الخميس، 9 مايو 2019

الاغتراب

الاغتراب ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
أنه على ما أنشد الشاعر:
ليس الغريب غريب الشام واليمن .. إن الغريب غريب اللحد والكفن
سفري بعيد وزادي لن يبلغني .. وقوتي ضعفت والموت يطلبني
وأنه عندما انشد منشد البرهانية (وكل نور لنا من نوره قبس..) ارتمى في احضان الطريقة عتاة من جانحي ألمانيا لما سئموا عيش الخطيئة وشغفوا بروحانيات لم يعهدوها، هو اغترب قديم رجعوا منه إلى اغتراب جديد..
ليس الاغتراب أن تهجر بلداً إلى بلد آخر ،وإنما الاغتراب هو أن ترحل بعيداً عن حقيقة ما تراه في نفسك من كيان ووجود وهموم ومطامح ورسالة في الحياة .. وإلا فلماذا كتب (البير كامي) أشهر كتبه (اسطورة سيزيف)؟ ولماذا كان جل قصده فيه أن يحاول الوصول إلى تعليل كافٍ للسؤال: لماذا يقدم الانسان على الانتحار ووضع حد لحياته بإرادته؟.. لقد تحدث (سارتر) و(كامي) و(ياسبرز) بشكل أساسي عن أن ازمة الإنسان تكمن في اغترابه عن ذاته وعين وجوده، فلديهم قد اغترب الفرد عن نفسه بفقد تميزه اللامعقول عن غيره من سائر الناس، وأنه فقد ذلك بإغراقه في المعقولات والمنطق والعلوم والنظم والقواعد، ويغترب مرة أخرى عندما ينصهر في المجتمع ووسط كل هؤلاء البشر فتضيع ذاته وارادته دائماً خلف ذوات أقوام يسيرون أمامه على الطريق، والطريق ضيق ولا يملك سبيلاً إلى التجاوز فيخضع مضطراً للسقوط في ثرثرة الحياة اليومية لأولئك على حد قول فيلسوف الوجودية الألماني (مارتن هايدجر) ..لقد اعتاد الفلاسفة الوجوديون خلق مشكلة من لا مشكلة.. فإن النظم والقواعد والمنطق قد حمت الإنسان من اهوال الحياة مراراً وأراحته من مشاق كثيرة وعنت كبير، وحياته بين الناس جعلت لقوله وفعله معنى وقيمة وإحساس بالوجود والحياة..
وفي زمان قريب تحدث (كارل ماركس) كثيراً عن نظرية (فائض القيمة) وقال أنها هي حقيقة اغتراب الإنسان عن نفسه، فما الإنسان لديه إلا عمل أو مجموعة أعمال فهو (عامل)، فإن فقد حق عمله فقد معه ذاته وكيانه.. ولذلك عندما باع العامل للرأسمالي مجهوده بعقد ثابت القيمة من حيث الأجر، ولما تطورت الآلة التي عمل عليها العامل حتى صارت تنتج أضعاف ما كانت تنتجه وقت أن بدأ عمله عليها، زاد الانتاج وزاد معه المال الداخل إلى رصيد الرأسمالي وبقيت قيمة عمل العامل محلها وبقي أجره لا يتغير، فكان هذا هو عين الاغتراب.. ولكن الإنسان ليس مجرد مجهود وأعمال وإنتاج، الإنسان بجوار ذلك هو فكر وإبداع ودفق غزير من المشاعر والانفعالات وجدال مع كل شيء وكثير من المتناقضات وحلم لا ينتهي..
ومنا من صار اغترابه بأنه رافض للانتماء لمجتمع هو موطن ولد فيه، ولكنه لا يرضى بأن يموت فيه، وطن ليس بوطن.. فتسوقه نفسه لأن يخلق في داخل مجتمعه ذاك مجتمعاً جديداً يمسك هو بخطامه ويقود ناصيته شاء مجتمعه الأم أم لم يشأ، تماماً كما فعل (دون كيشوت) في خالدة (سيرفانتس)، فقد حلم بعهد الفرسان المتجولين من حملة القيم العليا والأخلاق السامية يغثون كل ملهوف مأزوم من دون منٍ ولا أذى ولا انتظار أجر أو ثناء.. لقد أغرق (دون كيشوت) نفسه في عالمه الجديد بين صفحات مئات الكتب التي تتحدث عن هؤلاء الفرسان وأعمالهم المأثورة، وخرج من الصفحات ليخلق ويحقق في الواقع عالم الفارس الجوال من جديد في مجتمع أفلت فيه عزائم الفرسان، حتى لو اضطره ذلك إلى اصطناع العدو أمامه اصطناعاً من أي شيء ليكون هناك ما ينفذ فيه سيف فروسيته، فأمست الطواحين بليل أمام عينيه مردة عماليق وحتى لما أطاحت به لم يصدق بعد أنها محض طواحين يدورها الهواء ولا شيء وراء ذلك.. كل ذلك حدث لأنه لم يفهم حكمة الله في أن أوجده في مجتمعه الذي هو فيه فراح يتوهم اغتراباً زائفاً، ولو أنه فهم الحكمة لكان حمد الله كثيراً أن كان منشأه في هذا الوطن هنا وليس، في أي مكان آخر..
وصورة أخرى للاغتراب هي الاغتراب الديني، يعيشه بعضا غير قليل من الشباب كتيار بحر جارف.. فإما أنهم – بتعبير الكاتب (عبد القادر دقاش) – (حملوا حقائبهم ورحلوا بعيداً عن الدين) فكان هو الإلحاد، وإما أنهم تركوا رحالهم واغرقوا أنفسهم فيما ظنوا أنه حق في الدين بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير فكان هو (التطرف) الذي أنجب الارهاب، فمن حملوا حقائبهم ورحلوا رأوا في الدين أنه وهم وأن الانتماء إليه اغتراب، وأما الذين غرقوا في بحر الظلمات فقد رأوا اغترابهم في تدين الناس والعامة وأن الاعتدال بالوسط هو ميع في الدين وارتخاء في التعبد وزيغ عن الحق الصارم فزادوا عليه شدة وصلفاً فأوردهم المهالك ما زادوه كما أورد الراحلون عن الدين سواء بسواء.. ولو أن كلاً من الفريقين رأى برهان ربه لعادوا كما عاد الدكتور (مصطفى محمود) رحمه الله في رحلته من الشك إلى اليقين فكان بتدينه وعلمه وإنسانيته رجلاً رضي به أهل الأرض ممن عرفوه واستفادوا منه.. إن الاغتراب هو إحساس وشعور يتملك نفس ابن آدم من داخلها دون سلطة أو إرادة من العقل، فربما جاء الشعور بالاغتراب من فعل تربية الأبوين لأبنائهم أو من خلل في سياسة المجتمع بما فيها من هضم للحقوق وضياع للأمانات.. وقد يجيء الاغتراب بفقدان القدرة والمثل الأعلى والمرشد الأمين.. تعددت الأسباب ويظل الاغتراب في النفس قائماً.. فما علينا من قهر الأسباب إن اعجزتنا وإنما علينا برعاية النفوس وتطييب القلوب وجبر كسور الأنفس ودفعاً بالتي هي أحسن ثم تغذية العقول من ثم ببراهين الله الساطعة.. فلربما عاد التاركون إلى رحالهم يوماً، ولربما عاد الراحلون مع حقائبهم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق