السبت، 27 فبراير 2016

فكرة عن (الأمن العقلي) د. وائل أحمد خليل الكردي

فكرة عن (الأمن العقلي)

د. وائل أحمد خليل الكردي   

لو خطر لنا أن نطلق صفة ما تلخص حالة عصرنا الراهن منذ أخريات القرن العشرين وحتى هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين لناسب ذلك أن نسميه بعصر (الأمن) ، حيث أصبحت هذه الكلمة مصطلحاً متداولاً بصورة مباشرة وغير مباشرة على كافة أوجه النشاط الإنساني . فكان هناك أولاً ما عهده الناس بأن هذا المصطلح مقصود به (الأمن الجنائي) و(الأمن السياسي) ، ثم ضم هذا المصطلح بحكم الضرورة ومقتضى الحال أنماطاً أخرى بنحو(الأمن القومي) و(الأمن الاقتصادي) و(الأمن الغذائي) و(الأمن الأسري) و(الأمن الاجتماعي) ، وثم أخيراً استحدث ما يعرف (بالأمن الفكري) وكان المقصود به التدابير الواجبة لحماية الناس من التسلط على مشيئة أفكارهم بما يخالف سواء المجتمعات والشعوب والأعراف والأديان . ولكن نحسب أنه بقدر أهمية  مفهوم  الأمن الفكري هذا إلا أن مجرد  الكلمة (فكري) لا تغطي وصف كافة الظواهر الناتجة عن الجرائم المعنوية وأنماطها المستجدة ألتي تمارس على عقول بني آدم . لذلك نجد من الأجدر توسعة هذا الماعون بقدر حجم خطورة الأمر بأن نصطلح عليه بصفة (الأمن العقلي)  لتغطية الدلالة الوظيفية المطلوبة له ، وذلك ليشمل ما يلي من اعتبارات: أولاً – أن الحاجة إلى الأمن العقلي تفرض حتما وجود نوع من الجرائم تقع على العقل أصلاً. ثانياً – أن هذه الجرائم إنما تمارس على العقل الإنساني بشقيه (المنطقي) و(الانفعالي) فهما مادة المجني عليه بفرض أنهما المؤثران الضروريان في تحديد وتحويل حركة الحياة الإنسانية على وجه العموم . فالجانب (المنطقي) هو القائم بفاعلية القياس والتناسب والترجيح ثم القرار والاختيار ، وبالتالي فهو قائم  على الدليل والبرهان والإثبات . أما الجانب (الانفعالي) فهو موطن الاستجابة للمؤثرات العاطفية والاضطراب العصبي ثم التفاعل والانسجام أو التنافر . لذا فهو مادة العاطفة والوجدان والذوق ، ولها أخطر الأثر وأبلغه عندما يتسلط (الانفعالي) على كافة العقل ويحتويه ليصير (المنطقي) من خلفه مبرراً وداعماً ومؤيداً. هنا تكمن أسباب الجرائم وعليها تلزم الحماية. فكل أعمال السحر والتأثيرات البلاغية والهوس الديني والعصبيات العرقية والقبلية والقومية ورسم وتقليد الشخوص الكاريزمية  إنما هي محط جرائم الوعي غير المشدود إلى عقاله السليم . ثالثاً -  إن إثبات الجرائم المتعلقة بالعقل والوعي على هذا النحو يمكن أن يثبت لها صفة (الجريمة) المكتملة العناصر والأركان وعلى رأسها عنصر (القصد الجنائي) . فلقد شهد التاريخ أن (هتلر) النازي ظل يدرب نفسه طويلاً وبصبر شديد ليصقل مؤثراته اللغوية والنفسية الساحرة لكي ما يظهر على شرفة (الرايشستاج) - البرلمان الألماني -  ويوجه كلماته إلى عموم الشعب الألماني حتى إذا ما ختمها بسؤاله إياهم (نحارب؟..) رد الشعب كله (نحارب .. نحارب) دون دراية منهم بأي ناقة أو جمل لهم في هذه الحرب يخوضونها، هذا إلى الدرجة التي صار فيها الأطفال والمراهقون هم من باتوا يدافعون عن (هتلر) حتى بعد أن هلك الجيش الألماني واقتحام الحلفاء لبرلين ودخول (هتلر) وصحبه إلى المخابئ أولئك الذين قتلوا أنفسهم وأبنائهم بأمر واحد من (هتلر)، ولا ننسى القائد الفذ (روميل) ثعلب الصحراء والذي أصدر إليه (هتلر) أمره بالانتحار بعد هزيمته في موقعة العلمين .. وقد فعل دون تردد. 
والشاهد التاريخي أيضا يقرر أن نفس ما دار في الماضي يدور في الحاضر كذلك ولكن بأشكال وأثواب جديدة مختلفة ، فما تفعله حركة (داعش) في أدمغة الشباب اليافعين من أتباعها بتأثر دعاوى الخلاص والفوز، هو نفسه ما قد مارسته جماعات (التكفير والهجرة) وجميعاً تمخضت عنها جرائم جنائية بقتل الأبرياء من المسلمين. فالجريمة ضد العقل إذن هي ما أدت في أكثر الأحيان إلى جريمة جنائيه .وقريب الشبه  من ذلك ما فعله فقراء السحر والشعوذة بتغييب العقول وإضاعة المنطق الحق وبلبلة الانفعالات ففرقوا بذلك بين المرء وزوجه وهيجوا الخلايا السرطانية في أجساد العباد لتقضي عليهم حصداً رأسا تلو رأس .. والطب حائر.

ولعل السؤال الفقهي والقانوني في مسألة (الأمن العقلي) هذه هو (ما مدى قدر حرية إرادة المجني عليه في إنفاذ الواقعة الجنائية العقلية بما يثبت معه بنحو قاطع قصد الجاني ؟).. الأمر إذن عسير . فعلى المستوى النظري أن درجة تدني وانخفاض قدر حرية الإرادة لدى المجني عليه تعلي وترفع بتناسب عكسي درجة مسؤولية الجاني وقصده الجنائي . وتكمن المعضلة الحقيقية عندما ننزل هذا الأمر إلى مستوى التحقيق الفعلي وإثبات الوقائع وحساب البينات والقرائن، إذ ليس ثمة ما يقطع بثبوت شرارة الحسد ألتي أدخلت الرجل القبر أو نحواً من هذا القبيل. لذا نحسب أن وسائل منع هذه الجرائم وتدابير مكافحتها سيظل أمر تحت النظر ردحاً طويلا. ولسنا نقول أن المشكلة هي فقط على المستوى الجنائي ، بل وحتى على المستوى الطبيعي العام (غير الجنائي) لنا أن نلحظ الاختراق العقلي في الانتماءات المختلفة، فكثير ممن انضموا للأحزاب الشيوعية واليسارية كان  انضمامهم بفعل الانجذاب النفسي نحو المخالفة والبطولة وبالإعجاب البارز بثورات (لنين) و(كاسترو) و(جيفارا) ، وكذلك كثير ممن تربوا في أحضان الحركة الإسلامية كان انتماؤهم إليها   بدافع الإعجاب الانفعالي الزائد بشخصيات (سيد قطب) و(حسن البنا) و(حسن الترابي) إلى درجة المبالغة في تقليدهم في الحركات والسكنات ، وكذلك حديث بدون حرج عن الانتماءات الصوفية ومانحوها ، حتى إذا ما سألت أحدهم عن سبب اختياره لطريقة صوفية دون غيرها من الطرق حارت عنده الإجابة ولا يجد ما يدفع به السؤال فهو محض انتماء عاطفي وجداني وغير منطقي، وقس على ذلك كثير من الشؤون . هذا وكفى بنا وبكم شاهدين على أنفسنا ، والله تعالى المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق