اغريق السودان ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
عندما تتفتح ازهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات ، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. اثرى تاريخنا الانساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن ، فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئا كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فان كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في احيائنا وقرانا ومدننا كما نحن نعيش فكانوا هم الانجليز واﻷرمن والاغريق واليهود واخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين ، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة واعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الانيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة احفاد (طاليس) و(ارسطو) من اليونانيين واجناس اخرى من عموم الاوروبيين ممن جلبتهم اقدارهم للحياة في السودان ، فصاروا جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي .. ولان (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولان الكثيرين من أبناء الجاليات الاجنبية كانوا يرتادون مكتبته ، فقد علم عن اخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان اعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن اصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الابناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه اشارات الى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين واهلنا الجنوبيين فلابد انه كان لهذا التفاعل الحضاري اثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية .. وصحيح أن اليونانيين كانوا هم امراء الاقتصاد السوداني في وقت ما وان من يدير عجلة الاقتصاد غالبا ما يدير معها حركة الثقافة ، الا اننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الاثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الاول في السودان ( كونتا ميخالوس) واسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الاحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الاثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الاخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. واذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من ابرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي ، وبعد وفاتهما آل امرها الى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءا من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. ان هناك من تسلط على تلك الاصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الايجار الى الدرجة التي تتجاوز بعيدا حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو انه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك اخاف ابناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث ان الشبهة في ذلك ان له ثمة علاقة وثيقة بجهاز امن النظام البائد ومعلوم ما كان من فساد هذا الجهاز .. لقد ترك اليونانيين ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو اقرب الى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك امسك اليونانيين عن بناء برج استثماري كان مخطط له على احدى املاكهم في وسط الخرطوم خوفا من ضياع حقوقهم في ظل نظام لم يرعى حرمة قانونية للناس وممتلكاتهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم الينا الى درجة انه كان منهم من يحضرون من اثينا الى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الامر سر اذ ان كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والاخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الارض وبلدانها .. وليس غريبا ان بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الاخير لنا عندما اضطر للرحيل الى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريبا .. وان كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى اخريات الثمانينات بكونه من اعظم القادة الذين اسسوا للكشافة السودانية تشهد عليه اراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فان (وليم الكسندر ميلر) الايرلندي كان له فضل علم غزير على اجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى اوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الاخير من العقد الاول للألفية الراهنة ، وهو ايضا ودع السودان ورحل باكيا ، وكثيرون امثالهم .. فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا بحزة النفس والاسى لتركهم ذكريات اعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الادبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم واخبارهم .. ان استاذنا (الحاج محمد الامين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
عندما تتفتح ازهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات ، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. اثرى تاريخنا الانساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن ، فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئا كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فان كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في احيائنا وقرانا ومدننا كما نحن نعيش فكانوا هم الانجليز واﻷرمن والاغريق واليهود واخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين ، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة واعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الانيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة احفاد (طاليس) و(ارسطو) من اليونانيين واجناس اخرى من عموم الاوروبيين ممن جلبتهم اقدارهم للحياة في السودان ، فصاروا جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي .. ولان (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولان الكثيرين من أبناء الجاليات الاجنبية كانوا يرتادون مكتبته ، فقد علم عن اخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان اعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن اصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الابناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه اشارات الى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين واهلنا الجنوبيين فلابد انه كان لهذا التفاعل الحضاري اثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية .. وصحيح أن اليونانيين كانوا هم امراء الاقتصاد السوداني في وقت ما وان من يدير عجلة الاقتصاد غالبا ما يدير معها حركة الثقافة ، الا اننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الاثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الاول في السودان ( كونتا ميخالوس) واسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الاحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الاثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الاخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. واذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من ابرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي ، وبعد وفاتهما آل امرها الى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءا من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. ان هناك من تسلط على تلك الاصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الايجار الى الدرجة التي تتجاوز بعيدا حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو انه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك اخاف ابناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث ان الشبهة في ذلك ان له ثمة علاقة وثيقة بجهاز امن النظام البائد ومعلوم ما كان من فساد هذا الجهاز .. لقد ترك اليونانيين ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو اقرب الى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك امسك اليونانيين عن بناء برج استثماري كان مخطط له على احدى املاكهم في وسط الخرطوم خوفا من ضياع حقوقهم في ظل نظام لم يرعى حرمة قانونية للناس وممتلكاتهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم الينا الى درجة انه كان منهم من يحضرون من اثينا الى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الامر سر اذ ان كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والاخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الارض وبلدانها .. وليس غريبا ان بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الاخير لنا عندما اضطر للرحيل الى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريبا .. وان كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى اخريات الثمانينات بكونه من اعظم القادة الذين اسسوا للكشافة السودانية تشهد عليه اراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فان (وليم الكسندر ميلر) الايرلندي كان له فضل علم غزير على اجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى اوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الاخير من العقد الاول للألفية الراهنة ، وهو ايضا ودع السودان ورحل باكيا ، وكثيرون امثالهم .. فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا بحزة النفس والاسى لتركهم ذكريات اعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الادبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم واخبارهم .. ان استاذنا (الحاج محمد الامين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق