السبت، 27 فبراير 2016

الإنسان .. مشروع دائم د. وائل احمد خليل صالح الكردي


 الإنسان .. مشروع دائم

د. وائل احمد خليل صالح الكردي
____________________

إن دراسة وتفسير ظاهرة الإنسان والإنسانية كانت دائما دائما المحور الأول في اهتمام المفكرين والفلاسفة وفق ما يذكره التاريخ المدون منذ بدايته وحتى يومنا  الراهن. وحول هذا أقيمت المنظمات والمؤسسات التي تحاول رسم الحقوق الإنسانية استنادا على أي من التفسيرات التي اعتمدتها كأساس ومنطلق لبرامجها . فهناك يرون أن الإنسان عبارة عن بنية نسقية
systematic structure
يخضع لقواعد صارمة وله خطوط رأسية وأفقية يلتزم بالسير عبرها، ويتألف من مجموعة من الأجهزة التي ترتبط فيما بينها بنظام محدد لنقل المعلومات وإدارتها ليقوم هو بوظيفة معلومة. إن أصحاب هذا الاتجاه كانوا أقرب إلى القول بالأنظمة الشمولية والبنى الاجتماعية الموحدة في التخطيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للإنسان وتعيين حقوقه وواجباته وتحديد العلاقة والمسؤولية التبادلية بين الفرد والمجتمع. وذلك يعني لديهم أن هناك عقلا ما يقف وراء الإنسان ويرسم له ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه وفعله وحركته وتفكيره. وعليه يكون القاسم المشترك بين كافة الأفراد هو القواعد المنطقية التي لا يجوز الخروج عنها ومخالفتها ، لذا كان اتجاه التعبير الإبداعي عن الذات دائما وفق هذا المنظور هو اللجوء إلى المحاكاة للواقع والموضوع والنماذج القائمة في الطبيعة.
هذا في مقابل اتجاه آخر يقول بلا عقلانية الوجود الإنساني وعبثية الحياة وانتفاء القواعد المشتركة والقوالب الجاهزة والأنساق والقيم الثابتة ، وأن هذا الإنسان إن هو إلا مجموعة أو حصيلة لا متناهية من الإمكانات التي لا يعلم هو نفسه عنها الشيء الكثير . وأنه حالة متجددة وهذه الحالة تتسم بفر دانية وبذاتية مطلقة لا يستوي فيها إنسان مع آخر فكل إنسان فرد إنما هو كون بذاته وقانون منفرد وقواعد خاصة فإذا بدأ إنسان وانتهى لا يعود فيتكرر بذاته تارة أخرى إلى الأبد. وعليه فإن كل حركة صادقة أو فعل صادق من جانب الإنسان لا يكون في حقيقته مسبوقا بتخطيط قبلي أو استنادا إلى قواعد منطقية ، وإنما يكون منطلقا من الأفق أللا معقول والذي تمثله محض الإرادة الخالصة، وهو ما دعا إلى قيام المذاهب الليبرالية ودعوات الحرية الفردية. وكانت اتجاهات التعبير الإبداعي عن الذات في هذا تمضي نحو الرومانسية الجانحة إلى عدمية وعبثية الحياة بكونها بلا غاية وإنما هي مجرد حالات انفعالية وعاطفية تقودها الإرادة العمياء للأفراد لا العقل.
وإن كان لنا موقف بصدد هذ1ين الاتجاهين فإنما هو موقف التوفيق للجوانب الايجابية لكليهما بحيث يمكن أن تتضح الرؤية ويزول الغموض ويتحدد المفهوم ، حيث انه لو ترك كل اتجاه على صورته المجردة لأدى كل منهما بنحو أو بآخر إما إلى دكتاتورية الفرد وإما إلى دكتاتورية الديمقراطية ، ودكتاتورية الفرد في الاتجاه البنائي ألنسقي هي سيادة الحزب الواحد أو الطبقة بنحو لا يدع مجالا للحرية الكاملة للأفراد والجماعات والطبقات الأخرى في التخطيط والتنفيذ وتحديد ادوار الحياة العامة وربما الخاصة أيضا. أما دكتاتورية الديمقراطية فيه هي محدودية الحرية في أن تختار أو لا تختار في لحظة ما أن تشارك في التغيير الثوري الشامل لما اقتضته الحتمية التاريخية سلفا ودون إرادة للشعب في ذلك..
أما دكتاتورية الفرد لدى الاتجاه الليبرالي الوجودي فتتمثل في إرادة القوة التي يمكن أن يبلغها إنسان ما والتي قد تجعل منه إنسانا سوبرمان أو إنسان متفوق يعلوا على الآخرين بنحو ما تصوره الفيلسوف الألماني (فريدريش نيتشه) والذي جسدته تاريخيا شخصية فرعون موسى الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى ، وشخصية (أدولف هتلر) الذي قاد بمفرده شعبا من أذكى شعوب العالم لإشعال حرب راح ضحيتها زهاء الخمس وأربعين مليون إنسان غالبيتهم من الأبرياء الذين لم تكن لهم ناقة ولا جمل في هذه الحرب. فغلب أولئك بإرادتهم الفردية على إرادة كافة من يلونهم من الناس. وأما دكتاتورية الديمقراطية لهذا الاتجاه فتتمثل في تنازل الـ 49% عن إرادتهم وحريتهم للـ 51% التي وقع عليها التصويت والانتخاب، وإمكانية تجميد إرادة هذه الـ 49% يعني إمكانية ضياع 49% من القدرات والطاقات الخلاقة التي تدعمها حرية الإرادة لديهم.
على هذا كله نرى أن نتفق والقول بأن الإنسان من حيث المفهوم المستمد ما هو ثابت على مستوى المشاهدة العادية اليومية هو كائن يكتشف ذاته بصورة مستمرة ونامية مع كل حدث جديد يتعرض له ما لم يكن يعلم عنها. وهكذا تنمو خبرة الإنسان بذاته مع نمو خبرته بالعالم من حوله ، فالإنسان لا يدري ولا يمكنه التنبؤ بمدى ما يمكن أن تبلغه قدراته مع حالة الخوف الشديد أو الغضب الشديد على سبيل المثال ، وعليه فإن ذلك المجهول الذي ما زال مخزونا داخل الإنسان ولا يعلم هو عنه مداه هو ما حدا بأشهر فلاسفة الفكر الوجودي الأكاديميين (مارتن هايدجر) إلى التعبير عن حالة اكتشاف الإنسان المستمر لذاته مع تجدد المواقف والأحداث أمامه بان الإنسان هو مشروع دائم ومستمر لا يتوقف أو يكتمل إلا بموته وهو ما اسماه بالألمانية  (دا - زاين)
Da - Sein
أي (الوجود - هناك) فعندما ينتقل الإنسان خطوة نحو هذا الـ (هناك) يكتشف أن وراؤه (هناك) أخرى . وبذات المنطق لا يكون بمستغرب ولا بمشكل أن معرفة الإنسان وكشفه عن العالم الأخروي كحدث جديد بما فيه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هو في نفس الآن كشف جديد ومعرفة جديدة لذاته
وقدراته وردود أفعاله وإمكاناته التي أودعها الله تعالى فيه والتي لم يكن يعلمها عن نفسه من قبل . وهذا يؤكد أن التجارب الإنسانية بأنواعها المختلفة هي ما يولد المعارف لدى الإنسان عن عالمه وعن نفسه في ذات الوقت، الإشارة في هذا إلى قوله تعالى:
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) - النحل 78
(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) - الكهف 68.
ولكن في ذات الوقت ما يقف خلف إدارة هذه المعرفة التي تسمح بالتطور دائما في اكتشاف ذات الإنسان الفرد هو العنصر ألنسقي والذي يشمل المبادئ والمعايير المنطقية المرنة والمتسعة والتي تمثل الأدوات
tools
التي يستخدمها العقل الإنساني للوصول إلى الحقائق والأهداف العامة. وهذا العنصر ألنسقي لا يمكن أن يكون إلا عنصرا جمعيا ومستمد من وعي جمعي فبقدر ما يستحيل وجود لغة خاصة
privet language
لا يفهمها إلا إنسان واحد وبالنسبة إلى نفسه فقط بقدر ما يكون هذا العنصر ألنسقي جمعيا ويقرر أن الجانب الاجتماعي هو جزء أساسي في تصور الإنسان ولا يمكن أن يكتمل تعريف مفهوم الإنسان بدونه . ولن يعود بذلك مفهوم الذاتية والإرادة الذاتية راجعا فحسب إلى الفردانية بقدر ما يرجع إلى الطرق والأنماط المختلفة للحياة والتي تنتمي إليها الفئات الاجتماعية المتغايرة والمتباينة. بهذا يمكن الخروج بتعريف للإنسان بأنه نسق
system
كلي يتفاعل فيه العنصر الاجتماعي والعنصر الفردي الذاتي لأداء وظيفة عامه هي مناط التكليف له بإعمار الأرض المستخلف فيها.             

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق