الأربعاء، 27 سبتمبر 2017

غريزة الحرب ..

غريزة الحرب ..
د. وائل أحمد خليل الكردي  

منذ أن كان الرومان القدماء في امبراطورياتهم يلقون بالرجال المحكوم عليهم بالموت إلى حلبات الأسود الجائعة لتنهش لحومهم وعظامهم وهم أحياء في نشوة وتلذذ لدى جميع ممن حضروا قصداً لتلك المتعة يطلقون ضحكاتهم الصارخة في آذان من تمزقهم الأسود ليزيدوا في عذابهم ضعفين .. ومنذ أن كانت تنصب المقاصل في زمان غابر لتوضع تحتها رؤوس الخارجين فتفصلها أنصال المقاصل عن أجسادهم تحت أعين السمار رجالاً ونساء بساحات يتصاعد منها الغبار شاهداً على ظلم الإنسان وجرمه .. منذ ذاك ، وكثيرون هم الذين صاغوا أفكاراً سوداء حول غرائز الإنسان فقالوا أن الإنسان في الأصل كائن مجبول في أصله على فطرة الشر ، يكمن حب الصراع والمقاتلة في أبرز غرائزه .. فلا غرو إن كانت الحرب هي السمة الغالبة في حياة الناس وعلاقة البشر بعضهم ببعض ، فالإنسان هو ذئب على أخيه الإنسان ، والجميع هم في حرب ضد الجميع .. ومن ثم بحث أولئك طويلاً عن حلول لطغيان الإنسان حتى لا تؤدي تلك الحروب الغريزية إلى فناء الجنس البشري من أصله وحتى يسود حكم القانون ورسم الحقوق وتعيين الواجبات. ولكن بالرغم من سلطان التشريعات والحدود على الشعوب ، إلا أننا نظل نرى كيف أن تلك النزعة الغريزية للحرب تأبى إلا أن تخرج وتكشف عن نفسها في كل عصر وكل محفل هنا وهناك على صور شتى .. وسرعان ما تضرب الحرب سياطها فتجلد ظهور المدائن والبوادي .. وتشتعل النيران ويموت الآلاف تلو الملايين من ضحايا البشر ، ويلقى الناء القصي والداني حتفه صريع الحروب المضرمة ربما لأتفه الأسباب .. تتعدد الأوجه والأغراض وتبقى الحرب هي الحرب ..
لأجل هذا كان من أوحى للناس بتفريغ تلك الغريزة القاتلة عبر (كرة القدم) جديراً بألقاب البطولة الإنسانية .. فقد استثمر بكرة القدم  - وكذلك ما نحوها من رياضات التنافس – غريزة الحرب لدى أبناء آدم لتكون سبيلاً نحو التآلف السلمي بين الشعوب .. ولتصير ميادين كرة القدم حقلاً لإشباع تلك الغريزة بلا جراح أو موت أو تدمير .. فترى الناس يتقاتلون فيها دون قتل .. وفي نفس الوقت قد أظهرت هذه الرياضة من تلك الغريزة كل ما كان قد خفي منها في مشاهد مدرجات جماهير مشجعي كرة القدم الغفيرة وحماسهم الذي إن بلغ أعلى سنامه تجرد الفرد منهم بنحو وجد صوفي (هيستيري) عن الإحساس بذاته ومن حوله فيجيء بما لم يكن ليتصرف به قط وهو خارج الملعب .. وكل ما كان عليه لحظتها أن اختلط الولاء بالحب لفريقه حين الحرب ..
إن كرة القدم سرعان ما تحولت بتلبيتها لتلك الغريزة الخطرة في الإنسان إلى عامل له أثر كبير على تحولات الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وربما السياسة أيضاً وعنصراً من عناصر الدبلوماسية الجديدة .. لم تعد كرة القدم كما يحلو للبعض تصويرها لفة من الجلد يركض وراءها إثنان وعشرون رجلاً ، بل صارت هي لغة الحرب المعاصرة .. ولكن هل يا ترى إذا تزايد المد الطاغي للتعصب عن حده في عشق وممارسة كرة القدم أن تتحول في المستقبل من الحال السلمي للقتال إلى حروب ذات جراح ودماء بأقسى مما عليه حروب المدفع والبندقية ؟ ..

وهم الحائط الرابع ..

وهم الحائط الرابع ..
د. وائل أحمد خليل الكردي  

افترض (أرسطوطاليس) Aristotle  أن الحياة كما المسرح .. هنالك منصة خشبية تحوطها ثلاث جدر عالية .. المنصة عليها المؤدون للعرض المسرحي .. وفي الأمام يجلس الجمهور باختلاف مشاربهم على الكراسي قبالة المسرح يشاهدون .. ومن يرى بعينيه لا يرى حاجزا بين الجمهور والمسرح ، فالحائط الرابع قائم خلف الجمهور وليس أمامهم .. ولكن (أرسطوطاليس) عد هذا الحائط الأخير حائطاً خامساً ، وأما الحائط الرابع فقد ضربه بين العرض المسرحي والجمهور ، حائطاً خيالياً وهمياً ولكنه أبلغ تأثيراً من الجدر الحجرية أو الخشبية البانية لهيكل المسرح .. وكان الغرض من هذا الحائط الافتراضي الجديد أن يقطع وصل الأثر من جانب الجمهور في الصالة نحو عناصر المسرحية ، وليكون الأثر ممتد فقط من العرض المسرحي نحو الجمهور .. فلا يمكن للجمهور المشاهد انتقاد المسرحية لأنه مستلب الإرادة أمامها فهو يتلقى منها فقط .. أما النقد فلا يكون إلا بين الجمهور تجاه بعضه البعض حول درجة استيعابهم وتمثلهم لغرض المحاكاة للفعل النبيل التام في المسرحية ثم مدى تحقيقهم (للتطهير) في أنفسهم بعد فعل المشاهدة .. ولقد جاء في زماننا من بعد (أرسطو) (بيرتولد بريشت) B. Brecht فحطم هذا الحائط الرابع الوهمي وكسر سلطة العرض على المشاهد وحرر الجمهور أمام المسرحية ، فصار الوصل متبادلاً والتفاعل كثيفاً والنقد مفعول على العرض والفكرة ..
وكذلك الحياة كلها .. فنحن كثيراً ما نضرب أمام أعيننا تجاه الأشياء من حولنا حوائط وهمية بأيدينا ثم نصبح أسرى لها ، ثم لا نزال نتساءل عن أسباب ما بنا من علة .. حتى في علم النفس ، فمنذ أن فصل (ديكارت) R. Descartes بحده بين النفس والجسد ، وأن الجسد هو كون وأن النفس هي كون آخر مختلف تماماً ولا وصل لهذا بذاك ، باتت كثير من الأدواء مجهولة أسبابها وحار فيها الطب وعز الشفاء .. فلم يجد الإنسان المعاصر مفر من كسر هذا الحائط الوهمي مرة أخرى وخلط الأوراق بين النفس والجسد ليصير تفسير نصيب مقدر من علل الإنسان بأنها أمراض (نفس - جسمية) Psycho-somatic .. ولو علم الرجال فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد دل على هذه الحقيقة في زمانه البعيد .. فقد ورد في صحيح البخاري (أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلاً . فسقاه ، فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال : صدق الله وكذب بطن أخيك ) – وفي رواية الترمزي أنه كرر ذلك ثلاثاً .. والشاهد الدال في هذا في نحو من التفسير الممكن أن العسل يشفي العلة ذات السبب المادي العضوي للبطن كالتلوث أو الفيروسات أو الميكروبات الدقيقة ، وأما إن كان المرض ذا صلة نفسية تركت أثارها على وظائف الجسد ، فإن العلاج يكون له مقام آخر غير العقار الدوائي .. فلعل قوله (كذب بطن أخيك) أي أن سبب الاستطلاق ليس لعلة عضوية بالبطن برغم أنه عرض ومظهر للعلة العضوية .. حينها قد لا يجدى سقيا العسل شفاءً ، وإنما يجدي البحث في علل النفس وأحوالها البائسة والتي أدت إلى استطلاق البطن دون علة فيها .. إلى هذا الحد يصير الإيحاء النفسي بالمرض والعجز هو ما يحدث فعلاً المرض والعجز ، ولو أن النفس قويت لقوي بها الجسد واشتد .. وعلى ذات المثال في بوابة أخرى ، أن أظل منذ الصغر أدرس اللغة الأجنبية وإلى أن أبلغ من العمر عتيا ثم أظل بعد ذلك لا أجد في ذاكرتي كلمات منها ويتعقد لساني حين طلب الحديث بها .. ولكن الحق أنني ربما حملت من إجادة هذه اللغة الأجنبية حداً بعيداً واسعاً إلا أنني فقط قد نصبت حائطاً وهمياً بيني وبين خبرتي فلا أصل لما فيها وقت الطلب .. فلا رجاء إلا بكسر الحوائط الوهمية بالثقة أن الله خالق فينا سلامة الفطرة في الأصل وأنه لا خوف على المتقين ولا هم يحزنون .. ولكن فقط نحن بأيدينا من تأبى بطوننا إلا أن تكذب .        

القصعة واكلتها ..

القصعةُ وأكلتها ..
د. وائل أحمد خليل الكردي  

كثيراً ما يقع الناقد في ميدان المؤلفات الأدبية والفكرية ضحية الإشادة لعمل هو يستحق الإشادة بحق .. ولكنه عمل مستلب أو مستعار وغير منسوب لأصله .. ولكن برغم أنه يكون قد تم تحويره في النسخة المستعارة لتبدوا مغايرة شكلاً ، وليس مضموناً ، لما عليه أصل العمل أو أن يتم هذا التحوير ليس بنقل المكتوب إلى مكتوب آخر ولكن بنقل المكتوب سرداً إلى سيناريو ثم تحويله إلى عرض Performance من مشاهد وفصول وحلقات تظهر العمل المكتوب في أصله في ثوب جديد متحول .. برغم كل ذلك إلا أن اجتماع الأصل مع النسخة المنحولة في لحظة حضورٍ ومقارنةٍ واحدةٍ يظهر على الفور أن هذه اقتباس عن تلك أمام عين المطالع الهاوي ناهيك عن عين الناقد الحصيف الحاذق ..
لقد عرض على التلفاز في مطلع التسعينات مسلسل سوري غاية في القوة والإتقان وأصالة الفكرة وجودة الحبكة في المغذى والمضمون والصنعة ، وكان بعنوان (شبكة العنكبوت) قاده مؤدين بارزين مشهورين في الدراما العربية في سوريا .. وحكى عن صنف فريد ومعقد من العلاقة النفسية بين أفراد اسرة عربية عادية وكانت من جانب الولد الوحيد فيها على والدته وأخوته الثلاثة البنات ، حاول أن يخلق من هذه الأسرة (يوتوبيا) أي مدينة فاضلة منكفئة على نفسها فقط ومنعزلة عن العالم غيرها تماماً ويكون هو محورها وحاكمها ، واصطنع للحفاظ عليها هكذا شتى الوسائل والحيل ولو باصطناع المرض الذي افضى به إلى الوفاة في نهاية الأمر .. كان الناس وقت عرض المسلسل طي الاعجاب الشديد بذلك المؤلف العبقري الملهم الذي كتب قصته ليبلغ بها مصاف عظماء الرواية النفسية العالمية أمثال (دستويفسكي) أو (تشيخوف) أو (أندريه موروا) أو (كولن ويلسون) ومن هم على هذا المقام .. ومن فرط ما حظي به هذا المسلسل من اهتمام وثناء أن انبرى له شيخ النقاد في السودان الأستاذ (هاشم صديق) وأفرد له عدداً من حلقات برنامجه المشهود (دراما 90) وتحدث عنه بتفصيل وتدقيق وتحليل بالغ ورائع .. ولكن وبعد كل ذلك يشاء الله أن تقع بين يدي رواية فرنسية قديمة كانت في مكتبة المنزل ترجمت إلى العربية في عام 1965م بعنوان (العنكبوت) لمؤلفها (هنري تروايا) وقد حازت حال نشرها في فرنسا على جائزة (جونكور) العالمية في سنة 1939م ، فإذا بهذه الرواية الفرنسية هي أصل فكرة هذا المسلسل السوري دون أدنى ريب ، ولكنها مجسدة على واقع الحياة في فرنسا بينما أفلح منتج المسلسل السوري في تفصيلها ببراعة على الواقع السوري فينسجم وبنية المشاهد العربي فلا يشك في أنه عمل مقتبس ودون أية اشارة أو تلميح عن النص الأصلي ..
لعل من أهم منجزات عصرنا الراهن ذلك الاهتمام التشريعي والقانوني الكبير بحق الملكية الفكرية وحمايته .. فقد شاعت في بلادنا لعقود سلفت سرقة الحقوق الأدبية ظهر منها الكثير وما ظل خافياً كان أعظم ، لعدم الالتفات لجدوى رعاية هذا النوع من الحقوق إلا مؤخراً .. ولكن رغم ذلك تتطور الجريمة دائما تطوراً مساوقاً لتطور تدابير مكافحتها فتأتي بكل طارف ومستحدث .. ولكن ليعلم صاحب العمل النبيل أدباً كان أو علماً أو فكراً أن سارقه ليس بأغنى منه في رصيد الإحسان ، لأن لصاحب العمل النبيل بكل حرف يفيد منه إنسان حسنةً وأجر وفير .. بينما لسارقه بذات الحرف وزر وإثم كبير .. فالعمل الفكري لصيق بصاحبه التصاق الابن بأبيه ولا فكاك وإن تربى في غير موطنه ولكنه حتماً هو له .. وكفى للمرء حباً لمظلمة نفسه لدى العباد ما دام أن من سيدافع عنه هو الله .. وفضل الأكل في القصعة دوماً لصاحبها ولا غير ..

عودة (الجندر) Gender .. ماذا ورائها ؟


عودة (الجندر) Gender .. ماذا ورائها ؟

د. وائل أحمد خليل الكردي
(النساء شقائق الرجال) فالشق يتميز عن شقه الآخر بوظائفه ليصيب كل منهما سهما في الوجود بجانبه فتكتمل الصورة ، فالشق إذن يكمل شقه الثاني ولا يناقضه .
  منذ مطلع القرن العشرين بدأت في عالمنا الثقافي العربي أقوى دعاوى تحرير المرأة على منوال (قاسم أمين) و(مرقص فهمي) و(هدى شعراوي)  و(سهير القلماوي) و(نوال السعداوي) وآخرون وتسليمها حق المساواة الكاملة بالرجال دون تمييز لسهم أي منهما في الوجود .. وكان الظاهر من الأمر في ذلك هو تخليص النساء من قيد المجتمعات الذكورية على غرار ما فعلت أوروبا سلفاً عبر قادة الفكر الاجتماعي بها ولم يكن من الضروري لهؤلاء العرب معرفة الخفايا والأسرار والعلل البعيدة لنفس هذه الدعوة لدى نظرائهم الأوروبيين .. واليوم عادت تلك الدعوة من جديد بشكل ضارب في القوة بأحشاء مجتمعاتنا لتصير من الخانات الأولى في أجندات تغيير واقع وحياة الناس ..
ولكن .. ماذا كان هو الغرض الحقيقي المخفي من وراء ذلك ؟
لقد ذكر عالم الاجتماع الانجليزي (لويس مورغان) L. Morgan في كتابه المهم (المجتمع القديم ، أو البحث في خطوط التقدم البشري) في العام 1887م كيف أن النسب عند بعض شعوب العالم القديم  والتي لم يزل أثرها باقياً حتى عهده لم يكن إلى الأب بل إلى الأم ، وأن خط الأم كان يعتبر الخط الوحيد لتحديد نسب الأبناء على اعتبار أن العلاقات الجنسية كانت غير محدودة بالزواج الأحادي بل بتعدد الرجال على المرأة الواحدة ، وأن هذا الأمر أدى إلى نفي كل امكانية لتقديم الدليل الأكيد على الأبوة وبالتالي لم يكن من الممكن تقرير النسب إلا حسب خط الأم وبموجب (حق الأم) مما أدى إلى تمتع النساء بوصفهن أمهات بحيازة المصدر الوحيد للثقة بشأن إنشاء الأجيال الفتية ، وبلغ ذلك من الاحترام حد سيادة النساء التامة وظهور ما يعرف بـ (جينيكوقراطية) Gynecocratic أي (حكم النساء) .. ربما بذلك كانت المطالبة بتحرير المرأة على غير ما ترسمه التعاليم الدينية السماوية هدفها تحقيق الفرصة لمشاعية أنثوية بأسم الحرية والاختيار والانسانية المجردة ، فإذا تحقق هذا لهم سدوا بذلك كل فرصة أمام مقولات الصفاء العرقي والأجناس المتفردة بنحو ما حكمت الشيوعية الماركسية – اللينينية بالقضاء على سلطة العرق كأحد أهم الاجراءات للتذويب البشري العام في مجتمعات الاشتراكية العالمية ..
ثم تعالت حدة هذه الدعاوى لتحرير المرأة وما يخفيه من إحياء جديد (لحق الأم) عقب كارثة الحرب العالمية الثانية التي تسببت فيها الأفكار المنادية بضرورة تنقية العرق الآري المتفوق في مواجهة كافة شعوب العالم .. إذن فإلغاء العرقية – يمكن القول – كان هو السبب وراء حركة تحرير النساء ، وبسبب هذا تعاظم الزعم بحقوق (الجندر) وترقية مهام النوع الأنثوي ، ومن خلف ذلك مخطط آثم لضرب سنة الله في الخلق لشعوب وقبائل ، وأن تنصهر كافة طرق الحياة في داخل قارورة واحدة تختلط فيها كل الأعراق ثم لا تلبث أن تختفي جملة لتتحول إلى طريقة حياة واحدة عالمية بلا عرقية .. إن تلك القارورة ستؤدي في المستقبل نفس الدور الذي كان منوطاً ببناة (برج بابل) القديم الذي يجتمع كل البشر فيه ليعيشوا ويتحدثوا لغة وحياة واحدة .. ولكن ها الله تعالى أبى عليهم مطالبهم بأن أظهر بالعلم وسائل توثيق جديدة للأنساب مثل شفرة DNA بما يحفظ الحق الأبوي في الأبناء بجانب حق الأم ، وأيضاً لإبقاء تقسيمات الشعوب والقبائل كسمة اجتماعية وجودية يتم بها تعيين المعروف بين الناس ، وربما ما خفي كان أعظم ..
 (هو الإنسان .. لطالما يصر على على الصعود فوق مظانه وبناء قصور الأحلام عليها ، ثم يحسب دائماً أنه يحسن صنعاً .. ولكنه في كل مرة يعود ويرد إلى أسفل سافلين) ..   

الثلاثاء، 10 يناير 2017

استراتيجية إعادة السيطرة .. د. وائل أحمد خليل الكردي

استراتيجية إعادة السيطرة ..

                 د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com

يقول الله تعالى (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) .. ذلك خوف كبير من مصير من اثاقلوا إلى الأرض فاجترحوا ظلما وباتوا عليه قائمين ، ثم لم يأخذ على يديهم من بين الناس من كان فيهم رجل رشيد .. فسيعمنا الله بعقاب ..
(أن الفقر هو صنو الجهل وصنو المرض ، ومتى اجتمع الثلاثة كفر الشعب بالدولة ومات في النفوس كل شعور وطني) .. (كيف يطلب من مواطن أن يحب وطناً ويقدره وهو يجهل تاريخه ولا يشعر في كنفه بأنه ينعم بما تأمنه الدول الأخرى لرعاياها من طمأنينة وهناءة) .. تلك الكلمات هي حقيقة شرع الله في الإسلام ، كتبها (أدولف هتلر) ديكتاتور ألمانيا الرهيب .. كتبها عندما وجد مع كل ما آتاه الله من قوة وبأس وبرغم كل محارقه ومقاصله أنها الحق .. فاصدرها في كتابه (كفاحي) الذي فرضه على جميع أفراد الحركة النازية والذي صار هو دستورها ..
وفي بلاد النيلين العظيمة أوشك أن يصر حالها اليوم تلك البئر المعطلة .. فقراً ومرضاً وأقلام لا تمحو جهلاً .. ولكننا مازلنا أحياء .. فلا بد إذن من بذل الجهود للنجاة .. ولابد من إعادة السيطرة لحكمية ما أنزل الله بحكم القانون .. لذا لا مناص من رسم صورة استراتيجية لأجل إحياء الموات من ثروات البلاد ورواء حلوق من عانوا كثيراً بقطرة من عدل ولقمة عيش ..
ويجوز لنا في هذا الظرف أن لا نكتم قولاً متى حضرنا ، ولابد من وضع الحلول على أصول المشكلات . ومن ذلك وضع الخطة الاستراتيجية للإصلاح العاجل في مدىً لا يجاوز العامين من تاريخه .. وبعد العامين حصاد الثمر والعود إلى الوضع المستقر . ويمكن في ذلك الدفع بما يلي :
أولاً – تعليق منصب رئيس الجمهورية وتولية مقاليد إدارة الدولة إلى مجلس وزراء تنفيذي ويرأسه (رئيس وزراء) ، وتقليص الظل الإداري الحكومي إلى أقصى حد مع إلغاء منصب وزير الدولة .
ثانياً – الدمج الفوري لجهاز الأمن في هيئة الاستخبارات العسكرية بالقوات المسلحة . والدمج العاجل لقوات الدعم السريع ضمن القوات الخاصة بالقوات المسلحة وإدخالها تحت العقيدة القتالية لها وتحت ميزانيتها المالية المعلومة حتى لا تتحول الدعم السريع إلى قوات ارتزاق قاسمة لظهر الدولة ، فالقوات المسلحة هي الفصيل الوطني المقاتل وكذا ينبغي أن تكون وحدها ولا يجب تفتيتها ومزاحمتها بقوات أخرى . إضافة إلى تحقيق تركيز ميزانية الصرف الأمني بهذا وحسم الهدر .
ثالثاً – وضع قوات الشرطة تحت إمرة وزارة الدفاع في المرحلة الراهنة كقوة داخلية مساندة وصياغة برنامج عمل أمني مشترك . وتكليف قائم بأعمال وزارة الداخلية لأغراض المعاملات الخدمية المدنية . مع رفع حاجز الترقي بالقوات النظامية لكل الرتب إلى خمس سنوات بحد أدني للتهيئة الكافية لشاغر الميزانية .
رابعاً – المنع البات والفوري لتداول العملات من النقد الأجنبي في ما يعرف بالسوق الموازي ، والالتزام فقط بأسعار الصرف الرسمية في البيع والشراء على منشور بنك السودان وعبر البنوك والصرافات المعتمدة .
خامساً – تعطيل نظام الحكم الولائي وإعادة الحكومة المركزية والعمل بنظام المديريات ، الأمر الذي من شأنه تقليص الفرصة أمام الدعاوى الانفصالية وتعميق الحدود بين الولايات بما يثير النعرات العرقية ويمهد للانفصال .
سادساً – رد كافة فائض المخصصات تبعاً للإجراءات السابقة إلى وزارة المالية مع إصدار منشور رسمي ملزم من رئاسة مجلس الوزراء بجدولة تذويبها في هيئة سيولة نقدية وتوجيه عموم الميزانية لتأهيل المرافق حيوية والمشروعات القائمة بالفعل دون فتح الميزانية لأية مشروعات جديدة إلا على سبيل الاستثمار الأجنبي .
سابعاً – التفعيل الفوري لقانون الثراء الحرام وتشكيل لجان قانونية من نقابة المحامين ممن هم غير المنتمين إلى مؤسسات حكومية لتقصي الحقائق حول أعمال الفساد في الإدارة والمال العام ، وذلك بحسب كل وحدة من الوحدات الإدارية ، ومحاسبة المفسدين قضائياً بإشراف هيئة برلمانية تشكل لهذا الغرض .     
ثامناً – تثبيت التكلفة الحقيقة على المحروقات والمواد البترولية بصورة مجردة خالية من إضافة أي رسوم تكلفة انتاج على المستهلك ..
تاسعاً – إعادة صياغة عقود شركات الكهرباء والمياه والطرق والاتصالات بما يضمن تحقيق الالتزام بأعلى وأدق معايير الجودة واستدامة الخدمة.
عاشراً – تضييق نطاق الاستيعاب الوظيفي بكافة الوظائف الحكومية الأكثر استهلاكاً للموارد وأقل انتاجية فعلياً داخل جميع مؤسسات الدولة ومرافقها .
الحادي عشر – تشكيل غرفة خاصة برجال الأعمال والرأسمالية الوطنية تتبع لرئاسة مجلس الوزراء بغرض رسم سياسات الدعم النقدي والعيني ووسائله على أوجه فاقد الميزانية العامة بصدد الاحتياجات الاقتصادية الراهنة وبحسب الأولويات الحيوية .

تلك رؤية لحلول على أصول المشكلات دون تفصيلاتها .. فلعل القائم بالأمر إذا أخذ بكل ما هو ممكن من رؤى استراتيجية اصلاحية ومن حيث أتت أن يصير بطلاً قومياً  بقيادة حملة شاملة للإصلاح وضرب الفساد واسترداد كرامة الوطن والمواطنين وتوسيد الأمور إلى أهلها .. كل ذلك قبل أن يسبق عليه الكتاب فيصير في عداد الهالكين بين يدى ذنب عظيم .. اللهم فاشهد . 

العهدة الجسيمة .. د. وائل أحمد خليل الكردي

العهدة الجسيمة ..

د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com

كتب السير (جيمس روبرتسون) في تقديمه لكتاب (العهدة الجسيمة) A GREAT TRUSTEESHIP  الذي ألفه بالإنكليزية (محمد النجومي) ونشر في لندن 1957م .. ما يلي نصه :
"لقد كانت غاية البريطانيين الذين خدموا في السودان – أولاً وقبل كل شيئ – إنشاء دولة حديثة في تلك البلاد ، والتي كانت حين وفدوا إليها خالية من كافة المقومات الأساسية اللازمة لأي أمة من الأمم باستثناء الأناس الذين يتسمون بالجرأة وشدة البأس. فلم يكن هنالك اتصالات ولا مدارس ولا مؤسسات تعليمية ، وكذا الحال في الصحة والزراعة وحتى الري كان يعتمد في استجلابه على العجلات والشواديف Shadufs ... وبعد أن تم إرساء هذه الأصول وتوطدت اركان الإدارة البريطانية شرعت تدريجياً في إلحاق الكوادر السودانية للمشاركة في حكم أراضيهم . وعندما شارف حكم هذه الإدارة على الانتهاء كان الانجاز البارز هو رؤية السودانيين وقد أصبحوا يملكون حق تقرير مصيرهم وأنهم لن يعتمدوا منذ الآن فصاعداً على أي حكومة منتدبة من جانب قوى أجنبية "  انتهى كلام سير (روبرتسون) ..
والآن .. وقد استلمنا نحن هذه العهدة الجسيمة ، وجاء هذا الكتاب لكي يشهد على تاريخ سلف وحتى نتبين من الوقوف في كل ذكرى للاستقلال على منجزات هذا التاريخ في زمانه وكيف أصبحنا نحن منه الآن في زماننا .. هل بالفعل مضينا قدماً نحو صياغة مجتمع حضاري واع متقدم في كافة جوانبه العمرانية والإنسانية ، أم أننا مازلنا نتراجع القهقرى كل سنة خطوة إلى الوراء أو خطوتين .. لقد وضع البريطانيون في السودان قالباً حضارياً صنعوه هم هناك في بريطانيا العظمى على نحو ما فعلوا مع بلاد الهند وأغلب المستعمرات تحت التاج البريطاني .. لذلك لم تهضمه أجيال من أبناء السودانيين أتت من بعدهم .. فلقد أتى البريطانيون إلى مستعمراتهم بالمبدأ الفلسفي الأساسي في كمبريدج Cambridge آنذاك وهو (من أعلى إلى أسفل) أي تصميم كل منجزات الحضارة لدى الملكية البريطانية ومن ثم إنزالها جاهزة على ما دونها وما تحت ايديها .. والآن وبعدما تم الإنزال على أرضنا .. فلقد رفضنا الصورة الاستعمارية لهذه المنجزات وكان هذا أمر طبيعي وضروري من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية .. ولكن على الجانب المقابل فقد أصبح لدينا من العمران والبنيات التحتية والنظم العامة ونظم الخدمة المدنية والعسكرية وقوانين الإدارة والمحاسبة أمراً واقعاً وصورة أنجزها هؤلاء .. فهل نضيعها بدعوى أننا لسنا نحن من أقامها ولكي نبدأ مرة أخرى من أسفل إلى أعلى – على نحو ما يقول أصحاب مدرسة اكسفورد Oxford الفلسفية – فنجتهد في بناء نموذجنا الخاص منذ أول السلم الحضاري .. حتى إذا ما خرجت رؤوسنا بعد حين من الدهر لم نجد من ينتظرنا في محطة الأمم بل أن الكل قد رحلوا إلى القرون البعيدة .. أم أن الأفضل لهم ولنا ولأجيال تأتي من بعدنا أن نعتبر تلك العهدة الجسيمة منصة انطلاق يسرها لنا الله طيبة خضرة على ايدي نفر من عباده وإن كانوا على غير ملتنا ووطننا .. لقد تركت لنا تلك العهدة في أول يوم من العام 1956م لكي تكون عتبة أولى على درج طويل صاعد دائماً نحو المستقبل ولا ينتظر أحداً .. فالأمة الفطنة هي ما حافظت على عمران نمى على أرضها ولو كانت صنيعة ليد الغريب ، ثم تعاهدوها بالرعاية والإضافة إليها عمراناً جديداً فالله ربنا قال (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) ..

إن ذكرى الاستقلال في عهدها الماسي الراهن تمر في كل سنة عقب سنة عرضاً لصور من ماضي تلك العهدة  وتكراراً لأناشيد قد مات مؤلفيها ومنشديها منذ عقود .. ثم ينتهي يوم الذكرى ليبقى مجرد ذكرى .. ثم ليتكرر نفس الشيء السنوات التاليات .. حتى بات يظن من دان منا لوطنه أننا صرنا أمة قد خلت ولم يعد لنا هاهنا حاضر ومستقبل .. ولعلى أحسب أن الاحتفال الثر المثمر بذكرى استقلال بلادنا يكون – أضعف الإيمان - بعقد مؤتمر في نفس يومه يسمى (المؤتمر البرلماني) الأول أو الثاني أو السابع .. وهكذا ، تقدم فيه أطروحات المفكرين ورؤاهم ومداولاتهم المدونة حول " ماذا فعلنا في تلك العهدة الجسيمة منذ استلمناها ؟ " و" ماذا نفعل فيها الآن ؟ " و" ماذا يبدو لنا أن نفعل فيها عند شروق شمس يوم جديد وحين نترك يومنا هذا أمساً وراء ظهورنا ؟ " .. الأمر مطروح للتدافع .. ولعله نداء قبل أن يصبح المنادي هو أيضاً يوماً ما ذكرى منسية ..          

الجمعة، 30 ديسمبر 2016

أوهام السوق.. (سحر الأدمغة وتزييف الكلام) د. وائل أحمد خليل الكردي

     أوهام السوق..
(سحر الأدمغة وتزييف الكلام)

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           
جاء في كتابات الرجل صاحب المنهج العلمي : "أن أوهام السوق هي أكثر الأوهام إزعاجا ، تلك الأوهام التي تسربت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء . ذلك أن عقلهم يتحكم في الألفاظ ، بينما الحقيقة أيضاً أن الألفاظ تعود وتشن هجوماً مضاداً على الفهم" ..
لقد أصبح التمييز بين ما يقال وما يفهم مما يقال فن رائج ، ولعبة الحاذق الماهر .. بعد أن صار سحر الأدمغة بألفاظ وصياغات اللغة وارد كل مورد ، وكل انبساط وطي .. في استخدام الحجة والبرهان .. في خطب السياسة والمكاتبات الرسمية .. في الاتفاقات والمواثيق المدونة والعهود .. في نقل العلم والمعلومات والتعلم والتعليم .. في مد جسور التواصل أو قطعها .. في الظن والشك واليقين .. في العقيدة وأغراض الدين .. وحتى عند المشاءون بالغيبة والنميمة وكشف الأستار وهتك الحدود..
لقد أثبت بنو (آدم) أن سحر الأدمغة وتزييف الكلام هو السلاح الأخطر في تاريخ الوجود .. وليس الأمر في هذا بجديد ، فقديماً قال الحكيم "أن الحركة وهم .. فأنت إن أردت أن تصلني في مكاني هذا وأنا واقف ، لما أمكنك .. لأنك لكي تبلغ ذلك فعليك أولاً أن تقطع نصف المسافة ، ولكي تقطع نصف المسافة فعليك قبل ذلك أن تقطع نصف النصف  .. ثم نصف نصف النصف .. وهكذا ، فستجد نفسك مطلوباً أن تقطع عدداً لا نهائياً من النقاط على هذه المسافة لتصل إلي ، وهذا مستحيل .. وفي النهاية لن تجد نفسك إلا واقفاً مكانك ، فالحركة إذن وهم وخداع بصر" .. تلك حجة صيغت بمجرد باللسان والألفاظ ولكنها غير وجه الواقع في أذهان الكثيرين إلى أن صارت مذهباً قام له المريدون والأتباع .. وبتزييف الكلام أيضاً علم (هاروت) و(ماروت) الناس السحر في (بابل) ففرقوا بين المرء وزوجه ..
وفي حاضرنا .. كان سحر الأدمغة وتزييف الكلام سبباً في ترويج كثير من السلع الفاسدة والخروج من المسائلة القانونية بسهولة طالما أن العقد هو شريعة المتعاقدين .. حتى صار تزييف الكلام هو بذاته سلعة تتداول ومهارة للتدريب .. وقد ورد في أحد كتب المنطق القضية التالية مثالاً على ذلك :
طرحت إحدى شركات إنتاج الأجهزة الإلكترونية - في زمان متأخر نسبياً – أجهزة تلفاز تحمل علامتها المسجلة في الأسواق .. ثم أعلنت الشركة منتجها في وسائل الإعلام بواسطة نص مؤلف من ثلاث فقرات بنحو ما يلي :
الفقرة الأولى : "أنك من الممكن أن تسافر في جميع أنحاء العالم دون أن تجد ما هو أفضل من أجهزتنا .."
الفقرة الثانية : "لقد شرعنا في بيع أجهزتنا منذ عشرين سنة ومازالت معظمها تعمل حتى الآن .."
الفقرة الثالثة : "إن أجهزتنا تحتوي على عناصر تجعلها تعمل بكفاءة أكبر من أي جهاز آخر لا يحتوي على مثل هذه العناصر .."
جذب هذا الإعلان أصحاب الطلب والحاجة فسارعوا إلى شرائها بثمن كلف .. ولكن وبعد أقل من شهرين من الاستعمال فسدت كل الأجهزة التي بيعت أو تدنت كفاءتها إلى حد كبير .. فلجأ الناس إلى القضاء بالشكوى .. ولما كان هذا الحدث واقعاً في بلد تجرم قوانينه الرسمية بشدة أي إعلان كاذب على سلعة من السلع فقد تم استدعاء صاحب الشركة والمسئول عن الإعلان ليمثل أمام القضاء ويواجه الاتهام بأن النص الإعلاني الذي روجت به هذه الأجهزة الفاسدة كان نص كاذب تأكيد صلاحيتها .. فماذا كان ظننا برد صاحب الشركة في تفنيد الاتهام؟ .. لقد تبسم في زهو وقال بثقة "الإعلان صحيح تماماً" .. وإليكم التفسير :
في الفقرة الأولى قلت (من الممكن) ولم أقل (من المؤكد) .. فمن الممكن أن يكون كذلك ومن الممكن لا ، تتساوى في ذلك احتمالات السلب والإيجاب ..
وفي الفقرة الثانية قلت (لقد شرعنا منذ عشرين سنة) .. وقد حدث هذا بالفعل ، فلقد شرعنا في البيع منذ عشرين سنة لمدة يومين فقط ثم أوقفنا البيع عشرين سنة وتم تخزين الكمية الباقية بحالتها الجديدة في المخازن ،إلى أن عدنا لبيعها ألان ، فبالتأكيد ستعمل جيداً عند أول تشغيل لها. وبعد ذلك يكون ضمان إستمراريتها بنفس الجودة أمر آخر لم أتحدث عنه في الإعلان ..
وفي الفقرة الأخيرة .. تحدثت عن عناصر تحتويها أجهزتنا ولكني لم أفصح في الإعلان عن ما هي هذه العناصر أو أسميها .. وربما أضمرت في نفسي أن المقصود بهذه العناصر شيء مثل (الشاشة) في التلفاز ، فمن البداهة أن جهاز تلفاز مزود بشاشة يكون هو بلا شك أفضل من أي تلفاز لا يحتوي عليها ..
وهكذا خرج صاحب الشركة والإعلان الساحر من الادعاء الموجه ضده ، وسقطت القضية في أيدي القضاة وأيدي الناس ..

ولا أجد تعليقاً على هذا أبلغ من قول رسولنا الكريم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" .. لقد علم الله (آدم) الأسماء كلها .. ولكننا من بعده حرفنا الكلم عن مواضعه ، فسادت أوهام واستترت حقائق..  

خُشب مسنٌدةٍ .. وأذنابُ بقر د. وائل أحمد خليل الكردي

خُشب مسنٌدةٍ .. وأذنابُ بقر

د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com

في جانب من وقائع كتابه الفذ (بحوث فلسفية) دون الفيلسوف اللغوي الانجليزي نمساوي الأصل والأشهر على مر القرن العشرين (لدفيش فيتجنشتاين) L. Wittgenstein ما يلي : (إن فهم جملة ما  يستلزم بالضرورة  الانتماء لعضوية طريقة معينة في الحياة وفهم الألعاب – اللغوية language - games الخاصة بها  .. فإن عقل الحاسبات الآلية لا يفهم الجمل التي يعالجها ، ليس من جهة أنها تجري عمليات تفتقر إلى المركبات العصبية بشكل كاف وإنما من جهة أنها ليست ومن غير الممكن أن تكون أعضاء في الثقافة التي تنتمي إليها هذه الجملة ) .. ولقد ظل (فيتجنشتاين) - رغم عمره المديد في انجلترا إلى أن مات ، وأستاذيته بجامعة (كمبريدج) وتدريسه فيها للطلاب الانجليز باللغة الانجليزية - وفياً للغته الألمانية الأم في كتابة جميع أوراقه وبحوثه ومقالاته ..
وهذا الزمان .. وفي بلادي .. عجبت لمن كان أمره بين يديه عظيم ، ثم صار يرنوا لما بيد العصفور الصغير ذاك في واديه السحيق .. ولو يدري لعلم أنه من قوم أعلون بما لديهم ، ولكن النفس في أهوائها أحياناً ترجوا السقط من متاع قوم بالٍ .. فكيف لم يدرك أولئك ألآباء فداحة ما يخسرون من ثمار أبنائهم عندما حسبوا أن التعليم في المهد منذ نعومة الأظافر لابد أن يكون بحسب مسالك ودروب اللسان الانجليزي في تلقي جميع المعارف .. وكيف لم يتبينوا أن تلكم النعمة لديهم لو بيد أبناء العم سام لجالدوهم عليها بالسيوف أن نشئوا في اللغة العربية الزاخرة .. لغة السماء تلك التي بدت من علٍ فاستعصمت دونها لغات الأرض جبراً عن الإتيان بخير من نحوها وصرفها ..
 وليت أولئك الآباء يعلمون أن حرثهم لأجل امتلاك أبنائهم لغات العالم قدرة وعلماً رهين بعمق امتلاكهم لناصية لغتهم العربية الأم .. لكن ما قد يدمي القلوب في صدورها أن صار الدفع بالصغار إلى مدارس ناطقة بانجليزية صرفة في كل موادها مثار افتخار وبهاء بين ذوي الفقر والحاجة على السواء كما ذوي الحياة المخملية بأترافها ونعمائها .. وربما كله إلى ضياع .. وليشهد هؤلاء بانفسهم حقيقة الأمر بأن أعظم فلاسفة الانجليز – على مثال من ذكرنا في البدء – قد برهنوا على أن المنهج الأمثل في صقل العقول وشحذ القرائح وتنمية المواهب والمهارات وصناعة الأفذاذ منذ عهد الطفولة المبكرة إنما يكون بالتنشئة (من أسفل إلى أعلى) وليس (من الأعلى إلى أسفل) .. أي بإنبات الإنسان من باطن تربة طريقته في الحياة التي قدر له الله منذ الأزل أن يقوم فيها وليس بزرعه نبتاً شيطانياً بلا جذور ولا عروق في أرض غريب .. وأن الإنسان عليه أن يجيد بلا تكلف ألعاب أمه اللغوية  في كل صحوةٍ ونومة ، وفي كل بادية وحضر .. وشهد التاريخ أن أعظم روائع المبدعين إنما صدرت بلغات أمهاتهم وطرائق حياتهم .. وأهم كلما تمكنوا منها وتملكوا ناصيتها كلما ازداد إبداعهم  إبداعاً ..
لقد فشل الاستعمار البريطاني في الحفاظ على مستعمراته في الهند والسودان ومصر وبلاد كثيرة في أفريقيا وغيرها عندما ظن المستعمرون أن المنهج العلمي التجريبي في الفيزياء إذا كان قد أثبت نجاحاً عملياً في نتائجه المعملية في تفسير العالم والكون ، فإن ذات المنهج عينه ووحده هو ما سينجح في تفسير الإنسان والمجتمع على الحقيقية ..  فبالقياس إلى ذلك يكون النموذج والبرنامج التنموي لديهم الذي أبدع بريطانيا العظمى المعاصرة هو عينه النموذج الذي سيجعل من تلك المستعمرات بريطانيا ثانية وثالثة ورابعة .. فأنزلوه من أعلى إلى أسفل على أعناق الشعوب عنوة .. فإذا بالمستعمر ترتد السهام عليه وتلفظ الشعوب بعد حين تلك المسامير الغريبة عن جلدهم في وجه المطارق الضاربة فوق رؤوسها كل ضحىً وليل ..
ولكن فرنسا ربما أحرزت نجاحاً أوفق على مستعمراتها ، حيث لم تلبس البيت ثوباً قشيباً من الخارج ليغطيه - كما فعل البريطانيون – فيسهل على البيت خلعه وتمزيقه ويظل البيت قائما .. بل عمدوا إلى طلاء البيت من داخله وفي عقر قلبه وعقله لوناً جديداً حتى اختلط الحابل بالنابل وذابت الأصول في الفروع وراحت اللغة الأم – عربية وأفريقية -  كحبات الملح في ماء الفرنسية الحار ..     

سنظل هكذا دوماً قوماً تبعاً لغيرنا ما لم ننشٌئ أجيالنا من باطن طريقة حياتنا وألعابنا في اللغة الأم .. وكيف لنا أن نسمح لعقول أبنائنا أن تعمل بقوة طاقتها وبالغ بدائعها على كل علم وفن إذا نحن ألزمناهم كسر أعناقهم لحمل سمات ولغة قوم آخرين لهم وأضعنا بها معالم ثباتهم على الأرض.. أولم يخلقنا الله شعوباً وقبائل بحكمته .. فإن أضعنا ذلك في أبنائنا قتلناهم داخل أجسادهم وهم أحياء .. فلا يعودون أحراراً في مستقبل أيامهم ولا هم يتعارفون  .. فأي جريمة تلك وأي ذنب عظيم .     
حوار .. أم تفاوض

د. وائل أحمد خليل  الكردي  
wailahkhkordi@gmail.com                           

يقولون انتشر الإسلام بالسيف .. وأقول، بلى قد انتشر بالسيف في كثير من مواقع التاريخ .. ولكن ضد من كان هذا السيف؟ .. لقد اعمل المسلمين السيف في الماضي ضد كل من تسيد على أبناء شعبه فقمع أعينهم ، واستبد بأسباب حياتهم ، وألجم الأفواه وقطع الألسنة ، فلا سمع ولا بصر ولا كلام .. ضد كل من اعتلى عرش سلطانه وقال (أنا ربكم الأعلى) (ما علمت لكم من إله غيري) .. ضد كل من فوض حق الرب لنفسه خالصا في جباية حسنات الناس وذنوبهم ، فدق الصكوك باسمه لمن شاء مغفرة .. وعلق رقاب المغضوب عليهم تحت المقاصل بلا جسد .. على هؤلاء فقط كان السيف .. أما عن سواد الناس وعامتهم فلقد كان السيف لهم لا عليهم حين صار دم المسلم أعظم حرمة عند الله من بيته المقدس .. وبعد أن صار المشرك يستجير بالمؤمن فيبلغه مأمنه بعد أن يسمع كلام الله .. ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. فالحقيقة هي أن (لا إكراه في الدين) .. لقد انتشر الإسلام عندما رفع السيف عن رقاب العباد ، أي عباد ، ظلم الطواغيت وقهر الملوك ..
والآن .. وفي زماننا هذا .. يقولون ولى أوان السيف ، وأن لنا فحسب أن نجلس (للتفاوض) .. تلك الكلمة التي بثت في ثقافة بني جلدتنا عندما خارت العزائم وتاهت الأنفس تضربها الأهواء في كل مفرق وسبيل .. وصار التثاقل إلى الأرض شريعة وتربية وخارطة طريق .. فرضينا بحب الدنيا وكراهية الموت ..
إن التفاوض الذي يزعمون  لم يكن كلمة من كلمات أصول الإسلام الذي قال (خذوا ما أتيناكم بقوة) .. فلقد ارتبط مفهوم (التفاوض) دائما بمفهوم (المعارضة) ارتباط الحرب بالسياسة .. والمستقرئ للأصول الإسلامية قد لا يرى لمفهوم المعارضة أثراً في تلك الأصول ، بل إنه يجد من الدلالة هناك ما يمكن تسميته (اعتراضاً) لا (معارضة) .. فالمعارضة إنما هي حالة مستمرة تنتج عن موقف مختلف عقائدياً أو فكرياً ، وتستند في ذلك على نظام الديمقراطية المتحررة في إزالة أصل الحكم على اعتبار أن المعيار في هذا هو إمضاء إرادة الأغلبية .. بينما في الإسلام فيجوز مفهوم الاعتراض الذي هو حالة جزئية محدودة تنبع من ذات الموقف العقدي أو الفكري للحكم الإسلامي ، ويعتمد في ذلك على نظام الشورى في توجيه وإرشاد وتقويم الحاكم المسلم دون الخروج عليه أو إزالة حكمه ما أقام في الناس الصلاة ، والمرجعية في هذا هي لتشريعات القران والسنة وليس لرأي الأغلبية ..
وهكذا يكون عدم الحذر في استعارة المفاهيم من لدن ايدولوجيا  مغايرة وإدخالها إلى حيز التكييف الإسلامي لها هو أمر على قدر من الخطورة وقد يؤدي إلى ضياع الهوية السياسية للحكم جملة .. وهو ما بدا في استتباع مفهوم المعارضة لمفهوم التفاوض والذي غالباً ما ينشأ مزامنا للنزاعات المسلحة وفرض القوة العسكرية ، ويفيد في عموم دلالته اللفظية معنى التنازل المشترك ، أي (أن تترك للطرف الآخر في مقابل أن يترك هو لك) بما يظهر الندية والتساوي .. وهذا لا يوافق الأصل الثابت في قول الله تعالى (ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) فهنا الفرق الجسيم .. الذي يمحوا تماماً فكرة الندية بين المسلمين الحق وبين كل من هم غيرهم .. وليكون شرط هذا الأمر عليهم هو (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) .. فهم يجنحون للسلم تنازلاً وهوناً ويجنح إليها المسلمون بعدهم رحمة ورفقاً على من جنحوا للسلم قبلهم ، ولا يخشى المسلمون الحق في ذلك من قلة عتاد وسلاح ورجال بعد أن حقق الله تعالى لهم جواب الشرط على إيمانهم المطلق (فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) .. فلنستبدل إذن مفهوم (التفاوض) الذي هو تنازل من صاحب الحق لأجل السلم نتيجة الضعف ، بمفهوم أجدى هو مفهوم (الحوار) والذي هو عطاء من عل لصاحب الحق دون تنازل عن مبادئ أو أرض ..

ولعل هناك من يستشهد على حجية التفاوض بصلح الحديبية .. فليعلم أن الصلح أمر والتفاوض أمر آخر .. كما أن هذا قد تم في حال نمو الرسالة دون اكتمالها ، وأما بعد اكتمالها فقد تبين الرشد من الغي وحسمت الأمور .. ولا يخالف هذا أن نعود فنقول أن التفاوض ليس مرفوعاً رغم ذلك بالكلية ، وإنما هو مقبول ومطلوب في النطاق الاجتماعي حيث الأمور المدنية والقضائية والأحوال الشخصية .. ولنستنصر الله من بعد ونشكر فيزيد ..    

التأصيل الإسلامي لأخلاقيات أشغال الكشافة في سبيل تحقيق التفاعل الايجابي بين  الإنسان والبيئة

د/ وائل احمد خليل صالح الكردي

مقدمة
إن أشغال الكشافة (نسبة إلى الحركة الكشفية) هي مجموعة المناشط والأعمال التي تبدو مشتركة بين الكشفية وغيرها من الهيئات والمؤسسات سواء كانت عسكرية أو مدنية وغيرها، ولكنها تتميز بأنها أشغال كشفية لأنها تنفذ في قوالب الطريقة الكشفية والتي تعد حياة الخلاء بكل مؤشراتها وتفاعلاتها البيئية ابرز وأهم عناصرها.
هذا اضافة إلى المبادئ التي تقيم عليها الحركة الكشفية هذه المناشط والأعمال ونوع الأهداف المطروحة أمامها لبلوغها بواسطة شرائح معينة في خارطة النمو البشري وعلى رأسها شريحة (الفتيان).
عليه فإن تحقيق أقصى فعالية وجودة لأشغال الكشافة في سبيل بلوغ الأهداف المنشودة إنما يعتمد على المرجعية التي تصاغ عليها وتحتكم إليها تلك المبادئ والقواعد الأساسية للكشفية.من هنا كان الإدعاء بأنه إذا كانت المرجعية الأولى في رقي الإنسان تربوياً وأخلاقياً في الماضي والراهن والمستقبل هي مرجعية الوحي الكريم فإن المصادر التربوية الأخلاقية البنائية التي يقدمها الدين الاسلامي تمثل المرجعية الضابطة والفاعلة في ترسيخ وتطوير أشغال الكشافة وتحقيق أثارها بنحو ملموس ومباشر في مجالات الوقائع الاجتماعية والبيئية المختلفة. وهذا ما يمكن اثباته وايضاحة وتنقيته بدءاً بالجذر العام للحركة الكشفية عبر روادها الأوائل الذين هدفوا بالتدريب الكشفي إلى إلى تحقيق التفاعل الحي والمباشر مع الوجود والعالم براً وبحراً وجواً بما يتجاوز الوسائط المصطنعة والمعقدة تقنياَ ما أمكن ذلك ليصبح الفرد أكثر قدرة على:
1/ تحمل مسؤولية نفسه وقيادة الآخرين.
2/ تنمية وتوظيف القدرة على العمل الصالح والخدمة المجتمعية والسلامة البيئية.
3/ تحقيق وتوطين اسس ومبادئ تعمير الأرض بمقتضيات الفطرة الطبيعية التي خلقها الله عليها.
4/ بناء القدرة التفاعلية المتبادلة للإنسان في محيطه البيئي من خلال تدريب مهارات الربط والحل ، الملاحظة ، التوفيق والتوليف ، الرياضة ، التنظيم الحركي والإداري ، الفهم ، والاستجابة  الدقيقة ، التأثير والتوجيه ، القياس والاستدلال ، التخطيط والتنفيذ. وذلك على اعتبار أن (التفاعل) هو "عملية التأثير المتبادل بين نظامين أو اكثر أو طرفين أو اكثر فيؤثر احدهما في الآخر ويتأثر به سلوكياً" (1)، أما (المهارة) فهي "القدرة على عمل شيء ما بكفاءة وبمستوى معين من الأداء (2) .

عليه تظهر أهمية البحث في هذا الموضوع  بما يلي:
اولاً – ابراز ضرورة التشريع الاسلامي للأخلاق في تفعيل قناة حيوية وخلاقة بنحو الحركة الكشفية لإعادة الضبط والانتظام البيئي اللازم لإصحاح حياة الانسان.
ثانياً – نقل اشغال الكشافة من حيز الاقتصار على اعتبارها منظمة للعمل الطوعي الشعبي وإدخالها إلى حيز البحث العلمي الاكاديمي لاعتمادها علمياً ووظيفياً في تدريب وتأهيل القيادات بها على النهج الأخلاقي الاسلامي القويم .
ثالثا – توفير التوعية والإحاطة المعرفية المتقدمة لدي مختلف فئات المجتمع بأهمية دور الحركة الكشفية المبنية على الأصول الاسلامية لبلوغ اعلى درجات الفائدة والاستغلال الأمثل لها.

تقوم الورقة على محورين رئيسيين – محور بنائي برسم الصياغة الأخلاقية الاسلامية للطريقة الكشفية وتبريرها بمصدري القران الكريم والسنة النبوي. والمحور الآخر محور وظيفي برسم رؤية التنزيل الاستراتيجي لمقررات المحور البنائي على المجال البيئي العام. على أن يسبق هذه المحاور بالضرورة تعيين الاستحقاق الشرعي للحركة الكشفية.
وتتم المعالجة البحثية على هذه المحاور باستخدام منهج تحليل المضمون.

الاستحقاق الشرعي للحركة الكشفية:
إن الاستحقاق الشرعي للحركة الكشفية بناءً على محدداتها ومقوماتها البنائية الاساسية إنما يصدر عن مقتضى الاحسان وليس عن مقتضى الفرض أو الوجوب أو ألإلزام وذلك باعتبارها شكلاً من أشكال العمل المهاري الطوعي الاختياري البعيد عن الايديولوجيات السياسية  يدعى له من توفرت لديه الرغبة وتكاملت عنده مع الأهلية لهذا العمل ، على أن يكون هذا الاستناد من باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بهامن بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء(اخرجه مسلم).ونحسب أن الشكل التنظيمي للطريقة التي توافرت عليها الحركة الكشفية هي من قبيل السنن الحسنة على مستوى جلب المصالح وليس من قبيل الابتداع ي الدين.
                  
أولاً -  المحور البنائي في التأصيل الاسلامي للطريقة الكشفية واخلاقياتها:
إن اثبات الجذر العام في إنشاء حركة الكشافة قد جاء في مفتتح الكتاب الدستوري للكشافة  (الكشفية للفتيان) SCOUTING FOR BOYS   لمؤلفه اللورد الانكليزي (بادن باولB.P.) المؤسس الأول للحركة الكشفية – بقوله "إن الكشفية كانت قبل كل شئ فكرة اريد بها تجديد الحياة في الهواء الطلق ، ثم لم تلبث هذه الفكرة أن تكشف عن عنصر فعال في ميدان التربية  ... إنها مدرسة تعد الانسان إلى الحياة العامة النشيطة عن طريق الاعتماد على الطبيعة" (3) .
من هنا بدأ تكوين ما يعرف بالطريقة الكشفية بكونها نوع من التنظيم يضمن للمنتمين الى الحركة الكشفية تحقيق غايات التفاعل الايجابي مع الوجود المحيط بالإنسان برا وبحرا وجوا .وتبرير الطريقة الكشفية هو أنه لما كان هذا التفاعل لا يقوم الا على قواعد ومبادئ اخلاقية تثبت لكل طرف من طرفي التفاعل حدود الحرية اللازمة له حتى يمر الانسان على الوجود من حوله دون اتلاف وإفساد لحقيقته الفطرية ومن ثم يضمن الانسان نفسه بهذا سلامة معيشته طوال فترة حياته، ولعل ان من ضمن المقتضيات اللازمة للسلامة الحياتية والمعيشية الضرورية هو توفير القدرة على تقديم  الدعم النفسي والجسدي والاجتماعي اصحاحا وتربية وإرشادا لأي انسان اخر يشارك في الحياة على هذا الوجود بفطرته السليمة المتوازنة.  اذن فالأمر يستند اجمالا على اسس اخلاقية حتمية ، وأن حتمية هذه الأسس للتفاعل الإيجابي أمر ثابت لا خلاف عليه كبير لاسيما اذا كان وراءها مصدر مرجعي محيط يتمتع بصفة الشمول والضبط العلمي القابل للتحقق. عليه فان متى ما توفر هذا المصدر توفرت معه وبناء عليه القاعدة الاخلاقية الملزمة، ولكن يتبقى الوسيلة أو القناة أو الكيفية الملائمة لإنفاذ هذه القواعد الاخلاقية لتغذية وضبط التفاعل الايجابي. لذا كان اصطناع وتنظيم الطريقة الكشفية كأحدى الوسائل الممتازة في استثمار القواعد والأسس الاخلاقية بغرض تحقيق الهدف المنشود.
والشاهد في هذا الأمر أن المصدر المنتج أو المنشئ للقاعدة الاخلاقية السليمة على اطلاقها هو (الدين) – بدا هذا في الاصرار الشديد من جانب مؤسس الكشافة على اثبات الواجب نحو الله كأساس لكل الواجبات الأخرى وبكون أن خطاب الله تعالى الينا هو (الدين). ولكن السؤال الذي نطرحه نحن .. أي (دين) ؟  والإجابه عنه تمثل الفرضية الاساسية لهذا البحث بأن الدين الاسلامي ومصادره القرآن والسنة هو الدين الحق الذي لا تحسب تعاليمه بكونها مجرد آدابا أو عادات مستحسنة سلوكيا واجتماعيا بل بكونها حقائق علمية مطلقة. وسيتبين ذلك مع التحليل المفصل للعناصر أو المحاور الرئيسية في الطريقة الكشفية بمشيئة الله تعالى.
إن الميزة الكبرى للطريقة الكشفية – والتي جعلتها قناة مثلى لإنفاذ مقتضيات التفاعل الايجابي -  هي الربط الوثيق بين التعاليم الأخلاقية ودرجة الالتزام بها وبين تنمية المهارات الأدائية والكفائية لدى الإنسان وكأنما قد اطلع مؤسسو الحركة الكشفية على معجزات رجل (اليوجا) في الهند القديمة وقدراته البدنية الخارقة التي تحققت لديه نتيجة ربط الأوضاع الرياضية البدنية التي يمارسها لزمن طويل بنظام أخلاقي صارم فيه – على سبيل المثال – الزهد الشديد والعفة الشديدة ما نحو ذلك من قيم. فما بال الطريقة الكشفية اذن اذا كانت مصدر الامداد الاخلاقي لها هو مصادر الوحي الرباني الكريم.
إن أول وأهم محاور الطريقة الكشفية هو (قانون الكشافة) وبنوده العشرة والتي تجد لها سنداً تأصيلياً الزامياً في التشريع الأخلاقي الإسلامي. فهذه البنودكما جاءت في كتاب (الكشفية للفتيان) (4):

1/ الكشاف صادق يوثق بشرفه ويعتمد عليه.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" (الشعراء 84).

2/ الكشاف مؤمن بالله ، مخلص لوطنه ورؤسائه ومرؤوسيه.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" (المعارج 32).

3/ الكشاف نافع ويساعد الاخرين.
واسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" (الرعد 17).

4/ الكشاف صديق للجميع وأخ لكل كشاف.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"(ال عمران 159).
5/ الكشاف شهم مهذب .
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (ابراهيم 24،25).

6/ الكشاف محب للطبيعة ، يرفق بحيوانها ، ويحافظ على نباتها.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني  "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا " (الاعراف 56).

7/ الكشاف مطيع لأوليائه ورؤسائه دون تردد.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء 59).

8/ الكشاف مقدام ويواجه الصعاب بشجاعة.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (ال عمران 200).

9/ الكشاف مقتصد.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان 67).

10/ الكشاف طاهر الفكر والقول والعمل.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (ال عمران 104).

يظهر من هذا أن القانون الكشفي يصدر عن الفطرة الأخلاقية السليمة في الأصل لدى بني البشر عموماً  ويسندها الشرع الحنيف سواء أن علموا هذا أو لم يعلموا ولكنها لدى المسلمين تصدر عن فطرة سليمة وعن علم بإسنادها الشرعي مما يحقق لها خاصية الإلزام السلوكي في نفس الكشاف المسلم عن وعي وليس تلقاءً.

ثم تالياً ، الوعد الكشفي والذي هو شرط القبول لعضوية الكشاف والتي تبدأ من لحظته الراهنة ثم لا نهاية لها وفق الشعار المبدئي "كن كشافاً يوماً تكن كشافاً دوماً". فهذا الوعد هو عهد الكشاف مع نفسه أمام الله تعالى ومن بعده الناس أجمعين أن : "يبذل جهده لكي يقوم بواجبه نحو الله  ثم الوطن ، وأن يساعد الناس في كل حين ، وأن يعمل بقانون الكشافة  (5) (وفي هذا إشارة إلى أن قانون الكشافة هو قانون للعمل وليس مجرد لوائح تنظيمية).
وكان من أهمية هذا الوعد الكشفي أن تشكلت التحية الكشفية الرسمية (بنحو الصياغة العسكرية) لتعبر تمثيلاً بالأصابع عن بنوده فيظل الكشاف دائما في حالة تذكر له - من جهة - وليثبت للمجتمع المتعامل معه بأنه قد أدى هذا الوعد وأنه يظل ملتزم به - من جهة أخرى. وبكون هذا الوعد قائماً أمام الله تعالى فإن الله تعالى يلزم من قام به من جملة الإيفاء بالعهود بقوله "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا" (النحل 91).
كذلك الشعار الكشفي الأساسي المنوط به تحقيق الوعد (كن مستعداً) (6)والذي يشمل - اولاً -  الاستعداد العقلي في القدرة على التصرف السريع والسليم المترتب على الفهم والاستيعاب الجيد لمقتضى أي ظرف من الظروف مهما كان طارئاً ومفاجئاً. ويشمل - ثانياً - الاستعداد البدني بالقوة والمرونة واللياقة والذي يمثل مطلباً ضرورياً ولازما للاستعداد العقلي بأنه العامل المحول للفهم والاستيعاب الصحيح  لأي ظرف راهن والتقدير العقلي السليم للموقف واتخاذ القرار المناسب بصدده - إلى واقع وإجراءات عملية وسلوكية تتمثل في حسن التصرف باتخاذ التدابير الصحيحة في الوقت المناسب مما يتطلب التهيئة اللائقة لبدن الكشاف. ولعلنا نجد ترجمة تأصيلية مباشرة لهذا الشعار وما يحمله من دلالات في قول الله تعالى "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ" (القصص 26) وهو ما تستهدف الطريقة الكشفية تحقيقه بصورة أساسية على وجه العموم عبر مهارات حياة الخلاء والمهارات اليدوية في الربط والحل ، الملاحظة ، التوفيق والتوليف ، الرياضة ، التنظيم الحركي والأدائي والإدارية ، الفهم والاستجابة ، التأثير والتوجيه ، الاستدلال والقياس ، التخطيط والتنفيذ من ، ويتم الاعلان عن تلك القيم والقدرات لدي الكشاف بواسطة الزي الكشفي المميز (من منديل وعقلة وشارة العضوية) والذي يمثل لغة عالمية تفيد أن من يرتديه إنما هو قادر على كذا وكذا ويدعوا الناس بذلك إلى اللجوء إليه دون تردد في طلب العون أو الارشاد منه ، وهذا يوضح أهمية وضع الأعمال والقيم والمرجعيات السلوكية الأخلاقية في قالب تنظيمي منضبط ومحدد بأهداف ورؤى استراتيجية وخطط عمل وبرامج للتدريب والتنفيذ وهياكل قيادية ، ولعل شيئاً مما تتسم به الكشافة من مظهر عسكري في الزي والأشكال التنظيمية في الاصطفاف والسير يحقق توحيد وانتظام الخطوة وجدية العمل والتذكير الدائم بما يحمله الكشاف من مسئولية.
وهذه التهيئة العقلية والبدنية إنما تتبع الخصائص النوعية للنمو للمراحل السنية أو العمرية المختلفة وما يناسب كل مرحلة من وظائف ومهام متعلقة بقدرة وأهلية الاستعداد الكشفي العام ولكن من جهة الجزء الذي يتوافق مع طبيعة المرحلة التي يقف عليها الكشاف، وذلك بنحو ما يلي:
1/ الفئة العمرية (7 - 11سنة):
(أ) المرحلة الكشفية/ الأشبال.
(ب) الشعار/  (بذل الجهد) وهو حد الاستطاعة في الفعل ، ويحقق اكتشاف الذات لدى الطفل اعداداً له لتحقيق الانجاز المباشر في المرحلة التي تليها وفيها يكون اعتماد الكشاف الشبل على القائد أو المرشد التربوي بنسبة 80% تقريباً.
(ج) القاعدة السلوكية/ عرض وإيضاح القيم بحسب رد الفعل لدى القائد أو المرشد التربوي بصدد وبحسب ما يفرضه السلوك الانفعالي التلقائي للكشاف الشبل والناتج عن استجابته الحرة تجاه البيئة المحيطة وما يصدر عنها من متغيرات ومؤثرات.
(د) المنهج الكشفي/ (اللعب) أولاً ، بإجراء الألعاب الحرة في ذاتها في الميادين الخلوية أكثر. وثانياً ، بتحويل المادة التدريبية الكشفية إلى صيغة العاب إما في تصميمها وتلقينها وإما في تنفيذ الكشاف الشبل لها ، ويتوافق مع أغراض هذه المرحلة كثرة علامات الكفاءة والجدارة والهوايات والتي تمثل الإعلان أمام الآخرين بما قد حازه وما يحمله هذا الكشاف الشبل من قدرات ومواهب الأمر الذي يدعم بنحو بالغ  ثقة الكشاف الشبل بنفسه فيزيد عطاؤه (تقل هذه العلامات تدريجياً كلما ترقى في المراحل الكشفية المتقدمة).
(ه) الهدف ألنهائي تحقيق وتنمية القدرة لدى الكشاف الشبل في التصرف والاعتماد على الذات وفق المعطيات الممكنة والمتاحة بحسب أي موقع في تلبية احتياجاته الذاتية وحل مشكلاته الشخصية.


2/ الفئة العمرية (12 – 16 سنة):
(أ) المرحلة ألكشفية الفتيان.
(ب) الشعار/  (الاستعداد الفعلي) وهي المرحلة المفصلية والحلقة الأساسية الحاسمة في التدريب الكشفي واكتمال تحقيق الطريقة الكشفية في استخراج وتوظيف قدرات ومواهب الكشاف. وغالباً ما تكون نسبة الاعتماد على القائد أو المرشد التربوي 50% أي أن نسبة الكشاف في المجهود التدريبي توازي نسبة القائد أو المرشد التربوي. 
(ج) القاعدة السلوكية/خضوع الكشاف الفتى لتلقي واكتساب القيم في ذاتها بالاستفادة من القائد أو المرشد التربوي وبغض النظر عما إذا كان صدورها عن سلوك فعلي أو نحواً من ذلك.
(د) المنهج ألكشفي(التدريب) على المهارات الكشفية العامة عبر التدرج في المراحل بدءاً بمرحلة الكشاف الحديث أو المبتدئ ثم مرحلة الكشاف الثاني وانتهاءاً بمرحلة الكشاف الأول.
(ه) الهدف ألنهائي تحقيق وتنمية القدرة لدى الكشاف الفتى في التصرف والاعتماد على الذات وفق المعطيات الممكنة والمتاحة بحسب أي موقع في تجاوز قدرته على تلبية احتياجاته الذاتية وحل مشكلاته الشخصية إلى تدبير أمور الآخرين وحل مشكلاتهم.

3/ الفئة العمرية (17 - 22 سنة):
(أ) المرحلة الكشفية/ الجوالة.
(ب) الشعار/  (الخدمة العامة) وهي المرحلة التي يتقلص دور القائد في التدريب الكشفي فيها إلى نسبة 20% تقريباً حيث يعتمد الكشاف الجوال على تفاعله المباشر والحي مع المواد والوسائل والاغراض التدريبية وبالاشتراك المتكافئ  مع المجموعات الأخرى والقادة من أجل اكتشاف وتعميم القيم العليا.
(ج) القاعدة السلوكية/ضبط القدرة التحكمية في ادارة القيم العليا وانزالها الى حيز قضايا ومتغيرات الواقع المعاصر وتوظيفها في المجال الخدمي على المستوى البيئي والإنساني والاجتماعي.
(د) المنهج ألكشفي/ (البحث) وهي الوسيلة الأكثر فعالية في تحقيق الفهم المتعمق  والناضج والشمولي للحقائق المختلفة طبيعية أو انسانية عبر اجراء الأعمال البحثية العامة والمتخصصة وما ينتج عن هذا الفهم من رؤى للتخطيط الاستراتيجي المستقبلي.
(ه) الهدف ألنهائي/ تجاوز الكشاف الجوال مرحلة بيان المشكلات الشخصية ومعالجتها ثم تجاوز مرحلة التصرف السليم في تلبية احتياجات الاخرين ومعالجة مشكلاتهم ، للانتقال إلى اثبات القدرة لديه في عدم انتظار وقوع الأزمات والمشكلات ثم معالجتها وإنما وضع وصياغة التدابير اللازمة لمنع وقوعها أصلاً على نحو علمي سليم من خلال البناء والتطوير دون المساس بالأحوال الطبيعية للبيئة وطرق الحياة المختلفة للناس وأيضا عبر الطريقة الكشفية الاساسية - تلك هي المعادلة الصعبة.

ثانيا - المحور الوظيفي في تنزيل مجمل تأصيل اشغال الكشافة وأخلاقياتها على معالجة المسألة البيئية:
يمكن القول أن الحركة الكشفية تحمل رؤية كونية شاملة world-view  تجاه البيئة حيث أن الأزمة البيئية العالمية بدورها تتسم بطابع الشمول من جهة أنها تتصل على نحو مباشر بجميع ميادين النشاط البشري النظري والعملي (7). الأمر الذي يجعل الوظائف السلوكية الانسانية النابعة من تصوراته الكونية الشاملة هي مصدر التوازن والاختلال الحقيقيين للنظام البيئي. وهذا ما يجعل الموضوع بكليته أدخل إلى المجال الأخلاقي العملي  practical ethics  في تحقيق الضبط المعرفي على هذا التوازن.
وتجدر الاشارة هنا إلى أن العلاقة الرؤى الكونية الشاملة وبين مقتضيات التوازن البيئي عبر السلوك الانساني النابع من النظام الاخلاقي التابع لهذه الرؤية أو تلك - يحتاج إلى ما يعرف بالنموذج الإرشادي paradigm(8) المستند إلى مرجعية عقدية أو ايديولوجية يكون من شأنها أن تثبت الحجة الكافية لهذه الرؤية.ولذلك فإن الشاهد الموضوعي أن المستند الذي ينبغي رد أو ارجاع النموذج الارشادي له لابد أن يكون مستمداً من ذات الأصول المنشئة للحقيقة الكونية الطبيعية بنفسها. ولا يتاح ذلك باعتماد مصادر الوحي الكريم في تشريعاته الكلية (القرآن والسنة) كأصل لازم لصياغة نموذجا ارشادياً سليماً تبنى على اساسه الرؤية الشاملة التي تخطط لحركة السلوك والعمل بصدد العالم الطبيعي.
إن قلب المسألة البيئية من جهتها الاخلاقية السلوكية هي تحقيق الموازنة بين كلمة )التسخير) الواردة بالقران الكريم في قول الله تعالى : "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ" (الجاثية 13) وبين ترسيم حدود  الحريات الفاصلة بين فعل الانسان في حركته لتعمير الأرض وبين ترسيم حرية الطبيعة فيما ينبغي أن تكون عليه دون تدخل مخل بتوازنها البيئي. ولربما حدث تجاوز لهذه الحدود الفاصلة إما عفواً بصدور الفعل الانساني عن جهل بحقيقة الطبيعة وما ينبغي أن تظل عليه.حتى لا تؤذي الانسان نفسه ، وإما أن يصدر الفعل الانساني عن قصد لتغيير الطبيعة بحسبان أنه الأفضل أو بحسبان السيطرة عليها وتوظيفها لخدمة أغراض نفعية معينة ولو أدى ذلك إلى اهلاك الحرث والنسل في مكان ما من العالم. من هنا يمكن الانطلاق نحو تعيين استراتيجي لمبادئ الحركة الكشفية في صياغتها وفق النظام الأخلاقي الاسلامي بصدد العامل البيئي.
إن العمل الكشفي على النحو السلف رسمه في بيان الطريقة الكشفية وتأصيلها إنما يمثل حتماً نسقاً لرؤية كونية شاملة كامنة به ويصدر عنها الاطار التنظيمي لفاعلية النشاط الكشفي ومظاهر تفاعل الأفراد المنتمين إليه بداخله.
ومما لا ريب فيه أننا إذا أردنا أن ننظر إلى أي منظومة ذهنية فكرية كانت أو وقائعية أو اجرائية باعتبارها نسفاً Systemتنتظم في داخله وتبعاً له أنظمة Orders  وبرامج Programs ، فإن أول ما يقام عليه هذا النسق (بديهيات) Axioms و(مسلمات) Postulates (9) ويمكن الجمع بينهما في تعبير اصطلاحي واحد هو (المرتكزات الأولية)لأغراض تقريب المحاور وتجنب الاغراق في التفصيلات المنطقية المتخصصة.
1/ اولى هذه المرتكزات الأولية ما افتتح به الأمين العام للمنظمة الكشفية العربية الدكتور عاطف عبد المجيد كلمته بعنوان (التكامل في الحركة الكشفية) بالنشرة الشهرية للمنظمة ، بقوله:
"خلق المولى عز وجل هذا الكون ليكون وحدة متكاملة فكل ظواهر الطبيعة يكمل كل منها الآخر بل ويؤدي إليها وكذلك البشر فكل ميسر لما خلق له" (10).
من هنا قد ظهرت المشكلة البيئية الأساسية في قول الله تعالى "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم 41)، وما يحمله هذا التقرير ضمناً من أن هنالك رابط كلي بين أي جزئية كونية وجزئية أخرى. وعليه ، فإن حدث سلوك وفعل سالب من لدن الانسان أدى ذلك بالضرورة إلى تحقيق فساد في جانب معين من جوانب الوجود الكوني المحيط بالإنسان والمتكامل والمتصل معه. ولربما صدر هذا السلوك السالب عن جهل بحقيقة الأمور مصداقاً لقول الله تعالى: "... وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا" (الاحزاب 72) ، وهذا يوضح أهمية دور المستند الأخلاقي والمرجعية الأخلاقية الحاكمة لأغراض السلوك الانساني.
2/ إن هذا الكون الواحد المتكامل والمتصل بعضه ببعض - سواء علمنا نوع وماهية هذا الاتصال أم لم نعلم - إنما لا يشمل فقط الكائنات الحية (وفق تصنيف علماء الطبيعة) أو التي بها حياة تبعاً لما عبروا عنه بقولهم ".. ليست مجرد أشياء إنها اشياء (حيوية) وذات ميول بايولوجية فطرية تحدد نموها الطبيعي. زد على ذلك أننا نقول أن شروطاً معينة (جيدة) أو (سيئة) بالنسبة إلى النباتات - والحيوانات - مما يوحي بأنها خلافاً للصخور مؤهلة لأن يكون لها خير" (11). وبقولهم هذا يكون للأشياء الحية التي تولد وتتوالد وتنمو وتتغذى وتتحرك هي وحدها ما لديها الاستحقاق للاعتبار الأخلاقي بصددها دون سواها من يتواضع عليه بأنه (أشياء جمادية أو غير حية).في حين أنه من الثابت في القرآن الكريم أن الله خاطب كل كائنات الوجود في وحدة حقيقية مشتركة في المبدأ والمعاملة. فكما كان قوله تعالى "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ" (الانعام 38)، فقد قال كذلك "ثم قَسَتْقُلُوبُكُمْمِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَكَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" (البقرة 74)،ثم جمع ذلك كله بقوله "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ "(الاسراء 44)، بهذا يتسع لدينا المنظور البيئي العام ليشمل الوجود الشيئ أو المادي لينال درجة الاستحقاق الاخلاقي التي للموجودات الحية. وهذا كله مما ينبغي أن يراعيه (الكشاف) في اجراءاته اثناء تنفيذ الطريقة الكشفية بصدد هذا الوجود على اختلاف انحائه  وأنواعه وأجناسه.
وإذا انتقلنا إلى مستوى الاجراءات السلوكية اللازمة تبعاً لتلك المرتكزات ، فيمكن ايضاحها على النحو التالي:

1/ يدعم المرتكز الأول اتجاه المدرسة السلوكية في تفسيرها للعلاقة بين الأثر والمؤثر بأن السلوك الانساني الفاعل يصطلح عليه (بالسلوك الاجرائي) Operant Behavior لأنه سلوك يؤثر على البيئة ويترتب عليه تغير في العالم ، بل يغير في البنية ذاتها بطريقة أو بأخرى وهو يماثل إلى حد كبير جداً(السلوك الادائي) أو ما يعرف في اللغة المستخدمة في الحياة اليومية باسم (السلوك الارادي) أو (السلوك العرضي) voluntary or purposive behavior (12). وهذا يعني أن كل مجال من مجالات الوجود أو كل حقل من حقوله يحتاج إلى نوع معين من الملائمة الخاصة بالسلوك الموجه نحوه أو المقصود به وبما يتوافق مع ماهيته وماهية المتصل به. وهو على النحو الذي عبر عنه فلاسفة المدرسة التحليلية في انكلترا بأن الرابط الاتصالي بين المجالات المختلفة والموائمة بينها إنما يتم عبر ما اصطلحوا عليه (بالألعاب اللغوية) Language-Games و(المشابهات العائلية) Family Resemblances (13). عليه ، فقد صاغت الحركة الكشفية اشغالها وأنشطتها بما يطور مهارات المنتمين إليها ويكسبهم مهارات جديدة متلازمة مع الوعي بحقائق الطبيعة وذلك من خلال التقيد الصارم ببنود الوعد الكشفي والقانون الكشفي على مستوى التهيئة والدافعية الاخلاقية على النحو السالف ايضاحه وتأييده بالشواهد القرآنية. فمثلاً ما يتعلق بالبند الأول من القانون الكشفي أنه قد أصبح من المفترض علمياً أن الكلمة التي تخرج من فاه الانسان صدقاً أو كذباً أو حسناً أو سؤً يكون لها تأثيراً فيزيائياً ايجابياً أو سلبياً على التوازن البيئي العام بنحو مباشر أو غير مباشر.

2/ بناء على المرتكز الثاني يلزم للكشاف التحقيق الاجرائي (لثلاث مراتب) في الموقف المتخذ بصدد البيئة العامة من خلال ممارسة التخييم وحياة الخلاء (والتي هي أحد أهم عناصر الطريقة الكشفية وميدان تطبيق مهارات الكشف Scouting ):

المرتبة الأولى/
ترك كل شيء في الطبيعة المجردة على ما هو عليه - أي (حفظ الطبيعة) - ومن ثم عدم استهداف السلوك الخلوي أي نوع من أنواع التغيير للبيئة أو الإدخال عليها ما ليس منها بغرض التطوير أو العمران الحضري بشكله المادي التقني ، حيث أن الله تعالى قد خلق آلية التكيف الحيوي والأشكال الارتقائية في الطبيعة على نحو ذاتي فيها يحفظ لكل نوع نصيبه من البقاء والاستمرار والتحول بحسب مطلوبات نسبة توفره وتفاعله : "قَال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه 50). إذن ينبغي على الكشاف ألا يستخدم في الطبيعة ما ليس منها أو أن يدخل عليها عناصر أو أدوات آلية ولا حتى أن يخلط أصناف الأنواع ومجالاتها الفطرية ، وإنما عليه أن يبقي على كل شيء كما هو عليه ويستخدم منها فقط ما هو فيها.
المرتبة الثانية/
ممارسة الكشاف للدور المنعي تجاه إفساد البيئة براً وبحراً وجواً واتخاذ التدابير الواقية للطبيعة أثناء الحياة الخلوية والتخييم والقيام بأعمال الريادة. وذلك من خلال مبدأ قابلية الاستعمال للمتغيرات الطبيعية ، فهناك من عناصر ومفردات البيئة ما هو قابل للاستعمال بما لا يخل بالتعايش الانساني السلمي معها مثل : استخدام الغطاء النباتي الأخضر مع عدم ازالته بصورة بالغة أو القنص البري للطير أو الصيد المائي للسمك. وهناك ما ليس بقابل للاستعمال أصلاً مثل ما نص عليه الحديث النبوي الشريف باجتناب (الملاعن الثلاث):فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الملاعن الثلاث ، قيل : ما الملاعن يا رسول الله ؟ قال : "أن يقعد أحدكم في ظل يُسْتَظلُّ به أو في طريق أو في نقع ماء" (حسنه الألباني) .
وعند أبي داود عن معاذ مرفوعا بلفظ : "اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل ".
وليس المقصود فقط اداء هذا الدور المنعي من جانب  جماعات الكشافة وإنما بالأصالة قيام الكشاف بالدور الارشادي المتعلق بالأخلاق البيئية وسط فئات المجتمع المختلفة.
المرتبة الثالثة/
الانتقال والتطور في التدريب الكشفي الخلوي وأعمال الريادة بما يحقق ازالة اثار الفساد الواقعة على البيئة بيد الانسان وحسب نوع وكم أي مظهر من مظاهر هذا الفساد - وهو ما كان لائقاً بالتدريب الكشفي العام ومبادئه القيمية والأخلاقية.
ومن جهة اخرى ، إذا نظرنا إلى الأمر من جانب التصنيف العلمي فنجد أن هذه المراتب الثلاث تدخل جميعها إلى مجال علم (السايبرنتك)Cybernetics  أي علم الادارة التحكمية للنظم والأنساق ، الامر الذي من شأنه أن يمنح القدرة التنفيذية الفاعلة للعمل الكشفي في اداء الكشافة لرسالتها السامية في حفظ ورعاية الوجود الطبيعي.والشاهد أن هذا العلم في مرحلة تطوره المعاصرة قد انقسم إلى نظامين اساسيين (14) :



النظام الاول First Order Cybernetics ويستهدف:
1- ادرة وتنظيم عملية أو اجراء ملاحظة ومراقبة الانساق  Observed Systems.
2- ادارة وتنظيم تحقيق الاغراض والأهداف للنماذج والأنماط المختلفة The purpose of a Model.
3- ادارة وتنظيم الانساق الخاضعة للعمليات التحكمية Controlled Systems.
4- ادارة وتنظيم التداخل والتفاعل بين متغيرات أي نسق.
5- ادارة وتنظيم بناء وتوظيف النظريات في الانساق الاجتماعية.

النظام الثاني Second Order Cybernetics ويستهدف:
1- ادارة وتنظيم الشخص القائم بعملية أو اجراء الملاحظة والمراجعة عل الانساقObserving System.
2- ادارة وتنظيم تحقيق الاغراض والأهداف لدى الشخص القائم بوضع وتأليف النماذج والأنساق A Modeler.
3- ادارة وتنظيم الانساق المستقلة واتجاهات التصرف الحرة لديها Autonomous Systems.
4- ادارة وتنظيم التداخل والتفاعل بين الملاحظ أو المراقب وموضوع الملاحظة والمراقبة.
5- ادارة وتنظيم بناء وتوظيف التفاعل بين الافكار لدى الانسان ومجريات الواقع الاجتماعي.
وفي ضوء هذا التصنيف يمكن ملاحظة أن التدريب الكشفي النوعي بحكم طبيعته والضوابط الشرعية للأخلاقيات السلوكية اللازمة له انما يقوم على النظام الثاني لعلم السايبرنتك بكونه يهدف إلى صياغة الانسان ليقوم عبر وظائف المراتب الثلاث السالفة الذكر بإدارة مجريات الواقع البيئي وهو ما يندرج تحت النظام الاول لعلم السايبرنتك. وكذلك من شأن هذا التصنيف وفق القوالب المنطقية  وتحت علم السايبرنتك أن يجسد المعنى المتعارف عليه للأخلاق بكونها علماً ، حيث يعرف (علم الأخلاق) " .. بأنه العلم المعياري لسلوك الكائنات البشرية التي تحيا في المجتمعات .. وأنه العلم الذي يحكم على مثل هذا السلوك بالصواب أو الخطأ ... إن هذا التعريف ينص أولاً على أن الأخلاق علم ، ويمكن تحديد العلم بأنه نسق معرفي لمجموعة وقائع جزئية مترابطة ، ولفظة نسقي Systematic تعتبر لفظة هنا لأنها هي التي تميز المعرفة العلمية عن المعرفة العادية التي تتصف بالعشوائية واللا ترابط" (15).

خلاصة:
إن اشغال الكشافة والتدريب الكشفي على استخدام وممارسة الطريقة الكشفية المتعارف عليها عالمياً إنما هي وسيلة فعالة في تحقيق ما كلف به بني آدم من تعمير الأرض وما خلق الله من شيء وما أمده الله به من نعم ظاهرة وباطنه. وحقيقة الأمر في جعل الكشافة وسيلة على هذه الدرجة العالية من الفعالية هو مرتكزاتها الاخلاقية وأهدافها القيمية حيث أن الكشاف لا يخطوا خطوة إلا وكانت مبررة ومدعمة بالأسانيد الأخلاقية السامية والتي تتطلب تأديباً كبيراً للنفس وتجردها عن الهوى والشهوات. لذا لم يكن من العير ابداً أن يتم تحقيق هذه الأسانيد الأخلاقية للكشافة بمرجعية الشرع الاسلامي مما يجعلها قواعد قائمة بذاتها ومستقلة عن اتجاهات ونوازع الضمير الشخصي للإنسان ، فالنفس امارة بالسوء إلا ما ضبط منها بالإلزام الشرعي.

رؤية مستقبلية:
لقد ظل التدريب الكشفي منذ تأسيسه وحتى اليوم يستند على أحد العناصر الفرعية للطريقة الكشفية وهي ممارسة الأنشطة عبر النظام التقليدي للطلائع والفرق والجماعات وما يتبعها من وظائف وتقسيمات. ولكن ربما نلحظ أن الالتزام بصرامة بهذا النظام العام قد يسمح بربط العمل الكشفي ومستواه بتقلبات الأحوال بالنسبة لانحطاط أو رقي هذه الفرق والجماعات فإذا كانت القيادة قوية ومخلصة وتملك الامكانات المناسبة قوي النشاط بقوتها وإذا ما كانت القيادة على غير ذلك واتسمت بالضعف انحط النشاط وحدث تفلت الافراد وتسربهم من الفرق بدعوى أن الأمر كله أصبح ضياعاً للوقت فيما لا يفيد ويثمر ، عندها تسوء الرؤية ويتدهور النظام العام للفرق والجماعات فتتعطل تبعاً لذلك فاعلية الكشافة ودورها الموسوم على نحو ما سلف. وعلى هذا ، فلعلنا نجد في الأسس الاصلية للحركة الكشفية الأولى متسعاً كبيراً لتطوير أشكال جديدة لتحقيق العناصر الرئيسية للطريقة الكشفية(الوعد ، القانون ، حياة الخلاء وأعمال ألريادة نظام الشارات) وذلك بما يحقق قدراً مركزاً من التأهيل التربوي للكشاف فيصدر في أفعاله الكشفية الأخلاقية عن أصالة في طبعه وليس عن تكلف مكتسب. والمقصود هنا لتلبية هذا الغرض هو مقترح لإنشاء ما يعرف (بمشروع وحدات الكشافة المنزليةHome Scout Units)كشكل جديد لممارسة ذات الطريقة الكشفية ولكن بنحو قد يكون اكثر فاعلية من الأشكال التقليدية ، كما أنه يخلوا من التأثر بالتذبذب في الارتقاء والانحطاط ويتجنب تبدلات الاحوال بالنسبة لنظام الفرق والجماعات التقليدية. عليه ، فإن أهداف وغايات ووسائل النظام الأساسي المقترح لهذا الشكل الجديد هو ما يلي:
1- تتألف عضوية الوحدة من فردين على الأقل هم الأبناء ، والقيادة مؤلفة من الأب أو الوالد والأم أو الوالدة ما أمكن ويتم التأهيل على ذلك.
2- تعقد الاجتماعات للأنشطة في مدة ساعتين ونصف الساعة إلى ثلاث ساعات ما أمكن في يوم متفق عليه من كل اسبوع. ويكون في مكان مناسب  يسمح بالتخييم والأنشطة الخلوية وأعمال الريادة سواء كان هذا المكان داخل المنزل أو ميدان خارجي قريب.
3- تحقيق التفاعل الايجابي بين أفراد الاسرة الواحدة من خلال الالتزام بنشاط رسمي.
4- ايجاد الرابط التفاعلي الدائم بين الأبناء (الكشافين) والآباء (القادة) حتى بعد سن الرشد ومرحلة الاستقلال الشخصي والتقاعد.
5- ترقية وتفعيل التأهيل التربوي وبناء القدرات لدى الكشافين الأبناء من خلال التدريب المركز على يد القادة الاباء بتوفر الجمع والتناسب لعنصري العقل والعاطفة.
6- دمج النشاط الكشفي للفتيان والنشاط الارشادي للفتيات وتنقيته في مرحلة ما بعد البلوغ وذلك باستيفاء الشرط الفقهي الاسلامي في رفع الحرج عن محارم الأرحام في مزاولة الأنشطة الجماعية العامة بينهم كأخ وأخت ، في حين تشديد الحدود في مواجهة الاختلاط غير الشرعي بين الاجانب فتيان وفتيات في مثل هذه الانشطة وإن كانوا ذوي قربى.
7- ابراز وتنمية الجوانب المهارية الفردية وتزكية خصائص الاستقلالية الشخصية دون الاعتماد على الجماعة.
8- توسعة دائرة ممارسة النشاط الكشفي / الارشادي ليصبح المجتمع كله كشافة / مرشدات.
9- الالتزام بالطرقة الكشفية الاساسية مع تعديل نظام (الطلائع) إلى نظام (الوحدات الجمعية)، والتركيز على الممارسة المستعرضة للتدريب الكشفي دون الالتزام بالتقسيم التدرجي للمراحل الكشفية ودمج هذه المراحل في وحدة تدريبية واحدة مستعرضة.
10- الالتزام بالزي الكشفي المتعارف عليه وشارات الجدارة والهوايات المعتمدة بأنواعها.
11- يصبح نظام منح شارات الجدارة والهوايات اكثر مرونة وضبطاً وعدالة واستحقاقاً باعتبار توفر الكشاف (الابن) أمام قادته (الوالدين) على مدار الوقت جله مما يجعله على دراية كاملة اكثر من أي شخص آخر بمظاهر موهبة الكشاف واتجاهاتها ودرجتها وكذلك خلق الفرص أمام هذه الموهبة لتنمو وتتطور في اطار البيئة المنزلية.
12- تركيز مبادئ الحفاظ على ما هو قائم ، ومنع الضرر ، وإزالة الاثار السالبة ، في اطار التفاعل الكشفي - البيئي بالانطلاق من الوحدة البيئية الصغرى على مستوى المسكن ثم الاوسع فالاوسع ، وليس فقط على مستوى الارض الخلوية العامة والغابات والبحار والأجواء.
والأمر من بعد مطروح ومقدم للتفاكر والتدبر ثم التنفيذ ، ولا مشاحة في هذا إذ أن العمل الكشفي هو عمل طوعي مرن وليس عملاً حكومياً صارماً.



الاحالات المرجعية:

(1)             ياسين عبد الحميد - رسالة التربية الحديثة - (عمان ، الاردن ، وزارة التربية والتعليم ، 1975م)، 123.
(2)             عبد اللطيف فؤاد ابراهيم - المناهج اسسها وتنظيمها وتقويم اثرها - (القاهرة ، مكتبة مصر ، ط 3، 1973م)، 301.
(3)             بادن باول – الكشفية للفتيان – ترجمة/ رشيد شقير، (بيروت ، مكتبة المعارف ، بدون سنة نشر)،3.
(4)             بادن باول – الكشفية للفتيان –  6.
(5)             بادن باول – الكشفية للفتيان - 14.
(6)             بادن باول – الكشفية للفتيان –  15.
(7)             مايكل زيمرمان - الفلسفة البيئية ، من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا ألجذرية ترجمة معين شفيق رومية، (الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، العدد 333، 2006م)، 9.
(8) Stuart A. Umpeby - The Science of Cybernetics and the Cybernetics of Science - Cybernetics and Systems, vol. 21, no.1, 1990, p. 117.
(9) عبد الرحمن بدوي - مناهج البحث العلمي - (الكويت ، وكالة المطبوعات ، ط 3، 1977م)، 89.
(10) عاطف عبد المجيد - التكامل في الحركة الكشفية -آراء وافكار ، نشرة شهرية تصدرها المنظمة الكشفية العربية ، القاهرة ، العدد 234 ، السنة التاسعة عشرة ، 2007م.

(11) مايكل زيمرمان - الفلسفة البيئية ، من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا الجذرية - 103.

(12) جورج أم. غازدا (وآخرين) - نظريات التعلم ، دراسة مقارنة - ترجمة/ علي حسين حجاج ، (الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، العدد 70، 1983م) ص 148.
(13) Ludwig Wittgenstein - Philosophical Investigations -
( London,  Basil Blackwell, 1958), s.179.
(14) Stuart A. Umpeby - The Science of Cybernetics and the Cybernetics of Science - (Cybernetcs and Systems, vol. 21, no.1, 1990), 113.

(15) وليام ليلي - مقدمة في علم الأخلاق - ترجمة/على عبد المعطي محمد ، (الأسكندرية ، منشأة المعارف ، 2000م)، 26.