الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

الدفعة صفر ..

الدفعة صفر ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
علمنا يوماً أن الثعلب الجائع قد احتال على الغراب قبيح الصوت كي يغني لتسقط  من منقاره المفتوح قطعة الجبن الصغيرة المسروقة فيلتقمها .. فلا الغراب بغنائه أطرب ، ولا الثعلب بأكله الجبن قد شبع .. وكلاهما يعلم حقيقة نفسه من قبل أن يشرع فيما فعل .. وهناك طائر النعام يدفن رأسه في الرمال ليقنع نفسه أنه في أمان فلا ضير إن أكل الذئب كل الجسد ما دام قد أبقى الرأس في الرمال ..
الدفعة صفر .. هم الذين أوهموا أنفسهم بأن التمكين لمن أتى بهم سوف يجعل صوت الغراب عذباً في اذان سامعيه .. وأن سادتهم الكبار هم الذين منوا النفس بحظوة مشبعة من المال إذا ما احتالوا على الدفعة صفر واحتالوا بهم ..
وتبدأ القصة في الماضي ، بأن قال ، فيما يحكى ، أحد قادة الحقبة المظلمة عند تخريج ضباط الدفعة صفر (من هاهنا تبدأ الشرطة) .. فكان ذلك العدد صفر الذي يؤسس لما تلاه من عهد جديد في الشرطة أطفئ فيه النور على مجد تليد ، ولكأنما الشرطة قبل هذا الصفر لم يكن لها تاريخ عريق ولكأنما قد ضاع ما صار بها على ذروة الريادة للشرطة في أفريقيا وبلاد العرب بما كان لها من أعراف وتقاليد راسخة وعقيدة مهنية لدى رجالها لا تلين في منع ومكافحة الجريمة وتنظيم شؤون الوطن والمواطنين (حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم) قسماً أدوه لله تعالى وعهداً قاطعاً على ضمائرهم ، فكانوا بذلك ما كانوا دفعة تلو دفعة تتخرج من كلية الشرطة، وكذلك من كلية السجون تلك النجمة البارزة في سماء أفريقيا والعالم العربي .. وبعد الدفعة صفر ، لم يعد قسم الولاء لله في العمل بقانون الشرطة وواجباتها خالصاً لله ثم الوطن كما كان بلا تمكين لحزب وبلا حماية لنظام وبلا دفاع عن رئيس .. ولم يعد العهد المهني للشرطة في منع الجريمة وخدمة الناس هو أولى اﻷولويات وهو أوجب الواجبات ، إلا أن صار اﻷمر بعدهم هو الدعم السياسي للنظام الحاكم للدولة ، وليصبح الهم اﻷساسي هو جباية المال من المواطن والدفع به إلى ما ليس من الشرطة ورسالتها في شيء ، فدارت حولها أسئلة قاسية إجاباتها إن صحت ، ولتصبح الدفعة صفر هي العنوان واللافتة البارزة لحقبة الثلاثين سنة من ضياع الشرطة وقهر رجالها ..
فهل كان أن صارت أقسام الشرطة رغم مال الشرطة الوفير جحوراً ضيقة لا طائل معها في منع كثير من الجرائم وهي الوحدات اﻷساسية في ذلك ؟ .. هل صار رجال الشرطة ضباطاً وأفراداً هم أفقر عناصر العمل الرسمي في الدولة واضعف حلقاتها وارثاهم حالاً بعدما اختزلت أسباب رفاهيتهم وعزة نفسهم ونقاء سريرتهم ويدهم في حزمة من المباني المترفة والعالية لا يسكنها إلا من نفض يده من شدائد المهنة من أصحاب الرتب العليا والذين تباعدت الشقة بينهم وبين جنودهم فأفقدت أولئك الجنود كل ولاء وبراء .. ثم لانزال نعود نتساءل عن أسباب الرشوة والفساد ؟ .. هل صار مبدأ التمكين بجهاد كاذب ذا الصفة الحزبية الصارخة هو الهم اﻷكبر ﻷصحاب الدفعة صفر فباتو يكتسحون بطغيان وكيد كل ما أمامهم وصولاً إلى مفاصل السلطة واﻹدارة والمال في الشرطة ، فصارت الادارة ظلماً وصار المال إلى الجيوب الخاصة واﻷملاك العريضة ؟ .. هل بلغت معدلات الفصل التعسفي تحت مادة بقاء أطول فترة في الرتبة درجة وبائية لكل من لم يثبت ولائه للتنظيم الحاكم والتشريد لهم باسم الصالح العام ، أليس كان هذا مصير كل من علا صوته بكلمة الحق فصدح به أمام سلطان قائده الجائر أو حتى انصرف تماماً إلى أداء واجبه المهني الصرف بحق القسم الذي لله في عنقه ؟ .. هل كان من الحق والعدل والوطنية أن يأتي التنظيم الحاكم بوزير داخلية وهو يحمل جنسية وانتماءً وأصلاً لبلد آخر ، برغم ما هو من المعلوم بالضرورة أن وزارة الداخلية هي مستودع لهوية الوطن ولخصوصية كل مواطن في البلاد وكل أسرار المجتمع ، فكيف وضعت في يد من حامت حوله الشبهات بأنه ليس من عين أهل البلاد ، وكيف له هو أن يكون أميناً على وطن ليس وطنه ؟ .. هل حرص النظام الحاكم أن يوسد أمر الشرطة إلى من هو أقل خبرة في المهنة ومقتضياتها من أدنى ضابط فيها أو ضابط صف ليكون مديراً عاماً عليها . وهل كان هذا التولي لمن لا يستحق مسوغاً منطقياً كافياً له أن ينصرف إلى جباية كل موارد الشرطة وصبها بالمليارات الممليرة في أبراج عالية من حجارة وأسمنت ، ولكأنما أدخل يده في جيب كل فرد في الشرطة حتى أبسط جندي فيها وأخرج من قوت يومه ليطلي به جدران مبانيه الاسمنتية وترك أولئك المساكين يعاني الواحد منهم قسوة الفقر وانكشاف عورات بيته ؟ أفبعد هذا نطالب رجال الشرطة بأن لا تغلي قدور الغبن بدمائهم في صدورهم إلى درجة أن يقع الكثيرون منهم طي الظلم فيخرجوا مضربين عن العمل ، وما أدراك بخراب الديار إن أضرب الشرطة يوماً أو حتى بعض يوم ؟ .. هل اختلط الحابل بالنابل بكثرة المليشيات التي باتت تعمل عمل الشرطة وتغولت على مهامها بصنع النظام لها امام مرأى ومسمع قيادات الشرطة..
لقد كان في الشرطة قبيل الدفعة صفر رجال عشقوا رسالتها تجرداً عن كل هوىً ودون سؤال عن كم وكيف ومتى ، فدققوا في كل شيء بحنكة ومهارة ونكران ذات بدأً من فتح دفتر البلاغات والتحري فيها وانتهاءً باستقبال الموت في كل لحظة فداء للوطن وحماية لروح المواطن الغالية ، فانعكس ذلك حتى على ضبط الهندام الكاكي أخضر اللون الداكن بعلاماته وشد (القاش) الغليظ على الوسط والالتزام بحذاء الخمسة رباط اللامع أو (البوت) العسكري المهيب ، والضبط والربط والانضباط العالي في ميدان التدريب وميدان العمل سواء ، وعدم خفض التحية للقادة إلا مع الخطوة السادسة في السير ..
فهذه إذن دعوة جادة لفتح الملفات وإعداد فرق المراجعة المالية والعقارية والتفتيش القانوني العام على كل المخالفات الادارية والاجرائية ، وتنزيل قانون محاسبة الثراء الحرام على كل إدارات ووحدات وهيئات الشرطة .. ولكي تتم الاجابة عن اﻷسئلة إما بإثبات وإما بنفي ، حتى يُنصف الشرفاء من رجال الشرطة الذين قبضوا على الجمر طويلاً ومازالوا قابضين ، وحتى يجازى كل من أكتسب فيها بظلم .. والقول هنا هو فحسب قطرة في أول الغيث ، ثم لا يبقى إلا أن ينهمر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق