كن شرطياً دوماً ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
طرح (تشارلز داروين) Ch. Darwin صاحب نظرية التطور عدداً من المشكلات الصعبة التي واجهت نظريته ووقف أمامها موقف الحليم المحتار عند الفتنة ، ولكن (العين) كانت أشدها .. فقد قال في كتابه (أصل الأنواع) The Origen of Species :
(إذا ادعى أحد الباحثين أن العين ، على ما فيها من الخصائص والتراكيب الغريبة ، ونظام بؤرتها في كشف المسافات البعيدة ، وتحديد الأبعاد وإدخال كميات مختلفة من الضوء ، وتصحيح الانحراف الدائري واللوني ، يمكن استحداثها بتأثير الانتخاب الطبيعي ، لظهر قوله بداءة ذي بدء ، منافياً لبديهة العقل) ..
إن تلك العين الواحدة كادت أن تقوض نظرية (داروين) التطورية بدقة وحساسية وخطورة تركيبها وأعمالها ، ولأنها تختلف عن سائر التأليفات العضوية للجسم الحي بالنسبة لأي كائن .. فماذا إذن عن عين المجتمع بكليته ، ذلك الجسد الكبير وما يضمه من ملايين البشر .. إذا كان أفراد المجتمع هم فيه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فإن هذا الجسد حتماً له من بين أعضائه عين كما عين الإنسان تدمع حين الألم وترسل ثاقب النظرات إذا اشتد البأس .. ولم يكن من خيار إلا أن تكون هذه العين هي عين من ذاق حلاوة مشقة أشغال الشرطة والعمل العسكري و(بيادة) الميدان ورائحة البارود فأصبح هو المهذب المطيع المنطقي المتحضر المتعلم القائم بحماية الأرواح في المجتمعات المدنية Protection of life in civil establishment Police)) . وبالمقارنة ، فإن هناك ما يفرق بين عين المجتمع الكبير وعين الإنسان ، أن الأخيرة تغلق على نفسها أجفانها كيما يرتاح الجسد .. في حين أن عين المجتمع لا يرتاح الجسد إلا مع يقظتها ، ولو أنها تغطت برهة عن النظر أو غفلت أو أخذتها سنة من نوم لضاع بحجبها كل الناس .
في الماضي كنا نظن أن الشرطة تؤدي دورها الحقيقي بمنع الجريمة واكتشافها والتحري عنها فحسب .. فكلنا قد لعبنا صغاراً أن شرطي النجدة هو من يطارد اللصوص ويجلب المسروق ويسلم الخارجين إلى العدالة .. ولكن عندما اشرقت علينا شمس جديدة داخل أروقة كلية علوم الشرطة والقانون ، تبين لنا أن ما ظنناه دوراً واحداً هو أدوار متعددة ، وأن تلك العين الساهرة لا تقوم فقط بدور (الحراسة) وإنما تقوم فوق الحراسة بدور (الرعاية) ، وكيف أن أشغال الشرطة وضعت لتقوم بفعلها على خطين وليس على خط واحد .. خط يقوم على الاستثناء في المجتمع ، والذي ينشأ وقت الحاجة رغم استمرارية الجاهزية له في منع الجرائم وانتشارها والكشف عنها ، وهذا استثناء لأن كل المجتمع معافى إلا قليل هم الجانحون .. وخط إيجابي دائم يقوم على تأدية الأدوار الخدمية والتنظيمية والاشرافية لمصالح الشعب بأكمله فرداً فردا ، وهو ما كان من غير الممكن أن يقوم إلا مقام الأصل العام المحض في المجتمع ولا استثناء فيه .. إن عين الشرطة (جنوداً وضباط صفٍ وضباط) في وقت حاجات الناس تصير جسداً جسراً يعبرون عليه من حال إلى حال أفضل وأعظم خيراً ، ولربما هلك هذا الجسد الجسر مع آخر عابر عليه .. فمن غير الشرطي جعل من نفسه طواعية كبش فداء للوطن بأن أقسم على التضحية بحياته من أجل واجبه في الحماية والرعاية ..
ولكن ، إذا قلنا أن كل عين معرضة للإصابة بضعف البصر أو العمى ، فإن ضعفت عين المجتمع أدركنا حينها أن الشرطة قد صارت لدى أهلها مجرد مهنة وسبب فقط لأكل العيش وربما سبب للمن والأذى والطغيان بعصا السلطة على من يرجون منهم حماية ورعاية برضاء الله ، لذلك لا ينبغي لعين المجتمع أن تتضعف حتى وإن هرمت .
ولا نحسبن من ترجل عن صهوة جواد الشرطة إلا ومازال لديه ما كان له قبل من سهم ضاربة ، وباق عليه عهده القديم مستحق النفاذ بوجوب شرف انتمائه يوماً لقوة الشرطة ، فلا يعفو عليه الزمن ولا يضرب عنه صفحاً إن هو أراد أن يكون حاضراً ومستقبلاً وليس محض ماض أكل الدهر عليه وشرب .. وبرغم أنه يصير غير مقيد بوازع من الأوامر المستديمة والتعليمات العليا لهرم المؤسسة العسكرية ، فإنه حري الآن أن يقيد نفسه بوازع من ضميره الإنساني الذي شكلته ميادين التدريب الشرطي والعسكري ، وبوازع من قسمه الذي أداه لله منذ أول يوم بدأ فيه تلك الرحلة فصار هو عهد الرجال مع ربهم أينما حلوا وأينما ارتحلوا .. فانت إن تكن شرطياً يوماً تكن شرطياً دوماً ، وكم هو شرف باذخ أن كنت شرطياً .
د. وائل أحمد خليل الكردي
طرح (تشارلز داروين) Ch. Darwin صاحب نظرية التطور عدداً من المشكلات الصعبة التي واجهت نظريته ووقف أمامها موقف الحليم المحتار عند الفتنة ، ولكن (العين) كانت أشدها .. فقد قال في كتابه (أصل الأنواع) The Origen of Species :
(إذا ادعى أحد الباحثين أن العين ، على ما فيها من الخصائص والتراكيب الغريبة ، ونظام بؤرتها في كشف المسافات البعيدة ، وتحديد الأبعاد وإدخال كميات مختلفة من الضوء ، وتصحيح الانحراف الدائري واللوني ، يمكن استحداثها بتأثير الانتخاب الطبيعي ، لظهر قوله بداءة ذي بدء ، منافياً لبديهة العقل) ..
إن تلك العين الواحدة كادت أن تقوض نظرية (داروين) التطورية بدقة وحساسية وخطورة تركيبها وأعمالها ، ولأنها تختلف عن سائر التأليفات العضوية للجسم الحي بالنسبة لأي كائن .. فماذا إذن عن عين المجتمع بكليته ، ذلك الجسد الكبير وما يضمه من ملايين البشر .. إذا كان أفراد المجتمع هم فيه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فإن هذا الجسد حتماً له من بين أعضائه عين كما عين الإنسان تدمع حين الألم وترسل ثاقب النظرات إذا اشتد البأس .. ولم يكن من خيار إلا أن تكون هذه العين هي عين من ذاق حلاوة مشقة أشغال الشرطة والعمل العسكري و(بيادة) الميدان ورائحة البارود فأصبح هو المهذب المطيع المنطقي المتحضر المتعلم القائم بحماية الأرواح في المجتمعات المدنية Protection of life in civil establishment Police)) . وبالمقارنة ، فإن هناك ما يفرق بين عين المجتمع الكبير وعين الإنسان ، أن الأخيرة تغلق على نفسها أجفانها كيما يرتاح الجسد .. في حين أن عين المجتمع لا يرتاح الجسد إلا مع يقظتها ، ولو أنها تغطت برهة عن النظر أو غفلت أو أخذتها سنة من نوم لضاع بحجبها كل الناس .
في الماضي كنا نظن أن الشرطة تؤدي دورها الحقيقي بمنع الجريمة واكتشافها والتحري عنها فحسب .. فكلنا قد لعبنا صغاراً أن شرطي النجدة هو من يطارد اللصوص ويجلب المسروق ويسلم الخارجين إلى العدالة .. ولكن عندما اشرقت علينا شمس جديدة داخل أروقة كلية علوم الشرطة والقانون ، تبين لنا أن ما ظنناه دوراً واحداً هو أدوار متعددة ، وأن تلك العين الساهرة لا تقوم فقط بدور (الحراسة) وإنما تقوم فوق الحراسة بدور (الرعاية) ، وكيف أن أشغال الشرطة وضعت لتقوم بفعلها على خطين وليس على خط واحد .. خط يقوم على الاستثناء في المجتمع ، والذي ينشأ وقت الحاجة رغم استمرارية الجاهزية له في منع الجرائم وانتشارها والكشف عنها ، وهذا استثناء لأن كل المجتمع معافى إلا قليل هم الجانحون .. وخط إيجابي دائم يقوم على تأدية الأدوار الخدمية والتنظيمية والاشرافية لمصالح الشعب بأكمله فرداً فردا ، وهو ما كان من غير الممكن أن يقوم إلا مقام الأصل العام المحض في المجتمع ولا استثناء فيه .. إن عين الشرطة (جنوداً وضباط صفٍ وضباط) في وقت حاجات الناس تصير جسداً جسراً يعبرون عليه من حال إلى حال أفضل وأعظم خيراً ، ولربما هلك هذا الجسد الجسر مع آخر عابر عليه .. فمن غير الشرطي جعل من نفسه طواعية كبش فداء للوطن بأن أقسم على التضحية بحياته من أجل واجبه في الحماية والرعاية ..
ولكن ، إذا قلنا أن كل عين معرضة للإصابة بضعف البصر أو العمى ، فإن ضعفت عين المجتمع أدركنا حينها أن الشرطة قد صارت لدى أهلها مجرد مهنة وسبب فقط لأكل العيش وربما سبب للمن والأذى والطغيان بعصا السلطة على من يرجون منهم حماية ورعاية برضاء الله ، لذلك لا ينبغي لعين المجتمع أن تتضعف حتى وإن هرمت .
ولا نحسبن من ترجل عن صهوة جواد الشرطة إلا ومازال لديه ما كان له قبل من سهم ضاربة ، وباق عليه عهده القديم مستحق النفاذ بوجوب شرف انتمائه يوماً لقوة الشرطة ، فلا يعفو عليه الزمن ولا يضرب عنه صفحاً إن هو أراد أن يكون حاضراً ومستقبلاً وليس محض ماض أكل الدهر عليه وشرب .. وبرغم أنه يصير غير مقيد بوازع من الأوامر المستديمة والتعليمات العليا لهرم المؤسسة العسكرية ، فإنه حري الآن أن يقيد نفسه بوازع من ضميره الإنساني الذي شكلته ميادين التدريب الشرطي والعسكري ، وبوازع من قسمه الذي أداه لله منذ أول يوم بدأ فيه تلك الرحلة فصار هو عهد الرجال مع ربهم أينما حلوا وأينما ارتحلوا .. فانت إن تكن شرطياً يوماً تكن شرطياً دوماً ، وكم هو شرف باذخ أن كنت شرطياً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق