ثم ماذا بعد..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد صدق (ميخائيل نعيمة) فيما قال (لو أن (كولومبوس) اكتشف اليوم عالماً جديداً لطار الخبر في لمحة الطرف من القطب إلى القطب ومن المشارق إلى المغارب. أما منذ أربعة قرون ونصف فاكتشاف أمريكا لم يدر به سكان أمريكا إلا بعد أعوام وأعوام. ناهيكم بسكان الهند والصين والجزر المنتشرة في عرض البحار.. لقد كانت الحوادث الجسام تمر باﻷرض من غير أن ندري بها في وقتها إلا القليل من ابناء اﻷرض، ولولا التاريخ الذي يدأب أبداً في وصل ماضينا بحاضرنا لما استطعنا أن نصور اﻹنسانية الماضية إلا أعضاء مفككة لا تربطها أعصاب واحدة في جسم واحد. ولكن التاريخ بربطه ما كان منا بما هو كائن يسهل علينا أن نرى الانسانية وفرة شعوبها وتعدد مساكنها قافلة واحدة تسير في طريق واحد إلى هدف واحد).. صدق (ميخائيل نعيمة) عندما قال (ما شهد العالم في كل ما شهد سيلاً جارفاً من الكلام كالذي يشهده اليوم... ما ذاك ﻷن العالم صام زماناً عن الكلام فراح يعوض عن صيامه بالثرثرة. فالعالم ما عرف الصمت يوماً من أيام حياته، ولكنه ما عرف كذلك مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل الكلام كالمرحلة التي هو فيها اليوم)..
ثم ماذا بعد أن كثر الكلام.. لم يعد اﻵن أوان البقاء على التاريخ بما أنجز في عمر البشرية، ولكن الان أوان أن يثمر التاريخ مستقبلاً.. وكما أن التاريخ هو رصد حقيقي لما كان، فللمستقبل ودراساته أن يكون رصداً حقيقياً لما يمكن أن يكون بإذن الله. وهذا رهين بفتح بوابات المعلومات على مصرعيها. ويبدو أن ما يتداوله الناس في واقع حياتهم بكل ما لها وما عليها هو أوسع حقل لصيد المعلومات في زرع الراهن من أجل ثمر المستقبل.. ولذلك ظهر ما نراه اليوم من اتجاه عقول العالم نحو تأسيس ما عرف بالدراسات المستقبلية حيث أن الاوان قد آن أن نستنطق التاريخ ليس من أجل معرفة الماضي فحسب بل لجعل الماضي زرع الحاضر وحصاد المستقبل.. وما يلزم في ذلك من ربط هذا المجال للدراسات بحقول المعلومات التي تمثلت في اتجاهات (الرأي العام) وضرورة استطلاع هذا الرأي العام لأجل رسم الطريق السليم لبناء وتوجيه الخطط المستقبلية. ولأن أصحاب هذا الرأي العام من أفراد وجماعات هم من سيكون بناء المستقبل ﻷجلهم.
ولما كان لكل علم محاوره وقوالبه التي يصب فيها، فإن لعلم المستقبليات على ذات النحو محاور وقوالب، فهي على ما يلي:
أولاً – الاستطلاع – وهو جمع المعلومات من أجل الانطلاق من الحاضر المتعلق بأي حالة مجتمعية اقتصاديه أو سياسية أو ثقافية بإعطاء مؤشرات لما يمكن أن تصير إليه تلك الحالة في المستقبل القريب ومن ثم رصد التوقعات على ذلك ورسم التدابير العملية والاجراءات والوسائل والخطط الاستراتيجية المناسبة لتحقيق اﻷهداف المسقبلية المطلوبة.
ثانياً – الادارة والسيطرة – وهو ليس الاكتفاء بالعلم بالشيء والتحسب لما يمكن وقوعه سلباً أو ايجاباً، وإنما التوجيه نحو اعادة الصياغة أو الضبط التحكمي للواقع المستقبلي ما أمكن بنوع من الادارة للموارد والفرص والمصادر المتاحة بما من شأنه أن يحقق أعلى درجة من الاستثمار والفائدة العامة، وهذا ما يعرف (بإدارة المستقبل) والاعتماد في ذلك على العناصر التالية:
أ/ تحري وتحليل الرأي العام – القيام بذلك على الوضع الراهن مقروناً بالوضع في الماضي القريب.
ب/ التخطيط الاستراتيجي – باعتباره اﻵلية اﻷساسية في الضبط والادارة التحكمية.
ج/ البحث العلمي – بغرض التوثيق المعرفي للتطور في النظم والادارة من جهة، واستدعاء وحفظ المعلومات العلمية من جهة أخرى.
ثالثاً – التدريب – تكوين وتحفيز القدرات البشرية من أجل الاستغلال اﻷمثل لها بصدد استطلاع وإدارة أي واقع مستقبلي.
وفي اﻷخير، مازلنا منذ أن نلنا الحكم الذاتي في بلادنا نسأل لماذا نحن اﻵن دولة فقيرة نامية بينما اﻷرض من تحتنا تدفقت بالخيرات من كل نوع وتزاحمت ثرواتها.. لماذا نهضت دولة مثل ألمانيا بعد دمارها كاملة بنهاية الحرب وصارت الان برغم هذا دولة عظمى في الاقتصاد والرفاه الإنساني وهي موطن بلا موارد إلا البشر.. هذا لأن علماء المانيا وحكامها عبر التاريخ قد استثمروا بصورة أساسية في الانسان فلم يعد من الغريب أن أدارت النساء عجلات المصانع بلا مقابل أو حوافز حينما عز الرجال بموتهم في الحرب، ولذلك صنعوا مستقبلهم آنذاك الذي صار حاضرهم اليوم، والغد عندهم ينتظر المزيد..
أما نحن فقد اتجهنا نحو اﻷرض قبل الإنسان وجمدنا الحاضر والمستقبل لحساب الماضي وكتفينا باﻷحلام والوعود وحكمنا أنفسنا بمنطق المصالح الذاتية وليس مصالح الشعب الذي نحن منه.. فلن يجدي أن نثور على حكامنا دون أن نثور على أنفسنا.. ولم يعد يكفي أن نزيح الباطل عن كرسيه دون أن نزيل مدمرات عزائمنا في اﻷساس.. وليكن أمام كل كلمة حق معول تدق به يد إنسان قوي على ظهر اﻷرض الخيرة، فالمعول لوحده لن يدق ولو تراكمت عليه السنين تلو السنين.. ولنبقى معاً على العهد.
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد صدق (ميخائيل نعيمة) فيما قال (لو أن (كولومبوس) اكتشف اليوم عالماً جديداً لطار الخبر في لمحة الطرف من القطب إلى القطب ومن المشارق إلى المغارب. أما منذ أربعة قرون ونصف فاكتشاف أمريكا لم يدر به سكان أمريكا إلا بعد أعوام وأعوام. ناهيكم بسكان الهند والصين والجزر المنتشرة في عرض البحار.. لقد كانت الحوادث الجسام تمر باﻷرض من غير أن ندري بها في وقتها إلا القليل من ابناء اﻷرض، ولولا التاريخ الذي يدأب أبداً في وصل ماضينا بحاضرنا لما استطعنا أن نصور اﻹنسانية الماضية إلا أعضاء مفككة لا تربطها أعصاب واحدة في جسم واحد. ولكن التاريخ بربطه ما كان منا بما هو كائن يسهل علينا أن نرى الانسانية وفرة شعوبها وتعدد مساكنها قافلة واحدة تسير في طريق واحد إلى هدف واحد).. صدق (ميخائيل نعيمة) عندما قال (ما شهد العالم في كل ما شهد سيلاً جارفاً من الكلام كالذي يشهده اليوم... ما ذاك ﻷن العالم صام زماناً عن الكلام فراح يعوض عن صيامه بالثرثرة. فالعالم ما عرف الصمت يوماً من أيام حياته، ولكنه ما عرف كذلك مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل الكلام كالمرحلة التي هو فيها اليوم)..
ثم ماذا بعد أن كثر الكلام.. لم يعد اﻵن أوان البقاء على التاريخ بما أنجز في عمر البشرية، ولكن الان أوان أن يثمر التاريخ مستقبلاً.. وكما أن التاريخ هو رصد حقيقي لما كان، فللمستقبل ودراساته أن يكون رصداً حقيقياً لما يمكن أن يكون بإذن الله. وهذا رهين بفتح بوابات المعلومات على مصرعيها. ويبدو أن ما يتداوله الناس في واقع حياتهم بكل ما لها وما عليها هو أوسع حقل لصيد المعلومات في زرع الراهن من أجل ثمر المستقبل.. ولذلك ظهر ما نراه اليوم من اتجاه عقول العالم نحو تأسيس ما عرف بالدراسات المستقبلية حيث أن الاوان قد آن أن نستنطق التاريخ ليس من أجل معرفة الماضي فحسب بل لجعل الماضي زرع الحاضر وحصاد المستقبل.. وما يلزم في ذلك من ربط هذا المجال للدراسات بحقول المعلومات التي تمثلت في اتجاهات (الرأي العام) وضرورة استطلاع هذا الرأي العام لأجل رسم الطريق السليم لبناء وتوجيه الخطط المستقبلية. ولأن أصحاب هذا الرأي العام من أفراد وجماعات هم من سيكون بناء المستقبل ﻷجلهم.
ولما كان لكل علم محاوره وقوالبه التي يصب فيها، فإن لعلم المستقبليات على ذات النحو محاور وقوالب، فهي على ما يلي:
أولاً – الاستطلاع – وهو جمع المعلومات من أجل الانطلاق من الحاضر المتعلق بأي حالة مجتمعية اقتصاديه أو سياسية أو ثقافية بإعطاء مؤشرات لما يمكن أن تصير إليه تلك الحالة في المستقبل القريب ومن ثم رصد التوقعات على ذلك ورسم التدابير العملية والاجراءات والوسائل والخطط الاستراتيجية المناسبة لتحقيق اﻷهداف المسقبلية المطلوبة.
ثانياً – الادارة والسيطرة – وهو ليس الاكتفاء بالعلم بالشيء والتحسب لما يمكن وقوعه سلباً أو ايجاباً، وإنما التوجيه نحو اعادة الصياغة أو الضبط التحكمي للواقع المستقبلي ما أمكن بنوع من الادارة للموارد والفرص والمصادر المتاحة بما من شأنه أن يحقق أعلى درجة من الاستثمار والفائدة العامة، وهذا ما يعرف (بإدارة المستقبل) والاعتماد في ذلك على العناصر التالية:
أ/ تحري وتحليل الرأي العام – القيام بذلك على الوضع الراهن مقروناً بالوضع في الماضي القريب.
ب/ التخطيط الاستراتيجي – باعتباره اﻵلية اﻷساسية في الضبط والادارة التحكمية.
ج/ البحث العلمي – بغرض التوثيق المعرفي للتطور في النظم والادارة من جهة، واستدعاء وحفظ المعلومات العلمية من جهة أخرى.
ثالثاً – التدريب – تكوين وتحفيز القدرات البشرية من أجل الاستغلال اﻷمثل لها بصدد استطلاع وإدارة أي واقع مستقبلي.
وفي اﻷخير، مازلنا منذ أن نلنا الحكم الذاتي في بلادنا نسأل لماذا نحن اﻵن دولة فقيرة نامية بينما اﻷرض من تحتنا تدفقت بالخيرات من كل نوع وتزاحمت ثرواتها.. لماذا نهضت دولة مثل ألمانيا بعد دمارها كاملة بنهاية الحرب وصارت الان برغم هذا دولة عظمى في الاقتصاد والرفاه الإنساني وهي موطن بلا موارد إلا البشر.. هذا لأن علماء المانيا وحكامها عبر التاريخ قد استثمروا بصورة أساسية في الانسان فلم يعد من الغريب أن أدارت النساء عجلات المصانع بلا مقابل أو حوافز حينما عز الرجال بموتهم في الحرب، ولذلك صنعوا مستقبلهم آنذاك الذي صار حاضرهم اليوم، والغد عندهم ينتظر المزيد..
أما نحن فقد اتجهنا نحو اﻷرض قبل الإنسان وجمدنا الحاضر والمستقبل لحساب الماضي وكتفينا باﻷحلام والوعود وحكمنا أنفسنا بمنطق المصالح الذاتية وليس مصالح الشعب الذي نحن منه.. فلن يجدي أن نثور على حكامنا دون أن نثور على أنفسنا.. ولم يعد يكفي أن نزيح الباطل عن كرسيه دون أن نزيل مدمرات عزائمنا في اﻷساس.. وليكن أمام كل كلمة حق معول تدق به يد إنسان قوي على ظهر اﻷرض الخيرة، فالمعول لوحده لن يدق ولو تراكمت عليه السنين تلو السنين.. ولنبقى معاً على العهد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق