الخميس، 9 مايو 2019

محاكم التفتيش

(صحيفة اليوم التالي)

محاكم التفتيش..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي


(وكان هناك وفد صغير من قريته ... وآخرون قد ران على وجوههم الأسى والدهشة وهم يرون راهبهم تأكله النيران. وبقي في قلبه حتى تلك اللحظة الرهيبة إيمان ملح بأنه لم يأثم في نظر القديس (فرانسيس) على الأقل، فردد اسمه مرتين إذ لم يكن يجرؤ أن يذكر أسماءً أكبر خشية أن يكون قد أثم حقاً. ثم اتكأ مبتسماً على ألسنة اللهب وأسلم الروح)..
في ذلك اليوم من عهد قريب من القرون الوسطى كان قضاة محكمة التفتيش يتهللون بشراً وسروراً ويضحكون ولا تسعهم أنفسهم من السعادة والانتشاء عندما تصاعدت إلى أنوفهم رائحة شواء اللحم الحي وغطى قرع الأجراس على مسامعهم كل صرخة ألم واستجداء أخير.. هو عيد من الأعياد أن أصدر القضاة حكمهم على الراهب (جونيبر) بالحرق حياً على الصليب في رواية (جسر سان لويس ري) بسبب كتابه الذي أخلص فيها البحث للرب عن قانون الرب في الأقدار والحياة والموت، ولكنه كان عند قضاة محاكم التفتيش هرطقة وقياس بالعقل هو مرفوض عند الكهنوت ولأن آيات الرب المقدسة لا يجب أن يمسها العقل بتأويل أو تفسير بل هي محض تفويض وحظوة خاصة لمن يملكون السر والمرتبة العليا من الرهبان، أما من دونهم فلهم التسليم وحسب..
وعاد بنا الزمان وجدد التاريخ نفسه.. ولكن لم تعد محاكم التفتيش محارق ومسالخ بشرية وخوازيق تهتك بطون المغضوب عليهم، وإنما أصبح في زماننا نوع جديد من صدأ القلوب وقسوتها جعلت من تولى مسؤولية على الناس ينصب محاكمه ويأكل أموال ايتامهم ومساكينهم بالباطل حتى ليكاد يأكل لحومهم أحياء ويتلف الأخضر ويبيع حتى الهواء.. تلك هي إنسانية الإنسان في الماضي والحاضر لمن ينادون بها، فكما أن فيها الكرم والإيثار والإخاء فكذلك فيها القسوة بما لا تضاهيه قسوة الأحجار، فالأحجار أحياناً تكون أكثر خشوعاً وليناً من قلوب أبناء آدم..
الكل يعلم أن لدى شعوب الجبلة السمراء قوة وطاقة لا مثيل لها لدى من جاءوا من الأراضي الجديدة إلى أفريقيا غزاة في زمان الثورة الصناعية ليأخذوا منها رقيقاً قهراً يعمل الرجل الواحد منهم عمل رجال كثر ولا يبالي بنصب وعذاب.. وفي الحرب العالمية الثانية اتخذ البريطانيون جنداً كثيفاً من أبناء السمر لشدة بأسهم في القتال.. وبعد الحرب خرجت أوروبا كرجل بلغ أرذل العمر بعد أن ماتت أغلب الأيدي الشابة لديهم فصارت محاكم التفتيش بعد أن كانت في الماضي تفتيشاً عن العقيدة في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين أصبحت الآن تفتيشاً عن الثروة في عقولهم وأجسادهم ففتحت أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وبلاد اسكندنافيا الباب واسعاً للمهاجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا. وبطبيعة الحال كان لابد للتشجيع على الهجرة من إيجاد السبب الكافي لها بشدة المغريات والمنح هناك في الغرب، ولكي تظهر هذه الشدة بما يوازيها شدة في الطلب عليها كان أيضاً لابد من ظهور ضعف الحافز في بقاء الذين هاجروا في بلدانهم حتى صارت الهجرة حلماً وهدفاً.. وصدق (مارون عبود) حين قال (فالبيت بسكانه، والبلاد برجالها، والدر لو كان مطروحاً في المزابل ما من يعرف قدره فما فائدته؟ والأرض لو كانت كلها معادن ذهبية، وسكانها يجهلون استثمارها فماذا تفيد؟)..  ومما دعا للأسف الشديد أن ضعف الحافز هذا للبقاء كانت أسبابه بيدنا لا بيد عمرو..  ففي مجتمعاتنا الطيبة دائماً ما كنا نستغرب أن يأتي علينا إنسان راشد مكلف بأعناق الناس فيبلغ فساده وحرامه عنان السماء إلا أن نقول (أمعقول أنه يفعل هكذا بشعبه؟).. ونحاول دائماً أن نكذب على أنفسنا ونغطي ضمائرنا ونبطل ظنوننا المزعجة حتى نطمئن ونهنأ ولا نأسى.. وهكذا الحال يجري عندما يخرج علينا الثعلب في ثياب الواعظين فيكثر من الاعتذار للناس والتباكي أمامهم بكل أسف ثم لا يملك إلا أن يجدد الوعود، ويكذب.. إما لأنه يود لو يغمد في ظهورهم خنجره المسموم في غفلتهم بتلك الوعود فيسلب ما بقي لديهم، وإما أنه عاجز مشلول ولكنه متكالب على متاع الدنيا متثاقل بها إلى الأرض مشدود إلى كرسيه بعجزه فلا يتيح مكاناً للقادرين.. وكل ذلك لأن شعوبنا من أبناء الجبلة السمراء قد ألفوا العزف على أوتار المشاعر واستجداء العواطف فانساقوا وراء كل راوٍ وشاعرٍ وساحر ويجرفهم الضعف أمام أنفسهم وأمام من يهابونهم حتى وجد الثور الأسود فيهم أماناً للأسد الجائع فأكله بعدما أكل أخاه الثور الأبيض.. ولهذا بحثنا عن المخارج السهلة من السفينة المثقوبة برمتها دون أن نحاول سد ثقوبها فننجو جميعاً بإذن الله..
وهكذا قد بتنا الآن في زمان الشكوك والتوجس والحذر، فلم يعد يأمن رفيق رفيقه ولم يعد يسلم أخ مفتاح خبئه لأخيه.. كل هذا لأننا لم نعلم متى تنصب لنا محاكم التفتيش من جديد.. ولكن حتى ذاك الحين وإلى أن نعلم علينا بجلد الذات بلا هوادة بما كسبت أيدينا وأيدي الناس فينا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق