السبت، 7 مارس 2020

حرب التقديس

حرب التقديس ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (ما جعل المؤرخون لا يفتأون من ذكر (كوبرنيكوس) ؟ وهل كان لهم أن يفعلوا لولا تمرده على قدسية مركزية اﻷرض التي باتت عند الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من تعاليم الدين ... ؟ ما الذي جعل مؤرخي الفلسفة الحديثة يؤرخون بدايتها بكتاب (ديكارت) (المقال في المنهج) ؟ أكان لذلك العصر أن يبدأ ب (ديكارت) لولا أنه – إبان شكه – قد رفض كل المعتقدات التي غبر بنو زمانه على تقديسها ؟ أي تطور كان من شأن أعراب الجاهلية إحداثه لو لم يكن قد قدر للمصطفى صل الله عليه وسلم أن يخلصهم من اﻷوثان التي أخلصوا في عبادتها ؟) هذه أسئلة عن حالة تقديس المقدس طرحها (نجيب الحصادي) في كتابه (جدلية اﻷنا – اﻵخر) .. وعلينا نحن اﻷن أن نطرح أسئلة جديدة ..
فلقد كان الطامحون إلى القبضة القابضة على شعوبهم يلعبون على هذا الوتر (تقديس المقدس) ، فإذا نطقوا على المنابر سكت عامة الناس .. فهل كل ما نطق به الطامحون هو الحق . لقد أعدم (سقراط) الاغريقي بشرب السم ﻷنه هتك التقديس المسلم به بعماء لدى أبناء مجتمعه ورهابنة معابدهم بكثرة سؤاله عن الحق والحقيقة، وقد كانت غايته أنك إن أرت أن تقدس شيئاً فقدسه بوعي وعلى اتجاه الحقيقة وليس بمحض ما تهوى نفسك .. وفي العصور الوسطى في أوروبا نصبت المشانق والمقاصل والمحارق والمسالخ وصناديق المسامير ﻷجل كل من خالف ليس الدين بل ما أراده كهنة الدين على مقولة (فرعون) اللعين (إن أريكم إلا ما أرى) .. وكذا الشيء في العهد العثماني للخلافة اﻹسلامية حيث كانت الخوازيق الثاقبة والمناشير ربما هي أهون أنواع العذاب هناك .. فهل كل هذا الويل الذي أذاقه البشر للبشر على مر التاريخ غيرة على المقدسات ورعاية لحرمتها أم أن هناك ما هو مختبئ وراء اﻷكمة ، فأنفس اﻷمارون بالقتل والتعذيب في كل العصور عطشى إلى السلطة وحظ الجاه والنفوذ على أقوامهم ، فباسم المقدس لديهم يقتلون وما يقتلون إلا لهوى أنفسهم ، ومن ورائهم كهنة المقدس يزينون لأعينهم سوء الفعال بأنه من رضى الرب وهم يحلمون بمجد الدنيا وعزها وليس مجد السماء ، فصاروا تماماً كمن جمع أهل الدار في حديقتهم جبراً ليلقي عليهم موعظة أخلاقية باسم ما يقدسون بغير وعي وهو يرسل رجاله خفية يدخلون إلى الدار من الفناء الخلفي لسرقة أموالهم .. فكذلك يحكم قاضي السلطان على اﻷسير لديه في الظاهر بجرم انتهاك حرمة التقديس وهو في قرارة نفسه يريد منعه من البلوغ إلى نفوذه أو منازعته سلطانه .. إن المشكلة حقيقة ليست في المقدس كما أنها ليست في التقديس فبغير التقديس للمقدس لا يعيش اﻹنسان سوياً مطمئناً ، وإنما المشكلة في طريقة التقديس والاتجاه فيه على العماء بغير بصر ولا بصيرة ولا استدلال راجح على حقائق اﻷمور في ظواهرها وبواطنها ، فيأتي من لا يرعى في الناس حرمة لدماء واعراض إلا من والاه ليحكم فيهم بزعم أنه أمر المقدس ولكنه في الحقيقة أمره هو .. فينبغي إذن أن ننظر إلى من يتحدث قبل أن ننظر فيما يتحدث . 
والسؤال اﻵن .. هل أعدم (الحلاج) بسبب الردة فعلاً ، أم لأنه قد صار تأثيره السياسي مداً طاغياً وكان لابد لأصحاب السلطة آنذاك الحد منه لذا كانت التهمة الدينية في الظاهر مجرد حيلة لقتله وسبباً كافياً أمام الناس بأنه قد تطاول على المقدس .. وفي الباطن ، قصدوا إلى إيقاف مده السياسي ولذلك قطعوه ومثلوا بجثته، فهل هذه هي طريقة الإسلام في الإعدام  ؟ .. وفي السودان يتحدث التاريخ القريب عن (حلاج) جديد .. وبرغم أننا والكثيرون لم نرضى منه يوماً ما استحدثه برأيه في أصول عقيدتنا اﻹسلامية ، إلا أننا كنا نعتبر أن هذا خاصته واتباعه من غير سوء على عموم الناس وليس لنا عليه إلا الحجة والبرهان بجانب لين المعاملة، فالضرر غير المتعدي خاصة صاحبه .. تماماً كما يزعم فلاسفة الصوفية أن اﻹنسان غير مؤاخذ بما يقول في (حال المحو) وإنما يحاسب فقط بأقواله في (حال الصحو) وقول (الحلاج) في السياسة كان في حال الصحو ولكنه أخذ بجريرة قوله في حال المحو .. وهذا هو (محمود محمد طه) حلاج بلادنا الجديد ، قتلوه في عهد الرئيس (النميري) فهل كانت قتلته ﻷجل الانتصار للعقيدة ولأنه مرتد حقيقة ، أم أنها ﻷجل شيء كان في نفس من قتلوه ؟ فمن هم الذين قتلوه؟                       
.. (محمود محمد طه) لم يرتد عن الدين لأنه كان يشهد حتى آخر لحظة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .. ولكن المطلع على فكره ربما يجده قد احدث ببعض مزاعمه خللا في بعض جوانب العقيدة لديه ولدى اتباعه ،  وهو في كل الاحوال قد يكون اهون كثيرا من حادثات الملحدين والدهريين والصوفية الشاطحين في العقيدة ورغم ذلك لم يتم اعلانهم مرتدين . هذا ناهيك عن التكفيريين والدواعش الذين يهدرون دماء المسلمين الأبرياء بعقيدة فاسدة .. فلماذا (محمود محمد طه) ؟ ولعل الاجابة بنحو ما يلي :
  1/ ان جعفر نميري لم يعلن تطبيق الشريعة في سبتمبر 1983م الا بعد اشراك عناصر الجبهة القومية الاسلامية في الأمر.
2/ المد السياسي الذي كان يقوده الحزب الجمهوري – وهو حزب سياسي في الأساس - بقيادة (محمود محمد طه) كان من أكبر المهددات بإزاحة الجبهة الاسلامية القومية عن المشهد السياسي آنذاك . ولذلك كان لابد من صياغة التهمة بحيث تكون مقنعة للرئيس (النميري) ومقنعة لعموم الشعب السوداني انها لسبب ديني صرف وليس سياسي ، ومن لم يقتنع كان عليه يلتزم الصمت كرهاً .
3/ شهد عصر إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية بقوانين سبتمبر تطبيقا منحرفا وخاطئا للشريعة الاسلامية بنحو تطبيق الكنيسة الكاثوليكية لشرائعها على المجتمع في عهود الظلام في أوروبا . مما يدل على أن الهدف لم يكن هو تحقيق الدين والحكم الراشد كما تم على عهد (عمر بن عبد العزيز) وانما الهدف هو التمكين السياسي بظاهر الدين وبجعل نصوص القانون متعسفة بغرض الردع العام والتخويف الشديد وفرق تسد وهو ما ينافي مقاصد التشريع الاسلامي العظيم في جوهرها ، فكانت الحدود بقطع الأيدي والأرجل من خلاف على أشدها في وقت بلغت فيه المجاعة في السودان واغلب أفريقيا حداً فتاكاً بمجتمعات بأكملها إلى الدرجة التي غنى معها العالم  (we are the world) حتى يجمعوا قدراً عظيماً من المال من اجل إغاثة من يموتون جوعاً في افريقيا ، وكان حرياً بقادة المسلمين أن يفعلوا .. ولكن على العكس ، لم يشفع الجوع لمن سرق في قطع يديه ، فلعل القضاة آنذاك ظنوا بأنفسهم العدل فوق عدل (عمر بن الخطاب) الذي عطل تطبيق الحدود في عام الرمادة . ولذلك لم يكن بمستغرب أن يتم القضاء على الخصومة السياسية مع (الجمهوريين) بإعدام زعيمهم بسبب ديني لا سواه .
وهكذا لم يقع الظلم والقهر باسم الشريعة الاسلامية على (محمود محمد طه) وعصبته فحسب حتى نقول بأنه الحق وأن الحق لا يتجزأ .. وانما وقع الظلم والقهر على بسطاء بلادي ، ولم يكن هذا إلا لأجل التمكين السياسي ، ودائماً يجيء التمكين السياسي مقروناً بالتعسف في تطبيق الأحكام والشرائع دون انزال كل حالة مقامها ، فما هو (ارتداد) ليس كما هو (الحاد) ليس كما هو (خرق في العقيدة مع الاحتفاظ بأصل الدين) . وليس ثمة حل لمقاومة حروب التقديس التي يشنها إما الساسة لمآربهم السلطوية وإما المتشددين المتعصبين لما يحسبونه قيمة شخصية لهم بغيرها لا معنى لحياتهم ، إلا بالوعي والتوعية بحقيقة الدين ومقاصده وانه لا مقدس إلا ما اراداه الله تعالى مقدساً .. فليس الحل في المروق من الدين جملة إذا ما عاث به وتحت اسمه الساسة فسادا وظلماً، وانما الحل بإقامة الحجة والبرهان عليهم بالعقيدة السليمة ورفض استغلال الناس بدافع تقديس المقدس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق