الخميس، 9 مايو 2019

الاستشراق .. هل مات حقا

الاستشراق .. هل مات حقاً؟

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
تحدث مقدم المحاضرة (الدكتور صالح العمري)  بعلم فياض وطرح أخاذ عن مسألة (الاستشراق) وأبان كيف أن (إدوارد سعيد) ، ذلك المفكر البارز الأمريكي الجنسية ذو الأصل الفلسطيني ، قد نقد هذا العلم وقوض اركانه في كتابه المشهور (الاستشراق) Orientalism فأحدث نقده تحولاً في أنظار العلم الغربي اللاتيني والانجلوسكسوني عن هذا العلم بكل ما فيه من  سوءات وسقطات كشفت عن عدم الجدوى في تمسك أوروبا به على نحوه الذي كان عليه فيما سبق ..
كانت المحاضرة في الأمس القريب تحت راية (منتدى الفكر) في النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنورة .. وهناك ، حيث روعة المكان والزمان والإنسان ، بدت كأوضح ما يكون معالم تلك القضية التي اقلقت عقولنا الشرقية كما وصفها مستشرقو الغرب .. كانت المحاضرة هناك تسير على وقع خطى (إدوارد سعيد) في نقد الاستشراق واصوله ومالاته وحقيقة أمره والتشكيك في أدبياته واطروحاته بكونه عاملاً مؤسسا للثقافة الاستعمارية ..  ولكنني أجد نفسي في مقالتي هذه أنحو نحواً ليس يخالفهم وإنما يمتد بالتحليل إلى ما وراء سطورهم وسطور (إدوارد سعيد) .. فما هو (الاستشراق) الذي صار يحكم على ذواتنا بما فيها أحيانا وبما ليس فيها غالباً ؟ ..
إن الاصل الفلسفي للاستشراق ليس دلالة المكان الجغرافي لكلاً من الشرق والغرب ، وانما هو بحث من اجل معرفة الذات الأوروبية أمام الذات الخاصة ببلاد آسيا وشمال أفريقيا .. والمقصود بالذات هنا هو (نظام الوعي) الخاص بكل حالة من هاتين ، أي (نظام الوعي الغربي) في مقابل (نظام الوعي الشرقي) .. فلقد حاول الأوروبيون منذ عصر النهضة أن يحققوا طابعهم الشخصي المفقود في وقت عرف بعصور الظلام تحت ظل الدولة اللاهوتية هنالك لا سيما في أوروبا اللاتينية ، فكان لابد لهم من أجل هذا أن يضعوا نصب أعينهم كيانناً يخالف أو يقابل كيانهم فتكون المقارنة في هذا على منطق (أن الضد يظهر حسنه الضدُ) .. ولكن لماذا وقع اختيارهم على الشرق ونظام الوعي الشرقي ليكون هو البلورة العاكسة لضوء الشمس عليهم فيرون صورة أنفسهم في المرآة بأوضح ما يرون ؟ .. إن الهوية العقلية لشعوب أوروبا تجسدت في مثال الحضارة اليونانية والرومانية القديمة فيما قبل ميلاد المسيح بكل ما مظاهرها الفكرية والفلسفية والفنية والأدبية والعلمية .. ولكن عندما دخلت الديانة المسيحية إلى أوروبا وهي ديانة شرقية ، أخذها الأوروبيين على المذهب الكاثوليكي ، وقد رأي بعض كتاب الحضارة أن هذا الاعتقاد المسيحي ذا الطابع الشرقي لم يلائم نمط الوعي الأوروبي فوقع الصراع في داخل الشخصية الأوروبية  ما بين طارف وتليد .. وبناء على هذا أظلمت أوروبا في تلك الحقبة التاريخية وضاع إرثها القديم .. وعندما بلغ الصراع مداه وحتم ذلك استعادة الشخصية الأوروبية لطابعها الحضاري الوجداني والعقلي حينها بدأ عصر النهضة والتنوير ، ولم يتم رفض الديانة المسيحية جملة وانما عملوا على تكييفها مع نظام وعيهم الأصل فيما عرف بالمذهب البروتستانتي الإصلاحي، وكان لابد لهم أن يعتبروا كل تلك العناصر الشرقية التي تغلغلت في ثقافتهم أنها بمثابة الخصم الذي بمواجهته تستبين معالم الشخصية الأوروبية على الحقيقة ، فهذا سبب .. وسبب آخر، هو أن الفكر الذي ساد منطقة الشرق كان محملاً  بأثر الدين الإسلامي وبالكثير من عناصر الفكر والحضارة اليونانية والرومانية القديمة والتي استفادها العرب والمسلمين من خلال حركة الترجمة ، فكانت هذه العناصر سبباً أساسياً في نهضة الشرق في الوقت الذي رزح فيه الغرب تحت ظلمات الجهل والانغلاق في العصور الوسطى .. والآن حان الوقت لكي يسترد كل منهم بضاعته .. ولذلك ، وتحت وطأة هذه النظرة الحادة في الفصل بين أنماط الوعي تحول مقصد الاستشراق ليصبح  بدلاً من محاولة إعادة اكتشاف الذات أمام الآخر بعد أن تحقق لهم ذلك الاكتشاف للذات ، أداة لفض مغاليق هذا الوعي الشرقي نفسه وفتح الثغرات فيه وضرب مكامن القوة منه حتى تصفوا لهم السيادة العقلية على شعوب العالم دون منازع .. فكان هو الاستشراق كما عرفناه اليوم كعلم سيئ السمعة عندنا .. ولذلك انبرى (إدوارد سعيد) وهو الرجل الشرقي في أصله ليدفع عن العقل الشرقي ما حاول المستشرقين إثبات أنه فيه بلوي عنق الحقائق .. وكانت وسيلته في هذه المقاومة هي العمل بمثل ما فعله غيره من المفكرين المنتسبين للغرب بالمواطنة وليس بالأصل من ضرب لفكرة المركزية الفكرية الغربية وفق مناهج (ما بعد الحداثة) في النقد الحضاري والفكري .. ولما وجدت آراءه صدىً واسعاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية والفكرية الأوروبية والأمريكية ، عاد المستشرقون بقول جديد وهو بلسان الحال (شكراً (إدوارد سعيد) فلقد لفت انتباهنا إلى أن وعينا بذاتنا قد صار الآن مكتملاً ، فم تعد لنا حاجة إذن في الاستمرار تحت مسمى الاستشراق) .. لقد حاولوا بذلك تأويل آراء (إدوارد سعيد) بعيداً عن اتجاهها المقصود لديه في نقد مزاعم وتلفيقات المستشرقين على الشرق وما يحمل ، لكن هذا التأويل لم يكن مقصده الوحيد هو احتواء انتقادات (إدوارد سعيد) بقدر ما كانت هي اشارة الى المستشرقين أنفسهم إلى تقنية جديدة يسلكوا بها نفس ما سلكته (الماسونية) العالمية في المناطق التي تم فيها إلغاء الاعتراف بها ، وهي تقنية (تبديل الأثواب و الأقنعة) .. وها هو الاستشراق قد انحسر عن الظهور باسمه المعروف وبات يظهر بأسماء واثواب جديدة يرتديها بحسب ما يوافق الظروف في كل مرحلة ومكان وزمان ..
وهكذا طرحت المحاضرة سؤالاً اساسياً )هل مات الاستشراق بعد ظهور كتاب (إدوارد سعيد)) .. والإجابة (كلا) ، فما كانوا ليسمحوا له أن يموت في بلادهم كما لم يسمحوا للماسونية أن تموت من قبل ، فجعلوه يظهر بألف وجه جديد في بلادنا .. وكلما احترق وجه ابدلوه بآخر قشيب .. فهل سنظل هكذا ندور على دورانهم ، أم سنقلد فعلهم حتى نعرف هويتنا فنرسم لنا علماً (للاستغراب) كما رسموا هم لأنفسهم علماً (للاستشراق) ..أم ستكون لنا سبيل فريدة تخرجنا من كل هذا وذاك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق