السبت، 7 مارس 2020

الكنديون يقرعون الطبل الافريقي

الكنديون يقرعون الطبل الأفريقي..

 وائل الكردي

لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به.. 
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي)..  فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.

خرافة الحق التاريخي

خرافة الحق التاريخي..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لماذا إذن نحارب إسرائيل؟ .. هل أتى اليهود من خارج فلسطين ابتداء، أم أنهم وجدوا فيها كغيرهم ثم هُجر إليهم المزيد من أنحاء
 العالم؟ وهل كان العرب حالة عرقية راسخة على طول تاريخ فلسطين؟ .. 
لم يكن ذلك الأثر القابع في منتصف شارع القصر (قديماً، شارع فيكتوريا) بالعاصمة الخرطوم يثير الفضول لدى الدارسين بكونه سينما (كوليزيوم) .. ولكن بعد أن أميط اللثام بأن هذه السينما أقيمت في الموقع الذي كان يحتله نادي (مكابي) الرياضي اليهودي، اتجهت انظار بعض من ينقبون خلف الكواليس إليها حيث لم تكن سينما (كوليزيوم) مجرد مكان للترفيه والمشاهدة قبيل ظهور البث التلفزيوني وانما كانت تعبيراً عن نوع ذلك النسيج الاجتماعي ذو الطابع الغريب ليهود السودان فيما بينهم ومع باقي السودانيين .. فذكر الكاتب مكي أبوقرجة - رحمه الله – في قرأته لكتاب الياهو سلمون ملكا (أبناء يعقوب في بقعة المهدي) أن اليهود أقاموا علاقات واسعة مع السودانيين وتشربوا الحياة الثقافية السودانية وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية إلا أنهم ظلوا يهوداً ملتزمين بديانتهم فأقاموا معبداً ونادياً اجتماعياً وأخذوا يتصاهرون في اطار جاليتهم.. وحتى الأجيال الجديدة من اليهود السودانيين التي لم تر ذلك البلد البعيد وعاش معظمها في أوروبا تحمل ذكريات غامضة وحباً مبهماً للسودان ذلك الوطن الذي بات مستحيلاً .. هؤلاء اليهود لم يستطيعوا نسيان السودان ولم تعوضهم إسرائيل عن ذلك الحنين الجارف الذي يلف ارواحهم.
والسؤال الآن، هل من يطالبون – أو على الأقل يؤيدون – التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب هم من بقايا اليهود في السودان، أم أنهم السودانيين الذين عايشوا اليهود ودخلوا معهم في هذا النسيج الاجتماعي؟ أم أنهم من عموم الأجيال المتأخرة في السودان ولم تعد بينهم وبين عهد اليهود في السودان ثمة صلة؟ الشاهد الآن أن المطالبين هم من هذه الفئة الأخيرة، فهل يجوز التطبيع برغم الزعم بالحق التاريخي الذي باسمه أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والذي باسمه أيضاً حارب العرب هذا الإعلان وقاتلوا اليهود على ذات الأرض؟ .. لنفرد الأمر برمته إذن على طاولة التحليل ..
إذا سألنا عن ثمة حق تاريخي في فلسطين، فلن نجد من لديه حق تاريخي كامل فيها، إن هي إلا أمم وحضارات قد تعاقبت عليها في سير حقب التاريخ إلى وقتنا المعاصر .. فليس للعرب ولا لإسرائيل سواء بسواء حق تاريخي جامع مانع في فلسطين، وإنما هي محض حالة السيادة على الأرض بحسب الدور التاريخي والظرف الحضاري للمنطقة على سنة قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا ليس تأييداً لقيام دولة إسرائيل وإنما إقرار بأمر قد تم وصار واقعاً راهناً وجب علينا التعامل معه .. وإذا سألنا عن المسلمين والإسلام في فلسطين فإنها قد دانت للفتح الإسلامي الذي أتى إليها متأخراً عن أمم الشرق القديم واليهودية والنصرانية، ولهذا فلن يكون السؤال عن الاسلام بالتأكيد من باب أن هناك حق تاريخي له كباقي الدعاوى العرقية أو العنصرية أو القومية وإنما يكون من باب أن الإسلام رسالة إلى البشرية جميعاً وليس تخصيصاً لشعب أو أرض بدعوى حق تاريخي .. لذلك لم تكن حرب سنة 1948م حين اعلان قيام دولة إسرائيل رسمياً حرباً إسلامية وإنما حرباً عروبية .. فلقد أخلى المسلمون مقعد الحق الإسلامي المكتسب بالفتح في فلسطين لصالح الحق العروبي العرقي أو العنصري فلم تعد بذلك حرباً جهادية مقدسة لنصرة دين الله في الأرض وإنما هي لمنح حق مزعوم لقوم عرب قد يتساوون فيه مع أقوام أخر، ناهيك عن أن الأصل العرقي والتاريخي لبقعة فلسطين ليس عربياً صرفاً ولكن تم تعريب لسانهم على نحو ما يمكن لأي انسان أن يتحول إلى عربي بتعريب لسانه .. وناهيك أيضاً عن أنه ربما كان غالب أهل إسرائيل اليهود هم من فئة يهود الشرق (سفارديم) والذين يتحدث اكثرهم العربية كلغة أم، فهم من العرب .. فإذا دعونا إلى حق تاريخي عروبي في فلسطين لاختلط الأمر بينهم وبين اليهود، وبالتالي يتقلص الحق الإسلامي الذي ربما استعمله العروبيين كعامل تبريري مساعد في حربهم ضد اسرائيل وفق هذا المنطق في بضع اثار ومقدسات لا تحتل المرتبة التعبدية العليا للمسلمين بمثل ما يحتله الحرمين الشريفين.
إن الحق العروبي التاريخي المزعوم في فلسطين التي عليها الآن دولة إسرائيل هو سبب ختم جواز السفر السوداني (كل الأقطار عدا اسرائيل) وليس الإسلام هو ما منع ذلك .. إذ أن حرب 48 جاءت متأخرة عقب انهيار الخلافة الإسلامية بخمس وعشرين سنة، وكان الاعداد وقتها لثورة القومية العربية التي تحققت في عام 1952م .. لقد فتح المسلمون بلاد الدنيا حتى دان لهم ثلث العالم تحت راية واحدة عندما اسقطوا دعاوى القومية والعرقية والعنصرية ولم يلتفتوا للحقوق التاريخية، تلك الراية التي فقدها المسلمون تباعاً حتى سلموا آخر مفتاح فيها بعزل السلطان عبد الحميد، ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك وانما حسبنا أن نأخذ النتيجة الواقعية. إذن فقد عادت كل ولايات الخلافة الإسلامية لعظمى الى سابق عهدها كأمم وشعوب منفصلة بعضها عن بعض كدول ذات سيادة مستقلة .. فنحن المسلمون إذن من أخلينا مقاعدنا وفرطنا في رايتنا والأمة الواحدة الممتدة بكاملها وليس فقط أرض فلسطين عندما طالبنا بالحق التاريخي، فما المسوغ إذن أن نطالب الآن بجزء معين دون الكل؟ .. وحتى إن صح ذلك فالأولى بحق المطالبة هو الأندلس والقسطنطينية واسطنبول القديمة، ناهيك عن أننا كنا طوال الفترة الماضية لا نحارب دولة إسرائيل من أجل حق الإسلام بل لحق العروبة، والفرق كبير .. فلربما لو أننا حكمنا الإسلام في الوضع الراهن والذي ليس فيه مقاتلة مباشرة لحكم علينا بحكم الله في القرآن الكريم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فنحن الآن لسنا في مقام الفتح العسكري وإنما القدرة السياسية، وهذه الآية هي الدال على خارطة الفعل السياسي في ظرفنا الراهن في ظل الجنوح للسلم، وخاصة أن الفلسطينيين هم بدورهم قد رسموا حدود دولتهم باتفاق جزئي مع الكيان الصهيوني واعتراف غالبية دول الأمم المتحدة بها .. وأذكر في زيارة إلى سجن كوبر ضمن وفد اسرة القانون المدني بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في العام 1988م وقفت وزميل لي مع الفلسطينيين المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تفجير فندق الأكروبول في وسط الخرطوم، وقال لي احد المحكومين بأنهم نفذوا ذلك اعتراضاً على أي توفيق أوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب وقال لي نصاً - وكنت أحمل كراساً في يدي - (لو أن هذا الكراس لي وقبلت بإرادتي بأن اتنازل في وقت ما عن نصفه فهل سيحق لي المطالبة به كله مرة أخرى، كذلك هو موقفنا في فلسطين ولم نندم على ما فعلنا) .. كل هذه المواقف وغيرها قد ترتبت على النزاع بين خرافة الحق العروبي التاريخي في الأرض وبأيديولوجيا القومية العربية التي غرستها في المنطقة ثورة يوليو 52 في مصر وأيضاً خرافة الحق اليهودي التاريخي لبني إسرائيل فيها .. في حين أن كل ما هنالك أنها دولة أقيمت على أنقاض دولة ولنا حق التعامل معها ما لم يقم شرط المقاتلة وأن كان قد جنحوا هم للسلم حتى ولو كانوا أشد الناس عداوة لنا.. وأما عن جرائم ومذابح بني صهيون في حق الفلسطينيين في صبرا وشتلا وغزة ودير ياسين وغيرها فلن ننساها كحق جنائي خاص لفلسطين وحق عام للمسلمين كما لن ننسى مذبحة فض اعتصام القيادة العامة على أيدي بني جلدتنا وهو أشد سوءً من ذاك، ومثلها كانت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفيتنام، والآن بين أيدينا حرب الإبادة والتهجير في سوريا ومذابح مسلمي الروهينجا في ميانمار، والقائمة طويلة جداً.. فكلها بانتظار أخذ الحق بالقانون والعدالة الدولية دون أن يلغي ذلك استمرارية الدبلوماسية السياسية القائمة على العلاقات بين النظم وإدارة المصالح العامة للشعوب .. فإلى حين أن يأخذ القانون مجراه، وإلى حين أن نطهر بيتنا من الداخل أولاً بالقصاص العادل تظل السياسة والدبلوماسية تأخذ مجراها بما ينفع الناس مع أي دولة في الأرض. والله تعالى غالب على أمره.
 

حرب التقديس

حرب التقديس ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (ما جعل المؤرخون لا يفتأون من ذكر (كوبرنيكوس) ؟ وهل كان لهم أن يفعلوا لولا تمرده على قدسية مركزية اﻷرض التي باتت عند الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من تعاليم الدين ... ؟ ما الذي جعل مؤرخي الفلسفة الحديثة يؤرخون بدايتها بكتاب (ديكارت) (المقال في المنهج) ؟ أكان لذلك العصر أن يبدأ ب (ديكارت) لولا أنه – إبان شكه – قد رفض كل المعتقدات التي غبر بنو زمانه على تقديسها ؟ أي تطور كان من شأن أعراب الجاهلية إحداثه لو لم يكن قد قدر للمصطفى صل الله عليه وسلم أن يخلصهم من اﻷوثان التي أخلصوا في عبادتها ؟) هذه أسئلة عن حالة تقديس المقدس طرحها (نجيب الحصادي) في كتابه (جدلية اﻷنا – اﻵخر) .. وعلينا نحن اﻷن أن نطرح أسئلة جديدة ..
فلقد كان الطامحون إلى القبضة القابضة على شعوبهم يلعبون على هذا الوتر (تقديس المقدس) ، فإذا نطقوا على المنابر سكت عامة الناس .. فهل كل ما نطق به الطامحون هو الحق . لقد أعدم (سقراط) الاغريقي بشرب السم ﻷنه هتك التقديس المسلم به بعماء لدى أبناء مجتمعه ورهابنة معابدهم بكثرة سؤاله عن الحق والحقيقة، وقد كانت غايته أنك إن أرت أن تقدس شيئاً فقدسه بوعي وعلى اتجاه الحقيقة وليس بمحض ما تهوى نفسك .. وفي العصور الوسطى في أوروبا نصبت المشانق والمقاصل والمحارق والمسالخ وصناديق المسامير ﻷجل كل من خالف ليس الدين بل ما أراده كهنة الدين على مقولة (فرعون) اللعين (إن أريكم إلا ما أرى) .. وكذا الشيء في العهد العثماني للخلافة اﻹسلامية حيث كانت الخوازيق الثاقبة والمناشير ربما هي أهون أنواع العذاب هناك .. فهل كل هذا الويل الذي أذاقه البشر للبشر على مر التاريخ غيرة على المقدسات ورعاية لحرمتها أم أن هناك ما هو مختبئ وراء اﻷكمة ، فأنفس اﻷمارون بالقتل والتعذيب في كل العصور عطشى إلى السلطة وحظ الجاه والنفوذ على أقوامهم ، فباسم المقدس لديهم يقتلون وما يقتلون إلا لهوى أنفسهم ، ومن ورائهم كهنة المقدس يزينون لأعينهم سوء الفعال بأنه من رضى الرب وهم يحلمون بمجد الدنيا وعزها وليس مجد السماء ، فصاروا تماماً كمن جمع أهل الدار في حديقتهم جبراً ليلقي عليهم موعظة أخلاقية باسم ما يقدسون بغير وعي وهو يرسل رجاله خفية يدخلون إلى الدار من الفناء الخلفي لسرقة أموالهم .. فكذلك يحكم قاضي السلطان على اﻷسير لديه في الظاهر بجرم انتهاك حرمة التقديس وهو في قرارة نفسه يريد منعه من البلوغ إلى نفوذه أو منازعته سلطانه .. إن المشكلة حقيقة ليست في المقدس كما أنها ليست في التقديس فبغير التقديس للمقدس لا يعيش اﻹنسان سوياً مطمئناً ، وإنما المشكلة في طريقة التقديس والاتجاه فيه على العماء بغير بصر ولا بصيرة ولا استدلال راجح على حقائق اﻷمور في ظواهرها وبواطنها ، فيأتي من لا يرعى في الناس حرمة لدماء واعراض إلا من والاه ليحكم فيهم بزعم أنه أمر المقدس ولكنه في الحقيقة أمره هو .. فينبغي إذن أن ننظر إلى من يتحدث قبل أن ننظر فيما يتحدث . 
والسؤال اﻵن .. هل أعدم (الحلاج) بسبب الردة فعلاً ، أم لأنه قد صار تأثيره السياسي مداً طاغياً وكان لابد لأصحاب السلطة آنذاك الحد منه لذا كانت التهمة الدينية في الظاهر مجرد حيلة لقتله وسبباً كافياً أمام الناس بأنه قد تطاول على المقدس .. وفي الباطن ، قصدوا إلى إيقاف مده السياسي ولذلك قطعوه ومثلوا بجثته، فهل هذه هي طريقة الإسلام في الإعدام  ؟ .. وفي السودان يتحدث التاريخ القريب عن (حلاج) جديد .. وبرغم أننا والكثيرون لم نرضى منه يوماً ما استحدثه برأيه في أصول عقيدتنا اﻹسلامية ، إلا أننا كنا نعتبر أن هذا خاصته واتباعه من غير سوء على عموم الناس وليس لنا عليه إلا الحجة والبرهان بجانب لين المعاملة، فالضرر غير المتعدي خاصة صاحبه .. تماماً كما يزعم فلاسفة الصوفية أن اﻹنسان غير مؤاخذ بما يقول في (حال المحو) وإنما يحاسب فقط بأقواله في (حال الصحو) وقول (الحلاج) في السياسة كان في حال الصحو ولكنه أخذ بجريرة قوله في حال المحو .. وهذا هو (محمود محمد طه) حلاج بلادنا الجديد ، قتلوه في عهد الرئيس (النميري) فهل كانت قتلته ﻷجل الانتصار للعقيدة ولأنه مرتد حقيقة ، أم أنها ﻷجل شيء كان في نفس من قتلوه ؟ فمن هم الذين قتلوه؟                       
.. (محمود محمد طه) لم يرتد عن الدين لأنه كان يشهد حتى آخر لحظة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .. ولكن المطلع على فكره ربما يجده قد احدث ببعض مزاعمه خللا في بعض جوانب العقيدة لديه ولدى اتباعه ،  وهو في كل الاحوال قد يكون اهون كثيرا من حادثات الملحدين والدهريين والصوفية الشاطحين في العقيدة ورغم ذلك لم يتم اعلانهم مرتدين . هذا ناهيك عن التكفيريين والدواعش الذين يهدرون دماء المسلمين الأبرياء بعقيدة فاسدة .. فلماذا (محمود محمد طه) ؟ ولعل الاجابة بنحو ما يلي :
  1/ ان جعفر نميري لم يعلن تطبيق الشريعة في سبتمبر 1983م الا بعد اشراك عناصر الجبهة القومية الاسلامية في الأمر.
2/ المد السياسي الذي كان يقوده الحزب الجمهوري – وهو حزب سياسي في الأساس - بقيادة (محمود محمد طه) كان من أكبر المهددات بإزاحة الجبهة الاسلامية القومية عن المشهد السياسي آنذاك . ولذلك كان لابد من صياغة التهمة بحيث تكون مقنعة للرئيس (النميري) ومقنعة لعموم الشعب السوداني انها لسبب ديني صرف وليس سياسي ، ومن لم يقتنع كان عليه يلتزم الصمت كرهاً .
3/ شهد عصر إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية بقوانين سبتمبر تطبيقا منحرفا وخاطئا للشريعة الاسلامية بنحو تطبيق الكنيسة الكاثوليكية لشرائعها على المجتمع في عهود الظلام في أوروبا . مما يدل على أن الهدف لم يكن هو تحقيق الدين والحكم الراشد كما تم على عهد (عمر بن عبد العزيز) وانما الهدف هو التمكين السياسي بظاهر الدين وبجعل نصوص القانون متعسفة بغرض الردع العام والتخويف الشديد وفرق تسد وهو ما ينافي مقاصد التشريع الاسلامي العظيم في جوهرها ، فكانت الحدود بقطع الأيدي والأرجل من خلاف على أشدها في وقت بلغت فيه المجاعة في السودان واغلب أفريقيا حداً فتاكاً بمجتمعات بأكملها إلى الدرجة التي غنى معها العالم  (we are the world) حتى يجمعوا قدراً عظيماً من المال من اجل إغاثة من يموتون جوعاً في افريقيا ، وكان حرياً بقادة المسلمين أن يفعلوا .. ولكن على العكس ، لم يشفع الجوع لمن سرق في قطع يديه ، فلعل القضاة آنذاك ظنوا بأنفسهم العدل فوق عدل (عمر بن الخطاب) الذي عطل تطبيق الحدود في عام الرمادة . ولذلك لم يكن بمستغرب أن يتم القضاء على الخصومة السياسية مع (الجمهوريين) بإعدام زعيمهم بسبب ديني لا سواه .
وهكذا لم يقع الظلم والقهر باسم الشريعة الاسلامية على (محمود محمد طه) وعصبته فحسب حتى نقول بأنه الحق وأن الحق لا يتجزأ .. وانما وقع الظلم والقهر على بسطاء بلادي ، ولم يكن هذا إلا لأجل التمكين السياسي ، ودائماً يجيء التمكين السياسي مقروناً بالتعسف في تطبيق الأحكام والشرائع دون انزال كل حالة مقامها ، فما هو (ارتداد) ليس كما هو (الحاد) ليس كما هو (خرق في العقيدة مع الاحتفاظ بأصل الدين) . وليس ثمة حل لمقاومة حروب التقديس التي يشنها إما الساسة لمآربهم السلطوية وإما المتشددين المتعصبين لما يحسبونه قيمة شخصية لهم بغيرها لا معنى لحياتهم ، إلا بالوعي والتوعية بحقيقة الدين ومقاصده وانه لا مقدس إلا ما اراداه الله تعالى مقدساً .. فليس الحل في المروق من الدين جملة إذا ما عاث به وتحت اسمه الساسة فسادا وظلماً، وانما الحل بإقامة الحجة والبرهان عليهم بالعقيدة السليمة ورفض استغلال الناس بدافع تقديس المقدس .

اغريق السودان

اغريق السودان ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

عندما تتفتح ازهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات ، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. اثرى تاريخنا الانساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن ،  فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئا كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فان كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في احيائنا وقرانا ومدننا كما نحن نعيش فكانوا هم الانجليز واﻷرمن والاغريق واليهود واخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين ، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة واعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الانيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة احفاد (طاليس) و(ارسطو) من اليونانيين واجناس اخرى من عموم الاوروبيين ممن جلبتهم اقدارهم للحياة في السودان ، فصاروا جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي .. ولان (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولان الكثيرين من أبناء الجاليات الاجنبية كانوا يرتادون مكتبته ، فقد علم عن اخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان اعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن اصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الابناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه اشارات الى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين واهلنا الجنوبيين فلابد انه كان لهذا التفاعل الحضاري اثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية .. وصحيح أن اليونانيين كانوا هم امراء الاقتصاد السوداني في وقت ما وان من يدير عجلة الاقتصاد غالبا ما يدير معها حركة الثقافة ، الا اننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الاثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الاول في السودان ( كونتا ميخالوس) واسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الاحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الاثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الاخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. واذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من ابرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي ، وبعد وفاتهما آل امرها الى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءا من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. ان هناك من تسلط على تلك الاصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الايجار الى الدرجة التي تتجاوز بعيدا حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو انه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك اخاف ابناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث ان الشبهة في ذلك ان له ثمة علاقة وثيقة بجهاز امن النظام البائد ومعلوم ما كان من فساد هذا الجهاز .. لقد ترك اليونانيين ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو اقرب الى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك امسك اليونانيين عن بناء برج استثماري كان مخطط له على احدى املاكهم في وسط الخرطوم خوفا من ضياع حقوقهم في ظل نظام لم يرعى حرمة قانونية للناس وممتلكاتهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم الينا الى درجة انه كان منهم من يحضرون من اثينا الى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الامر سر اذ ان كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والاخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الارض وبلدانها .. وليس غريبا ان بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الاخير لنا عندما اضطر للرحيل الى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريبا .. وان كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى اخريات الثمانينات بكونه من اعظم القادة الذين اسسوا للكشافة السودانية تشهد عليه اراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فان (وليم الكسندر ميلر) الايرلندي كان له فضل علم غزير على اجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى اوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الاخير من العقد الاول للألفية الراهنة ، وهو ايضا ودع السودان ورحل باكيا ، وكثيرون امثالهم .. فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا  بحزة النفس والاسى لتركهم ذكريات اعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الادبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم واخبارهم .. ان استاذنا (الحاج محمد الامين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .

الاثنين، 20 يناير 2020

بذور الفناء

(صحيفة اليوم التالي ، السبت ، 28 ديسمبر 2019م)

بذرور الفناء ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي

(.. ولكن امثال هذه الماسي الانسانية لم تكن صالحة كل الصلاحية للبحث العلمي ، لان ضبطها ضبطا علميا دقيقا لم يكن من الميسور . فبعضها مثلا كان نتيجة لأخطاء المصابين انفسهم ، وبعضها كان يقبل اكثر من احتمال واحد . اما انهيار الجسر فانه تدبير الهي محض يقدم للباحث حقلا مثاليا للتجربة يمكنه من ان يكشف عن ارادة الله في صورتها الخالصة) (من رواية ، جسر سان لويس ري) .. هكذا كان الراهب (جونبر) بطل المأساة السردية مؤمنا في كل الاحوال ، فقد بحث ليكشف عن ارادة الله الخالصة في ان الموت والحياة تمضيان حسب ارادة الاهية  ولأننا لم نفسرها فنظن انها مصادفات ، او لكي يثبت ان الله قد اودع قوانين حياة وفناء جميع الكائنات في دواخلها على هيئة قانون طبيعي حتمي كل في زمانه ومكانه ، ولكنها على اية حال ارادة الله الخالصة ..
اما الانسان فقد شهد له التاريخ انه برع دوما في غرس بذرة الفناء في داخل اي منظومة ينشئها بيده وارادته ولكنه لم يفلح ان يغرس فيها حتمية الحياة (حتى اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) . وهذه البذرة للفناء في افعال الانسان تلخصت في عبارة واحدة (انه مغرور بثقته الزائدة والاطمئنان) .. فاذا كان هذا هو حال الانسان مع دنياه افلا يكون هكذا حاله من بعض من كل فيها .. لقد مات الفرعون جراء (الثقة الزائدة في انه الرب) وان له ملك مصر وان الانهار تجري من تحته ، فظن انه خائض البحر برجالة فادركه الغرق .. ولقد وثق اغريق اثينا القديمة في عهد الفلاسفة بانهم بلغوا عنان الفكر الانساني والحضارة العليا بفصلهم بين طبقات مجتمعهم فظل الفكر لديهم معلقا في طبقة الصفوة من الناس لا يطالهم شأن العبيد ، وحسبوا بذلك انهم يحافظون على مجدهم خالدا على الدهر ، فاغتروا بما وثقوا وكانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في الفكر) فراح في لحظة كل مجد اثينا وعظمتها وقبعوا منذ عهد المسيح الى وقتنا هذا في درك منظومة بلاد اوروبا الحديثة ولم تشفع لهم ان كانت مخطوطات (الانجيل) الاولى مدونة بلغتهم ..
وفي اوروبا العصور الوسطى المظلمة ، حين ظن اباطرة فرنسا وانجلترا وعموم اوروبا ان العهد باق ليس في الدين نفسه بل في المؤسسة الدينية هناك وبما احكمت به القبضة على القارة الشقراء ، فلا صوت للناس يعلو ولا فكر ولا فن فوق ارادة سلطة الكهنوت ، فكانت بذرة الفناء لسلطان هذه الارادة في (الثقة الزائدة في المؤسسة الكهنوتية) وغرورهم بان هذه الارادة هي منحة السماء خاصة لأصحابها المفوضين بالحق الالهي المطلق على العباد حتى اتاهم حتفهم من مأمنهم باشتعال الثورة الفرنسية فاتحة لعصر جديد تغيرت فيه كل عناصر التاريخ القديم .. وفي موسكو العظمى وثق الماركسيون السوفييت الثقة القاطعة في الطبيعة وان ما يجري فيها من حركة حتمية هي نفسها الصورة المثلى لما يلزم ان تجري عليه حتما حركة المجتمع فيأمنوا من غدر التحولات الاجتماعية العشوائية وانهم لا ريب سيبلغون الحقبة الشيوعية الى عهد لا نهائي ما دام المجتمع في عصمة الطبيعة ، فخزلتهم تلك العصمة وكانت بذرة فناء منظومتهم في (الثقة الزائدة في الطبيعة) حيث التفت عليهم بأسرارها وبما عبثت ايدي البشر فيها وبثورة الروح العارمة ضد فروض الطبيعة على قلوب الجماهير هناك فكانت النهاية بإسقاط العلم الاحمر وتحطيم تماثيل (لينين) و(ستالين) وبفك سور برلين الشهير الذي عزل انسان الشرق عن اخيه انسان الغرب في كل شيء .. ومن قبل ذلك كانت بذرة فناء النازية التي حكمت بالحديد والنار والابادة العرقية ، ولربما كنا الان في عهد الالف عام من النازية لولا ان (هتلر) وثق ثقة عمياء في دعايته العنصرية وقدرتها على غسيل ادمغة الالمان بان الجنس الاري لا يهزم ، فكانت بذرة فناء النازية في (الثقة الزائدة في الدعاية) وانها كفيلة بخلق الانسان السوبرمان في نفس الجندي الالماني الذي يتحرك بإرادة (هتلر) فانهارت كل هذه الدعاية امام جليد روسيا العاصف وتعليمات (هتلر) المترددة ..
والان ايضا ، كان انفراط احدى اكبر التنظيمات السياسية في العالم ، تنظيمات ما يسمى بالحركة الاسلامية او الاسلاميين ومنهم الاخوان المسلمين والجبهة الاسلامية القومية والمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في السودان .. وهكذا ، وأيا كانت الاشكال والصور التي اتخذوها لأنفسهم ، فلقد كانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في المرشد) إذ كانت شخصية (المرشد) هي العامل الحاسم وعمود الاساس في بناء التنظيم وتماسكه ، وان تربية اجيالهم الناشئة على يديه هي خير ضمان لحكمهم الارض بمن عليها وبما يتصورون انه حكم الى ما لا نهاية من الزمان فتوسعوا كثيرا وتمددوا كثيرا تحت شعارات الدين والعقيدة والولاء والبراء المطلق لحكم الله المتجسد في ارادة مرشدهم ورؤيته ومن حوله من رجال دولتهم ، وفي خضم التمكين السياسي لهم – كما في السودان - لم يحسبوا حسابا لمكر الله تعالى وظنوا انهم بشعاراتهم هذه قد امنوا جانبه وانه حتما معهم وناصرهم بيد فوق ايديهم فما ضرهم ما يفعلون من بعد ذلك ، فكان هذا هو الشراك الذي اوقعوا فيه انفسهم بحظ هذه النفس الانسانية من الامر بالسوء وحب المال والجاه ومتاع الدنيا ، فلما تملكوا المقاليد وانفتحت عليهم ابواب الدنيا بزينتها صاروا يسوغون كل افعالهم للباطل بغطاء من الدين بسوق الآيات والنصوص وفق مطالب السياسة والادارة وصناعة الفتوى اصطناعا لصالحهم ولو بكسر عنق الحقائق وانهم ما دام المرشد المربي فيهم وهم تحت غطائه فهم اذن امنون من تقلبات الاحوال وثورة الشعوب وغلبتهم عليهم وانهم الفيلة التي تطحن بتدافعها ارادة الشعوب تحت اقدامها فلا تقوم لهم بغيرهم قائمة ، ولكنهم لم يفطنوا – او انهم قد فطنوا ولكنهم استغشوا ثيابهم - الى ما دق بينهم من مسامير المصالح الشخصية والتطلعات للثراء تحت اي تبرير حتى استشرى الباطل بينهم كما السرطان في الجسد فهانت لديهم حرمات الدماء والاموال حتى دارت عليهم الدوائر فانهارت المنظومة بسقوط مرشديهم بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ، وتصدعت اركان (البناؤون الاسلاميين الاحرار) حين لم يحتمل الشعب فسادهم البين تحت (العين والفرجار والمثلث) فكانت الثورة امرا حتميا والا لمات الجميع ..
لقد ضاع (المرشد) وبضياعه انفرط عقد التنظيم وأجياله العديدة .. فليبقى اذن المرشد ضائعا وليبقى دين الله في قلوب الجماهير عزيزا مقدسا عن اباطيل نفر من الناس بتجارتهم وعبث اهوائهم .

بوليس السودان .. (عمودي سلاح)

(صحيفة اليوم التالي ، يناير 2020)
بوليس السودان .. (عمودي سلاح)
د. وائل أحمد خليل صالح الكرديwailahkhkordi@gmail.com

 (وكانت المرحومة امي تعجز عن ايقافي عند حد الرصانة التي تتمناها لغزالها ..فأخذت تخوفني بالعسكري ، اذا تجاوزت الحد في لعبي قالت : اهدأ يا (مارون) اقول للعسكري يأخذك . وان اعتديت على احد رفاقي ادبتني بقضيب دقيق وقالت : الحبس قدامك ، غدا يجيء العسكري .. كان رحمة الله عليها تصور لي العسكري وحشا ضاريا يفعل بالناس الأفاعيل ) ولكن بالحق .. هكذا عبر (مارون عبود) في روايته (فارس آغا) عن مكنون معنى الشرطي في انفسنا مذ كنا صغارا .. كان العسكري مهيبا لدى العامة .. خوفت به الامهات ابنائهن قديما ان جاءوا بخطأ او خرقوا حقا لغيرهم ، فالعسكري عندهم رمز الحماية للحقوق ورمز الردع والعقاب لكل من يخرج عن السلوك القويم ..وهنا ، لن اتحدث عمن يسيئون الي الشرطة في وطني السودان ، ولن اتحدث عمن يدافعون عنها ،ولن اتحدث عن ريادة شرطة السودان وتاريخها الطويل .. ولكن اجدني اتحدث عن قيم ومبادئ وواقع راهن لا مفر منه ولا نكران .. فمن ذا الذي للموت والفداء بقسم طوق به عنقه بيديه وبمحض ارادته .. من ذا الذي اوقع نفسه في حزمة من التقاليد العسكرية وسلسلة من الاوامر المستديمة كبل بها رجليه فصارت حركته الا بحساب محسوب عليه وخطو منتظم .. من ذا الذي القى بزهرة عمره منذ شبابه البكر وحتى الممات في المهنة الوحيدة التي يكون فيها قيد الخدمة لأربع وعشرين ساعة في الاربع وعشرين ساعة وكل ايام السنة الا استثناء .. من ذا الذي يظل يضرب الارض بقدمه حتى تهتز وهو لا ينطق بل كل حديثه انما بيان بالعمل .. من ذا الذي دعك بوجهه حصي وتراب ساحات التدريب مع دفعة له صاروا بسبب هذا الالم الجسيم اشد ربطا معا من اخوة اشقاء فتلك اخوة الكفاح والسلاح والتراب .. ان من يفعل بنفسه هذا اما مجنون فاقد للعقل والأهل ، واما انه صاحب رسالة عظمي تسيره على الاشواك والجمر الملتهب في سبيل الانسان وبعين يسحقها الغبار من طول السهر ومفاصل نخرها التعب من طول المكث واقفا لأجل راحة انسان البلد.. كل هذا ولا شكر له على واجبه الا بكلمة (مبروك) كلمة غالية لدى من جرت العسكرية في دمائه ، او بورقة صغيرة تحمل طيها ثناء مدير ، فأي قناعة تلك ..والسؤال الان ، ما الذي جعل الناس يحملون على شرطتهم ابان ثورة الشعب فيما بين صاد وراد ، بل وجعل الشرطة ينقمون يوما على انفسهم ؟ .. وليكن ما يلي شيء من الرد .. اولا/ جهاز الشرطة هو جهاز وطني بحت ملك للشعب وليس ملك لحكومة أيا ما كانت وأيا ما راحت الحكومات او جاءت ..  فهكذا الشرطة ما تكون الا فقط في مهنتها امام المواطنين ولأجلهم  حماية للناس وللحق العام وتنفيذا لإجراءات المواطنة السليمة وقياما على هيئات الخدمة التي تضمن للمواطن اخص حقوقه ، فالشرطة بذاك لا تكون فقط لأصحاب الطبنجة والمكافحة والقبض والتفتيش بل هي جهاز خدمي متكامل قائم بدوره سواء في السلم اوفي الحرابة بل وفي ايام الناس العادية له شأن بارز .. ولهذا لا يكن الشرطي سياسيا ولا داعية لنظام حزبي دون نظام ومن فعل فقد خان العهد والقانون . ثانيا/ الشرطة تتكون من بشر رجال ونساء هم في المبتدئ والمنتهى مواطنين شرفاء وبقدر عال في المواطنة المثالية والا لما سمح له في الالتحاق بالشرطة اصلا .. وبالتالي ، فان ضرب الفساد والتخريب جميع مكونات الوطن وتأثر به كل من القى السمع وهو شهيد تحت سماء الوطن ، فلا نتوقع ان تبقى الشرطة على طوق نجاة عن هذا اذ من المنطقي جدا ان يطالها عبث المفسدين .. ولكن تماما كما ان اكثر الناس في مؤسسات الشعب هم الشرفاء الانقياء فكذلك اكثر رجال الشرطة هم من الشرفاء المخلصين لواجب قسمهم ولكنهم فقط كنبي الله (موسى) الذي تربى في بيت الفرعون، ولا غرابة فالله تعالى قد قرر لنا سنته في خلقه ان الزبد هو ما يعلق ظاهرا ويطفوا امام النظار وان ما ينفع الناس فماكث في الارض ثابت اصله تحتها فلا يراه الا من تحرى ان يراه بقصد وفطنة ، فمن لم يرى غير الزبد في الشرطة فذلك لأنه لم يعتد ان يجاوز سطح البحر ليرى الدر في اعماقه كامن ولم يسائل الغواص عن صدفاته .. لذا يجب عندما ننتقد او ننحى باللوم على الشرطة ان نميز في هذا بين مؤسسة الشرطة وبين رجال الشرطة ، فالمؤسسة تظل ثابتة بتقاليدها وقوانينها واعرافها يتعاقب عليها المتعاقبون بينما رجالها متغيرون بين محسن ومسيء وقابض على الجمر ومفرط ، وليعلم كل من ادخل الى هذه المؤسسة من باب السياسة الحزبية ليمسك بعصا السلطة على رقاب العباد بظلم ويزرع الفتن فيهم انهم حتما ستلفظهم المؤسسة التي لا تقبل الا الولاء للوطن ان عاجلا او اجلا .ثالثا/ كل ما سلف في المقالة كان قولا موجها نحو المواطنين من غير الشرطة .. والقول الان هو للشرطة .. ان اكبر برهان على أهمية وظيفة الشرطة في المجتمع كضرورة لازمة بلزوم بقاء المجتمع نفسه هو ما هاجم به المواطنين الشرطة بانهم قد اخلوا مواقعهم وقت ان سفكت دماء الأبرياء ولو لم يكن المواطن يستشعر حقا دور الشرطة لمن نقم عليهم تقصيرا .. اذن ، ففي النقد اعتراف بالقيمة  ، وفي الاعتراض على الشرطة كأشخاص اعتراف بالشرطة كمعنى وضرورة .. فلا يهن ولا يحزن شرفاء الشرطة السودانية فان في هذا الكبد حافز معنوي كبير لمزيد من القبض على جمر اشغال الشرطة العظمى وان ادى ذلك الى التضحية بالحياة ، ويالها من سعادة ومتعة ان يقف صاحب القسم موقف التضحية بالنفس والحياة في سبيل الرسالة السامية .. ولا يجب ان ينسى رجل الشرطة انه من دخل الشرطة آكلا لعيش او لحظ من جاه وسلطان ومال وفير يصيبه فلينحسب الى مكان غيرها فليس في الشرطة هذا الذي يرجو ، بل ما ان فيها تعب وعين ساهرة لأجل ان يرتاح اخرون لا لأجل ان يرتاح هو .رابعا/ (كنداكة جات .. بوليس جرى)  وهذه بدورها حقيقة جازمة ، فالكنداكة حين تجيئ فان البوليس يجري ولكنه يجري نحوها ولأجلها نجدة وليس يجري عنها او منها نئيا .. وذاك الذي جرى عنها فقطعا هو ليس بوليس .. وكيف لا ، اولم نسمي الشرطة منذ ماضينا البعيد (بوليس النجدة) اي الذي يجري نحو الهدف بقوة وجسارة وليس يجري عنه .. هكذا تورد المفاهيم والمقولات الحق مواردها .لأجل كل هذا وزيادة .. لم ينكس سلاح الشرطة يوما ولن ينكس .. ولن يصدر الامر طويلا (جنبا سلاح) فسرعان من يبرز ليصيح (عمودي سلاح) .. والان ، خير للشعب برغم كل تحفظاته ومآخذه على الشرطة في موقف ما ان يلتف على الشرطة بقوة وعزم بدلا من ان يلتف عليه هو – اي الشعب – فصيل يذيقهم باس النار ومر العذاب ، فان الشرطة لها ان تسد مواقع غيرها ولا يسد موقعها غيرها .. ولسوف تتطهر في يوم قريب ..اخيرا، فان الشرطي يظل شرطيا سواء كان في الخدمة او خارجها ، فقسم الشرطي باق لا ينتهي بتاريخ صلاحية ، وقسم الشرطي حق لا يسقط بالتقادم ، فكن شرطيا يوما تكن شرطيا دوما . ولله الحمد .

الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

ثم ماذا بعد

ثم ماذا بعد..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد صدق (ميخائيل نعيمة) فيما قال (لو أن (كولومبوس) اكتشف اليوم عالماً جديداً لطار الخبر في لمحة الطرف من القطب إلى القطب ومن المشارق إلى المغارب. أما منذ أربعة قرون ونصف فاكتشاف أمريكا لم يدر به سكان أمريكا إلا بعد أعوام وأعوام. ناهيكم بسكان الهند والصين والجزر المنتشرة في عرض البحار.. لقد كانت الحوادث الجسام تمر باﻷرض من غير أن ندري بها في وقتها إلا القليل من ابناء اﻷرض، ولولا التاريخ الذي يدأب أبداً في وصل ماضينا بحاضرنا لما استطعنا أن نصور اﻹنسانية الماضية إلا أعضاء مفككة لا تربطها أعصاب واحدة في جسم واحد. ولكن التاريخ بربطه ما كان منا بما هو كائن يسهل علينا أن نرى الانسانية وفرة شعوبها وتعدد مساكنها قافلة واحدة تسير في طريق واحد إلى هدف واحد).. صدق (ميخائيل نعيمة) عندما قال (ما شهد العالم في كل ما شهد سيلاً جارفاً من الكلام كالذي يشهده اليوم... ما ذاك ﻷن العالم صام زماناً عن الكلام فراح يعوض عن صيامه بالثرثرة. فالعالم ما عرف الصمت يوماً من أيام حياته، ولكنه ما عرف كذلك مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل الكلام كالمرحلة التي هو فيها اليوم)..
ثم ماذا بعد أن كثر الكلام.. لم يعد اﻵن أوان البقاء على التاريخ بما أنجز في عمر البشرية، ولكن الان أوان أن يثمر التاريخ مستقبلاً.. وكما أن التاريخ هو رصد حقيقي لما كان، فللمستقبل ودراساته أن يكون رصداً حقيقياً لما يمكن أن يكون بإذن الله. وهذا رهين بفتح بوابات المعلومات على مصرعيها. ويبدو أن ما يتداوله الناس في واقع حياتهم بكل ما لها وما عليها هو أوسع حقل لصيد المعلومات في زرع الراهن من أجل ثمر المستقبل.. ولذلك ظهر ما نراه اليوم من اتجاه عقول العالم نحو تأسيس ما عرف بالدراسات المستقبلية حيث أن الاوان قد آن أن نستنطق التاريخ ليس من أجل معرفة الماضي فحسب بل لجعل الماضي زرع الحاضر وحصاد المستقبل.. وما يلزم في ذلك من ربط هذا المجال للدراسات بحقول المعلومات التي تمثلت في اتجاهات (الرأي العام) وضرورة استطلاع هذا الرأي العام لأجل رسم الطريق السليم لبناء وتوجيه الخطط المستقبلية. ولأن أصحاب هذا الرأي العام من أفراد وجماعات هم من سيكون بناء المستقبل ﻷجلهم. 
ولما كان لكل علم محاوره وقوالبه التي يصب فيها، فإن لعلم المستقبليات على ذات النحو محاور وقوالب، فهي على ما يلي:
أولاً – الاستطلاع – وهو جمع المعلومات من أجل الانطلاق من الحاضر المتعلق بأي حالة مجتمعية اقتصاديه أو سياسية أو ثقافية بإعطاء مؤشرات لما يمكن أن تصير إليه تلك الحالة في المستقبل القريب ومن ثم رصد التوقعات على ذلك ورسم التدابير العملية والاجراءات والوسائل والخطط الاستراتيجية المناسبة لتحقيق اﻷهداف المسقبلية المطلوبة.
ثانياً – الادارة والسيطرة – وهو ليس الاكتفاء بالعلم بالشيء والتحسب لما يمكن وقوعه سلباً أو ايجاباً، وإنما التوجيه نحو اعادة الصياغة أو الضبط التحكمي للواقع المستقبلي ما أمكن بنوع من الادارة للموارد والفرص والمصادر المتاحة بما من شأنه أن يحقق أعلى درجة من الاستثمار والفائدة العامة، وهذا ما يعرف (بإدارة المستقبل) والاعتماد في ذلك على العناصر التالية:
أ/ تحري وتحليل الرأي العام – القيام بذلك على الوضع الراهن مقروناً بالوضع في الماضي القريب.
ب/ التخطيط الاستراتيجي – باعتباره اﻵلية اﻷساسية في الضبط والادارة التحكمية.
ج/ البحث العلمي – بغرض التوثيق المعرفي للتطور في النظم والادارة من جهة، واستدعاء وحفظ المعلومات العلمية من جهة أخرى.
ثالثاً – التدريب – تكوين وتحفيز القدرات البشرية من أجل الاستغلال اﻷمثل لها بصدد استطلاع وإدارة أي واقع مستقبلي.
وفي اﻷخير، مازلنا منذ أن نلنا الحكم الذاتي في بلادنا نسأل لماذا نحن اﻵن دولة فقيرة نامية بينما اﻷرض من تحتنا تدفقت بالخيرات من كل نوع وتزاحمت ثرواتها.. لماذا نهضت دولة مثل ألمانيا بعد دمارها كاملة بنهاية الحرب وصارت الان برغم هذا دولة عظمى في الاقتصاد والرفاه الإنساني وهي موطن بلا موارد إلا البشر.. هذا لأن علماء المانيا وحكامها عبر التاريخ قد استثمروا بصورة أساسية في الانسان فلم يعد من الغريب أن أدارت النساء عجلات المصانع بلا مقابل أو حوافز حينما عز الرجال بموتهم في الحرب، ولذلك صنعوا مستقبلهم آنذاك الذي صار حاضرهم اليوم، والغد عندهم ينتظر المزيد..
أما نحن فقد اتجهنا نحو اﻷرض قبل الإنسان وجمدنا الحاضر والمستقبل لحساب الماضي وكتفينا باﻷحلام والوعود وحكمنا أنفسنا بمنطق المصالح الذاتية وليس مصالح الشعب الذي نحن منه.. فلن يجدي أن نثور على حكامنا دون أن نثور على أنفسنا.. ولم يعد يكفي أن نزيح الباطل عن كرسيه دون أن نزيل مدمرات عزائمنا في اﻷساس.. وليكن أمام كل كلمة حق معول تدق به يد إنسان قوي على ظهر اﻷرض الخيرة، فالمعول لوحده لن يدق ولو تراكمت عليه السنين تلو السنين.. ولنبقى معاً على العهد.

(براجماتيزم) السياسة الجديدة ..

(براجماتيزم) السياسة الجديدة..
   
د. وائل أحمد خليل الكردي
 wailahkhkordi@gmail.com
في البدء.. استغلت طائفة المعلمين السفسطائيين إغراق المجتمع الأثيني القديم في التجريدات والتمييز بين النظر الفكري والتأمل العقلي المجرد كسمة لازمة للسادة، وجعل النشاطات العملية اليدوية والأداتية  لمن هم دون السادة.. فعمدوا والحال هكذا إلى خلق الصراع الوجودي بين الانسان ومجتمعه وكل ما حوله من ثوابت ومتغيرات من خلال ادارتهم للسياقات اللفظية المحضة وتأليف المفارقات والمغالطات المنطقية التجريدية البعيدة عن حسم الواقع العملي لها بشكل نهائي.. فبالله، أي برنامج للعمل الايجابي يمكن أن يُبنى على مثل مقولتهم المشهورة (الإنسان هو مقياس كل شيء، الوجود واللاوجود.. وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعرف شيئاً على حقيقته، وحتى إذا صار وعرفنا شيئاً فإنه سيستحيل علينا نقله إلى غيرنا)؟.. ثم تلت العصور عصرهم ذاك، وفرضت الحاجات العملية نفسها على المجتمعات، فعرفنا اليوم أن فائدة ما فعل السفسطائيون جعْلنا ندرك قيمة أن يفضي القول إلى عمل وإلا فيكون قول معلق في الهواء بلا قيمة..
وعلى ذلك جاءت كلمة رئيس الحكومة الجديدة في السودان بأن الاقتصاد في العالم لم يعد يدار بفواصل أيديولوجية حاسمة وإنما برؤى برجماتية Pragmatism نوعاً ما.. ولعله كان المقصود ليس هو التبني الحرفي لتلك البراجماتية المذهبية التي صاغتها المدرسة اﻷمريكية في الفلسفة المعاصرة على يد (تشارلز ساندرس بيرس) و(وليام جيمس) و(جون ديوي).. وإنما المقصود هو الدلالة اﻷصلية لمصطلح Pragma في تحويل كل ما هو نظري تأملي إلى عمل فعلي ومشاريع للتنفيذ.. ولعل تلك الدلالة اﻷولية للمصطلح هي ما أخذ منها فعل التداول (براجماتكس) Pragmatics في مجال (علم العلامات) Semiotics وهو اﻷخذ والرد والتفاعل بين مرسل لرسالة ومستقبل لها داخل أي مجال من مجالات النشاط اﻹنساني.. ويمكن أن يتحقق فهم نوع البراجماتية هذا من خلال المحاور التالية:
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)  وقال (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
1/  النظم الفكرية (الايديولوجيات) قديما وحديثا كانت تضع تصورات كلية عامة تجاه كل شيء بغض النظر عن حاجة الناس لها.. فصارت البراجماتية وضع التصورات في حدود ما يحتاجه الناس في مجتمع معين .
2/ النظم الفكرية المختلفة كانت تفصل دائما بين ما هو نظري وما هو عملي، وأن نجاح ما هو نظري ليس بالضرورة مرتبطاً بنجاح ما هو عملي، وأن الفكرة قد تكون صحيحة جدا ولكن برامج العمل والتنفيذ الناتجة او المتولدة عنها قد تكون فاشلة  ولا يؤثر هذا الفشل على كون الفكرة على المستوى النظري صحيحة .. فهنا تقول البراجماتية بانه لا قيمة لأي فكرة نظرية اذا لم تثمر عملا أو أن تكون قابلة لأن تثمر عملاً، وبالتالي فالتأملات التجريدية لا معنى لها ما لم تتحقق في تطبيقات عملية، فكل فكرة يجب أن تكون مشروع عمل .
3/ فكرة البراجماتية تقول أن قيمة أي عمل هو ما يحققه من نتائج نافعة مثمرة، واي عمل لا يحقق فائدة ونجاح لأهدافه فهو عمل بلا قيمة أو مغذى ولا داعي له.
4/ معيار العمل الناجح في النظم الفكرية الفردانية مثل (الوجودية) هو تحقيق المنفعة الذاتية للفرد، ومعيار العمل الناجح في النظم الفكرية الجمعية مثل (الماركسية) هو تحقيق المنفعة للمجتمع الكبير بغض النظر عن منفعة الأفراد .. فجاءت البراجماتية لتوازن في نجاح أي عمل بين  المنفعة والفائدة الذاتية للأفراد والمنفعة العامة للمجتمع، وذلك بدراسة العوامل المشتركة بين كافة الأفراد في مجتمع معين بما يحدد الحاجات المشتركة بين الافراد لتشكل في مجموعها حاجات المجتمع.. ويختلف كل مجتمع عن الاخر في حاجاته بنحو ما يختلف في نوع وخصوصية العوامل المشتركة بين افراده عن غيره من المجتمعات.
5/ في البراجماتية لا يكون نجاح العمل مرهونا بالفوائد المادية فقط ، بل وايضا الفوائد المعنوية النفسية سواء بسواء.
6/ البراجماتية كمنهج أو طريقة للرؤية هي ..
فكرة = عمل
عمل = نتائج ناجحة
نتائج ناجحة = جلب مصلحة أو درء مفسدة
جلب مصلحة او درء مفسدة = ماديا ومعنويا ، فرديا واجتماعيا . 
بناء على كل ما تقدم فإن العالم المعاصر بحكم تطور الاكتشاف العلمي ومتغيرات الرؤية العلمية المعاصرة لم يعد يبحث عن تأسيس نظم مغلقة ﻹدارة مستقلة لمجالات الحياة على النحو الذي يجعل كل نظام ذا تحديد صارم يفصله عن النظم اﻷخرى، ولم يعد كل نظام يستمد مشروعيته فقط من خصوصية المجال الذي صمم لأجله هذا النظام.. فمثلاً عندما أتحدث عن التدريب العسكري ونظام الخدمة العسكرية وقوانينها، ينبغي علي أن أتخلص تماماً من كل ما يتعلق بالحياة المدنية ونظم الخدمة المدنية وقوانينها، بل ويأتي التمييز هنا حتى على مستوى التفاعل الاجتماعي، فهذا المثال يمكن أن تقاس عليه تلك النظرة القديمة.. أما اليوم، فلم تعد صورة العالم في أذهان العلماء والمفكرين وحتى اﻷدباء كما كانت في السابق، وأن فكرة النظم المستقلة لم تعد تلائم حقيقة الواقع الجديد، ولذلك اتجه البحث نحو مبدأ (تداخل النظم) وإزالة الجدر الثلجية بين نظام وآخر طالما أن العامل المشترك في اﻷخير هو اﻹنسان.. وطالما أيضاً أن الهوة الكبيرة بين اﻹنسان والكون باتت قريبة جداً، وعلى ذلك انطلقت دعاوى التكامل المعرفي بين العلوم وبعضها من جهة وبين العلوم وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى..
اﻷمر على هذا النحو يجعل الفشل الاقتصادي والسياسي لدولة غنية بثرواتها مثل السودان أمراً مبرراً فقد كان التعامل الاقتصادي فيها قبل ثورة الشعب في ديسمبر قائم باختيار البدائل بين النظم المدرسية للاقتصاد، فإذا تم تبني نظام ما يتم في نفس الوقت إسقاط البدائل اﻷخرى وهو ما جعل الساسة دائمي الارتطام بالواقع المتفاقم بأزمته، ومن ثم تحويل الشعب إلى حقل للتجارب الاقتصادية والسياسية.
أما اﻵن.. وللمستقبل.. ومن الانتقال من مرحلة اﻷزمة إلى مرحلة البناء والتطوير، يكون المطلوب هو الانتقال من حالة الانتماء للنظم إلى حالة اعتماد عامل (التخطيط) الذي هو مفهوم اكثر مرونة، وإحلال مصطلح (خطة) أو (برنامج) محل (نظام) System .. فالاعتماد على الخطة أو البرنامج بحسب مقتضيات الظرف المحلي يراعي تماماً مبدأ تداخل النظم أو اﻷنساق بمراعاة عوامل التميز والاختلاف بينهم.. هذا هو براجماتزم السياسة الجديدة.. ولعل اﻷمر يكون حميداً ويفتح الباب لمستقبل أفضل.   


الدفعة صفر ..

الدفعة صفر ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
علمنا يوماً أن الثعلب الجائع قد احتال على الغراب قبيح الصوت كي يغني لتسقط  من منقاره المفتوح قطعة الجبن الصغيرة المسروقة فيلتقمها .. فلا الغراب بغنائه أطرب ، ولا الثعلب بأكله الجبن قد شبع .. وكلاهما يعلم حقيقة نفسه من قبل أن يشرع فيما فعل .. وهناك طائر النعام يدفن رأسه في الرمال ليقنع نفسه أنه في أمان فلا ضير إن أكل الذئب كل الجسد ما دام قد أبقى الرأس في الرمال ..
الدفعة صفر .. هم الذين أوهموا أنفسهم بأن التمكين لمن أتى بهم سوف يجعل صوت الغراب عذباً في اذان سامعيه .. وأن سادتهم الكبار هم الذين منوا النفس بحظوة مشبعة من المال إذا ما احتالوا على الدفعة صفر واحتالوا بهم ..
وتبدأ القصة في الماضي ، بأن قال ، فيما يحكى ، أحد قادة الحقبة المظلمة عند تخريج ضباط الدفعة صفر (من هاهنا تبدأ الشرطة) .. فكان ذلك العدد صفر الذي يؤسس لما تلاه من عهد جديد في الشرطة أطفئ فيه النور على مجد تليد ، ولكأنما الشرطة قبل هذا الصفر لم يكن لها تاريخ عريق ولكأنما قد ضاع ما صار بها على ذروة الريادة للشرطة في أفريقيا وبلاد العرب بما كان لها من أعراف وتقاليد راسخة وعقيدة مهنية لدى رجالها لا تلين في منع ومكافحة الجريمة وتنظيم شؤون الوطن والمواطنين (حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم) قسماً أدوه لله تعالى وعهداً قاطعاً على ضمائرهم ، فكانوا بذلك ما كانوا دفعة تلو دفعة تتخرج من كلية الشرطة، وكذلك من كلية السجون تلك النجمة البارزة في سماء أفريقيا والعالم العربي .. وبعد الدفعة صفر ، لم يعد قسم الولاء لله في العمل بقانون الشرطة وواجباتها خالصاً لله ثم الوطن كما كان بلا تمكين لحزب وبلا حماية لنظام وبلا دفاع عن رئيس .. ولم يعد العهد المهني للشرطة في منع الجريمة وخدمة الناس هو أولى اﻷولويات وهو أوجب الواجبات ، إلا أن صار اﻷمر بعدهم هو الدعم السياسي للنظام الحاكم للدولة ، وليصبح الهم اﻷساسي هو جباية المال من المواطن والدفع به إلى ما ليس من الشرطة ورسالتها في شيء ، فدارت حولها أسئلة قاسية إجاباتها إن صحت ، ولتصبح الدفعة صفر هي العنوان واللافتة البارزة لحقبة الثلاثين سنة من ضياع الشرطة وقهر رجالها ..
فهل كان أن صارت أقسام الشرطة رغم مال الشرطة الوفير جحوراً ضيقة لا طائل معها في منع كثير من الجرائم وهي الوحدات اﻷساسية في ذلك ؟ .. هل صار رجال الشرطة ضباطاً وأفراداً هم أفقر عناصر العمل الرسمي في الدولة واضعف حلقاتها وارثاهم حالاً بعدما اختزلت أسباب رفاهيتهم وعزة نفسهم ونقاء سريرتهم ويدهم في حزمة من المباني المترفة والعالية لا يسكنها إلا من نفض يده من شدائد المهنة من أصحاب الرتب العليا والذين تباعدت الشقة بينهم وبين جنودهم فأفقدت أولئك الجنود كل ولاء وبراء .. ثم لانزال نعود نتساءل عن أسباب الرشوة والفساد ؟ .. هل صار مبدأ التمكين بجهاد كاذب ذا الصفة الحزبية الصارخة هو الهم اﻷكبر ﻷصحاب الدفعة صفر فباتو يكتسحون بطغيان وكيد كل ما أمامهم وصولاً إلى مفاصل السلطة واﻹدارة والمال في الشرطة ، فصارت الادارة ظلماً وصار المال إلى الجيوب الخاصة واﻷملاك العريضة ؟ .. هل بلغت معدلات الفصل التعسفي تحت مادة بقاء أطول فترة في الرتبة درجة وبائية لكل من لم يثبت ولائه للتنظيم الحاكم والتشريد لهم باسم الصالح العام ، أليس كان هذا مصير كل من علا صوته بكلمة الحق فصدح به أمام سلطان قائده الجائر أو حتى انصرف تماماً إلى أداء واجبه المهني الصرف بحق القسم الذي لله في عنقه ؟ .. هل كان من الحق والعدل والوطنية أن يأتي التنظيم الحاكم بوزير داخلية وهو يحمل جنسية وانتماءً وأصلاً لبلد آخر ، برغم ما هو من المعلوم بالضرورة أن وزارة الداخلية هي مستودع لهوية الوطن ولخصوصية كل مواطن في البلاد وكل أسرار المجتمع ، فكيف وضعت في يد من حامت حوله الشبهات بأنه ليس من عين أهل البلاد ، وكيف له هو أن يكون أميناً على وطن ليس وطنه ؟ .. هل حرص النظام الحاكم أن يوسد أمر الشرطة إلى من هو أقل خبرة في المهنة ومقتضياتها من أدنى ضابط فيها أو ضابط صف ليكون مديراً عاماً عليها . وهل كان هذا التولي لمن لا يستحق مسوغاً منطقياً كافياً له أن ينصرف إلى جباية كل موارد الشرطة وصبها بالمليارات الممليرة في أبراج عالية من حجارة وأسمنت ، ولكأنما أدخل يده في جيب كل فرد في الشرطة حتى أبسط جندي فيها وأخرج من قوت يومه ليطلي به جدران مبانيه الاسمنتية وترك أولئك المساكين يعاني الواحد منهم قسوة الفقر وانكشاف عورات بيته ؟ أفبعد هذا نطالب رجال الشرطة بأن لا تغلي قدور الغبن بدمائهم في صدورهم إلى درجة أن يقع الكثيرون منهم طي الظلم فيخرجوا مضربين عن العمل ، وما أدراك بخراب الديار إن أضرب الشرطة يوماً أو حتى بعض يوم ؟ .. هل اختلط الحابل بالنابل بكثرة المليشيات التي باتت تعمل عمل الشرطة وتغولت على مهامها بصنع النظام لها امام مرأى ومسمع قيادات الشرطة..
لقد كان في الشرطة قبيل الدفعة صفر رجال عشقوا رسالتها تجرداً عن كل هوىً ودون سؤال عن كم وكيف ومتى ، فدققوا في كل شيء بحنكة ومهارة ونكران ذات بدأً من فتح دفتر البلاغات والتحري فيها وانتهاءً باستقبال الموت في كل لحظة فداء للوطن وحماية لروح المواطن الغالية ، فانعكس ذلك حتى على ضبط الهندام الكاكي أخضر اللون الداكن بعلاماته وشد (القاش) الغليظ على الوسط والالتزام بحذاء الخمسة رباط اللامع أو (البوت) العسكري المهيب ، والضبط والربط والانضباط العالي في ميدان التدريب وميدان العمل سواء ، وعدم خفض التحية للقادة إلا مع الخطوة السادسة في السير ..
فهذه إذن دعوة جادة لفتح الملفات وإعداد فرق المراجعة المالية والعقارية والتفتيش القانوني العام على كل المخالفات الادارية والاجرائية ، وتنزيل قانون محاسبة الثراء الحرام على كل إدارات ووحدات وهيئات الشرطة .. ولكي تتم الاجابة عن اﻷسئلة إما بإثبات وإما بنفي ، حتى يُنصف الشرفاء من رجال الشرطة الذين قبضوا على الجمر طويلاً ومازالوا قابضين ، وحتى يجازى كل من أكتسب فيها بظلم .. والقول هنا هو فحسب قطرة في أول الغيث ، ثم لا يبقى إلا أن ينهمر .