الخميس، 9 مايو 2019

الجذور .. عبقرية الثورة

الجذور .. عبقرية الثورة

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (وحين وصل الرواة القصاصون ساد صمت سريع على القرويين ، وقد قعدوا حول الباوبات يستمعون إلى حديث الملوك القدامى ، وعشائر الأسر ، والمحاربين ، والمعارك الكبرى ، وأساطير الماضي . أو كان أحد العابرين المتدينين يهتف بالنبوءات والتحذيرات بأنه من الواجب إرضاء الله الجبار ، ومن ثم يعرض القيام بالاحتفالات الضرورية ... لقاء هدية صغيرة . وكان راوٍ جميل الصوت ينشد أبياتاً لا تنتهي عن الروائع القديمة لممالك غانا وسونغهاي ومالي القديمة ، فإذا انتهى من ذلك فما أكثر ما كان بعض سكان القرية يدفعون له من جيوبهم الخاصة كيما ينشد مدائح ذويهم المسنين في أكواخهم الخاصة . وكان الناس يصفقون عندما يأتي الشيوخ إلى أبوابهم ويقفون وهم يطرفون بعيونهم في أشعة الشمس اللامعة تفتر شفاههم عن ابتسامات عريضة خالية من الأسنان) رواية (الجذور) ، أليكس هايلي ..
لماذا اغلب النقاد لم يروا في رواية (الجذور) سوى رحلة الاستعباد ورحلة التحرر من الرق .. ولماذا لم يروا فيها كيف رسمت صورة متكاملة لطريقة ونظام حياة لشعب كان يعيش سيدا في بيئته .. ولماذا لم يروا كم كان النسيج الحضري والوجداني والأخلاقي المتميز يشد الناس إلى بعضهم وإلى الأرض من تحتهم وإلى السماء من فوق رؤوسهم كأنهم على كثرتهم وتعدد مواهبهم كائن واحد ذو قلب واحد وأذرع وأقدام .. لربما قصد الكاتب إلى ذلك وربما لم يكن يقصد ، ولكن كان ينبغي على الناقد أن يقصد .. فإن صورة تلك الحياة وأمشاج تلك القبائل هنالك كانت تشي بوعي آدمي رفيع لم تقدر على لمسه أقوام علوا بتقدمهم في أسباب العمران الحديث والرفاه المادي ما علوا ..
وكما فعل نقاد (الجذور) ، فعلنا نحن في ثورتنا السودانية .. فلماذا تطلعت أعناقنا نحو السقف العالي للثورة حيث الانجاز السياسي والاقتصادي وجعلناه حكماً وحيداً على نجاحها أو اخفاقها دون غيره ، فإذا تحقق السؤدد السياسي فرحنا به ، وحق لنا أن نفرح ، ولكن فرحنا يطغى دائما على سؤدد أخرى ، ولعلها هي الأهم .. فما قد كان داخل الصف الشعبي وعمقه أن ظهرت حقيقة طريقة حياة أبناء السودان في حضارتهم الإنسانية على أرض الاعتصام معراة عن كل ما جرى على سطح المجتمع من زبد زائف .. ثم كيف باتت اللحمة شديدة الوثاق بين الناس بغض النظر عن من هم وكيف هم ، حتى رأينا بينهم من كنا نظن أنهم ما دمام قد نشئوا في الحلية فلا بيان لهم في الخصام ، إذ هم على قلب رجل واحد مع الكادحين ودونهم ، يحملون عنهم ما حملوا سنوات طوال من الكدح الأليم .. ويالغفلة من ظن نفسه قبلها قد ملك على الشبان عزمهم بسطوة الشيب .. أما النساء فلهن سهم ضاربة .. فعندما دخل الموت جوعا عقر الدور بلا استئذان ، وعندما لم تجد الأمهات ما تمنع به ضياع ابنائها من بين أياديها ، وعندما لم يبقى إمام عادل تقول له إمرأة (وا معتصماه) ، ولما أصبح الرجال والنساء تحت الظلم والموت وانتهاك الحرمات سواء ، وقتها قال الحال بلسان الحق أن النساء شقائق الرجال ، وصحيح أن الثورة في الشارع حينها فرض عين على الرجال ولكن لا نمنع النساء ، ورسولنا العظيم صلوات الله عليه لم يفرض الجهاد والقتال على المرأة كما فرضه على الرجال ولكنه لم يمنعها منه ودوننا تاريخ (خولة بنت الأزور) وأخريات ، فكيف بنا عندما يكون ليس بعد الموت شيء والمطالبة بحق الحياة وحفظها أوجب من منع ما تبيحه الضرورات ، وحتى إن وقع شيء من الذلل هنا أو هناك فالأولى البقاء مع الأصل وترك الاستثناءات وشواذ الاحوال إلى وقتها المعلوم ، أما الآن فإما حياة وإما موت ، وطالما أن الموت لا يطال الرجال وحدهم فكذلك المطالبة بحق الحياة ليس حكراً على الرجال وحدهم ، لاسيما بعد أن كنا ظننا أننا في زمان  بات يغلق الناس فيه أبوابهم خوفاً على أنفسهم وما همهم أن يحمل الطوفان من يحمل خارج مأمنهم ، ولا يحس بوجع أخيه من بات هانئاً ، فلا يقول إلا نفسي نفسي .. فالنرد للمظلومين حقوقهم أولاً ثم بعد ذلك نحاسب من قد خرج عن الخط ومن بقي وراءه ..
لقد أثبتت أرض الاعتصام أن النفوس الأبية في السودان تعف عن كل سوء حين تصير المعاناة واحدة والخلاص واحداً للكل .. فهناك ظهرت المعادن الذهبية جلية بعد أن دثرها التراب سنين عددا ، والتف حول حق الحياة كل من هتف وجاهد الظلم واعتصم بحبل الله أمام مساكن الذين ظلموا ، وإنه لحق الله تعالى مظهره حين يشاء .. لقد غلبت حضارة (كونتا) النقية في (الجذور) إسار العبودية لدى بشر خانهم ظنهم بنفسهم أنهم الأفضل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق