(براجماتيزم) السياسة الجديدة..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في البدء.. استغلت طائفة المعلمين السفسطائيين إغراق المجتمع الأثيني القديم في التجريدات والتمييز بين النظر الفكري والتأمل العقلي المجرد كسمة لازمة للسادة، وجعل النشاطات العملية اليدوية والأداتية لمن هم دون السادة.. فعمدوا والحال هكذا إلى خلق الصراع الوجودي بين الانسان ومجتمعه وكل ما حوله من ثوابت ومتغيرات من خلال ادارتهم للسياقات اللفظية المحضة وتأليف المفارقات والمغالطات المنطقية التجريدية البعيدة عن حسم الواقع العملي لها بشكل نهائي.. فبالله، أي برنامج للعمل الايجابي يمكن أن يُبنى على مثل مقولتهم المشهورة (الإنسان هو مقياس كل شيء، الوجود واللاوجود.. وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعرف شيئاً على حقيقته، وحتى إذا صار وعرفنا شيئاً فإنه سيستحيل علينا نقله إلى غيرنا)؟.. ثم تلت العصور عصرهم ذاك، وفرضت الحاجات العملية نفسها على المجتمعات، فعرفنا اليوم أن فائدة ما فعل السفسطائيون جعْلنا ندرك قيمة أن يفضي القول إلى عمل وإلا فيكون قول معلق في الهواء بلا قيمة..
وعلى ذلك جاءت كلمة رئيس الحكومة الجديدة في السودان بأن الاقتصاد في العالم لم يعد يدار بفواصل أيديولوجية حاسمة وإنما برؤى برجماتية Pragmatism نوعاً ما.. ولعله كان المقصود ليس هو التبني الحرفي لتلك البراجماتية المذهبية التي صاغتها المدرسة اﻷمريكية في الفلسفة المعاصرة على يد (تشارلز ساندرس بيرس) و(وليام جيمس) و(جون ديوي).. وإنما المقصود هو الدلالة اﻷصلية لمصطلح Pragma في تحويل كل ما هو نظري تأملي إلى عمل فعلي ومشاريع للتنفيذ.. ولعل تلك الدلالة اﻷولية للمصطلح هي ما أخذ منها فعل التداول (براجماتكس) Pragmatics في مجال (علم العلامات) Semiotics وهو اﻷخذ والرد والتفاعل بين مرسل لرسالة ومستقبل لها داخل أي مجال من مجالات النشاط اﻹنساني.. ويمكن أن يتحقق فهم نوع البراجماتية هذا من خلال المحاور التالية:
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقال (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
1/ النظم الفكرية (الايديولوجيات) قديما وحديثا كانت تضع تصورات كلية عامة تجاه كل شيء بغض النظر عن حاجة الناس لها.. فصارت البراجماتية وضع التصورات في حدود ما يحتاجه الناس في مجتمع معين .
2/ النظم الفكرية المختلفة كانت تفصل دائما بين ما هو نظري وما هو عملي، وأن نجاح ما هو نظري ليس بالضرورة مرتبطاً بنجاح ما هو عملي، وأن الفكرة قد تكون صحيحة جدا ولكن برامج العمل والتنفيذ الناتجة او المتولدة عنها قد تكون فاشلة ولا يؤثر هذا الفشل على كون الفكرة على المستوى النظري صحيحة .. فهنا تقول البراجماتية بانه لا قيمة لأي فكرة نظرية اذا لم تثمر عملا أو أن تكون قابلة لأن تثمر عملاً، وبالتالي فالتأملات التجريدية لا معنى لها ما لم تتحقق في تطبيقات عملية، فكل فكرة يجب أن تكون مشروع عمل .
3/ فكرة البراجماتية تقول أن قيمة أي عمل هو ما يحققه من نتائج نافعة مثمرة، واي عمل لا يحقق فائدة ونجاح لأهدافه فهو عمل بلا قيمة أو مغذى ولا داعي له.
4/ معيار العمل الناجح في النظم الفكرية الفردانية مثل (الوجودية) هو تحقيق المنفعة الذاتية للفرد، ومعيار العمل الناجح في النظم الفكرية الجمعية مثل (الماركسية) هو تحقيق المنفعة للمجتمع الكبير بغض النظر عن منفعة الأفراد .. فجاءت البراجماتية لتوازن في نجاح أي عمل بين المنفعة والفائدة الذاتية للأفراد والمنفعة العامة للمجتمع، وذلك بدراسة العوامل المشتركة بين كافة الأفراد في مجتمع معين بما يحدد الحاجات المشتركة بين الافراد لتشكل في مجموعها حاجات المجتمع.. ويختلف كل مجتمع عن الاخر في حاجاته بنحو ما يختلف في نوع وخصوصية العوامل المشتركة بين افراده عن غيره من المجتمعات.
5/ في البراجماتية لا يكون نجاح العمل مرهونا بالفوائد المادية فقط ، بل وايضا الفوائد المعنوية النفسية سواء بسواء.
6/ البراجماتية كمنهج أو طريقة للرؤية هي ..
فكرة = عمل
عمل = نتائج ناجحة
نتائج ناجحة = جلب مصلحة أو درء مفسدة
جلب مصلحة او درء مفسدة = ماديا ومعنويا ، فرديا واجتماعيا .
بناء على كل ما تقدم فإن العالم المعاصر بحكم تطور الاكتشاف العلمي ومتغيرات الرؤية العلمية المعاصرة لم يعد يبحث عن تأسيس نظم مغلقة ﻹدارة مستقلة لمجالات الحياة على النحو الذي يجعل كل نظام ذا تحديد صارم يفصله عن النظم اﻷخرى، ولم يعد كل نظام يستمد مشروعيته فقط من خصوصية المجال الذي صمم لأجله هذا النظام.. فمثلاً عندما أتحدث عن التدريب العسكري ونظام الخدمة العسكرية وقوانينها، ينبغي علي أن أتخلص تماماً من كل ما يتعلق بالحياة المدنية ونظم الخدمة المدنية وقوانينها، بل ويأتي التمييز هنا حتى على مستوى التفاعل الاجتماعي، فهذا المثال يمكن أن تقاس عليه تلك النظرة القديمة.. أما اليوم، فلم تعد صورة العالم في أذهان العلماء والمفكرين وحتى اﻷدباء كما كانت في السابق، وأن فكرة النظم المستقلة لم تعد تلائم حقيقة الواقع الجديد، ولذلك اتجه البحث نحو مبدأ (تداخل النظم) وإزالة الجدر الثلجية بين نظام وآخر طالما أن العامل المشترك في اﻷخير هو اﻹنسان.. وطالما أيضاً أن الهوة الكبيرة بين اﻹنسان والكون باتت قريبة جداً، وعلى ذلك انطلقت دعاوى التكامل المعرفي بين العلوم وبعضها من جهة وبين العلوم وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى..
اﻷمر على هذا النحو يجعل الفشل الاقتصادي والسياسي لدولة غنية بثرواتها مثل السودان أمراً مبرراً فقد كان التعامل الاقتصادي فيها قبل ثورة الشعب في ديسمبر قائم باختيار البدائل بين النظم المدرسية للاقتصاد، فإذا تم تبني نظام ما يتم في نفس الوقت إسقاط البدائل اﻷخرى وهو ما جعل الساسة دائمي الارتطام بالواقع المتفاقم بأزمته، ومن ثم تحويل الشعب إلى حقل للتجارب الاقتصادية والسياسية.
أما اﻵن.. وللمستقبل.. ومن الانتقال من مرحلة اﻷزمة إلى مرحلة البناء والتطوير، يكون المطلوب هو الانتقال من حالة الانتماء للنظم إلى حالة اعتماد عامل (التخطيط) الذي هو مفهوم اكثر مرونة، وإحلال مصطلح (خطة) أو (برنامج) محل (نظام) System .. فالاعتماد على الخطة أو البرنامج بحسب مقتضيات الظرف المحلي يراعي تماماً مبدأ تداخل النظم أو اﻷنساق بمراعاة عوامل التميز والاختلاف بينهم.. هذا هو براجماتزم السياسة الجديدة.. ولعل اﻷمر يكون حميداً ويفتح الباب لمستقبل أفضل.
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في البدء.. استغلت طائفة المعلمين السفسطائيين إغراق المجتمع الأثيني القديم في التجريدات والتمييز بين النظر الفكري والتأمل العقلي المجرد كسمة لازمة للسادة، وجعل النشاطات العملية اليدوية والأداتية لمن هم دون السادة.. فعمدوا والحال هكذا إلى خلق الصراع الوجودي بين الانسان ومجتمعه وكل ما حوله من ثوابت ومتغيرات من خلال ادارتهم للسياقات اللفظية المحضة وتأليف المفارقات والمغالطات المنطقية التجريدية البعيدة عن حسم الواقع العملي لها بشكل نهائي.. فبالله، أي برنامج للعمل الايجابي يمكن أن يُبنى على مثل مقولتهم المشهورة (الإنسان هو مقياس كل شيء، الوجود واللاوجود.. وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعرف شيئاً على حقيقته، وحتى إذا صار وعرفنا شيئاً فإنه سيستحيل علينا نقله إلى غيرنا)؟.. ثم تلت العصور عصرهم ذاك، وفرضت الحاجات العملية نفسها على المجتمعات، فعرفنا اليوم أن فائدة ما فعل السفسطائيون جعْلنا ندرك قيمة أن يفضي القول إلى عمل وإلا فيكون قول معلق في الهواء بلا قيمة..
وعلى ذلك جاءت كلمة رئيس الحكومة الجديدة في السودان بأن الاقتصاد في العالم لم يعد يدار بفواصل أيديولوجية حاسمة وإنما برؤى برجماتية Pragmatism نوعاً ما.. ولعله كان المقصود ليس هو التبني الحرفي لتلك البراجماتية المذهبية التي صاغتها المدرسة اﻷمريكية في الفلسفة المعاصرة على يد (تشارلز ساندرس بيرس) و(وليام جيمس) و(جون ديوي).. وإنما المقصود هو الدلالة اﻷصلية لمصطلح Pragma في تحويل كل ما هو نظري تأملي إلى عمل فعلي ومشاريع للتنفيذ.. ولعل تلك الدلالة اﻷولية للمصطلح هي ما أخذ منها فعل التداول (براجماتكس) Pragmatics في مجال (علم العلامات) Semiotics وهو اﻷخذ والرد والتفاعل بين مرسل لرسالة ومستقبل لها داخل أي مجال من مجالات النشاط اﻹنساني.. ويمكن أن يتحقق فهم نوع البراجماتية هذا من خلال المحاور التالية:
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقال (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
1/ النظم الفكرية (الايديولوجيات) قديما وحديثا كانت تضع تصورات كلية عامة تجاه كل شيء بغض النظر عن حاجة الناس لها.. فصارت البراجماتية وضع التصورات في حدود ما يحتاجه الناس في مجتمع معين .
2/ النظم الفكرية المختلفة كانت تفصل دائما بين ما هو نظري وما هو عملي، وأن نجاح ما هو نظري ليس بالضرورة مرتبطاً بنجاح ما هو عملي، وأن الفكرة قد تكون صحيحة جدا ولكن برامج العمل والتنفيذ الناتجة او المتولدة عنها قد تكون فاشلة ولا يؤثر هذا الفشل على كون الفكرة على المستوى النظري صحيحة .. فهنا تقول البراجماتية بانه لا قيمة لأي فكرة نظرية اذا لم تثمر عملا أو أن تكون قابلة لأن تثمر عملاً، وبالتالي فالتأملات التجريدية لا معنى لها ما لم تتحقق في تطبيقات عملية، فكل فكرة يجب أن تكون مشروع عمل .
3/ فكرة البراجماتية تقول أن قيمة أي عمل هو ما يحققه من نتائج نافعة مثمرة، واي عمل لا يحقق فائدة ونجاح لأهدافه فهو عمل بلا قيمة أو مغذى ولا داعي له.
4/ معيار العمل الناجح في النظم الفكرية الفردانية مثل (الوجودية) هو تحقيق المنفعة الذاتية للفرد، ومعيار العمل الناجح في النظم الفكرية الجمعية مثل (الماركسية) هو تحقيق المنفعة للمجتمع الكبير بغض النظر عن منفعة الأفراد .. فجاءت البراجماتية لتوازن في نجاح أي عمل بين المنفعة والفائدة الذاتية للأفراد والمنفعة العامة للمجتمع، وذلك بدراسة العوامل المشتركة بين كافة الأفراد في مجتمع معين بما يحدد الحاجات المشتركة بين الافراد لتشكل في مجموعها حاجات المجتمع.. ويختلف كل مجتمع عن الاخر في حاجاته بنحو ما يختلف في نوع وخصوصية العوامل المشتركة بين افراده عن غيره من المجتمعات.
5/ في البراجماتية لا يكون نجاح العمل مرهونا بالفوائد المادية فقط ، بل وايضا الفوائد المعنوية النفسية سواء بسواء.
6/ البراجماتية كمنهج أو طريقة للرؤية هي ..
فكرة = عمل
عمل = نتائج ناجحة
نتائج ناجحة = جلب مصلحة أو درء مفسدة
جلب مصلحة او درء مفسدة = ماديا ومعنويا ، فرديا واجتماعيا .
بناء على كل ما تقدم فإن العالم المعاصر بحكم تطور الاكتشاف العلمي ومتغيرات الرؤية العلمية المعاصرة لم يعد يبحث عن تأسيس نظم مغلقة ﻹدارة مستقلة لمجالات الحياة على النحو الذي يجعل كل نظام ذا تحديد صارم يفصله عن النظم اﻷخرى، ولم يعد كل نظام يستمد مشروعيته فقط من خصوصية المجال الذي صمم لأجله هذا النظام.. فمثلاً عندما أتحدث عن التدريب العسكري ونظام الخدمة العسكرية وقوانينها، ينبغي علي أن أتخلص تماماً من كل ما يتعلق بالحياة المدنية ونظم الخدمة المدنية وقوانينها، بل ويأتي التمييز هنا حتى على مستوى التفاعل الاجتماعي، فهذا المثال يمكن أن تقاس عليه تلك النظرة القديمة.. أما اليوم، فلم تعد صورة العالم في أذهان العلماء والمفكرين وحتى اﻷدباء كما كانت في السابق، وأن فكرة النظم المستقلة لم تعد تلائم حقيقة الواقع الجديد، ولذلك اتجه البحث نحو مبدأ (تداخل النظم) وإزالة الجدر الثلجية بين نظام وآخر طالما أن العامل المشترك في اﻷخير هو اﻹنسان.. وطالما أيضاً أن الهوة الكبيرة بين اﻹنسان والكون باتت قريبة جداً، وعلى ذلك انطلقت دعاوى التكامل المعرفي بين العلوم وبعضها من جهة وبين العلوم وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى..
اﻷمر على هذا النحو يجعل الفشل الاقتصادي والسياسي لدولة غنية بثرواتها مثل السودان أمراً مبرراً فقد كان التعامل الاقتصادي فيها قبل ثورة الشعب في ديسمبر قائم باختيار البدائل بين النظم المدرسية للاقتصاد، فإذا تم تبني نظام ما يتم في نفس الوقت إسقاط البدائل اﻷخرى وهو ما جعل الساسة دائمي الارتطام بالواقع المتفاقم بأزمته، ومن ثم تحويل الشعب إلى حقل للتجارب الاقتصادية والسياسية.
أما اﻵن.. وللمستقبل.. ومن الانتقال من مرحلة اﻷزمة إلى مرحلة البناء والتطوير، يكون المطلوب هو الانتقال من حالة الانتماء للنظم إلى حالة اعتماد عامل (التخطيط) الذي هو مفهوم اكثر مرونة، وإحلال مصطلح (خطة) أو (برنامج) محل (نظام) System .. فالاعتماد على الخطة أو البرنامج بحسب مقتضيات الظرف المحلي يراعي تماماً مبدأ تداخل النظم أو اﻷنساق بمراعاة عوامل التميز والاختلاف بينهم.. هذا هو براجماتزم السياسة الجديدة.. ولعل اﻷمر يكون حميداً ويفتح الباب لمستقبل أفضل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق