قابيل .. أين أخوك هابيل؟..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
صدر في حقبة الستينات من القرن العشرين كتاب مترجم إلى العربية عن مؤلف أمريكي بعنوان (قابيل.. أين اخوك هابيل؟).. لا أذكر ماذا كان أسم مؤلف هذا الكتاب، ولكنه كان واحداً من أفراد طاقم الطائرة التي القت القنبلة الذرية الأولى في العالم على مدينة (هيروشيما) اليابانية في منتصف الأربعينات.. كان غلاف الكتاب أحمر بلون الدم بكامله.. كتب المؤلف الشاهد على تلك المأساة هذا الكتاب من أجل أن يصف أعنف حالات الصراع الإنساني ليس بين الإنسان وأخيه الإنسان وإنما بين الإنسان ونفسه التي بين جنبيه وحسبما سبق في كتاب الله أن من ظلم غيره فإنما يكون قد ظلم نفسه في الأساس.. تحقق هذا الصراع على صورته القاسية لدى أفراد طاقم الطائرة منذ اللحظات الأولى لإعدادها للرحيل نحو مهمتها في إبادة شعب بأكمله، وطبع آثار الدمار الصحي والتشوهات الخلقية الجسيمة فيمن افلت من الموت من ذريتهم ولأجيال عديدة لاحقة..
لقد وصف مؤلف الكتاب كيف كانت الدنيا تزداد اسواداً في أعينهم مع كل رقم يقتربون به من ساعة الصفر.. ولذلك حينما فُتح الباب والقيت القنبلة في الفضاء نحو الأرض كانت قلوبهم قد انفجرت داخل صدورهم قبلها وهم في الطائرة من أماكنهم يرقبون.. بدا إحساسهم بجرمهم عظيم فادح عندما لفحت حرارة نيران الجحيم الذي اغرقوا فيه أخوانهم من بني الإنسان باطن طائرتهم وهم في أعلى الجو.. لقد فقدوا كل وجود لهم لحظة ارتطام القنبلة معلنة تحطم شعب (هيروشيما) بأكمله أشلاءً تناثرت وأجساد صهرها لهب الجحيم.. ولكن لحظتها لم يعد يجدي أي تعاطف أو بكاء أو إحساس بندم أو شعور بذنب ولو حز في النفس حز الخنجر لأعناق الشياه.. فهي جريمة بلا قصاص في دنيا البشر، الله وحده من يقتص فيها بقدرته..
وهكذا، يغرق بعضاً ممن تولوا الولاية على شعوبهم أيديهم في بحور من دماء الأبرياء العزل فقط لأنهم أرادوا حقهم في الحياة وطالبوهم به إما استجداءً وإما ثورة، ولكنهم في الأخير عُزّل لا يملكون سلاحاً سوى أصواتهم وبعض الحصى على هامش الطريق يدفعون به عن أنفسهم رصاصات الموت من ذوي الاحذية السميكة السوداء.. قتلوهم مع كثير من الشعور بالذنب والأسى وتأنيب الضمائر، ولكنهم لم يعودوا يملكون حيلة أمام هذا سوى التبرير لأنفسهم وللآخرين أنهم اضطروا إلى ذلك القتل وتلك الجراح الجسيمة بأنهم هم الذين كانوا على الحق وأنه لم يكن بالإمكان إلا ما كان .. ولكنه بات طريق مشوا فيه بأيديهم وأرجلهم كأنما يساقون إلى الانتحار البطيء فلا يعودون يذوقون للدنيا الزائفة التي أقبلت عليهم من كل جانب طعماً ولا معنى، إذ هي كلمة الله تعالى قائلها في لوحه المحفوظ (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) ..لقد كان الرئيس الأمريكي الآمر بإلقاء قنبلة (هيروشيما) على نفسه بصيرة وقد ألقى بالفعل معاذيره، ولكن أنى له براحة البال مهما ألقى معاذيره.. وربما كانت الافتراءات على الناس أهون على نفس السادة الذين لا يعتقدون اصلاً في وعد الاخرة وعذاب القبر، ولكن المشكلة تعظم لدي من علم هذا جيدا، فأنى له إلا أن تتمزق احشائه حياً من الخوف في كل نهار يطلع عليه وكل ليل يجن، حتى لو تمنى الموت بقتل نفسه بمثل كفارة بني إسرائيل في زمانهم فما ذلك بمنجيه من عذاب أليم.. سيظل هو على نفسه بصيرة وسيظل يلقي معاذيره، ولكن سبق السيف العزل وصار القصاص منه في يد الله بحق كل روح ازهقت من رعيته على يديه أو بأمر منه أو بعلمه أو تحت وصايته.. وحتى إذا قام المقهورين عليه بثورة واقتصوا منه فسيكون ذلك حق نفس واحدة فقط من ضحاياه فماذا عن عشرات أو مئات الأنفس الأخرى..
ولنعلم أنه من لم يمت بالسيف مات بغيره، فالموت مصيرنا الحتمي حتى ولو كان من أجل الحياة.. لنمت إذن بالحق وعلى الحق ودون الحق.
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
صدر في حقبة الستينات من القرن العشرين كتاب مترجم إلى العربية عن مؤلف أمريكي بعنوان (قابيل.. أين اخوك هابيل؟).. لا أذكر ماذا كان أسم مؤلف هذا الكتاب، ولكنه كان واحداً من أفراد طاقم الطائرة التي القت القنبلة الذرية الأولى في العالم على مدينة (هيروشيما) اليابانية في منتصف الأربعينات.. كان غلاف الكتاب أحمر بلون الدم بكامله.. كتب المؤلف الشاهد على تلك المأساة هذا الكتاب من أجل أن يصف أعنف حالات الصراع الإنساني ليس بين الإنسان وأخيه الإنسان وإنما بين الإنسان ونفسه التي بين جنبيه وحسبما سبق في كتاب الله أن من ظلم غيره فإنما يكون قد ظلم نفسه في الأساس.. تحقق هذا الصراع على صورته القاسية لدى أفراد طاقم الطائرة منذ اللحظات الأولى لإعدادها للرحيل نحو مهمتها في إبادة شعب بأكمله، وطبع آثار الدمار الصحي والتشوهات الخلقية الجسيمة فيمن افلت من الموت من ذريتهم ولأجيال عديدة لاحقة..
لقد وصف مؤلف الكتاب كيف كانت الدنيا تزداد اسواداً في أعينهم مع كل رقم يقتربون به من ساعة الصفر.. ولذلك حينما فُتح الباب والقيت القنبلة في الفضاء نحو الأرض كانت قلوبهم قد انفجرت داخل صدورهم قبلها وهم في الطائرة من أماكنهم يرقبون.. بدا إحساسهم بجرمهم عظيم فادح عندما لفحت حرارة نيران الجحيم الذي اغرقوا فيه أخوانهم من بني الإنسان باطن طائرتهم وهم في أعلى الجو.. لقد فقدوا كل وجود لهم لحظة ارتطام القنبلة معلنة تحطم شعب (هيروشيما) بأكمله أشلاءً تناثرت وأجساد صهرها لهب الجحيم.. ولكن لحظتها لم يعد يجدي أي تعاطف أو بكاء أو إحساس بندم أو شعور بذنب ولو حز في النفس حز الخنجر لأعناق الشياه.. فهي جريمة بلا قصاص في دنيا البشر، الله وحده من يقتص فيها بقدرته..
وهكذا، يغرق بعضاً ممن تولوا الولاية على شعوبهم أيديهم في بحور من دماء الأبرياء العزل فقط لأنهم أرادوا حقهم في الحياة وطالبوهم به إما استجداءً وإما ثورة، ولكنهم في الأخير عُزّل لا يملكون سلاحاً سوى أصواتهم وبعض الحصى على هامش الطريق يدفعون به عن أنفسهم رصاصات الموت من ذوي الاحذية السميكة السوداء.. قتلوهم مع كثير من الشعور بالذنب والأسى وتأنيب الضمائر، ولكنهم لم يعودوا يملكون حيلة أمام هذا سوى التبرير لأنفسهم وللآخرين أنهم اضطروا إلى ذلك القتل وتلك الجراح الجسيمة بأنهم هم الذين كانوا على الحق وأنه لم يكن بالإمكان إلا ما كان .. ولكنه بات طريق مشوا فيه بأيديهم وأرجلهم كأنما يساقون إلى الانتحار البطيء فلا يعودون يذوقون للدنيا الزائفة التي أقبلت عليهم من كل جانب طعماً ولا معنى، إذ هي كلمة الله تعالى قائلها في لوحه المحفوظ (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) ..لقد كان الرئيس الأمريكي الآمر بإلقاء قنبلة (هيروشيما) على نفسه بصيرة وقد ألقى بالفعل معاذيره، ولكن أنى له براحة البال مهما ألقى معاذيره.. وربما كانت الافتراءات على الناس أهون على نفس السادة الذين لا يعتقدون اصلاً في وعد الاخرة وعذاب القبر، ولكن المشكلة تعظم لدي من علم هذا جيدا، فأنى له إلا أن تتمزق احشائه حياً من الخوف في كل نهار يطلع عليه وكل ليل يجن، حتى لو تمنى الموت بقتل نفسه بمثل كفارة بني إسرائيل في زمانهم فما ذلك بمنجيه من عذاب أليم.. سيظل هو على نفسه بصيرة وسيظل يلقي معاذيره، ولكن سبق السيف العزل وصار القصاص منه في يد الله بحق كل روح ازهقت من رعيته على يديه أو بأمر منه أو بعلمه أو تحت وصايته.. وحتى إذا قام المقهورين عليه بثورة واقتصوا منه فسيكون ذلك حق نفس واحدة فقط من ضحاياه فماذا عن عشرات أو مئات الأنفس الأخرى..
ولنعلم أنه من لم يمت بالسيف مات بغيره، فالموت مصيرنا الحتمي حتى ولو كان من أجل الحياة.. لنمت إذن بالحق وعلى الحق ودون الحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق