العظماء أيضاً يموتون ..
د. وائل احمد خليل الكردي
Wailahkhkordi@gmail.com
في مطالعة لكتاب أنيس منصور الشهير (في صالون العقاد كانت لنا أيام) عثرت على الفقرات التالية:
(عندما كنت محرراً في (أخبار اليوم) عاتبني الأستاذ لأنني رفضت نشر مقال كتبه الصديق عامر العقاد ابن أخ الأستاذ بمناسبة عيد ميلاده ... وكل الذي أدركته من غضب الأستاذ قوله: أن صحيفة التايمز البريطانية قد خصصت عدداً ممتازاً لأديبها ريتشي، مع أنه ليس إلا كاتباً متواضعاً)..
(وكثيراً ما أحس الأستاذ أن صمتنا هو عظيم الاحترام لكلامه.. وأنه إذا كان الفم الوحيد فقد كنا آذانه العشرين)..
(وهذه نظرية أخرى عند الأستاذ: أن هناك تشابهاً بين أفكار الناس وأشكالهم.. ولذلك فحديقة حيوان العقاد ليست نكتة، إنما هي نظرية حقيقية)..
(ولم يكن عبد الرحمن بدوي مثل لويس عوض هاشاً باشاً... وهو يمشي على عجل دائماً. مندفع لا ينظر إلى أحد. وإذا نظر إليك فنظرة تقتحمك أو تكتسحك، أي تذيبك تماماً ليكون على راحته، ينظر إلى لا شيء، لأنه لا شيء هناك.. لا أنت ولا غيرك.. وإذا حاولت أن تستوقفه لم يقف في مواجهتك إنما يقف إلى جوارك، وينظر إليك ببعض عينيه وبعض جسمه)..
لا شك أن سقراط كان رجلاً عظيماً في عرفنا الإنساني.. وأرسطوطاليس أيضاً كان عظيماً.. وكذلك نيوتن ونابليون وأينشتاين والعقاد وعبد الرحمن بدوي وشكسبير وجوته وغاندي ومانديلا.. كلهم كانوا عظماء، عاشوا ما عاشوا ثم رحلوا وتركوا أعمالهم شاهدة على عظمتهم في زمانهم ومكانهم، كما تركوا الأرض لعظماء غيرهم يأتون من بعدهم.. ولكن هل العظمة الإنسانية صفة خالدة كما خلود الجنة والنار أم أن هناك قول آخر.. وهل العظمة هي الخالدة أم الشهرة، بما أن العظمة هي نتاج عمل كبير إيجابي نادر والشهرة هي رائحة هذا العمل بعدما تولي أثاره.. وإذا كانت العظمة ليست خالدة فما هو المعيار الذي ظن به العظماء أنهم عظماء أو الذي حكمنا نحن به على اختلاف أزماننا وبنياتنا وحقبنا التاريخية إنهم عظماء خالدون بعظمتهم؟.. وإن كان ظن العظماء في أنفسهم حقاً فهل هذا تعليل كافٍ لتحلى من وصفوا بها بأخلاق العلو والتعالي والغرور والغطرسة والحط من قدر الآخرين؟؟..
على ما قد يبدو أن الواحد من هؤلاء يرسل ما لديه إلى الجمهور ثم أن الجمهور هم الذين يمجدون ثراه الذي يمشي عليه.. الجمهور هو الذي يصنع من العظماء عظماءً وهو الذي يدعوهم بشتى ألقاب الفخامة، ولربما كانوا يستحقون وربما لا.. ولكن في النهاية لا شيء في الوجود لا يموت إلا وجه الله.. فحتى العظمة تموت كما يموت العظماء ولا يبقى من آثارهم بعد ذلك إلا زوع الصيت والشهرة وما يدانون به من أعمالهم في قبورهم وعند الناس.. فإذا كان المفكر قد أنتج من الأفكار ما يوسم بالعظمة فإن ذلك ليس إلا بمقاييس عصره الذي هو فيه بكل خصائصه الزمانية والمكانية وأحوال المجتمع فيه.. فإن تعدى ذلك العصر إلى العصر الذي يليه فهل تستمر تلك الأفكار في عظمتها أم أنها تقبع رهينة محبسها زماناً ومكاناً ولا يتسرب منها إلا شهرتها.. وهل إذا أحيا الله العقاد في عامنا هذا الذي نحن فيه وفيه أيضاً أجيال ممن لم يعرفوا العقاد أو قرأوا له أو عنه، وعاد فكتب من جديد على نفس منوال ما كتب في زمانه ولم يزد على طريقته شيئاً من سمات عصرنا وزماننا ومشكلات حضارتنا، فهل ستتولد عظمته لدى أولئك الغافلون عنه وعن ذكره.. أي هل ستتحقق عندهم نفس شروط عظمته كما تحققت لدى من عاصروه في زمانه. ربما يرد على هذا السؤال من يقول بأن شكسبير وهو أسطورة الآداب الإنسانية مازال النقاد والمبدعون والمؤلفون يكتبون فيه وفي أعماله عشرات وربما مئات المقالات والدراسات كل يوم، مما يدل لديه أن شكسبير هو بئر لا تعطل وسماء لا تنقطع أمطارها وأن عظمة شكسبير لا تموت في دنيا الأدب والفن، والمثل مضروب على منوال ذلك للكثيرين شرقاً وغرباً.. ولعل الواقع في الأمر أن ليس شكسبير هو الذي يمدنا بالجديد وأنه مازال يضيف إلينا بما كتب أفكاراً إبداعية جديدة في كل يوم برغم كل القرون التي باعدت بين زماننا وزمانه وبرغم البون الشاسع الاختلاف بين طريقة حياته هو وطريقة حياة سلالته الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فليس هو وأمثاله من العظماء من يضيفون إلينا وإنما نحن الذين نسكب عليهم ما في أنفسنا ونحن الذين نضيف إليهم في سياق أفكارهم بردة فعلنا عليها.. وقد نرى في أفكارهم ما لم يروه هم أنفسهم فيها وما لا يتوقعون.. نحن الذين نجدد أنفسننا بالنظر في أفكارهم وليس هم من يجددون لنا أنفسنا.. فإن ما يحدث ما بين المؤلف والقارئ ناقداً كان أو متذوقاً إنما هو نوع من التفاعل الكلي بين هذا القارئ وبين كلمات المؤلف وقلمه الذي يكتب به الكلمات ويده الممسكة بالقلم والجسد الحامل لليد وعقله الكامن في الجسد ويرسم كل أحوال شخصيته وانفعالاته وقيمه وسلوكه وردود أفعاله نحو كل شيء حوله.. وعند هذا الحد فإن المؤلف لا يغيب عن أفكاره أبداً فهو النصف المتمم للكلمة والوجه الآخر للعملة..
لقد كتب الأستاذ العقاد أغلب مقالاته بموضوعية ومنطق.. ولكنه أيضاً ربما كتب بعضها من واقع استشعار ذاته عن ذاته بكونه فقط هو الأستاذ لا غير فلا يحتاج إلى دليل أو حجة بخلاف أنه الأستاذ وهو من يقول وهو من يكتب وهو من يحكم.. وكثيرون من هم كذلك، بل وربما كلنا كذلك إما على النحو العلني لدى البعض أو بالنحو المستتر لدى بعض آخر نعتد بعظمتنا وأفكارنا وآثارنا لدى الأخرين ولكن القليل من يحمدون الله بعد ذلك وكثيرون من ينسون أنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولا، وأنهم يوماً ما حتماً سيموتون وستموت عظمتهم ولن يبقى من ذلك إلا سيرة تسير بها الركبان إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ويظل الناس يسكبون ذواتهم عليها عبر عصورهم الجديدة .. والفرق كبير بين من أراد أن يؤدي رسالة حقيقية ومن يريد فقط أن يصنع نفسه لنفسه.. فليوقن هذا الأخير أن كل منبع ينضب إلا معين من لم ينطق عن الهوى بل بوحي رسالات ربه.
د. وائل احمد خليل الكردي
Wailahkhkordi@gmail.com
في مطالعة لكتاب أنيس منصور الشهير (في صالون العقاد كانت لنا أيام) عثرت على الفقرات التالية:
(عندما كنت محرراً في (أخبار اليوم) عاتبني الأستاذ لأنني رفضت نشر مقال كتبه الصديق عامر العقاد ابن أخ الأستاذ بمناسبة عيد ميلاده ... وكل الذي أدركته من غضب الأستاذ قوله: أن صحيفة التايمز البريطانية قد خصصت عدداً ممتازاً لأديبها ريتشي، مع أنه ليس إلا كاتباً متواضعاً)..
(وكثيراً ما أحس الأستاذ أن صمتنا هو عظيم الاحترام لكلامه.. وأنه إذا كان الفم الوحيد فقد كنا آذانه العشرين)..
(وهذه نظرية أخرى عند الأستاذ: أن هناك تشابهاً بين أفكار الناس وأشكالهم.. ولذلك فحديقة حيوان العقاد ليست نكتة، إنما هي نظرية حقيقية)..
(ولم يكن عبد الرحمن بدوي مثل لويس عوض هاشاً باشاً... وهو يمشي على عجل دائماً. مندفع لا ينظر إلى أحد. وإذا نظر إليك فنظرة تقتحمك أو تكتسحك، أي تذيبك تماماً ليكون على راحته، ينظر إلى لا شيء، لأنه لا شيء هناك.. لا أنت ولا غيرك.. وإذا حاولت أن تستوقفه لم يقف في مواجهتك إنما يقف إلى جوارك، وينظر إليك ببعض عينيه وبعض جسمه)..
لا شك أن سقراط كان رجلاً عظيماً في عرفنا الإنساني.. وأرسطوطاليس أيضاً كان عظيماً.. وكذلك نيوتن ونابليون وأينشتاين والعقاد وعبد الرحمن بدوي وشكسبير وجوته وغاندي ومانديلا.. كلهم كانوا عظماء، عاشوا ما عاشوا ثم رحلوا وتركوا أعمالهم شاهدة على عظمتهم في زمانهم ومكانهم، كما تركوا الأرض لعظماء غيرهم يأتون من بعدهم.. ولكن هل العظمة الإنسانية صفة خالدة كما خلود الجنة والنار أم أن هناك قول آخر.. وهل العظمة هي الخالدة أم الشهرة، بما أن العظمة هي نتاج عمل كبير إيجابي نادر والشهرة هي رائحة هذا العمل بعدما تولي أثاره.. وإذا كانت العظمة ليست خالدة فما هو المعيار الذي ظن به العظماء أنهم عظماء أو الذي حكمنا نحن به على اختلاف أزماننا وبنياتنا وحقبنا التاريخية إنهم عظماء خالدون بعظمتهم؟.. وإن كان ظن العظماء في أنفسهم حقاً فهل هذا تعليل كافٍ لتحلى من وصفوا بها بأخلاق العلو والتعالي والغرور والغطرسة والحط من قدر الآخرين؟؟..
على ما قد يبدو أن الواحد من هؤلاء يرسل ما لديه إلى الجمهور ثم أن الجمهور هم الذين يمجدون ثراه الذي يمشي عليه.. الجمهور هو الذي يصنع من العظماء عظماءً وهو الذي يدعوهم بشتى ألقاب الفخامة، ولربما كانوا يستحقون وربما لا.. ولكن في النهاية لا شيء في الوجود لا يموت إلا وجه الله.. فحتى العظمة تموت كما يموت العظماء ولا يبقى من آثارهم بعد ذلك إلا زوع الصيت والشهرة وما يدانون به من أعمالهم في قبورهم وعند الناس.. فإذا كان المفكر قد أنتج من الأفكار ما يوسم بالعظمة فإن ذلك ليس إلا بمقاييس عصره الذي هو فيه بكل خصائصه الزمانية والمكانية وأحوال المجتمع فيه.. فإن تعدى ذلك العصر إلى العصر الذي يليه فهل تستمر تلك الأفكار في عظمتها أم أنها تقبع رهينة محبسها زماناً ومكاناً ولا يتسرب منها إلا شهرتها.. وهل إذا أحيا الله العقاد في عامنا هذا الذي نحن فيه وفيه أيضاً أجيال ممن لم يعرفوا العقاد أو قرأوا له أو عنه، وعاد فكتب من جديد على نفس منوال ما كتب في زمانه ولم يزد على طريقته شيئاً من سمات عصرنا وزماننا ومشكلات حضارتنا، فهل ستتولد عظمته لدى أولئك الغافلون عنه وعن ذكره.. أي هل ستتحقق عندهم نفس شروط عظمته كما تحققت لدى من عاصروه في زمانه. ربما يرد على هذا السؤال من يقول بأن شكسبير وهو أسطورة الآداب الإنسانية مازال النقاد والمبدعون والمؤلفون يكتبون فيه وفي أعماله عشرات وربما مئات المقالات والدراسات كل يوم، مما يدل لديه أن شكسبير هو بئر لا تعطل وسماء لا تنقطع أمطارها وأن عظمة شكسبير لا تموت في دنيا الأدب والفن، والمثل مضروب على منوال ذلك للكثيرين شرقاً وغرباً.. ولعل الواقع في الأمر أن ليس شكسبير هو الذي يمدنا بالجديد وأنه مازال يضيف إلينا بما كتب أفكاراً إبداعية جديدة في كل يوم برغم كل القرون التي باعدت بين زماننا وزمانه وبرغم البون الشاسع الاختلاف بين طريقة حياته هو وطريقة حياة سلالته الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فليس هو وأمثاله من العظماء من يضيفون إلينا وإنما نحن الذين نسكب عليهم ما في أنفسنا ونحن الذين نضيف إليهم في سياق أفكارهم بردة فعلنا عليها.. وقد نرى في أفكارهم ما لم يروه هم أنفسهم فيها وما لا يتوقعون.. نحن الذين نجدد أنفسننا بالنظر في أفكارهم وليس هم من يجددون لنا أنفسنا.. فإن ما يحدث ما بين المؤلف والقارئ ناقداً كان أو متذوقاً إنما هو نوع من التفاعل الكلي بين هذا القارئ وبين كلمات المؤلف وقلمه الذي يكتب به الكلمات ويده الممسكة بالقلم والجسد الحامل لليد وعقله الكامن في الجسد ويرسم كل أحوال شخصيته وانفعالاته وقيمه وسلوكه وردود أفعاله نحو كل شيء حوله.. وعند هذا الحد فإن المؤلف لا يغيب عن أفكاره أبداً فهو النصف المتمم للكلمة والوجه الآخر للعملة..
لقد كتب الأستاذ العقاد أغلب مقالاته بموضوعية ومنطق.. ولكنه أيضاً ربما كتب بعضها من واقع استشعار ذاته عن ذاته بكونه فقط هو الأستاذ لا غير فلا يحتاج إلى دليل أو حجة بخلاف أنه الأستاذ وهو من يقول وهو من يكتب وهو من يحكم.. وكثيرون من هم كذلك، بل وربما كلنا كذلك إما على النحو العلني لدى البعض أو بالنحو المستتر لدى بعض آخر نعتد بعظمتنا وأفكارنا وآثارنا لدى الأخرين ولكن القليل من يحمدون الله بعد ذلك وكثيرون من ينسون أنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولا، وأنهم يوماً ما حتماً سيموتون وستموت عظمتهم ولن يبقى من ذلك إلا سيرة تسير بها الركبان إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ويظل الناس يسكبون ذواتهم عليها عبر عصورهم الجديدة .. والفرق كبير بين من أراد أن يؤدي رسالة حقيقية ومن يريد فقط أن يصنع نفسه لنفسه.. فليوقن هذا الأخير أن كل منبع ينضب إلا معين من لم ينطق عن الهوى بل بوحي رسالات ربه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق