الكنديون يقرعون الطبل الأفريقي..
وائل الكردي
لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به..
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي).. فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.
وائل الكردي
لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به..
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي).. فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.