(صحيفة اليوم التالي ، السبت ، 28 ديسمبر 2019م)
بذرور الفناء ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
(.. ولكن امثال هذه الماسي الانسانية لم تكن صالحة كل الصلاحية للبحث العلمي ، لان ضبطها ضبطا علميا دقيقا لم يكن من الميسور . فبعضها مثلا كان نتيجة لأخطاء المصابين انفسهم ، وبعضها كان يقبل اكثر من احتمال واحد . اما انهيار الجسر فانه تدبير الهي محض يقدم للباحث حقلا مثاليا للتجربة يمكنه من ان يكشف عن ارادة الله في صورتها الخالصة) (من رواية ، جسر سان لويس ري) .. هكذا كان الراهب (جونبر) بطل المأساة السردية مؤمنا في كل الاحوال ، فقد بحث ليكشف عن ارادة الله الخالصة في ان الموت والحياة تمضيان حسب ارادة الاهية ولأننا لم نفسرها فنظن انها مصادفات ، او لكي يثبت ان الله قد اودع قوانين حياة وفناء جميع الكائنات في دواخلها على هيئة قانون طبيعي حتمي كل في زمانه ومكانه ، ولكنها على اية حال ارادة الله الخالصة ..
اما الانسان فقد شهد له التاريخ انه برع دوما في غرس بذرة الفناء في داخل اي منظومة ينشئها بيده وارادته ولكنه لم يفلح ان يغرس فيها حتمية الحياة (حتى اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) . وهذه البذرة للفناء في افعال الانسان تلخصت في عبارة واحدة (انه مغرور بثقته الزائدة والاطمئنان) .. فاذا كان هذا هو حال الانسان مع دنياه افلا يكون هكذا حاله من بعض من كل فيها .. لقد مات الفرعون جراء (الثقة الزائدة في انه الرب) وان له ملك مصر وان الانهار تجري من تحته ، فظن انه خائض البحر برجالة فادركه الغرق .. ولقد وثق اغريق اثينا القديمة في عهد الفلاسفة بانهم بلغوا عنان الفكر الانساني والحضارة العليا بفصلهم بين طبقات مجتمعهم فظل الفكر لديهم معلقا في طبقة الصفوة من الناس لا يطالهم شأن العبيد ، وحسبوا بذلك انهم يحافظون على مجدهم خالدا على الدهر ، فاغتروا بما وثقوا وكانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في الفكر) فراح في لحظة كل مجد اثينا وعظمتها وقبعوا منذ عهد المسيح الى وقتنا هذا في درك منظومة بلاد اوروبا الحديثة ولم تشفع لهم ان كانت مخطوطات (الانجيل) الاولى مدونة بلغتهم ..
وفي اوروبا العصور الوسطى المظلمة ، حين ظن اباطرة فرنسا وانجلترا وعموم اوروبا ان العهد باق ليس في الدين نفسه بل في المؤسسة الدينية هناك وبما احكمت به القبضة على القارة الشقراء ، فلا صوت للناس يعلو ولا فكر ولا فن فوق ارادة سلطة الكهنوت ، فكانت بذرة الفناء لسلطان هذه الارادة في (الثقة الزائدة في المؤسسة الكهنوتية) وغرورهم بان هذه الارادة هي منحة السماء خاصة لأصحابها المفوضين بالحق الالهي المطلق على العباد حتى اتاهم حتفهم من مأمنهم باشتعال الثورة الفرنسية فاتحة لعصر جديد تغيرت فيه كل عناصر التاريخ القديم .. وفي موسكو العظمى وثق الماركسيون السوفييت الثقة القاطعة في الطبيعة وان ما يجري فيها من حركة حتمية هي نفسها الصورة المثلى لما يلزم ان تجري عليه حتما حركة المجتمع فيأمنوا من غدر التحولات الاجتماعية العشوائية وانهم لا ريب سيبلغون الحقبة الشيوعية الى عهد لا نهائي ما دام المجتمع في عصمة الطبيعة ، فخزلتهم تلك العصمة وكانت بذرة فناء منظومتهم في (الثقة الزائدة في الطبيعة) حيث التفت عليهم بأسرارها وبما عبثت ايدي البشر فيها وبثورة الروح العارمة ضد فروض الطبيعة على قلوب الجماهير هناك فكانت النهاية بإسقاط العلم الاحمر وتحطيم تماثيل (لينين) و(ستالين) وبفك سور برلين الشهير الذي عزل انسان الشرق عن اخيه انسان الغرب في كل شيء .. ومن قبل ذلك كانت بذرة فناء النازية التي حكمت بالحديد والنار والابادة العرقية ، ولربما كنا الان في عهد الالف عام من النازية لولا ان (هتلر) وثق ثقة عمياء في دعايته العنصرية وقدرتها على غسيل ادمغة الالمان بان الجنس الاري لا يهزم ، فكانت بذرة فناء النازية في (الثقة الزائدة في الدعاية) وانها كفيلة بخلق الانسان السوبرمان في نفس الجندي الالماني الذي يتحرك بإرادة (هتلر) فانهارت كل هذه الدعاية امام جليد روسيا العاصف وتعليمات (هتلر) المترددة ..
والان ايضا ، كان انفراط احدى اكبر التنظيمات السياسية في العالم ، تنظيمات ما يسمى بالحركة الاسلامية او الاسلاميين ومنهم الاخوان المسلمين والجبهة الاسلامية القومية والمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في السودان .. وهكذا ، وأيا كانت الاشكال والصور التي اتخذوها لأنفسهم ، فلقد كانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في المرشد) إذ كانت شخصية (المرشد) هي العامل الحاسم وعمود الاساس في بناء التنظيم وتماسكه ، وان تربية اجيالهم الناشئة على يديه هي خير ضمان لحكمهم الارض بمن عليها وبما يتصورون انه حكم الى ما لا نهاية من الزمان فتوسعوا كثيرا وتمددوا كثيرا تحت شعارات الدين والعقيدة والولاء والبراء المطلق لحكم الله المتجسد في ارادة مرشدهم ورؤيته ومن حوله من رجال دولتهم ، وفي خضم التمكين السياسي لهم – كما في السودان - لم يحسبوا حسابا لمكر الله تعالى وظنوا انهم بشعاراتهم هذه قد امنوا جانبه وانه حتما معهم وناصرهم بيد فوق ايديهم فما ضرهم ما يفعلون من بعد ذلك ، فكان هذا هو الشراك الذي اوقعوا فيه انفسهم بحظ هذه النفس الانسانية من الامر بالسوء وحب المال والجاه ومتاع الدنيا ، فلما تملكوا المقاليد وانفتحت عليهم ابواب الدنيا بزينتها صاروا يسوغون كل افعالهم للباطل بغطاء من الدين بسوق الآيات والنصوص وفق مطالب السياسة والادارة وصناعة الفتوى اصطناعا لصالحهم ولو بكسر عنق الحقائق وانهم ما دام المرشد المربي فيهم وهم تحت غطائه فهم اذن امنون من تقلبات الاحوال وثورة الشعوب وغلبتهم عليهم وانهم الفيلة التي تطحن بتدافعها ارادة الشعوب تحت اقدامها فلا تقوم لهم بغيرهم قائمة ، ولكنهم لم يفطنوا – او انهم قد فطنوا ولكنهم استغشوا ثيابهم - الى ما دق بينهم من مسامير المصالح الشخصية والتطلعات للثراء تحت اي تبرير حتى استشرى الباطل بينهم كما السرطان في الجسد فهانت لديهم حرمات الدماء والاموال حتى دارت عليهم الدوائر فانهارت المنظومة بسقوط مرشديهم بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ، وتصدعت اركان (البناؤون الاسلاميين الاحرار) حين لم يحتمل الشعب فسادهم البين تحت (العين والفرجار والمثلث) فكانت الثورة امرا حتميا والا لمات الجميع ..
لقد ضاع (المرشد) وبضياعه انفرط عقد التنظيم وأجياله العديدة .. فليبقى اذن المرشد ضائعا وليبقى دين الله في قلوب الجماهير عزيزا مقدسا عن اباطيل نفر من الناس بتجارتهم وعبث اهوائهم .
بذرور الفناء ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
(.. ولكن امثال هذه الماسي الانسانية لم تكن صالحة كل الصلاحية للبحث العلمي ، لان ضبطها ضبطا علميا دقيقا لم يكن من الميسور . فبعضها مثلا كان نتيجة لأخطاء المصابين انفسهم ، وبعضها كان يقبل اكثر من احتمال واحد . اما انهيار الجسر فانه تدبير الهي محض يقدم للباحث حقلا مثاليا للتجربة يمكنه من ان يكشف عن ارادة الله في صورتها الخالصة) (من رواية ، جسر سان لويس ري) .. هكذا كان الراهب (جونبر) بطل المأساة السردية مؤمنا في كل الاحوال ، فقد بحث ليكشف عن ارادة الله الخالصة في ان الموت والحياة تمضيان حسب ارادة الاهية ولأننا لم نفسرها فنظن انها مصادفات ، او لكي يثبت ان الله قد اودع قوانين حياة وفناء جميع الكائنات في دواخلها على هيئة قانون طبيعي حتمي كل في زمانه ومكانه ، ولكنها على اية حال ارادة الله الخالصة ..
اما الانسان فقد شهد له التاريخ انه برع دوما في غرس بذرة الفناء في داخل اي منظومة ينشئها بيده وارادته ولكنه لم يفلح ان يغرس فيها حتمية الحياة (حتى اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) . وهذه البذرة للفناء في افعال الانسان تلخصت في عبارة واحدة (انه مغرور بثقته الزائدة والاطمئنان) .. فاذا كان هذا هو حال الانسان مع دنياه افلا يكون هكذا حاله من بعض من كل فيها .. لقد مات الفرعون جراء (الثقة الزائدة في انه الرب) وان له ملك مصر وان الانهار تجري من تحته ، فظن انه خائض البحر برجالة فادركه الغرق .. ولقد وثق اغريق اثينا القديمة في عهد الفلاسفة بانهم بلغوا عنان الفكر الانساني والحضارة العليا بفصلهم بين طبقات مجتمعهم فظل الفكر لديهم معلقا في طبقة الصفوة من الناس لا يطالهم شأن العبيد ، وحسبوا بذلك انهم يحافظون على مجدهم خالدا على الدهر ، فاغتروا بما وثقوا وكانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في الفكر) فراح في لحظة كل مجد اثينا وعظمتها وقبعوا منذ عهد المسيح الى وقتنا هذا في درك منظومة بلاد اوروبا الحديثة ولم تشفع لهم ان كانت مخطوطات (الانجيل) الاولى مدونة بلغتهم ..
وفي اوروبا العصور الوسطى المظلمة ، حين ظن اباطرة فرنسا وانجلترا وعموم اوروبا ان العهد باق ليس في الدين نفسه بل في المؤسسة الدينية هناك وبما احكمت به القبضة على القارة الشقراء ، فلا صوت للناس يعلو ولا فكر ولا فن فوق ارادة سلطة الكهنوت ، فكانت بذرة الفناء لسلطان هذه الارادة في (الثقة الزائدة في المؤسسة الكهنوتية) وغرورهم بان هذه الارادة هي منحة السماء خاصة لأصحابها المفوضين بالحق الالهي المطلق على العباد حتى اتاهم حتفهم من مأمنهم باشتعال الثورة الفرنسية فاتحة لعصر جديد تغيرت فيه كل عناصر التاريخ القديم .. وفي موسكو العظمى وثق الماركسيون السوفييت الثقة القاطعة في الطبيعة وان ما يجري فيها من حركة حتمية هي نفسها الصورة المثلى لما يلزم ان تجري عليه حتما حركة المجتمع فيأمنوا من غدر التحولات الاجتماعية العشوائية وانهم لا ريب سيبلغون الحقبة الشيوعية الى عهد لا نهائي ما دام المجتمع في عصمة الطبيعة ، فخزلتهم تلك العصمة وكانت بذرة فناء منظومتهم في (الثقة الزائدة في الطبيعة) حيث التفت عليهم بأسرارها وبما عبثت ايدي البشر فيها وبثورة الروح العارمة ضد فروض الطبيعة على قلوب الجماهير هناك فكانت النهاية بإسقاط العلم الاحمر وتحطيم تماثيل (لينين) و(ستالين) وبفك سور برلين الشهير الذي عزل انسان الشرق عن اخيه انسان الغرب في كل شيء .. ومن قبل ذلك كانت بذرة فناء النازية التي حكمت بالحديد والنار والابادة العرقية ، ولربما كنا الان في عهد الالف عام من النازية لولا ان (هتلر) وثق ثقة عمياء في دعايته العنصرية وقدرتها على غسيل ادمغة الالمان بان الجنس الاري لا يهزم ، فكانت بذرة فناء النازية في (الثقة الزائدة في الدعاية) وانها كفيلة بخلق الانسان السوبرمان في نفس الجندي الالماني الذي يتحرك بإرادة (هتلر) فانهارت كل هذه الدعاية امام جليد روسيا العاصف وتعليمات (هتلر) المترددة ..
والان ايضا ، كان انفراط احدى اكبر التنظيمات السياسية في العالم ، تنظيمات ما يسمى بالحركة الاسلامية او الاسلاميين ومنهم الاخوان المسلمين والجبهة الاسلامية القومية والمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في السودان .. وهكذا ، وأيا كانت الاشكال والصور التي اتخذوها لأنفسهم ، فلقد كانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في المرشد) إذ كانت شخصية (المرشد) هي العامل الحاسم وعمود الاساس في بناء التنظيم وتماسكه ، وان تربية اجيالهم الناشئة على يديه هي خير ضمان لحكمهم الارض بمن عليها وبما يتصورون انه حكم الى ما لا نهاية من الزمان فتوسعوا كثيرا وتمددوا كثيرا تحت شعارات الدين والعقيدة والولاء والبراء المطلق لحكم الله المتجسد في ارادة مرشدهم ورؤيته ومن حوله من رجال دولتهم ، وفي خضم التمكين السياسي لهم – كما في السودان - لم يحسبوا حسابا لمكر الله تعالى وظنوا انهم بشعاراتهم هذه قد امنوا جانبه وانه حتما معهم وناصرهم بيد فوق ايديهم فما ضرهم ما يفعلون من بعد ذلك ، فكان هذا هو الشراك الذي اوقعوا فيه انفسهم بحظ هذه النفس الانسانية من الامر بالسوء وحب المال والجاه ومتاع الدنيا ، فلما تملكوا المقاليد وانفتحت عليهم ابواب الدنيا بزينتها صاروا يسوغون كل افعالهم للباطل بغطاء من الدين بسوق الآيات والنصوص وفق مطالب السياسة والادارة وصناعة الفتوى اصطناعا لصالحهم ولو بكسر عنق الحقائق وانهم ما دام المرشد المربي فيهم وهم تحت غطائه فهم اذن امنون من تقلبات الاحوال وثورة الشعوب وغلبتهم عليهم وانهم الفيلة التي تطحن بتدافعها ارادة الشعوب تحت اقدامها فلا تقوم لهم بغيرهم قائمة ، ولكنهم لم يفطنوا – او انهم قد فطنوا ولكنهم استغشوا ثيابهم - الى ما دق بينهم من مسامير المصالح الشخصية والتطلعات للثراء تحت اي تبرير حتى استشرى الباطل بينهم كما السرطان في الجسد فهانت لديهم حرمات الدماء والاموال حتى دارت عليهم الدوائر فانهارت المنظومة بسقوط مرشديهم بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ، وتصدعت اركان (البناؤون الاسلاميين الاحرار) حين لم يحتمل الشعب فسادهم البين تحت (العين والفرجار والمثلث) فكانت الثورة امرا حتميا والا لمات الجميع ..
لقد ضاع (المرشد) وبضياعه انفرط عقد التنظيم وأجياله العديدة .. فليبقى اذن المرشد ضائعا وليبقى دين الله في قلوب الجماهير عزيزا مقدسا عن اباطيل نفر من الناس بتجارتهم وعبث اهوائهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق