السبت، 7 مارس 2020

خرافة الحق التاريخي

خرافة الحق التاريخي..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لماذا إذن نحارب إسرائيل؟ .. هل أتى اليهود من خارج فلسطين ابتداء، أم أنهم وجدوا فيها كغيرهم ثم هُجر إليهم المزيد من أنحاء
 العالم؟ وهل كان العرب حالة عرقية راسخة على طول تاريخ فلسطين؟ .. 
لم يكن ذلك الأثر القابع في منتصف شارع القصر (قديماً، شارع فيكتوريا) بالعاصمة الخرطوم يثير الفضول لدى الدارسين بكونه سينما (كوليزيوم) .. ولكن بعد أن أميط اللثام بأن هذه السينما أقيمت في الموقع الذي كان يحتله نادي (مكابي) الرياضي اليهودي، اتجهت انظار بعض من ينقبون خلف الكواليس إليها حيث لم تكن سينما (كوليزيوم) مجرد مكان للترفيه والمشاهدة قبيل ظهور البث التلفزيوني وانما كانت تعبيراً عن نوع ذلك النسيج الاجتماعي ذو الطابع الغريب ليهود السودان فيما بينهم ومع باقي السودانيين .. فذكر الكاتب مكي أبوقرجة - رحمه الله – في قرأته لكتاب الياهو سلمون ملكا (أبناء يعقوب في بقعة المهدي) أن اليهود أقاموا علاقات واسعة مع السودانيين وتشربوا الحياة الثقافية السودانية وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية إلا أنهم ظلوا يهوداً ملتزمين بديانتهم فأقاموا معبداً ونادياً اجتماعياً وأخذوا يتصاهرون في اطار جاليتهم.. وحتى الأجيال الجديدة من اليهود السودانيين التي لم تر ذلك البلد البعيد وعاش معظمها في أوروبا تحمل ذكريات غامضة وحباً مبهماً للسودان ذلك الوطن الذي بات مستحيلاً .. هؤلاء اليهود لم يستطيعوا نسيان السودان ولم تعوضهم إسرائيل عن ذلك الحنين الجارف الذي يلف ارواحهم.
والسؤال الآن، هل من يطالبون – أو على الأقل يؤيدون – التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب هم من بقايا اليهود في السودان، أم أنهم السودانيين الذين عايشوا اليهود ودخلوا معهم في هذا النسيج الاجتماعي؟ أم أنهم من عموم الأجيال المتأخرة في السودان ولم تعد بينهم وبين عهد اليهود في السودان ثمة صلة؟ الشاهد الآن أن المطالبين هم من هذه الفئة الأخيرة، فهل يجوز التطبيع برغم الزعم بالحق التاريخي الذي باسمه أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والذي باسمه أيضاً حارب العرب هذا الإعلان وقاتلوا اليهود على ذات الأرض؟ .. لنفرد الأمر برمته إذن على طاولة التحليل ..
إذا سألنا عن ثمة حق تاريخي في فلسطين، فلن نجد من لديه حق تاريخي كامل فيها، إن هي إلا أمم وحضارات قد تعاقبت عليها في سير حقب التاريخ إلى وقتنا المعاصر .. فليس للعرب ولا لإسرائيل سواء بسواء حق تاريخي جامع مانع في فلسطين، وإنما هي محض حالة السيادة على الأرض بحسب الدور التاريخي والظرف الحضاري للمنطقة على سنة قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا ليس تأييداً لقيام دولة إسرائيل وإنما إقرار بأمر قد تم وصار واقعاً راهناً وجب علينا التعامل معه .. وإذا سألنا عن المسلمين والإسلام في فلسطين فإنها قد دانت للفتح الإسلامي الذي أتى إليها متأخراً عن أمم الشرق القديم واليهودية والنصرانية، ولهذا فلن يكون السؤال عن الاسلام بالتأكيد من باب أن هناك حق تاريخي له كباقي الدعاوى العرقية أو العنصرية أو القومية وإنما يكون من باب أن الإسلام رسالة إلى البشرية جميعاً وليس تخصيصاً لشعب أو أرض بدعوى حق تاريخي .. لذلك لم تكن حرب سنة 1948م حين اعلان قيام دولة إسرائيل رسمياً حرباً إسلامية وإنما حرباً عروبية .. فلقد أخلى المسلمون مقعد الحق الإسلامي المكتسب بالفتح في فلسطين لصالح الحق العروبي العرقي أو العنصري فلم تعد بذلك حرباً جهادية مقدسة لنصرة دين الله في الأرض وإنما هي لمنح حق مزعوم لقوم عرب قد يتساوون فيه مع أقوام أخر، ناهيك عن أن الأصل العرقي والتاريخي لبقعة فلسطين ليس عربياً صرفاً ولكن تم تعريب لسانهم على نحو ما يمكن لأي انسان أن يتحول إلى عربي بتعريب لسانه .. وناهيك أيضاً عن أنه ربما كان غالب أهل إسرائيل اليهود هم من فئة يهود الشرق (سفارديم) والذين يتحدث اكثرهم العربية كلغة أم، فهم من العرب .. فإذا دعونا إلى حق تاريخي عروبي في فلسطين لاختلط الأمر بينهم وبين اليهود، وبالتالي يتقلص الحق الإسلامي الذي ربما استعمله العروبيين كعامل تبريري مساعد في حربهم ضد اسرائيل وفق هذا المنطق في بضع اثار ومقدسات لا تحتل المرتبة التعبدية العليا للمسلمين بمثل ما يحتله الحرمين الشريفين.
إن الحق العروبي التاريخي المزعوم في فلسطين التي عليها الآن دولة إسرائيل هو سبب ختم جواز السفر السوداني (كل الأقطار عدا اسرائيل) وليس الإسلام هو ما منع ذلك .. إذ أن حرب 48 جاءت متأخرة عقب انهيار الخلافة الإسلامية بخمس وعشرين سنة، وكان الاعداد وقتها لثورة القومية العربية التي تحققت في عام 1952م .. لقد فتح المسلمون بلاد الدنيا حتى دان لهم ثلث العالم تحت راية واحدة عندما اسقطوا دعاوى القومية والعرقية والعنصرية ولم يلتفتوا للحقوق التاريخية، تلك الراية التي فقدها المسلمون تباعاً حتى سلموا آخر مفتاح فيها بعزل السلطان عبد الحميد، ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك وانما حسبنا أن نأخذ النتيجة الواقعية. إذن فقد عادت كل ولايات الخلافة الإسلامية لعظمى الى سابق عهدها كأمم وشعوب منفصلة بعضها عن بعض كدول ذات سيادة مستقلة .. فنحن المسلمون إذن من أخلينا مقاعدنا وفرطنا في رايتنا والأمة الواحدة الممتدة بكاملها وليس فقط أرض فلسطين عندما طالبنا بالحق التاريخي، فما المسوغ إذن أن نطالب الآن بجزء معين دون الكل؟ .. وحتى إن صح ذلك فالأولى بحق المطالبة هو الأندلس والقسطنطينية واسطنبول القديمة، ناهيك عن أننا كنا طوال الفترة الماضية لا نحارب دولة إسرائيل من أجل حق الإسلام بل لحق العروبة، والفرق كبير .. فلربما لو أننا حكمنا الإسلام في الوضع الراهن والذي ليس فيه مقاتلة مباشرة لحكم علينا بحكم الله في القرآن الكريم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فنحن الآن لسنا في مقام الفتح العسكري وإنما القدرة السياسية، وهذه الآية هي الدال على خارطة الفعل السياسي في ظرفنا الراهن في ظل الجنوح للسلم، وخاصة أن الفلسطينيين هم بدورهم قد رسموا حدود دولتهم باتفاق جزئي مع الكيان الصهيوني واعتراف غالبية دول الأمم المتحدة بها .. وأذكر في زيارة إلى سجن كوبر ضمن وفد اسرة القانون المدني بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في العام 1988م وقفت وزميل لي مع الفلسطينيين المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تفجير فندق الأكروبول في وسط الخرطوم، وقال لي احد المحكومين بأنهم نفذوا ذلك اعتراضاً على أي توفيق أوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب وقال لي نصاً - وكنت أحمل كراساً في يدي - (لو أن هذا الكراس لي وقبلت بإرادتي بأن اتنازل في وقت ما عن نصفه فهل سيحق لي المطالبة به كله مرة أخرى، كذلك هو موقفنا في فلسطين ولم نندم على ما فعلنا) .. كل هذه المواقف وغيرها قد ترتبت على النزاع بين خرافة الحق العروبي التاريخي في الأرض وبأيديولوجيا القومية العربية التي غرستها في المنطقة ثورة يوليو 52 في مصر وأيضاً خرافة الحق اليهودي التاريخي لبني إسرائيل فيها .. في حين أن كل ما هنالك أنها دولة أقيمت على أنقاض دولة ولنا حق التعامل معها ما لم يقم شرط المقاتلة وأن كان قد جنحوا هم للسلم حتى ولو كانوا أشد الناس عداوة لنا.. وأما عن جرائم ومذابح بني صهيون في حق الفلسطينيين في صبرا وشتلا وغزة ودير ياسين وغيرها فلن ننساها كحق جنائي خاص لفلسطين وحق عام للمسلمين كما لن ننسى مذبحة فض اعتصام القيادة العامة على أيدي بني جلدتنا وهو أشد سوءً من ذاك، ومثلها كانت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفيتنام، والآن بين أيدينا حرب الإبادة والتهجير في سوريا ومذابح مسلمي الروهينجا في ميانمار، والقائمة طويلة جداً.. فكلها بانتظار أخذ الحق بالقانون والعدالة الدولية دون أن يلغي ذلك استمرارية الدبلوماسية السياسية القائمة على العلاقات بين النظم وإدارة المصالح العامة للشعوب .. فإلى حين أن يأخذ القانون مجراه، وإلى حين أن نطهر بيتنا من الداخل أولاً بالقصاص العادل تظل السياسة والدبلوماسية تأخذ مجراها بما ينفع الناس مع أي دولة في الأرض. والله تعالى غالب على أمره.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق