التاريخانية الحداثية ، في الأدب والدين والعلم
(رؤية تحليلية نقدية)
د. وائل أحمد خليل الكردي
أ/ ما هي (التاريخانية) ؟ Historism وفق التصور الحداثي/
إذا قلنا (تاريخية) ، فإننا نعني مفهوماً تفسيرياً في داخل علم التاريخ . أما إذا قلنا (تاريخانية) فإننا نتحدث عن خاصية مستفادة من علم التاريخ إلى مجالات معرفية أخرى غير التاريخ مثل الأدب والدين والعلم . والتاريخانية في المصطلح الحداثي ذات دلالة نقدية في الأساس وتتوافق مع مجمل الأطروحات الفكرية الحداثية بصدد تفسير النصوص، وعلى أساس أن الحيز التاريخي للنص وفق ظرفي الزمان والمكان هو ما يحكم الأثر الفعلي له ومدى سريان حاكمية هذا الأثر . وبحيث أن توقف سريان الأثر يعطي المسوغ الكافي لما تحتاج إليه الظرفية الآنية لإنتاج عمل جديد على نفس سياق أو مجال المغذى النصي القديم على نحو أكثر تطوراً ولكن دون استعادة لهذا المغذى القديم وإحلاله بذاته أو استعارته لحالة حالة حضارية مغايرة . والشاهد في إثبات هذا لدي الحداثيين هو انتفاء قدر كبير من المقدمات المنطقية والسياقية الموضوعية في تتابع النقلات الحضارية .
إذن فكل عصر يمثل مرحلة حضارية إنسانية وفق محددات ظرفية خاصة يخضع لها :
1- انتاج النص
2- الحكم النقدي التحليلي على النص
3- سريان أثر المغذى النصي والحكم النقدي عليه
على هذا النحو يتضمن مصطلح التاريخانية الحداثي ما يعرف بعنصر (المستقبلية) ، أي رسم الرؤية المستقبلية للمرحلة الحضارية الجديدة استناداً على الواقعة التاريخية . ولكن المحدد التاريخاني لا يتيح لعنصر المستقبلية فيه أن يتمدد نحو أحوال حضارية متقدمة بصورة ملزمة أو حتمية ، فالماضي لا يحدد الراهن ولا المستقبل ، وإنما فقط يعطي المحدد التاريخاني محض إشارات تبنى عليها توقعات ، لأن ما هو قائم في الوقت الراهن لديه حيز سريان ينتهي عنده ليبدأ انتاج جديد تماما عنه ، فما هو في (الآن) لا يمتد إلى (التالي) في المستقبل بنحو من الحتمية التاريخية ، وأن سريان المنتج النصي في هذا الآن ينتهي عند مطلع النقلة الحضارية الجديدة . وهنا تكمن مهمة علماء التاريخ الحقيقية أن يترصدوا بالتحديد الخطوط الفاصلة بين كل نقلة حضارية وأخرى على هيئة بنيات مغلقة مستقلة . وعند هذا الحد لسريان المغذى النصي تتوقف كافة فعاليات الاستخدام الوظيفي له والتطبيقات العملية والإجرائية العامة عليه ، وما يستمر فقط هو فاعلية النقد Criticism التاريخي .
ب/ التاريخانية الحداثية والتاريخانية التنويرية/
إذا كانت التاريخانية الحداثية (نسبة إلى تيار الحداثة المعاصر) – على نحو ما نراها في البنيوية Structuralism مثلاً - تضع الحكم التفسيري على قياس الظرفية الحضارية كوحدة مستقلة زمانياً ومكانياً ، وبالتالي فهي تاريخانية نقدية على مستوى النصوص الوقفية المعبرة عن الوحدات الحضارية سواء كانت في الآداب الإنسانية أو في الأصول الدينية . فإن التاريخانية التنويرية (نسبة إلى عصر التنوير وآثاره وخصائصه) – على نحو ما نجدها في الهيجلية والماركسية - هي جعل المحور التاريخي هو المحور الحتمي المحافظ على هوية الوعي لعموم الإنسانية ، وبالتالي فإن الحتمية التاريخية هي السياق الذي تؤل فيه النقلات الحضارية إلى مالاتها الجديدة في كل عصر بنحو من التتابع المنطقي المتسلسل والمترابط والممتد فكل مرحلة تفضي وفق الضرورة التاريخية إلى المرحلة التي تليها . ومن ثم تصبح الفواصل بين النقلات الحضارية هي فواصل اصطلاحية غير حقيقية مادام يمتد عبرها كلها سيال تاريخي حتمي واحد ، وهذا مما ينافي تماماً فكرة البنيات المغلقة المستقلة لدى الاتجاهات الحداثية.
ج/ جدوي النص وموت المؤلف/
إن التاريخانية الحداثية كمحدد نقدي للنص في الدين والأدب أكثر الشيء تفرض دائرة حكم خاصة على ما هو مجدي وما هو غير مجدي في الأخذ به عند (صناعة) الأدب وعند (قراءة) الدين . فالنص الأدبي بكونه شاهداً ظرفياً هو صنعة لا يجب أن يتعدى شروطها الصانع ، والنص الديني يسري عليه ذات الحكم عند القراءة التفسيرية له ، وهو عدم الخروج عن دائرة الواقع المعين زمانناً ومكاناً واللجوء إلى التعميم ، حتى ولو كان عملاً تجريدياً أو سريالياً فإنه لا يخاطب وجداناً عاماً ولا عقلاً جمعياً ، وإنما يوثق لما هو قائم حين صناعة النص أو حين تنزيل النص . وعلى هذا الأساس فلا يكون النص الديني نصاً مطلقاً ومفتوحاً وإنما يكون نصاً مغلقاً هدفه الوحيد الدلالة الوجودية على الله والأحكام التعبدية له وليس الأحكام التداولية للإنسان في أنشطته الحياتية . هنا تسقط إلزامية النص .
بهذا ، كان لزاماً على التاريخانية الحداثية أن تميت المؤلف ، مع ملاحظة الاختلاف في هذا بين الحداثة وما بعد الحداثة ، فتيارات ما بعد الحداثة تميت المؤلف من أجل (تحرير النص) أي تفكيك اصوله النحوية والسيميائية والتداولية ، بينما تيارات الحداثة تميت المؤلف من أجل (استقلالية النص) عن مصدره مع الاحتفاظ بتماسكه البنائي نحوياً وسيميائياً وتداولياً ودلالته على راهنه الحضاري . وعلة موت المؤلف من أجل استقلالية النص هو عدم الإبقاء على أي دلالة له إلا الدلالة الاجتماعية/ الحضارية ، أما مقاصد المؤلف فأيضاً يحكمها الراهن الحضاري له ، وبالتالي فلا حاجة لافتراض مقاصد ذاتية خارج بنية النص يمكن أن تهيمن على فهم النص بخلاف مقوماته الحضارية .
ه/ دلالات التاريخانية الحداثية في الأدب والدين والعلم/
أولاً - التاريخانية في النص الأدبي/
هي تحديد القدرة الإبداعية لدى المؤلف بحدود الخبرة المستمدة من نوع العلاقات الجدلية في عصرة بين الإنسان والانسان الآخر والعالم المشترك بينهما وفق الحالة التي هم عليها آنذاك . فلا يمكن لإبداع المؤلف أن يعطي رؤية مستقبلية تطلعيه إلا بناء على حدود خبرته في الراهن ، فيصبح الأمر مجرد تمديد لعناصر خبرته في إطار الظرف التاريخي دون تجاوز لاعتبارات المكان والزمان وسقف هذه الخبرة ، وذلك ما يعادل في عموم الرؤية التاريخانية مقولة (سريان الحكم) أو (سريان القانون) .
ثانياً – التاريخانية في النص الديني/
وتقع على حاكمية النص ومدى إسقاطه على الواقع . وتتعين هذه الحاكمية على أساس وقفية النصوص الإجرائية على حقلها التاريخي ، وأن سبب النزول يحدد الجانب الأكبر من المدى المتاح لسريان مغذى النص ، الأمر الذي من شأنه أن يحول علم تفسير الصوص الدينية الإجرائية إلى علم علامات تاريخية مقيد بإطار محتوى حضاري معين ، وأقصى ما يمكن تحصيله من فائدة لهذه العلامات بشهدتها على وقائعها في أسباب النزول بالنسبة لعصر غير عصرها ما يماثل بنحو ما مبدأ (السوابق القضائية) في علم القانون . ولكن هذه السوابق القضائية إذا كانت تعد في وقتها كأحكام قضائية ملزمة ، فإنها فيما يلي عصرها تعد (أعرافاً) حيث العرف يستأنس به ولا يكون ملزماً إلا بعد نفاذ أحكام الواقع الراهن الأساسية ، أي وضعه في حيز الاستثناء وليس الأصل . ولذلك ، ومن باب عرفية الأحكام الدينية في وجه النظر التاريخانية ، يتم تجريد دلالات القيم الإنسانية الكلية بما تحويه النصوص لتتحول الأحكام الإجرائية إلى (أحكام قيمة) باعتبار أن هذا ما يناسب النصوص الدينية من حيث الصلاحية العامة ، على أن لا يؤخذ منها إلا ما يناسب التنزيل على مجتمع ما بما يعينه المجتمع لنفسه على وجه التخصيص وليس بما يفرضه الدين ، وفي هذا تتفاوت المجتمعات في قياس التخصيص والأخذ بما يلائمها من التعاليم وأحكام القيمة . إذن ، يقتصر دور المفسر للنص الديني على تجريد القيم وإعلان مناط الحكم بها كعرف دون تجاوز لهذا الدور ، في حين تقوم مؤسسات المجتمع الأخرى بتعيين كيفية تنزيلها وتوظيفها في المجتمع سواء بنحو كلي أو جزئي وبما يخدم الراهن الحضاري . وربما كان الاستدلال في هذا لدى الحداثيين مبنياً على تعدد الديانات ونسخ بعضها بعضاً (توراة ، إنجيل ، قرآن) بحسب النقلات الحضارية لكل منها .
ثالثاً – التاريخانية الحداثية في العلم/
كان ارتباطها وثيقاً بمقررات فيزياء (الكوانتم) Quantum mechanics التي ألغت كثيراً من المفاهيم في فلسفة العلم الكلاسيكية ولاسيما في سحب صفة اليقين عن مبدأ (التنبؤ العلمي) . وقد تمثل هذا التحول على نحو بارز في وضع مبدأ (التكذيب) Falsfication لدى (كارل بوبر) K. Popper للوصف العلمي في مقابل مبدأ (التحقق) Verification لدى مدرسة الوضعية المنطقية Logical positivism . فليس الطلوب تحقيق النص العلمي وإنما تكذيب النص العلمي .
وخلاصة مبدأ التكذيب هي الدفع بالشواهد المعارضة للقانون العلمي أو النظرية العلمية ، فإذا فسرها القانون كان مازال حد سريانه باقياً ، وإن توقف القانون أمام تلك الشاهدة المعارضة صارت هي علامة فارقة في تعيين حد سريان النص العلمي ليكون ما قبلها هو مدى تحقق هذا النص وثبات القانون العلمي .
و/ نقاط للنقد العام/
1- التاريخانية الحداثية هي محاولة لرسم الحدود الفاصلة بين الأوقات .
2- محاولة لقفل بنية الحدث فلا يأتي مصدر بنص من حقبة حضارية مختلفة أو زمانية ومكانية متقدمة ليسقطه على واقع متأخر ، وبالتالي نطمئن إلى حدود ومعالم وأفكار ومقتضيات كل عصر بعينه ولوازمه الخاصة .
3- محاولة لمواجهة الانفلات المعرفي في كثرة التأويلات المفتوحة على النص الواحد ومصحوباً بوقائعه السببية .
4- من شأن التاريخانية الحداثية أن تحول الكتابات الأدبية والنقد عليها إلى ما هو أقرب إلى السير الذاتية Autobiographies من إلى الآداب الشعبية والتجريدية ، كما أنه يحجم فاعلية النقد الأدبي ليسير في الخط الوصفي دون الاستقرائي التأملي ، وأن يعمل فقط على منهج السبر والتقسيم في إطاره المحدود دون الاستنباط المفتوح والتحويل التداولي .
5- يظل السؤال مطروحاً أمام التاريخانية الحداثية في الدين عما هي فائدة وقوف أحكام النص الديني الإجرائي كمجرد علامة شاهدة ، خاصة إذا لم يكن فيها مادة للاعتبار القيمي ، فهل فقط كان التنزيل من أجل الحكم على سببه في وقته المعلوم تاريخياً بدلالة نسخ الأديان بعضها بعضاً؟ فإن كانت الإجابة بنعم ، فهذا ينافي جوهر الدين والذي يكون كل نص فيه مقصد بذاته ومطلوب فيه الأثر الممتد بامتداد عمر البشرية كلها ، وتلك هي حكمة الدين .
ومن جهة أخري ، إذا كان من مسوغات موت المؤلف في الأدب خضوعه لنفس الراهن الحضاري التاريخي الذي تم تدوين النص في خلاله ، فما هي حجة حمل هذا المسوغ على الذات الإلهية وما هو الراهن الحضاري الخاص بهذه الذات .
6- إن حد سريان النص العلمي هو مدى استخدامه الفعلي وتعيين وظائفه وليس بشواهده المعارضة له ، فمبدأ التكذيب هو ردة فعل دفاعية لمنطق القيم الثنائية Two valued logic في إطار اطروحات الكوانتم التي أدت نتائجها إلى اللايقين أو الارتياب المعرفي في العلم فتمخض عنه منطق القيم المتعددة Many-valued logic المتجاوز لمنطق القيم الثنائية ، فماذا لو صدر نظام منطقي جديد يتجاوز كلا النظامين المذكورين ؟
7- أثبت تدوين التاريخ أنه ليس كل وقائع الحدث التاريخي وليس كل الشهادات التاريخية تدون بتوثيق تاريخي ، بل أن هناك فراغات تاريخية ربما أكبر حجماً مما هو مدون ، وهذه الفراغات هي ما تسمح باستدعاء الخيال حولها بشكل جديد ومتجدد في كل مرة ، الأمر الذي يدحض بنحو كبيرة سلطة تاريخانية النص .
(رؤية تحليلية نقدية)
د. وائل أحمد خليل الكردي
أ/ ما هي (التاريخانية) ؟ Historism وفق التصور الحداثي/
إذا قلنا (تاريخية) ، فإننا نعني مفهوماً تفسيرياً في داخل علم التاريخ . أما إذا قلنا (تاريخانية) فإننا نتحدث عن خاصية مستفادة من علم التاريخ إلى مجالات معرفية أخرى غير التاريخ مثل الأدب والدين والعلم . والتاريخانية في المصطلح الحداثي ذات دلالة نقدية في الأساس وتتوافق مع مجمل الأطروحات الفكرية الحداثية بصدد تفسير النصوص، وعلى أساس أن الحيز التاريخي للنص وفق ظرفي الزمان والمكان هو ما يحكم الأثر الفعلي له ومدى سريان حاكمية هذا الأثر . وبحيث أن توقف سريان الأثر يعطي المسوغ الكافي لما تحتاج إليه الظرفية الآنية لإنتاج عمل جديد على نفس سياق أو مجال المغذى النصي القديم على نحو أكثر تطوراً ولكن دون استعادة لهذا المغذى القديم وإحلاله بذاته أو استعارته لحالة حالة حضارية مغايرة . والشاهد في إثبات هذا لدي الحداثيين هو انتفاء قدر كبير من المقدمات المنطقية والسياقية الموضوعية في تتابع النقلات الحضارية .
إذن فكل عصر يمثل مرحلة حضارية إنسانية وفق محددات ظرفية خاصة يخضع لها :
1- انتاج النص
2- الحكم النقدي التحليلي على النص
3- سريان أثر المغذى النصي والحكم النقدي عليه
على هذا النحو يتضمن مصطلح التاريخانية الحداثي ما يعرف بعنصر (المستقبلية) ، أي رسم الرؤية المستقبلية للمرحلة الحضارية الجديدة استناداً على الواقعة التاريخية . ولكن المحدد التاريخاني لا يتيح لعنصر المستقبلية فيه أن يتمدد نحو أحوال حضارية متقدمة بصورة ملزمة أو حتمية ، فالماضي لا يحدد الراهن ولا المستقبل ، وإنما فقط يعطي المحدد التاريخاني محض إشارات تبنى عليها توقعات ، لأن ما هو قائم في الوقت الراهن لديه حيز سريان ينتهي عنده ليبدأ انتاج جديد تماما عنه ، فما هو في (الآن) لا يمتد إلى (التالي) في المستقبل بنحو من الحتمية التاريخية ، وأن سريان المنتج النصي في هذا الآن ينتهي عند مطلع النقلة الحضارية الجديدة . وهنا تكمن مهمة علماء التاريخ الحقيقية أن يترصدوا بالتحديد الخطوط الفاصلة بين كل نقلة حضارية وأخرى على هيئة بنيات مغلقة مستقلة . وعند هذا الحد لسريان المغذى النصي تتوقف كافة فعاليات الاستخدام الوظيفي له والتطبيقات العملية والإجرائية العامة عليه ، وما يستمر فقط هو فاعلية النقد Criticism التاريخي .
ب/ التاريخانية الحداثية والتاريخانية التنويرية/
إذا كانت التاريخانية الحداثية (نسبة إلى تيار الحداثة المعاصر) – على نحو ما نراها في البنيوية Structuralism مثلاً - تضع الحكم التفسيري على قياس الظرفية الحضارية كوحدة مستقلة زمانياً ومكانياً ، وبالتالي فهي تاريخانية نقدية على مستوى النصوص الوقفية المعبرة عن الوحدات الحضارية سواء كانت في الآداب الإنسانية أو في الأصول الدينية . فإن التاريخانية التنويرية (نسبة إلى عصر التنوير وآثاره وخصائصه) – على نحو ما نجدها في الهيجلية والماركسية - هي جعل المحور التاريخي هو المحور الحتمي المحافظ على هوية الوعي لعموم الإنسانية ، وبالتالي فإن الحتمية التاريخية هي السياق الذي تؤل فيه النقلات الحضارية إلى مالاتها الجديدة في كل عصر بنحو من التتابع المنطقي المتسلسل والمترابط والممتد فكل مرحلة تفضي وفق الضرورة التاريخية إلى المرحلة التي تليها . ومن ثم تصبح الفواصل بين النقلات الحضارية هي فواصل اصطلاحية غير حقيقية مادام يمتد عبرها كلها سيال تاريخي حتمي واحد ، وهذا مما ينافي تماماً فكرة البنيات المغلقة المستقلة لدى الاتجاهات الحداثية.
ج/ جدوي النص وموت المؤلف/
إن التاريخانية الحداثية كمحدد نقدي للنص في الدين والأدب أكثر الشيء تفرض دائرة حكم خاصة على ما هو مجدي وما هو غير مجدي في الأخذ به عند (صناعة) الأدب وعند (قراءة) الدين . فالنص الأدبي بكونه شاهداً ظرفياً هو صنعة لا يجب أن يتعدى شروطها الصانع ، والنص الديني يسري عليه ذات الحكم عند القراءة التفسيرية له ، وهو عدم الخروج عن دائرة الواقع المعين زمانناً ومكاناً واللجوء إلى التعميم ، حتى ولو كان عملاً تجريدياً أو سريالياً فإنه لا يخاطب وجداناً عاماً ولا عقلاً جمعياً ، وإنما يوثق لما هو قائم حين صناعة النص أو حين تنزيل النص . وعلى هذا الأساس فلا يكون النص الديني نصاً مطلقاً ومفتوحاً وإنما يكون نصاً مغلقاً هدفه الوحيد الدلالة الوجودية على الله والأحكام التعبدية له وليس الأحكام التداولية للإنسان في أنشطته الحياتية . هنا تسقط إلزامية النص .
بهذا ، كان لزاماً على التاريخانية الحداثية أن تميت المؤلف ، مع ملاحظة الاختلاف في هذا بين الحداثة وما بعد الحداثة ، فتيارات ما بعد الحداثة تميت المؤلف من أجل (تحرير النص) أي تفكيك اصوله النحوية والسيميائية والتداولية ، بينما تيارات الحداثة تميت المؤلف من أجل (استقلالية النص) عن مصدره مع الاحتفاظ بتماسكه البنائي نحوياً وسيميائياً وتداولياً ودلالته على راهنه الحضاري . وعلة موت المؤلف من أجل استقلالية النص هو عدم الإبقاء على أي دلالة له إلا الدلالة الاجتماعية/ الحضارية ، أما مقاصد المؤلف فأيضاً يحكمها الراهن الحضاري له ، وبالتالي فلا حاجة لافتراض مقاصد ذاتية خارج بنية النص يمكن أن تهيمن على فهم النص بخلاف مقوماته الحضارية .
ه/ دلالات التاريخانية الحداثية في الأدب والدين والعلم/
أولاً - التاريخانية في النص الأدبي/
هي تحديد القدرة الإبداعية لدى المؤلف بحدود الخبرة المستمدة من نوع العلاقات الجدلية في عصرة بين الإنسان والانسان الآخر والعالم المشترك بينهما وفق الحالة التي هم عليها آنذاك . فلا يمكن لإبداع المؤلف أن يعطي رؤية مستقبلية تطلعيه إلا بناء على حدود خبرته في الراهن ، فيصبح الأمر مجرد تمديد لعناصر خبرته في إطار الظرف التاريخي دون تجاوز لاعتبارات المكان والزمان وسقف هذه الخبرة ، وذلك ما يعادل في عموم الرؤية التاريخانية مقولة (سريان الحكم) أو (سريان القانون) .
ثانياً – التاريخانية في النص الديني/
وتقع على حاكمية النص ومدى إسقاطه على الواقع . وتتعين هذه الحاكمية على أساس وقفية النصوص الإجرائية على حقلها التاريخي ، وأن سبب النزول يحدد الجانب الأكبر من المدى المتاح لسريان مغذى النص ، الأمر الذي من شأنه أن يحول علم تفسير الصوص الدينية الإجرائية إلى علم علامات تاريخية مقيد بإطار محتوى حضاري معين ، وأقصى ما يمكن تحصيله من فائدة لهذه العلامات بشهدتها على وقائعها في أسباب النزول بالنسبة لعصر غير عصرها ما يماثل بنحو ما مبدأ (السوابق القضائية) في علم القانون . ولكن هذه السوابق القضائية إذا كانت تعد في وقتها كأحكام قضائية ملزمة ، فإنها فيما يلي عصرها تعد (أعرافاً) حيث العرف يستأنس به ولا يكون ملزماً إلا بعد نفاذ أحكام الواقع الراهن الأساسية ، أي وضعه في حيز الاستثناء وليس الأصل . ولذلك ، ومن باب عرفية الأحكام الدينية في وجه النظر التاريخانية ، يتم تجريد دلالات القيم الإنسانية الكلية بما تحويه النصوص لتتحول الأحكام الإجرائية إلى (أحكام قيمة) باعتبار أن هذا ما يناسب النصوص الدينية من حيث الصلاحية العامة ، على أن لا يؤخذ منها إلا ما يناسب التنزيل على مجتمع ما بما يعينه المجتمع لنفسه على وجه التخصيص وليس بما يفرضه الدين ، وفي هذا تتفاوت المجتمعات في قياس التخصيص والأخذ بما يلائمها من التعاليم وأحكام القيمة . إذن ، يقتصر دور المفسر للنص الديني على تجريد القيم وإعلان مناط الحكم بها كعرف دون تجاوز لهذا الدور ، في حين تقوم مؤسسات المجتمع الأخرى بتعيين كيفية تنزيلها وتوظيفها في المجتمع سواء بنحو كلي أو جزئي وبما يخدم الراهن الحضاري . وربما كان الاستدلال في هذا لدى الحداثيين مبنياً على تعدد الديانات ونسخ بعضها بعضاً (توراة ، إنجيل ، قرآن) بحسب النقلات الحضارية لكل منها .
ثالثاً – التاريخانية الحداثية في العلم/
كان ارتباطها وثيقاً بمقررات فيزياء (الكوانتم) Quantum mechanics التي ألغت كثيراً من المفاهيم في فلسفة العلم الكلاسيكية ولاسيما في سحب صفة اليقين عن مبدأ (التنبؤ العلمي) . وقد تمثل هذا التحول على نحو بارز في وضع مبدأ (التكذيب) Falsfication لدى (كارل بوبر) K. Popper للوصف العلمي في مقابل مبدأ (التحقق) Verification لدى مدرسة الوضعية المنطقية Logical positivism . فليس الطلوب تحقيق النص العلمي وإنما تكذيب النص العلمي .
وخلاصة مبدأ التكذيب هي الدفع بالشواهد المعارضة للقانون العلمي أو النظرية العلمية ، فإذا فسرها القانون كان مازال حد سريانه باقياً ، وإن توقف القانون أمام تلك الشاهدة المعارضة صارت هي علامة فارقة في تعيين حد سريان النص العلمي ليكون ما قبلها هو مدى تحقق هذا النص وثبات القانون العلمي .
و/ نقاط للنقد العام/
1- التاريخانية الحداثية هي محاولة لرسم الحدود الفاصلة بين الأوقات .
2- محاولة لقفل بنية الحدث فلا يأتي مصدر بنص من حقبة حضارية مختلفة أو زمانية ومكانية متقدمة ليسقطه على واقع متأخر ، وبالتالي نطمئن إلى حدود ومعالم وأفكار ومقتضيات كل عصر بعينه ولوازمه الخاصة .
3- محاولة لمواجهة الانفلات المعرفي في كثرة التأويلات المفتوحة على النص الواحد ومصحوباً بوقائعه السببية .
4- من شأن التاريخانية الحداثية أن تحول الكتابات الأدبية والنقد عليها إلى ما هو أقرب إلى السير الذاتية Autobiographies من إلى الآداب الشعبية والتجريدية ، كما أنه يحجم فاعلية النقد الأدبي ليسير في الخط الوصفي دون الاستقرائي التأملي ، وأن يعمل فقط على منهج السبر والتقسيم في إطاره المحدود دون الاستنباط المفتوح والتحويل التداولي .
5- يظل السؤال مطروحاً أمام التاريخانية الحداثية في الدين عما هي فائدة وقوف أحكام النص الديني الإجرائي كمجرد علامة شاهدة ، خاصة إذا لم يكن فيها مادة للاعتبار القيمي ، فهل فقط كان التنزيل من أجل الحكم على سببه في وقته المعلوم تاريخياً بدلالة نسخ الأديان بعضها بعضاً؟ فإن كانت الإجابة بنعم ، فهذا ينافي جوهر الدين والذي يكون كل نص فيه مقصد بذاته ومطلوب فيه الأثر الممتد بامتداد عمر البشرية كلها ، وتلك هي حكمة الدين .
ومن جهة أخري ، إذا كان من مسوغات موت المؤلف في الأدب خضوعه لنفس الراهن الحضاري التاريخي الذي تم تدوين النص في خلاله ، فما هي حجة حمل هذا المسوغ على الذات الإلهية وما هو الراهن الحضاري الخاص بهذه الذات .
6- إن حد سريان النص العلمي هو مدى استخدامه الفعلي وتعيين وظائفه وليس بشواهده المعارضة له ، فمبدأ التكذيب هو ردة فعل دفاعية لمنطق القيم الثنائية Two valued logic في إطار اطروحات الكوانتم التي أدت نتائجها إلى اللايقين أو الارتياب المعرفي في العلم فتمخض عنه منطق القيم المتعددة Many-valued logic المتجاوز لمنطق القيم الثنائية ، فماذا لو صدر نظام منطقي جديد يتجاوز كلا النظامين المذكورين ؟
7- أثبت تدوين التاريخ أنه ليس كل وقائع الحدث التاريخي وليس كل الشهادات التاريخية تدون بتوثيق تاريخي ، بل أن هناك فراغات تاريخية ربما أكبر حجماً مما هو مدون ، وهذه الفراغات هي ما تسمح باستدعاء الخيال حولها بشكل جديد ومتجدد في كل مرة ، الأمر الذي يدحض بنحو كبيرة سلطة تاريخانية النص .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق