وهم الحائط الرابع ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
افترض (أرسطوطاليس) Aristotle أن الحياة كما المسرح .. هنالك منصة خشبية تحوطها ثلاث جدر عالية .. المنصة عليها المؤدون للعرض المسرحي .. وفي الأمام يجلس الجمهور باختلاف مشاربهم على الكراسي قبالة المسرح يشاهدون .. ومن يرى بعينيه لا يرى حاجزا بين الجمهور والمسرح ، فالحائط الرابع قائم خلف الجمهور وليس أمامهم .. ولكن (أرسطوطاليس) عد هذا الحائط الأخير حائطاً خامساً ، وأما الحائط الرابع فقد ضربه بين العرض المسرحي والجمهور ، حائطاً خيالياً وهمياً ولكنه أبلغ تأثيراً من الجدر الحجرية أو الخشبية البانية لهيكل المسرح .. وكان الغرض من هذا الحائط الافتراضي الجديد أن يقطع وصل الأثر من جانب الجمهور في الصالة نحو عناصر المسرحية ، وليكون الأثر ممتد فقط من العرض المسرحي نحو الجمهور .. فلا يمكن للجمهور المشاهد انتقاد المسرحية لأنه مستلب الإرادة أمامها فهو يتلقى منها فقط .. أما النقد فلا يكون إلا بين الجمهور تجاه بعضه البعض حول درجة استيعابهم وتمثلهم لغرض المحاكاة للفعل النبيل التام في المسرحية ثم مدى تحقيقهم (للتطهير) في أنفسهم بعد فعل المشاهدة .. ولقد جاء في زماننا من بعد (أرسطو) (بيرتولد بريشت) B. Brecht فحطم هذا الحائط الرابع الوهمي وكسر سلطة العرض على المشاهد وحرر الجمهور أمام المسرحية ، فصار الوصل متبادلاً والتفاعل كثيفاً والنقد مفعول على العرض والفكرة ..
وكذلك الحياة كلها .. فنحن كثيراً ما نضرب أمام أعيننا تجاه الأشياء من حولنا حوائط وهمية بأيدينا ثم نصبح أسرى لها ، ثم لا نزال نتساءل عن أسباب ما بنا من علة .. حتى في علم النفس ، فمنذ أن فصل (ديكارت) R. Descartes بحده بين النفس والجسد ، وأن الجسد هو كون وأن النفس هي كون آخر مختلف تماماً ولا وصل لهذا بذاك ، باتت كثير من الأدواء مجهولة أسبابها وحار فيها الطب وعز الشفاء .. فلم يجد الإنسان المعاصر مفر من كسر هذا الحائط الوهمي مرة أخرى وخلط الأوراق بين النفس والجسد ليصير تفسير نصيب مقدر من علل الإنسان بأنها أمراض (نفس - جسمية) Psycho-somatic .. ولو علم الرجال فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد دل على هذه الحقيقة في زمانه البعيد .. فقد ورد في صحيح البخاري (أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلاً . فسقاه ، فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال : صدق الله وكذب بطن أخيك ) – وفي رواية الترمزي أنه كرر ذلك ثلاثاً .. والشاهد الدال في هذا في نحو من التفسير الممكن أن العسل يشفي العلة ذات السبب المادي العضوي للبطن كالتلوث أو الفيروسات أو الميكروبات الدقيقة ، وأما إن كان المرض ذا صلة نفسية تركت أثارها على وظائف الجسد ، فإن العلاج يكون له مقام آخر غير العقار الدوائي .. فلعل قوله (كذب بطن أخيك) أي أن سبب الاستطلاق ليس لعلة عضوية بالبطن برغم أنه عرض ومظهر للعلة العضوية .. حينها قد لا يجدى سقيا العسل شفاءً ، وإنما يجدي البحث في علل النفس وأحوالها البائسة والتي أدت إلى استطلاق البطن دون علة فيها .. إلى هذا الحد يصير الإيحاء النفسي بالمرض والعجز هو ما يحدث فعلاً المرض والعجز ، ولو أن النفس قويت لقوي بها الجسد واشتد .. وعلى ذات المثال في بوابة أخرى ، أن أظل منذ الصغر أدرس اللغة الأجنبية وإلى أن أبلغ من العمر عتيا ثم أظل بعد ذلك لا أجد في ذاكرتي كلمات منها ويتعقد لساني حين طلب الحديث بها .. ولكن الحق أنني ربما حملت من إجادة هذه اللغة الأجنبية حداً بعيداً واسعاً إلا أنني فقط قد نصبت حائطاً وهمياً بيني وبين خبرتي فلا أصل لما فيها وقت الطلب .. فلا رجاء إلا بكسر الحوائط الوهمية بالثقة أن الله خالق فينا سلامة الفطرة في الأصل وأنه لا خوف على المتقين ولا هم يحزنون .. ولكن فقط نحن بأيدينا من تأبى بطوننا إلا أن تكذب .
د. وائل أحمد خليل الكردي
افترض (أرسطوطاليس) Aristotle أن الحياة كما المسرح .. هنالك منصة خشبية تحوطها ثلاث جدر عالية .. المنصة عليها المؤدون للعرض المسرحي .. وفي الأمام يجلس الجمهور باختلاف مشاربهم على الكراسي قبالة المسرح يشاهدون .. ومن يرى بعينيه لا يرى حاجزا بين الجمهور والمسرح ، فالحائط الرابع قائم خلف الجمهور وليس أمامهم .. ولكن (أرسطوطاليس) عد هذا الحائط الأخير حائطاً خامساً ، وأما الحائط الرابع فقد ضربه بين العرض المسرحي والجمهور ، حائطاً خيالياً وهمياً ولكنه أبلغ تأثيراً من الجدر الحجرية أو الخشبية البانية لهيكل المسرح .. وكان الغرض من هذا الحائط الافتراضي الجديد أن يقطع وصل الأثر من جانب الجمهور في الصالة نحو عناصر المسرحية ، وليكون الأثر ممتد فقط من العرض المسرحي نحو الجمهور .. فلا يمكن للجمهور المشاهد انتقاد المسرحية لأنه مستلب الإرادة أمامها فهو يتلقى منها فقط .. أما النقد فلا يكون إلا بين الجمهور تجاه بعضه البعض حول درجة استيعابهم وتمثلهم لغرض المحاكاة للفعل النبيل التام في المسرحية ثم مدى تحقيقهم (للتطهير) في أنفسهم بعد فعل المشاهدة .. ولقد جاء في زماننا من بعد (أرسطو) (بيرتولد بريشت) B. Brecht فحطم هذا الحائط الرابع الوهمي وكسر سلطة العرض على المشاهد وحرر الجمهور أمام المسرحية ، فصار الوصل متبادلاً والتفاعل كثيفاً والنقد مفعول على العرض والفكرة ..
وكذلك الحياة كلها .. فنحن كثيراً ما نضرب أمام أعيننا تجاه الأشياء من حولنا حوائط وهمية بأيدينا ثم نصبح أسرى لها ، ثم لا نزال نتساءل عن أسباب ما بنا من علة .. حتى في علم النفس ، فمنذ أن فصل (ديكارت) R. Descartes بحده بين النفس والجسد ، وأن الجسد هو كون وأن النفس هي كون آخر مختلف تماماً ولا وصل لهذا بذاك ، باتت كثير من الأدواء مجهولة أسبابها وحار فيها الطب وعز الشفاء .. فلم يجد الإنسان المعاصر مفر من كسر هذا الحائط الوهمي مرة أخرى وخلط الأوراق بين النفس والجسد ليصير تفسير نصيب مقدر من علل الإنسان بأنها أمراض (نفس - جسمية) Psycho-somatic .. ولو علم الرجال فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد دل على هذه الحقيقة في زمانه البعيد .. فقد ورد في صحيح البخاري (أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلاً . فسقاه ، فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال : صدق الله وكذب بطن أخيك ) – وفي رواية الترمزي أنه كرر ذلك ثلاثاً .. والشاهد الدال في هذا في نحو من التفسير الممكن أن العسل يشفي العلة ذات السبب المادي العضوي للبطن كالتلوث أو الفيروسات أو الميكروبات الدقيقة ، وأما إن كان المرض ذا صلة نفسية تركت أثارها على وظائف الجسد ، فإن العلاج يكون له مقام آخر غير العقار الدوائي .. فلعل قوله (كذب بطن أخيك) أي أن سبب الاستطلاق ليس لعلة عضوية بالبطن برغم أنه عرض ومظهر للعلة العضوية .. حينها قد لا يجدى سقيا العسل شفاءً ، وإنما يجدي البحث في علل النفس وأحوالها البائسة والتي أدت إلى استطلاق البطن دون علة فيها .. إلى هذا الحد يصير الإيحاء النفسي بالمرض والعجز هو ما يحدث فعلاً المرض والعجز ، ولو أن النفس قويت لقوي بها الجسد واشتد .. وعلى ذات المثال في بوابة أخرى ، أن أظل منذ الصغر أدرس اللغة الأجنبية وإلى أن أبلغ من العمر عتيا ثم أظل بعد ذلك لا أجد في ذاكرتي كلمات منها ويتعقد لساني حين طلب الحديث بها .. ولكن الحق أنني ربما حملت من إجادة هذه اللغة الأجنبية حداً بعيداً واسعاً إلا أنني فقط قد نصبت حائطاً وهمياً بيني وبين خبرتي فلا أصل لما فيها وقت الطلب .. فلا رجاء إلا بكسر الحوائط الوهمية بالثقة أن الله خالق فينا سلامة الفطرة في الأصل وأنه لا خوف على المتقين ولا هم يحزنون .. ولكن فقط نحن بأيدينا من تأبى بطوننا إلا أن تكذب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق