(صحيفة اليوم التالي، عدد 21 يناير 2019م)
على من تشرق الشمس..
د. وائل أحمد خليل الكردي
الحقيقة ولدت في المنفى.. هكذا كان عنوان الرواية القديمة للكاتب (فانتيلا هوريا) وحاز بها على جائزة (جونكور) العالمية عام 1960م .. وفي أول صفحاتها كتب الوصف التالي لمن اقبلت عليه الدنيا ولكنه ظل يعيش في جحيمه الداخلي:
(وانا أغمض عيني لأعيش.. ولأقتل أيضا.. وفي هذا أجدني الأقوى، لأنه هو لا يغمض عينيه إلا لينام.. وحتى سباته، لا يحمل إليه أي عزاء.. فظلامه يعج بالأموات، وتلازمه القسوة.. أنا أعرف أنه لا يحب الراحة، ككل عظيم في الأرض.. الراحة تذره وحيداً مع ضميره وندامته، وحيداً مع الأسف الذي يساوره لأنه كان يتصرف دائماً كجبار، أي كرجل يخاف سلطانه..
مرة لخمس سنوات التقيت به ... كان الوقت صبحاً.. وكان هو قد استفاق تواً.. عيناه حمراوين.. جاحظتين تعباً.. لم يملك الشجاعة على النظر إلينا خشية أن نستشف في نظراته أسماء أو ملامح اولئك الذين قد أرقوه ليلته تلك.. لا يجد من يحبه.. هو خالق أعظم امبراطورية عرفت في جميع الأزمنة، ولكنه هو خالق الخوف.. بخاصة خوف الآخرين وخوفه الشخصي)..
ان اكبر جرم تحت السماء ان يستغل إنسان هو سيد رفيع في الناس إنساناً غيره القت به خطيئة ابواه في مهالك الضياع، فيصنع منه أداة حادة تعيش على البطش والفتك بعباد الله مقابل لقمة عيشه واحساسه بقيمة الوجود وأنه كائن حي..
كم هناك من تشردوا خارج الأسوار صغاراً ووراء الحوائط والجدر.. وكم من طفل خطيئة لم يدري كيف أتى به أبواه إلى مكبات النفايات أو تحت عتبات الأبواب، وبأي قلب ألقياه.. وكم هناك من ظُلم على أيدي معلم الحرفة بالحي الفقير يدق على يدا البائس الصغير مسامير الحقد الموروث في نفسه، ثم بعد ذلك نرجو منهم أن يشبوا أسوياء بلا اعوجاج.. فإن اعوجوا دعوناهم (فاقداً تربوياً) كأنهم تالف من البشر لا يغنون عن شيء ولا جدوى من بقائهم في المجتمعات وبين البشر، ننظر إلى الواحد منهم نظرة المجرم الجاني مذ كان لا يعي جرمه وهو جنين في بطن أمه.. نراه شيء نبت من لا شيء فلا ضير إن اقتلعناه من جذور المجتمع أو ابقينا عليه سيان عندنا الأمر..
فبالله علينا، أين بعد ذلك يذهب هؤلاء وفي أي أحضان يرتمون، إلا أن تتصيدهم شراك ذوي السيادة والسلطان فيطعمون منهم الفم لتضرب اليد بطشاً لا تفرق بين محسن من الناس أو أثيم.. ينشأ الفتى من هؤلاء مشرداً ابناً للشوارع بين الخطيئة التي لا ذنب له فيها وظلم المجتمع، فيصير ناقماً حاقداً صلد القلب صدأ العقل، لا يرى في نفسه إلا حيوان كاسر ووحش لا يرحم فريسته ولم يعد يتلذذ إلا بالانتقام.. ونحن كنا من جعلناه هكذا حينما عزلناه بشيء من الشعور بالقرف والتقزز عنا والبسناه بظلم قاتم من كل جانب، في وقت كان هو طفل بكل معنى الطفولة براءة وحباً للحياة ورقة في القلب الصغير الغض والبسمة الوضاءة على شفاهه، كان هو ذلك الطفل.. فنزع عنه اسوياء المجتمع ووجهائه عنه ذاك الرداء، فقتلوا خطأً أو بانعقاد النية روح الانسان السوية فيه فصيرناه وحشاً ذئباً يأكل حتى لحوم إخوانه البشر.. فكيف به ان مد له الطاغية لقمةً وكساءً وخنجراً وبندقية، ثم يأمر ان يدق الأعناق ويبقر البطون فكل عقيدته قد صارت في ولي نعمته تماماً كالكلب عند حذاء سيده..
ان هؤلاء الفاقد التربوي سواءً من كان غنياً منهم أو من كان فقير الذين يظهرون على الناس بسياطهم هم ضحيا الأقربين اولاً، وضحايا الشوارع ثانياً، وضحايا لمن ارادوهم هكذا كما هم مرضى بداء (السادية) والتلذذ بتعذيب الناس منتشين كلما علا منهم الصياح بالألم.. والحكمة، أن هؤلاء بعد ان صاروا ذئاباً قد تجردوا من الشجاعة، فأنى لمن لا دين له ولا أخلاق ولا علم أن تكون لديه الشجاعة.. فإن قلباً لم يخشع للخالق ولا تأخذه رأفة بمخلوق أن يقوى قلبه أمام الاهوال والحروب، .أنى لمن كان عبداً لسلطانه إلا طاعته في سحق هامات الفقراء الجياع المنكوبين ظلماً المطالبين بحق الحياة أن تثبت قدماه أمام الموت الزاحف نحوه إذا ما بلغ الغضب العارم مبلغه ثم لا يفر مولياً تاركاً عتاد الدنيا حرصاً على دنياه.. فلماذا حجبنا الشمس عنهم واستمتعنا نحن بالضياء وتركنا لهم الظلام.. هم لا ذنب لهم فيما لامهم عليه المجتمع بجريرة مصائرهم واقدارهم.. نحن لم نأخذ لهم الحق من ذلك السيد الذي فرش بأيديهم ملاءات سريره الحمراء تئن تحته بدماء الأبرياء، وحتماً أن عين السيد وإن اطبقت اجفانها لن تنام.. فهل من أمل أن تشرق الشمس على فاقدنا التربوي بضياء جديد بعدما تحجرت قلوبهم، أم ليس لهم من بعد ما اقترفوا إلا ظلمات السجون وغيابات المنافي والموت على الطرقات.
على من تشرق الشمس..
د. وائل أحمد خليل الكردي
الحقيقة ولدت في المنفى.. هكذا كان عنوان الرواية القديمة للكاتب (فانتيلا هوريا) وحاز بها على جائزة (جونكور) العالمية عام 1960م .. وفي أول صفحاتها كتب الوصف التالي لمن اقبلت عليه الدنيا ولكنه ظل يعيش في جحيمه الداخلي:
(وانا أغمض عيني لأعيش.. ولأقتل أيضا.. وفي هذا أجدني الأقوى، لأنه هو لا يغمض عينيه إلا لينام.. وحتى سباته، لا يحمل إليه أي عزاء.. فظلامه يعج بالأموات، وتلازمه القسوة.. أنا أعرف أنه لا يحب الراحة، ككل عظيم في الأرض.. الراحة تذره وحيداً مع ضميره وندامته، وحيداً مع الأسف الذي يساوره لأنه كان يتصرف دائماً كجبار، أي كرجل يخاف سلطانه..
مرة لخمس سنوات التقيت به ... كان الوقت صبحاً.. وكان هو قد استفاق تواً.. عيناه حمراوين.. جاحظتين تعباً.. لم يملك الشجاعة على النظر إلينا خشية أن نستشف في نظراته أسماء أو ملامح اولئك الذين قد أرقوه ليلته تلك.. لا يجد من يحبه.. هو خالق أعظم امبراطورية عرفت في جميع الأزمنة، ولكنه هو خالق الخوف.. بخاصة خوف الآخرين وخوفه الشخصي)..
ان اكبر جرم تحت السماء ان يستغل إنسان هو سيد رفيع في الناس إنساناً غيره القت به خطيئة ابواه في مهالك الضياع، فيصنع منه أداة حادة تعيش على البطش والفتك بعباد الله مقابل لقمة عيشه واحساسه بقيمة الوجود وأنه كائن حي..
كم هناك من تشردوا خارج الأسوار صغاراً ووراء الحوائط والجدر.. وكم من طفل خطيئة لم يدري كيف أتى به أبواه إلى مكبات النفايات أو تحت عتبات الأبواب، وبأي قلب ألقياه.. وكم هناك من ظُلم على أيدي معلم الحرفة بالحي الفقير يدق على يدا البائس الصغير مسامير الحقد الموروث في نفسه، ثم بعد ذلك نرجو منهم أن يشبوا أسوياء بلا اعوجاج.. فإن اعوجوا دعوناهم (فاقداً تربوياً) كأنهم تالف من البشر لا يغنون عن شيء ولا جدوى من بقائهم في المجتمعات وبين البشر، ننظر إلى الواحد منهم نظرة المجرم الجاني مذ كان لا يعي جرمه وهو جنين في بطن أمه.. نراه شيء نبت من لا شيء فلا ضير إن اقتلعناه من جذور المجتمع أو ابقينا عليه سيان عندنا الأمر..
فبالله علينا، أين بعد ذلك يذهب هؤلاء وفي أي أحضان يرتمون، إلا أن تتصيدهم شراك ذوي السيادة والسلطان فيطعمون منهم الفم لتضرب اليد بطشاً لا تفرق بين محسن من الناس أو أثيم.. ينشأ الفتى من هؤلاء مشرداً ابناً للشوارع بين الخطيئة التي لا ذنب له فيها وظلم المجتمع، فيصير ناقماً حاقداً صلد القلب صدأ العقل، لا يرى في نفسه إلا حيوان كاسر ووحش لا يرحم فريسته ولم يعد يتلذذ إلا بالانتقام.. ونحن كنا من جعلناه هكذا حينما عزلناه بشيء من الشعور بالقرف والتقزز عنا والبسناه بظلم قاتم من كل جانب، في وقت كان هو طفل بكل معنى الطفولة براءة وحباً للحياة ورقة في القلب الصغير الغض والبسمة الوضاءة على شفاهه، كان هو ذلك الطفل.. فنزع عنه اسوياء المجتمع ووجهائه عنه ذاك الرداء، فقتلوا خطأً أو بانعقاد النية روح الانسان السوية فيه فصيرناه وحشاً ذئباً يأكل حتى لحوم إخوانه البشر.. فكيف به ان مد له الطاغية لقمةً وكساءً وخنجراً وبندقية، ثم يأمر ان يدق الأعناق ويبقر البطون فكل عقيدته قد صارت في ولي نعمته تماماً كالكلب عند حذاء سيده..
ان هؤلاء الفاقد التربوي سواءً من كان غنياً منهم أو من كان فقير الذين يظهرون على الناس بسياطهم هم ضحيا الأقربين اولاً، وضحايا الشوارع ثانياً، وضحايا لمن ارادوهم هكذا كما هم مرضى بداء (السادية) والتلذذ بتعذيب الناس منتشين كلما علا منهم الصياح بالألم.. والحكمة، أن هؤلاء بعد ان صاروا ذئاباً قد تجردوا من الشجاعة، فأنى لمن لا دين له ولا أخلاق ولا علم أن تكون لديه الشجاعة.. فإن قلباً لم يخشع للخالق ولا تأخذه رأفة بمخلوق أن يقوى قلبه أمام الاهوال والحروب، .أنى لمن كان عبداً لسلطانه إلا طاعته في سحق هامات الفقراء الجياع المنكوبين ظلماً المطالبين بحق الحياة أن تثبت قدماه أمام الموت الزاحف نحوه إذا ما بلغ الغضب العارم مبلغه ثم لا يفر مولياً تاركاً عتاد الدنيا حرصاً على دنياه.. فلماذا حجبنا الشمس عنهم واستمتعنا نحن بالضياء وتركنا لهم الظلام.. هم لا ذنب لهم فيما لامهم عليه المجتمع بجريرة مصائرهم واقدارهم.. نحن لم نأخذ لهم الحق من ذلك السيد الذي فرش بأيديهم ملاءات سريره الحمراء تئن تحته بدماء الأبرياء، وحتماً أن عين السيد وإن اطبقت اجفانها لن تنام.. فهل من أمل أن تشرق الشمس على فاقدنا التربوي بضياء جديد بعدما تحجرت قلوبهم، أم ليس لهم من بعد ما اقترفوا إلا ظلمات السجون وغيابات المنافي والموت على الطرقات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق