على نموذج أعلى ويعمق لها في ذات
الوقت - فيها مكمن لخطر كبير. ولعله يمكن
لنا تجاوز ذلك بالانتباه إلى أن أمر النظام الصوري للقرآن الكريم هو ليس أمراً
تجريدياً بقدر ما هو ملتزم بوظيفة المضامين الدلالية للنص مما يجعل النظر ليس نظر
موافقات وموائمات، بل هو نظر استخراج لمقتضيات العصر من باطن النص فلا يكون السلوك
والفعل المعاصر هو محض محاكاة للماضي بل امتداد وتطور اتساقي له داخل منظومة كلية
بدؤها أول الخلق ومنتهاها قيام الساعة.
ثم كان أخيراً أثر
ذلك كله في الممارسة السياسية. إذ تجلى مظهر خلع المسؤولية الإدارية العقلية على
نموذج شخصية الزعيم السياسي السلطوي فعليها ظل يتأسس الحزب ومبادئه في السودان
وليس العكس، ويستوي في ذلك الحزب يسارياً أو يمينياً، ثيوقراطياً أو علمانياً،
فعليه كان (المهدي) و(الميرغني) و(الصادق) هم محاور القياس والأمر في أحزاب
اليمين. كذلك نكاد لا نجانب الصواب إذا قررنا في حق أحزاب اليسار أن التفاف الرفاق
في حزب (البعث) السوداني مثلاً حول شخصية (صدام حسين) كان أقوى كثيراً حول
التفافهم حول مبادئ الوحدة والاشتراكية ذلك نموذج (جمال عبد الناصر) والحرية، وقس على
ذلك بالنسبة للتنظيمات الناصرية، ونموذج (لينين) و(عبد الخالق محجوب) لدى الحزب
الشيوعي السوداني.
ولعلنا نجد في ذلك
مماثلة بما يجري عليه الحال والأمر في الطرق الصوفية، فبقدر قوة الحجة في الأداء
والبرنامج لاحقاً بقدر ما تنعدم الحجة أصلاً في المبرر ألاعتقادي الأول لاتخاذ
طريق أو حزب بعينه، أي كما أنه ليس هناك مبرر وحجة منطقية موضوعية لاعتناق صوفي
طريقة في التصوف دون غيره من الطرق إلا أن يدفعه إلى ذلك (المزاج الشخصي)، فكذلك
يجيء التأييد ألحجي الموضوعي لبرنامج الحزب السياسي هو تلبية وإشباع وتغطية لاحقة
لإنجاح المزاج الشخصي في الأصل والذي هو غير معلوم سببه ونشأته حتى بالنسبة لصاحبه
نفسه.
ومن أكثر ما يمكن أن
نجد من خاصية خلع المسؤولية الإدارية العقلية على نموذج أعلى في السودان هو ما
يمكن ملاحظته في الدوائر والمصالح والمؤسسات سواء كانت قطاع حكومي أو خاص، فالسمة
البارزة لهذه الخاصية هنا تتجلى في اعتماد المؤسسات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية
بل حتى التربوية والتعليمية ومؤسسات التدريب والتأهيل نجدها تعتمد في صلاحها
وفسادها على السواء ليس على نسق أو نظام System إداري حاكم يتجرد ويعلو على إرادات الأفراد،
وإنما تعتمد على موقف (الضمير الشخصي) للمدير أو الرئيس أو صاحب المؤسسة، فغن صلح
صلحت المؤسسة وإن فسد فسدت المؤسسة دون هيمنة عليه من نظام إداري شامل. فالمسؤولية
الإدارية هنا لا يتحملها نظام إداري بل يتحملها فرد يماثل في وضعه ذاك تعاقد
(هوبز) السابق ذكره والقاضي بتنازل الأفراد بعقد ملزم عن إرادتهم وإدارتهم لفرد
حاكم هو خارج عن التعاقد ومن ثم خارج عن النسق الضابط System .
ختماً، قد يبدو مما
يقوم عليه النقد ليس بالأمر السالب، بل قد يقوم النقد أساساً بإظهار السالب في
الموضوع كشيء موجب بأن يفتح الثغرات لمزيد من الفكر والتجديد والتطور. وكان هذا
منطلقنا في تلك الملاحظات النقدية على العقل السوداني، إذ لم نهدف في ذلك إلى
إظهار خاصية سالبة – مثل صفة خلع المسؤولية الإدارية العقلية على نموذج أعلى – بل
هدفنا إلى فتح ثغرة وطريق نحو تنوير متقدم لم يكن ليتاح لنا إن لم توجد تلك الصفة
يس هنالك باطل مطلق وإنما هنالك نواقص أعظم فائدتها أنها تدعونا للكمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق