الاثنين، 20 يناير 2020

بوليس السودان .. (عمودي سلاح)

(صحيفة اليوم التالي ، يناير 2020)
بوليس السودان .. (عمودي سلاح)
د. وائل أحمد خليل صالح الكرديwailahkhkordi@gmail.com

 (وكانت المرحومة امي تعجز عن ايقافي عند حد الرصانة التي تتمناها لغزالها ..فأخذت تخوفني بالعسكري ، اذا تجاوزت الحد في لعبي قالت : اهدأ يا (مارون) اقول للعسكري يأخذك . وان اعتديت على احد رفاقي ادبتني بقضيب دقيق وقالت : الحبس قدامك ، غدا يجيء العسكري .. كان رحمة الله عليها تصور لي العسكري وحشا ضاريا يفعل بالناس الأفاعيل ) ولكن بالحق .. هكذا عبر (مارون عبود) في روايته (فارس آغا) عن مكنون معنى الشرطي في انفسنا مذ كنا صغارا .. كان العسكري مهيبا لدى العامة .. خوفت به الامهات ابنائهن قديما ان جاءوا بخطأ او خرقوا حقا لغيرهم ، فالعسكري عندهم رمز الحماية للحقوق ورمز الردع والعقاب لكل من يخرج عن السلوك القويم ..وهنا ، لن اتحدث عمن يسيئون الي الشرطة في وطني السودان ، ولن اتحدث عمن يدافعون عنها ،ولن اتحدث عن ريادة شرطة السودان وتاريخها الطويل .. ولكن اجدني اتحدث عن قيم ومبادئ وواقع راهن لا مفر منه ولا نكران .. فمن ذا الذي للموت والفداء بقسم طوق به عنقه بيديه وبمحض ارادته .. من ذا الذي اوقع نفسه في حزمة من التقاليد العسكرية وسلسلة من الاوامر المستديمة كبل بها رجليه فصارت حركته الا بحساب محسوب عليه وخطو منتظم .. من ذا الذي القى بزهرة عمره منذ شبابه البكر وحتى الممات في المهنة الوحيدة التي يكون فيها قيد الخدمة لأربع وعشرين ساعة في الاربع وعشرين ساعة وكل ايام السنة الا استثناء .. من ذا الذي يظل يضرب الارض بقدمه حتى تهتز وهو لا ينطق بل كل حديثه انما بيان بالعمل .. من ذا الذي دعك بوجهه حصي وتراب ساحات التدريب مع دفعة له صاروا بسبب هذا الالم الجسيم اشد ربطا معا من اخوة اشقاء فتلك اخوة الكفاح والسلاح والتراب .. ان من يفعل بنفسه هذا اما مجنون فاقد للعقل والأهل ، واما انه صاحب رسالة عظمي تسيره على الاشواك والجمر الملتهب في سبيل الانسان وبعين يسحقها الغبار من طول السهر ومفاصل نخرها التعب من طول المكث واقفا لأجل راحة انسان البلد.. كل هذا ولا شكر له على واجبه الا بكلمة (مبروك) كلمة غالية لدى من جرت العسكرية في دمائه ، او بورقة صغيرة تحمل طيها ثناء مدير ، فأي قناعة تلك ..والسؤال الان ، ما الذي جعل الناس يحملون على شرطتهم ابان ثورة الشعب فيما بين صاد وراد ، بل وجعل الشرطة ينقمون يوما على انفسهم ؟ .. وليكن ما يلي شيء من الرد .. اولا/ جهاز الشرطة هو جهاز وطني بحت ملك للشعب وليس ملك لحكومة أيا ما كانت وأيا ما راحت الحكومات او جاءت ..  فهكذا الشرطة ما تكون الا فقط في مهنتها امام المواطنين ولأجلهم  حماية للناس وللحق العام وتنفيذا لإجراءات المواطنة السليمة وقياما على هيئات الخدمة التي تضمن للمواطن اخص حقوقه ، فالشرطة بذاك لا تكون فقط لأصحاب الطبنجة والمكافحة والقبض والتفتيش بل هي جهاز خدمي متكامل قائم بدوره سواء في السلم اوفي الحرابة بل وفي ايام الناس العادية له شأن بارز .. ولهذا لا يكن الشرطي سياسيا ولا داعية لنظام حزبي دون نظام ومن فعل فقد خان العهد والقانون . ثانيا/ الشرطة تتكون من بشر رجال ونساء هم في المبتدئ والمنتهى مواطنين شرفاء وبقدر عال في المواطنة المثالية والا لما سمح له في الالتحاق بالشرطة اصلا .. وبالتالي ، فان ضرب الفساد والتخريب جميع مكونات الوطن وتأثر به كل من القى السمع وهو شهيد تحت سماء الوطن ، فلا نتوقع ان تبقى الشرطة على طوق نجاة عن هذا اذ من المنطقي جدا ان يطالها عبث المفسدين .. ولكن تماما كما ان اكثر الناس في مؤسسات الشعب هم الشرفاء الانقياء فكذلك اكثر رجال الشرطة هم من الشرفاء المخلصين لواجب قسمهم ولكنهم فقط كنبي الله (موسى) الذي تربى في بيت الفرعون، ولا غرابة فالله تعالى قد قرر لنا سنته في خلقه ان الزبد هو ما يعلق ظاهرا ويطفوا امام النظار وان ما ينفع الناس فماكث في الارض ثابت اصله تحتها فلا يراه الا من تحرى ان يراه بقصد وفطنة ، فمن لم يرى غير الزبد في الشرطة فذلك لأنه لم يعتد ان يجاوز سطح البحر ليرى الدر في اعماقه كامن ولم يسائل الغواص عن صدفاته .. لذا يجب عندما ننتقد او ننحى باللوم على الشرطة ان نميز في هذا بين مؤسسة الشرطة وبين رجال الشرطة ، فالمؤسسة تظل ثابتة بتقاليدها وقوانينها واعرافها يتعاقب عليها المتعاقبون بينما رجالها متغيرون بين محسن ومسيء وقابض على الجمر ومفرط ، وليعلم كل من ادخل الى هذه المؤسسة من باب السياسة الحزبية ليمسك بعصا السلطة على رقاب العباد بظلم ويزرع الفتن فيهم انهم حتما ستلفظهم المؤسسة التي لا تقبل الا الولاء للوطن ان عاجلا او اجلا .ثالثا/ كل ما سلف في المقالة كان قولا موجها نحو المواطنين من غير الشرطة .. والقول الان هو للشرطة .. ان اكبر برهان على أهمية وظيفة الشرطة في المجتمع كضرورة لازمة بلزوم بقاء المجتمع نفسه هو ما هاجم به المواطنين الشرطة بانهم قد اخلوا مواقعهم وقت ان سفكت دماء الأبرياء ولو لم يكن المواطن يستشعر حقا دور الشرطة لمن نقم عليهم تقصيرا .. اذن ، ففي النقد اعتراف بالقيمة  ، وفي الاعتراض على الشرطة كأشخاص اعتراف بالشرطة كمعنى وضرورة .. فلا يهن ولا يحزن شرفاء الشرطة السودانية فان في هذا الكبد حافز معنوي كبير لمزيد من القبض على جمر اشغال الشرطة العظمى وان ادى ذلك الى التضحية بالحياة ، ويالها من سعادة ومتعة ان يقف صاحب القسم موقف التضحية بالنفس والحياة في سبيل الرسالة السامية .. ولا يجب ان ينسى رجل الشرطة انه من دخل الشرطة آكلا لعيش او لحظ من جاه وسلطان ومال وفير يصيبه فلينحسب الى مكان غيرها فليس في الشرطة هذا الذي يرجو ، بل ما ان فيها تعب وعين ساهرة لأجل ان يرتاح اخرون لا لأجل ان يرتاح هو .رابعا/ (كنداكة جات .. بوليس جرى)  وهذه بدورها حقيقة جازمة ، فالكنداكة حين تجيئ فان البوليس يجري ولكنه يجري نحوها ولأجلها نجدة وليس يجري عنها او منها نئيا .. وذاك الذي جرى عنها فقطعا هو ليس بوليس .. وكيف لا ، اولم نسمي الشرطة منذ ماضينا البعيد (بوليس النجدة) اي الذي يجري نحو الهدف بقوة وجسارة وليس يجري عنه .. هكذا تورد المفاهيم والمقولات الحق مواردها .لأجل كل هذا وزيادة .. لم ينكس سلاح الشرطة يوما ولن ينكس .. ولن يصدر الامر طويلا (جنبا سلاح) فسرعان من يبرز ليصيح (عمودي سلاح) .. والان ، خير للشعب برغم كل تحفظاته ومآخذه على الشرطة في موقف ما ان يلتف على الشرطة بقوة وعزم بدلا من ان يلتف عليه هو – اي الشعب – فصيل يذيقهم باس النار ومر العذاب ، فان الشرطة لها ان تسد مواقع غيرها ولا يسد موقعها غيرها .. ولسوف تتطهر في يوم قريب ..اخيرا، فان الشرطي يظل شرطيا سواء كان في الخدمة او خارجها ، فقسم الشرطي باق لا ينتهي بتاريخ صلاحية ، وقسم الشرطي حق لا يسقط بالتقادم ، فكن شرطيا يوما تكن شرطيا دوما . ولله الحمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق