الخميس، 9 مايو 2019

التاريخانية الحداثية

التاريخانية الحداثية ، في الأدب والدين والعلم
(رؤية تحليلية نقدية)
د. وائل أحمد خليل الكردي
أ/ ما هي (التاريخانية) ؟ Historism وفق التصور الحداثي/
إذا قلنا (تاريخية) ، فإننا نعني مفهوماً تفسيرياً في داخل علم التاريخ . أما إذا قلنا (تاريخانية) فإننا نتحدث عن خاصية مستفادة من علم التاريخ إلى مجالات معرفية أخرى غير التاريخ مثل الأدب والدين والعلم .  والتاريخانية في المصطلح الحداثي ذات دلالة نقدية في الأساس وتتوافق مع مجمل الأطروحات الفكرية الحداثية بصدد تفسير النصوص، وعلى أساس أن الحيز التاريخي للنص وفق ظرفي الزمان والمكان هو ما يحكم الأثر الفعلي له ومدى سريان حاكمية هذا الأثر . وبحيث أن توقف سريان الأثر يعطي المسوغ الكافي لما تحتاج إليه الظرفية الآنية لإنتاج عمل جديد على نفس سياق أو مجال المغذى النصي القديم على نحو أكثر تطوراً ولكن دون استعادة لهذا المغذى القديم وإحلاله بذاته أو استعارته لحالة حالة حضارية مغايرة . والشاهد في إثبات هذا لدي الحداثيين هو انتفاء قدر كبير من المقدمات المنطقية والسياقية الموضوعية في تتابع النقلات الحضارية .
إذن فكل عصر يمثل مرحلة حضارية إنسانية وفق محددات ظرفية خاصة يخضع لها :
1- انتاج النص
2- الحكم النقدي التحليلي على النص
3- سريان أثر المغذى النصي والحكم النقدي عليه
على هذا النحو يتضمن مصطلح التاريخانية الحداثي ما يعرف بعنصر (المستقبلية) ، أي رسم الرؤية المستقبلية للمرحلة الحضارية الجديدة استناداً على الواقعة التاريخية . ولكن المحدد التاريخاني لا يتيح لعنصر المستقبلية فيه أن يتمدد نحو أحوال حضارية متقدمة بصورة ملزمة أو حتمية ، فالماضي لا يحدد الراهن ولا المستقبل ، وإنما فقط يعطي المحدد التاريخاني محض إشارات تبنى عليها توقعات ، لأن ما هو قائم في الوقت الراهن لديه حيز سريان ينتهي عنده ليبدأ انتاج جديد تماما عنه ، فما هو في (الآن) لا يمتد إلى (التالي) في المستقبل بنحو من الحتمية التاريخية ، وأن سريان المنتج النصي في هذا الآن ينتهي عند مطلع النقلة الحضارية الجديدة . وهنا تكمن مهمة علماء التاريخ الحقيقية أن يترصدوا بالتحديد الخطوط الفاصلة بين كل نقلة حضارية وأخرى على هيئة بنيات مغلقة مستقلة . وعند هذا الحد لسريان المغذى النصي تتوقف كافة فعاليات الاستخدام الوظيفي له والتطبيقات العملية والإجرائية العامة عليه ، وما يستمر فقط هو فاعلية النقد Criticism التاريخي .
ب/ التاريخانية الحداثية والتاريخانية التنويرية/
إذا كانت التاريخانية الحداثية (نسبة إلى تيار الحداثة المعاصر) – على نحو ما نراها في البنيوية Structuralism مثلاً - تضع الحكم التفسيري على قياس الظرفية الحضارية كوحدة مستقلة زمانياً ومكانياً ، وبالتالي فهي تاريخانية نقدية على مستوى النصوص الوقفية المعبرة عن الوحدات الحضارية سواء كانت في الآداب الإنسانية أو في الأصول الدينية . فإن التاريخانية التنويرية (نسبة إلى عصر التنوير وآثاره وخصائصه) – على نحو ما نجدها في الهيجلية والماركسية -  هي جعل المحور التاريخي هو المحور الحتمي المحافظ على هوية الوعي لعموم الإنسانية ، وبالتالي فإن الحتمية التاريخية هي السياق الذي تؤل فيه النقلات الحضارية إلى مالاتها الجديدة في كل عصر بنحو من التتابع المنطقي المتسلسل والمترابط والممتد فكل مرحلة تفضي وفق الضرورة التاريخية إلى المرحلة التي تليها . ومن ثم تصبح الفواصل بين النقلات الحضارية هي فواصل اصطلاحية غير حقيقية مادام يمتد عبرها كلها سيال تاريخي حتمي واحد ، وهذا مما ينافي تماماً فكرة البنيات المغلقة المستقلة لدى الاتجاهات الحداثية.
ج/ جدوي النص وموت المؤلف/
إن التاريخانية الحداثية كمحدد نقدي للنص في الدين والأدب أكثر الشيء تفرض دائرة حكم خاصة على ما هو مجدي وما هو غير مجدي في الأخذ به عند (صناعة) الأدب وعند (قراءة) الدين . فالنص الأدبي بكونه شاهداً ظرفياً هو صنعة لا يجب أن يتعدى شروطها الصانع ، والنص الديني يسري عليه ذات الحكم عند القراءة التفسيرية له ، وهو عدم الخروج عن دائرة الواقع المعين زمانناً ومكاناً واللجوء إلى التعميم ، حتى ولو كان عملاً تجريدياً أو سريالياً فإنه لا يخاطب وجداناً عاماً ولا عقلاً جمعياً ، وإنما يوثق لما هو قائم حين صناعة النص أو حين تنزيل النص . وعلى هذا الأساس فلا يكون النص الديني نصاً مطلقاً ومفتوحاً وإنما يكون نصاً مغلقاً هدفه الوحيد الدلالة الوجودية على الله والأحكام التعبدية له وليس الأحكام التداولية للإنسان في أنشطته الحياتية . هنا تسقط إلزامية النص .
بهذا ، كان لزاماً على التاريخانية الحداثية أن تميت المؤلف ، مع ملاحظة الاختلاف في هذا بين الحداثة وما بعد الحداثة ، فتيارات ما بعد الحداثة تميت المؤلف من أجل (تحرير النص) أي تفكيك اصوله النحوية والسيميائية والتداولية ، بينما تيارات الحداثة تميت المؤلف من أجل (استقلالية النص) عن مصدره مع الاحتفاظ بتماسكه البنائي نحوياً وسيميائياً وتداولياً ودلالته على راهنه الحضاري . وعلة موت المؤلف من أجل استقلالية النص هو عدم الإبقاء على أي دلالة له إلا الدلالة الاجتماعية/ الحضارية ، أما مقاصد المؤلف فأيضاً يحكمها الراهن الحضاري له ، وبالتالي فلا حاجة لافتراض مقاصد ذاتية خارج بنية النص يمكن أن تهيمن على فهم النص بخلاف مقوماته الحضارية .
ه/ دلالات التاريخانية الحداثية في الأدب والدين والعلم/
أولاً - التاريخانية في النص الأدبي/
هي تحديد القدرة الإبداعية لدى المؤلف بحدود الخبرة المستمدة من نوع العلاقات الجدلية في عصرة بين الإنسان والانسان الآخر والعالم المشترك بينهما وفق الحالة التي هم عليها آنذاك . فلا يمكن لإبداع المؤلف أن يعطي رؤية مستقبلية تطلعيه إلا بناء على حدود خبرته في الراهن ، فيصبح الأمر مجرد تمديد لعناصر خبرته في إطار الظرف التاريخي دون تجاوز لاعتبارات المكان والزمان وسقف هذه الخبرة ، وذلك ما يعادل في عموم الرؤية التاريخانية مقولة (سريان الحكم) أو (سريان القانون) .
ثانياً – التاريخانية في النص الديني/
وتقع على حاكمية النص ومدى إسقاطه على الواقع . وتتعين هذه الحاكمية على أساس وقفية النصوص الإجرائية على حقلها التاريخي ، وأن سبب النزول يحدد الجانب الأكبر من المدى المتاح لسريان مغذى النص ، الأمر الذي من شأنه أن يحول علم تفسير الصوص الدينية الإجرائية إلى علم علامات تاريخية مقيد بإطار محتوى حضاري معين ، وأقصى ما يمكن تحصيله من فائدة لهذه العلامات بشهدتها على وقائعها في أسباب النزول بالنسبة لعصر غير عصرها ما يماثل بنحو ما مبدأ (السوابق القضائية) في علم القانون . ولكن هذه السوابق القضائية إذا كانت تعد في وقتها كأحكام قضائية ملزمة ، فإنها فيما يلي عصرها تعد (أعرافاً) حيث العرف يستأنس به ولا يكون ملزماً إلا بعد نفاذ أحكام الواقع الراهن الأساسية ، أي وضعه في حيز الاستثناء وليس الأصل . ولذلك ، ومن باب عرفية الأحكام الدينية في وجه النظر التاريخانية ، يتم تجريد دلالات القيم الإنسانية الكلية بما تحويه النصوص لتتحول الأحكام الإجرائية إلى (أحكام قيمة) باعتبار أن هذا ما يناسب النصوص الدينية من حيث الصلاحية العامة ، على أن لا يؤخذ منها إلا ما يناسب التنزيل على مجتمع ما بما يعينه المجتمع لنفسه على وجه التخصيص وليس بما يفرضه الدين ، وفي هذا تتفاوت المجتمعات في قياس التخصيص والأخذ بما يلائمها من التعاليم وأحكام القيمة . إذن ، يقتصر دور المفسر للنص الديني على تجريد القيم وإعلان مناط الحكم بها كعرف دون تجاوز لهذا الدور ، في حين تقوم مؤسسات المجتمع الأخرى بتعيين كيفية تنزيلها وتوظيفها في المجتمع سواء بنحو كلي أو جزئي وبما يخدم الراهن الحضاري . وربما كان الاستدلال في هذا لدى الحداثيين مبنياً على تعدد الديانات ونسخ بعضها بعضاً (توراة ، إنجيل ، قرآن) بحسب النقلات الحضارية لكل منها .
ثالثاً – التاريخانية الحداثية في العلم/
كان ارتباطها وثيقاً بمقررات فيزياء (الكوانتم) Quantum mechanics التي ألغت كثيراً من المفاهيم في فلسفة العلم الكلاسيكية ولاسيما في سحب صفة اليقين عن مبدأ (التنبؤ العلمي) . وقد تمثل هذا التحول على نحو بارز في وضع مبدأ (التكذيب) Falsfication لدى (كارل بوبر) K. Popper للوصف العلمي في مقابل مبدأ (التحقق) Verification لدى مدرسة الوضعية المنطقية Logical positivism . فليس الطلوب تحقيق النص العلمي وإنما تكذيب النص العلمي .
وخلاصة مبدأ التكذيب هي الدفع بالشواهد المعارضة للقانون العلمي أو النظرية العلمية ، فإذا فسرها القانون كان مازال حد سريانه باقياً ، وإن توقف القانون أمام تلك الشاهدة المعارضة صارت هي علامة فارقة في تعيين حد سريان النص العلمي ليكون ما قبلها هو مدى تحقق هذا النص وثبات القانون العلمي .

و/ نقاط للنقد العام/
1- التاريخانية الحداثية هي محاولة لرسم الحدود الفاصلة بين الأوقات .
2- محاولة لقفل بنية الحدث فلا يأتي مصدر بنص من حقبة حضارية مختلفة أو زمانية ومكانية متقدمة ليسقطه على واقع متأخر ، وبالتالي نطمئن إلى حدود ومعالم وأفكار ومقتضيات كل عصر بعينه ولوازمه الخاصة .
3- محاولة لمواجهة الانفلات المعرفي في كثرة التأويلات المفتوحة على النص الواحد ومصحوباً بوقائعه السببية .
4- من شأن التاريخانية الحداثية أن تحول الكتابات الأدبية والنقد عليها إلى ما هو أقرب إلى السير الذاتية Autobiographies من إلى الآداب الشعبية والتجريدية ، كما أنه يحجم فاعلية النقد الأدبي ليسير في الخط الوصفي دون الاستقرائي التأملي ، وأن يعمل فقط على منهج السبر والتقسيم في إطاره المحدود دون الاستنباط المفتوح والتحويل التداولي .
5- يظل السؤال مطروحاً أمام التاريخانية الحداثية في الدين عما هي فائدة وقوف أحكام النص الديني الإجرائي كمجرد علامة شاهدة ، خاصة إذا لم يكن فيها مادة للاعتبار القيمي ، فهل فقط كان التنزيل من أجل الحكم على سببه في وقته المعلوم تاريخياً بدلالة نسخ الأديان بعضها بعضاً؟ فإن كانت الإجابة بنعم ، فهذا ينافي جوهر الدين والذي يكون كل نص فيه مقصد بذاته ومطلوب فيه الأثر الممتد بامتداد عمر البشرية كلها ، وتلك هي حكمة الدين .
ومن جهة أخري ، إذا كان من مسوغات موت المؤلف في الأدب خضوعه لنفس الراهن الحضاري التاريخي الذي تم تدوين النص في خلاله ، فما هي حجة حمل هذا المسوغ على الذات الإلهية وما هو الراهن الحضاري الخاص بهذه الذات .
6- إن حد سريان النص العلمي هو مدى استخدامه الفعلي وتعيين وظائفه وليس بشواهده المعارضة له ، فمبدأ التكذيب هو ردة فعل دفاعية لمنطق القيم الثنائية Two valued logic في إطار اطروحات الكوانتم التي أدت نتائجها إلى اللايقين أو الارتياب المعرفي في العلم فتمخض عنه منطق القيم المتعددة  Many-valued logic المتجاوز لمنطق القيم الثنائية ، فماذا لو صدر نظام منطقي جديد يتجاوز كلا النظامين المذكورين ؟
7- أثبت تدوين التاريخ أنه ليس كل وقائع الحدث التاريخي وليس كل الشهادات التاريخية تدون بتوثيق تاريخي ، بل أن هناك فراغات تاريخية ربما أكبر حجماً مما هو مدون ، وهذه الفراغات هي ما تسمح باستدعاء الخيال حولها بشكل جديد ومتجدد في كل مرة ، الأمر الذي يدحض بنحو كبيرة سلطة تاريخانية النص .

 






كن شرطيا دوما

كن شرطياً دوماً ..

د. وائل أحمد خليل الكردي

طرح (تشارلز داروين) Ch. Darwin صاحب نظرية التطور عدداً من المشكلات الصعبة التي واجهت نظريته ووقف أمامها موقف الحليم المحتار عند الفتنة ، ولكن (العين) كانت أشدها .. فقد قال في كتابه (أصل الأنواع) The Origen of Species  :
(إذا ادعى أحد الباحثين أن العين ، على ما فيها من الخصائص والتراكيب الغريبة ، ونظام بؤرتها في كشف المسافات البعيدة ، وتحديد الأبعاد وإدخال كميات مختلفة من الضوء ، وتصحيح الانحراف الدائري واللوني ، يمكن استحداثها بتأثير الانتخاب الطبيعي ، لظهر قوله بداءة ذي بدء ، منافياً لبديهة العقل) ..
إن تلك العين الواحدة كادت أن تقوض نظرية (داروين) التطورية بدقة وحساسية وخطورة تركيبها وأعمالها ، ولأنها تختلف عن سائر التأليفات العضوية للجسم الحي بالنسبة لأي كائن .. فماذا إذن عن عين المجتمع بكليته ، ذلك الجسد الكبير وما يضمه من ملايين البشر .. إذا كان أفراد المجتمع هم فيه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فإن هذا الجسد حتماً له من بين أعضائه عين كما عين الإنسان تدمع حين الألم وترسل ثاقب النظرات إذا اشتد البأس .. ولم يكن من خيار إلا أن تكون هذه العين هي عين من ذاق حلاوة مشقة أشغال الشرطة والعمل العسكري و(بيادة) الميدان ورائحة البارود فأصبح هو المهذب المطيع المنطقي المتحضر المتعلم القائم بحماية الأرواح  في المجتمعات المدنية Protection of life in civil establishment Police)) . وبالمقارنة ، فإن هناك ما يفرق بين عين المجتمع الكبير وعين الإنسان ، أن الأخيرة تغلق على نفسها أجفانها كيما يرتاح الجسد .. في حين أن عين المجتمع لا يرتاح الجسد إلا مع يقظتها ، ولو أنها تغطت برهة عن النظر أو غفلت أو أخذتها سنة من نوم لضاع بحجبها كل الناس .
في الماضي كنا نظن أن الشرطة تؤدي دورها الحقيقي بمنع الجريمة واكتشافها والتحري عنها فحسب .. فكلنا قد لعبنا صغاراً أن شرطي النجدة هو من يطارد اللصوص ويجلب المسروق ويسلم الخارجين إلى العدالة .. ولكن عندما اشرقت علينا شمس جديدة داخل أروقة كلية علوم الشرطة والقانون ، تبين لنا أن ما ظنناه دوراً واحداً هو أدوار متعددة ، وأن تلك العين الساهرة لا تقوم فقط بدور (الحراسة) وإنما تقوم فوق الحراسة بدور (الرعاية) ، وكيف أن أشغال الشرطة وضعت لتقوم بفعلها على خطين وليس على خط واحد .. خط يقوم على الاستثناء في المجتمع ، والذي ينشأ وقت الحاجة رغم استمرارية الجاهزية له في منع الجرائم وانتشارها والكشف عنها ، وهذا استثناء لأن كل المجتمع معافى إلا قليل هم الجانحون .. وخط إيجابي دائم يقوم على تأدية الأدوار الخدمية والتنظيمية والاشرافية لمصالح الشعب بأكمله فرداً فردا ، وهو ما كان من غير الممكن أن يقوم إلا مقام الأصل العام المحض في المجتمع ولا استثناء فيه .. إن عين الشرطة (جنوداً وضباط صفٍ وضباط) في وقت حاجات الناس تصير جسداً جسراً يعبرون عليه من حال إلى حال أفضل وأعظم خيراً ، ولربما هلك هذا الجسد الجسر مع آخر عابر عليه .. فمن غير الشرطي جعل من نفسه طواعية كبش فداء للوطن بأن أقسم على التضحية بحياته من أجل واجبه في الحماية والرعاية ..
ولكن ، إذا قلنا أن كل عين معرضة للإصابة بضعف البصر أو العمى ، فإن ضعفت عين المجتمع أدركنا حينها أن الشرطة قد صارت لدى أهلها مجرد مهنة وسبب فقط لأكل العيش وربما سبب للمن والأذى والطغيان بعصا السلطة على من يرجون منهم حماية ورعاية برضاء الله ، لذلك لا ينبغي لعين المجتمع أن تتضعف حتى وإن هرمت .
ولا نحسبن من ترجل عن صهوة جواد الشرطة إلا ومازال لديه ما كان له قبل من سهم ضاربة ، وباق عليه عهده القديم مستحق النفاذ بوجوب شرف انتمائه يوماً لقوة الشرطة ، فلا يعفو عليه الزمن ولا يضرب عنه صفحاً إن هو أراد أن يكون حاضراً ومستقبلاً وليس محض ماض أكل الدهر عليه وشرب .. وبرغم أنه يصير غير مقيد بوازع من الأوامر المستديمة والتعليمات العليا لهرم المؤسسة العسكرية ، فإنه حري الآن أن يقيد نفسه بوازع من ضميره الإنساني الذي شكلته ميادين التدريب الشرطي والعسكري ، وبوازع من قسمه الذي أداه لله منذ أول يوم بدأ فيه تلك الرحلة فصار هو عهد الرجال مع ربهم أينما حلوا وأينما ارتحلوا .. فانت إن تكن شرطياً يوماً تكن شرطياً دوماً ، وكم هو شرف باذخ أن كنت شرطياً .

   

الأربعاء، 6 مارس 2019

الفرعون الجديد

 الفرعون الجديد ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
قالها الله من قبل للفرعون القديم (آلآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين).. كان الفرعون أكثر إنسان يدرك عن نفسه أنه ليس إله، ولكنه أغلق ضميره عن ذلك قصداً. واكتفى بظن الرعايا فيه أنه هو الإله، فهناك ما قد يسوق الواحد منا إلى الاطمئنان على ما بنفسه بما يخالف ما فيها وهو أبصر الناس عليها.. وكثيرون منا يسكتون صوت الله في أنفسهم بمجرد أنهم يصلون ويصومون ويأخذون بكل الفرائض والنوافل.. وكثيرون يأتون الفواحش ليلاً بعد صلاة العشاء وهم يطمئنون أنفسهم بأن الله حتماً سيغفر لهم، ألم يصلوا العشاء؟ حالهم تماماً كحال من سلب الخير كله لنفسه بسلطان جائر وقد أقنع نفسه أنه يقيم العدل والدين.. ولكن الأدهى والأمّر هو في شأن الذين فقهوا في الدين إلى حد الإغراق في مسالكه وضروبه وأدق التفاصيل، حتى إذا ما ظنوا انهم قد ملكوا ناصيته، أخذوا يزكون انفسهم لأنفسهم على الله سراً وأخذتهم العزة بظنهم الكذب بأنهم قوم على هدى وصلاح ورضاً من ربهم بمحض علمهم وفقههم وإمامتهم للناس في المساجد والصلوات، وأنه في كل يوم لهم على العوام موعظة، فلا ضير لديهم بعد ذلك إن أتتهم الدنيا راغمة أو أتوها هم راغمين، ولا ضير لديهم إن نالوا عطايا الولاة بحياكة الفتوى لهم وتفصيلها على ما يحبون ويطمعون .. وكما قالت بنو إسرائيل أن (ليس علينا في الأميين سبيل) قال علماءنا اليوم أن (ليس علينا في الشعوب سبيل، ما دامت للسلاطين الدنيا وما دامت لنا الدنيا تحت عروشهم والدين معاً)..
إن الفرعون يعود دائماً من جديد ليمسك برقاب العباد من عقائدهم، ويقهر الجماهير بدينهم وتدينهم في سبيل رضاء الولاة والمعافاة من سخطهم.. وهكذا لم يعد الفرعون في زماننا هم السلاطين والولاة وإنما هم علمائهم ورجال دينهم.. ينصبون أنفسهم الحكم الأقدس على كتاب الله وآياته حتى يُصٌيروا أنفسهم زعماءً ذوي حشم وأتباع وحواريين كثر يجلسون على الأرض تحت أرجلهم ويحملون عنهم حقائبهم وعباءاتهم ويفتحون أمامهم الطريق بين الناس بشدة لأجل أن يعتلوا المنابر.. أولئك رجال الدين الذين إذا دعوا الناس إلى الجهاد هم يقعدون، وإذا خاطبوهم في المنصات قالوا ما لا يفعلون.. أنعم عليهم الولاة والحكام بزخرف الدنيا ورغد العيش فأصلحوا لهم الفتوى وإن كانت في ظلم العباد، ثم إن اشتكى العباد من ظلمهم تجد أولئك وقد أوقفوا على بابهم الحكم سريعاً بالزندقة والخروج ومخالفة الشريعة.. تراهم يرفلون دوماً في جلاليبهم وعمائمهم البيضاء والوقار المصنوع على محٌياهم لا يملكون غير نسج الكلام ولكن لا طحين تحت الرحى.. وإن حدث ذات يوم قال لهم الناس بأمرك قدنا إلى أعلى الجهاد وكلمة الحق أمام سلطانك الجائر، إذا به يتسرب من الباب الصغير غمرة انشغالهم وكأن على آذانه وقراً أو لم يلقي السمع وهو شهيد، ولسان حاله قائل (أخرجوا أنتم إلى الساحات والميادين منددين مطالبين، وأما أنا فقد ملئتكم قولاً وكفى بي ما قد ملئتكم).. فأي تدين ذلك لا يكون الشيخ فيه (عمراً) يقوّمه الصحابة بسيوفهم متى أعوج حكمه.. وحاشى لابن الخطاب أن يعوج.
وكما أن ماء النهر يصب في مياه البحر.. كذلك لم تكن تلك حال علماء السلطان في ديانة الإسلام وحدهم فإن لهم أسوة كانت فيمن قبلهم.. فقد أورد اللورد (ديننج) القاضي، أن قانونياً من رجال عصور أوروبا الوسطى قدم تفسيراً على محاكمة قضت بإعدام أحد الكهنة لا لأنه قد خالف تعليمات السيد المسيح أو الكتاب المقدس، وإنما لأنه عارض أفعال رجال دين سلطوية وسياسية فاسدة، فقال عن لسان أحدهم (إن الكهنة الرومانيون يقررون ما شاءوا بأنه هرطقة – دون معقب على قرارهم – وينقلون إلى الجانب المدني من المحاكم شناعة وعناء تنفيذ أحكامهم. وأولئك الكهنة كانوا يستشعرون الحساسية والصعوبة في التدخل في أمر التنفيذ، بل أكثر من ذلك كانوا يتظاهرون بأنهم يتشفعون ويصلون من أجل الزنديق المحكوم عليه، عالمين تماماً أنهم يسلمون في ذات الوقت الضحية المسكينة إلى حبال المشنقة).

الأحد، 2 سبتمبر 2018

فن صناعة الفساد ..

فن صناعة الفساد ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ليس دائما ما يكون الفساد السلوكي والانحراف الأخلاقي في الشعوب هو من جراء فقرها ..
 عوداً على (ثوماس هوبز)  Th. Hobbsالفيلسوف السياسي الانجليزي الذي كان أشهر من وضع نظرية في (العقد الاجتماعي) قدمها في كتابه الأساسي (التنين)       Leviathanوكيف جعله مسوغاً لصناعة الدولة كضرورة تاريخية اجتماعية ، فالدولة لديه هي حالة متفق عليها بين أفراد المجتمع للخلاص بها من الحالة الفطرية الأولى للإنسانية وهي حالة الحرب والاقتتال والتعدي المستمر للكل ضد الكل فإن استمرت لأدت إلى فناء الجنس البشري في عهده القريب .. وعلى هذا فإن الدولة هي كيان مصطنع بقصد تنظيم حياة الناس وتوزيع الواجبات وضمان الحقوق في المجتمع ..وهذا التنظيم الذي تجريه الدولة إما أن يكون حميداً بصناعة العمران أو أن يكون خبيثاً بصناعة الفساد في الأرض ، والحكومة في هذا هي الهيئة الرئاسية القائدة للدولة ، فإن كان قد تم تنصيبها ببيعة الناس ابتداءً وباختيارهم الحر ثم أفسدت فيلزم للناس حينها الصبر عليها لأن الخروج عليها يكون أمراً ذا شروط وقيود لاسيما لأنه حينها سيكون لدى الشعب آليات لنقد وتقويم الحكم .. اما وإن أتت جبراً على الناس بلا بيعة لها في أعناقهم أو انتخاب في الأساس ثم افسدت فمن الواجب حينئذ الخروج عليها وحذفها ومحاكمتها كسبا لحق المظلومين المستضعفين في البلاد ، فلا حق لمن يتسلط على الناس دون إرادة منهم أو اختيار في تسلطه عليهم .. وأذكر أنه كان لدى بعضاً ممن لهم اختصاص في السيكولوجيا الاجتماعية رأياً تحدثوا به عن التأثير الخطر (للدعاية) بكونها نوع من غسيل الأدمغة للشعوب وبما يماثل فعل التنويم المغناطسي ولكن على المستوى الجمعي وليس الفردي .. وربما قد استغلت الحكومات الفاسدة والطغاة من الحكام هذا التأثير من أجل التسويغ أمام الشعوب ما يحصل من فسادهم .. وهكذا ، تسير الأمور على منطق أن هناك حكومة  فاسدة بكافة بطانتها ولكن إذا برز هذا الفساد للحكومة كفرس أوحد في الميدان لانتفض الناس عليها واندلعت الثورات .. فكيف إذن يكون الفعل لتستمر الحكومة باقية على دولتها على مدى الآجال الطوال رغم فسادها البين .. الاجابة الظاهرة على هذا السؤال بأن الحكومة تلك قد تلجأ إلى صناعة فساد موازي داخل صفوف الشعب .. أي أن يتم خلق ظواهر شاذة في الوسط الاجتماعي أو هكذا تبدو في بادئ الأمر ، حتى يستهجنها الناس وينشغلون بقولهم أن هذه الظواهر ليست من أخلاقنا أو ليست من ديننا أو ليست من عادات مجتمعنا .. ورغم أن الشعب سيصب في أول الأمر بطبيعة الحال جام سخطه على الحكومة وفسادها البارز بأنها السبب الحقيقي والمباشر في نشؤ هذه الظواهر المنحرفة والشاذة بين أفراد من الشعب بفعل الفقر وانعدام العدالة وضنك العيش وضياع الخدمة المدنية وتبديد الموارد القومية وانفراط الأمن وأن مع كل هذا وبسببه تضيع الأخلاق وتنحل القيم وتتلوث الأيدي .. ولكن ذلك لن يكون نهاية المطاف في هذه المؤامرة على الشعب .. إذ سرعان ما ستتكاثر الظواهر الاجتماعية والسلوكية السالبة وتنمو بصورة ملحوظة لدى كل أفراد الشعب وشعوب أخرى .. إلى أن يقع في يقين الناس أن هذا الفساد الكثيف فيما بينهم إنما مصدره هو الناس أنفسهم وليس من مصدر خارجي عنهم ، وأن ليس لفساد الحكومة يد بسبب في فساد الناس إلا أنها فقط اظهرته إلى العيان بعد أن مستتراً في اخبيتهم ، فيروا أكثر الشعب مرتشٍ داعر أكال للحرام  سارق وقاتل .. في حين تكون حقيقة الأمر وراء ذلك والتي لم يفطنوا اليها أن هذا الفساد السلوكي العام ربما هو مكيدة دبرتها الحكومة الفاسدة بين الناس قصداً واصطناعاً ، حتى يدب اليأس أخيراً في قلوب ابناء الأمة من سوء أنفسهم فيكون ما قد اثار الاستهجان لديهم في الماضي هو في الحاضر الأمر العادي المألوف ، وأنه ليس بمستغرب ان يخرج من باطن الشعب الفاسد في أصله حكومة فاسدة بل إن هذا هو الحال الطبيعي .. هكذا يتحول شاخص الرمي من فساد الحكومة إلى فساد الذات ، إلى الدرجة التي لا يجد معها الصالحون الأبرياء بظنهم أنه لا ملجأ من فساد الناس الا إلى الحكومة التي حتى وإن علا فسادها ما علا يظل أهون من فساد الشعب ، لأن الحكومة مسبقاً كانت قد اضعفت كثيراً حاكمية القانون في الدولة واستعاضت عنها بقوة السلطة حيث أن غياب القانون يمثل فرصة لإظهار الفساد في الناس وكاشفاً عن سوءات نفوسهم ، هنا تصبح الميزة الوحيدة للحكومة الفاسدة على شعبها هي أنها تملك القوة .. اذن فلا مناص أن يقبل الناس بهذه الحكومة احتماءً تحت قوتها .. يسير هذا الوهم المصنوع بين الناس كالنار في الهشيم نحو صناديق الاقتراع للتصويت طوعاً لصالح تلك الحكومة التي بدت له لهم أنها أفضل السيئين وإن زالت فلربما تولى عليهم ما هي أسوء منها.. هكذا اذن هو فن صناعة الفساد بتكثير الظواهر الانحرافية السالبة والتي يتم تعميمها في أذهان الناس بفعل الدعاية المركزة ، فيضرب الوهم بذلك عقول أفراد الشعب بأن الفساد طبع وأصل فيهم هم دون سواهم ، وأن أمجاد الأقدمين في الشرف والعفة والأخلاق كلها قد ضاعت الآن .. ثم اليأس من الإصلاح ..ثم تأتي النتيجة الحتمية بالارتماء في أحضان الحكومة الفاسدة لتحول بينهم وبين فساد ذات بينهم .. وهكذا يعود (تنين) (ثوماس هوبز) لمرات أخرى وفي ثوب جديد، ففي الماضي كان الناس عنده كلهم مجرمون بالأصل فيهربون من إجرام أنفسهم بتوقيع العقد الاجتماعي فيما بينهم من أجل التخلي عن حرياتهم وحقوقهم لفرد فيهم وليس هو طرفاً في التعاقد ليكون حاكما عليهم يحتمون خلفه حتى ولو كان هو مجرم مثلهم أيضأ وليفعل هو ما بدا له شريطة ان يحفظ لهم حياتهم آمنة .. والآن في حاضرنا الراهن سيهرب الشعب جماعات وفرادى من بأسهم الشديد بينهم إلى الاحتماء بحاكمهم الذي هو كذلك من جملة الفاسدين بعدما كانوا يرمون بيته الزجاجي بالحجارة بحسن الظن منهم أن بيوتهم مدعمة بحيط من رخام وفضيلة .. هذا هو فن صناعة الفساد ، أن يصير الشاذ البعيد مألوف قريب .. والصورة كلها هي كما حال كبار علماء الطبيعة في مشاهدتهم لأكثر الظواهر واقامتهم عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها ظواهر يشاهدها كل الناس في كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه فيهم ، والأحوال الاجتماعية لا تختلف عن ذلك ، فنحتاج فيها إلى ناقد حصيف لا يرى في الظواهر السلوكية الشاذة والمنحرفة على كثرتها أمراً أصيلاً معتاداً عليه كما هو لدى عموم الناس ، بل يراه على الحقيقة فيحرك هو بذلك انتباه الناس من جديد ليروا إياها كمحض ظواهر شاذة وان الشعب في أصله ليس فاسداً ، وبالتالي تتجلى أمامهم حيلة السلطة في صناعة الفساد الوهمي الزائف في الناس وترويجه قصداً بينهم عبر الدعاية .. هنا وجب انفاذ أحكام القضاء الجنائية في حق السلطة .. اولاً، بفساد الحكم في ذاته ، ثم ثانياً، بصناعتهم الفساد في الشعب كله ليكون سمة له .. فسبحان من يمهل ولا يهمل .

البنية العقلية لعرقنا ..

البنية العقلية لعرقنا ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
تلك هي التسمية ألتي أطلقها (جوستاف لوبون) الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي عند حديثه عن سيكولوجية الجماهير .. ورغم أن الفطرة السليمة تأبى قبول كلامه عن دور اللاوعي المخزون في أعراقنا في حسم سلوك الجماهير ، وأن عظمة الحضارات وانحطاطها تكمن في روح العرق الذي ننتمي إليه .. إلا أننا في الوضع الراهن نحتاج لكثير من الجهد لأجل أن لا تثبت علينا بأفعالنا احكام (جوستاف لوبون) تلك عن الجماهير حيث أفاد بأن الانقلابات الكبرى التي تسبق عادة تبدل الحضارات للوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسية ضخمة ، ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالباً أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب ، وأما الأحداث الضخمة المأثورة ألتي تتناقلها كتب التاريخ فهي ليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية ألتي تصيب عواطف البشر ، وإذا كانت لا تظهر إلى السطح إلا نادراً ، فذلك لأن المخزون الوراثي لعواطف عرق بشري ما هو عنصره الأكثر ثباتاً ..
فماذا إذن لو رأينا جماهيرنا تلهث وراء كل حافلة ونازلة ليغيب الواحد منا قصدا عن نفسه وحقيقة ذاته ويغرق في احوال المجموع ، فإننا إن فطنا إلي ذواتنا رأيناها خواء .. على هذا درجت سنة الجماهير في مجتمعاتنا المعاصرة ، نأكل القشور تصنعاً ونلقي باللباب في الحاويات يتخطفها البؤساء والمجهولين عن ذكر الناس لهم .. ونلبس كل يوم أقنعة جديدة كي نرائي أو نداجي من كانت لدينا عندهم الحاجة .. واتخذنا الأقوام من بني جلدتنا مطية لتحقيق الذات والشعور بقيمة النفس وربطنا محاسن حظنا في الحياة بتعس حظوظهم .. وكم ترى الساعين لتلبية المناسبات والمآدب وليالي الطرب الصاخبة رجالاً ونساءً قصدوا إليها تزلفاً لوجهاء القبائل وعلية الأقوام وقد خلت صدورهم إلا من نفاق إجتماعي ورغبة في الظهور .. وحتى في المآتم يبكي صاحب أو صاحبة البلوى في فقد العزيز بعين واحدة وينظر بأخرى إلى من قد جاء معزياً ومن لم يكن من الحاضرين ، ليبادلوا من أتى إليهم بمثل ما أتى ويقطعون الأواصر مع من لم يأتِ .. أما من مات فقد راحت عليه الحسرات يوم دفنه وعاد للناس عند قبره لهو حياتهم بينهم وتبادل الأقنعة الزائفة وهم مازالوا جلوساً في دار مأتمه فلا ذكر لله ولا دعاء.. وكثيرون إن رأيتهم يصطفون في الصلاة تطالع على سحناتهم الخشوع والتبتل فلعلهم قد أتى بهم حسن الصوت فحسب في تلاوة الإمام ، وإن رأيت منهم بكاءً شديداً فلربما كان هو استصحاب لذكرى حزنٍ قديم أو مقيم حضرت مع ذاك الصوت الشجي بالقرآن ولكن ليس بكاءً على ما في آيات الكتاب المبين .. وأناس من بيننا لا يفعلون الخير إلا اعلاءً للواجب الاجتماعي وليس بقصد اخلاص النوايا في الترضي لله تعالى ، فلا يقدمون الخير للناس إلا بعدما يقدم لهم أولاً ..
أما في أروقة الدواوين والدوائر فحدث عنا أننا تداهناً نتبسم بين أيدي من له الرئاسة علينا وقلوبنا في الخفاء تلعن كل قولة منه وفعل .. ونشرئب بأعناقنا لنطاول أسفل موطئ نعل السيد فينا ونطأ بنعالنا رقاب الضعفاء منا ، ولا حياء .. وما ذاد وغطى أننا اينما تولينا وجدنا حولنا قلوب تغلي كالمراجل حسداً على السالمين الموفّقين في الحياة وفي الوظائف وفي العلوم وفي الزواج الكريم وفي فلاح الأبناء وحتى في العبادة ، فإن لم يطالوا أخوانهم بمحض الأيدي والمكيدة فإنهم لا يتورعون عن الكفران بالحق لدى كل ساحر دجال وضارب رمل وودع ليعقدون الأعمال السوء بأيديهم على الطيبين الغافلين عنهم ، وهذا آخر الزبد .. فكيف لنا من بعد ذلك لوماً على ديارنا البريئة ونحن من اقترفت ايدينا ميتة ودماً فاسداً ، فحتى وإن هاجرنا هاجرت معنا كل مآسينا وطوايا سرائرنا المريضة .. فهكذا ضرب الله علينا الفقر والمسكنة بذلٍ فندعوه فلا يستجيب لأيدينا المرفوعة إليه بالدعاء ملوثة بكل نفاق ومداجاة وحسد وكفران عشير وظلم ومالٍ حرام ومد بأعيننا إلى حرمات وحمى غيرنا .. ثم نعود نسائل أنفسنا في غباء لما ولى الله علينا بذنوبنا من يسوموننا سوء العذاب ، ومازال يولي .. لقد جعل الله كفارة الفرد الصالح حتى شوكة يشاكها ، فكيف بكفارة مجتمع كبير سوى حاكم مستبد وبطانة فاسدة وحاشيات قصور جائرة .. فهل نقتص أمام القضاء من حكامنا وولاتنا أولاً ، أم نقتص من بعض أنفسنا حتى ندرك لماذا عجزنا عن الاقتصاص من حكامنا وولاتنا .. ولماذا تظل أيادينا مشدودة إلى الأرض ناهيك عن ثقل أرجلنا عليها .. إذن ، لابد من حل هو لدى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، يقلبون أعاليها أسافلها .. واللبيب بالصمت دون الإشارة يفهم .

والأغنياء أيضا يقاطعون ..

والأغنياء أيضا يقاطعون ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (إذا كان للدنيا حد محدود ، فليس لمطامع الإنسان وامانيه حد ... ولو فرض أن استولى على الدنيا كلها لما قنع بها ، بل أخذ يفتش عن عالم آخر ليوطد به دعائم مطامعه .. فهيهات أن يقنع وهيهات أن تشبع النفوس الحبلى بالأماني والآمال ، وهب على حد ما قيل  : إن الطعام يقوي شهوة النهم .. يُخلق الطمع في صدر الرضيع صغيرا ، ويكبر وينمو مع الجسم ، ولكنه لا يهرم .. بل تراه في سن الشيخوخة أقوى منه في الشباب) ..
هذا ملخص الأزمة ، قدمه (مارون عبود) بكلمات مضيئة في صحافة زمانه .. وأنه للحق في القول أن الطمع علة كل رشوة واعتداء وربا وسرقة وسفك دماء .. وهو علة جشع التجار وطغيان الأغنياء   .. وحتى الفقراء لم يسلموا من الطمع فيما عند غيرهم ، يعاتبون القدر على ضنك معيشتهم وجفاف أقواتهم إلا من رحم الله منهم القانعين الشاكرين قسمة الله لهم وحق عليهم وعد الله (ولئن شكرتم لأزيدنكم) .. ولكن تصاريف الرب في الكون بمشيئته لا تسقط عنا واجب المنع لدوُلة المال بين الأغنياء منا فقط .. فكثير ما أمسك أغنياء البلاد عن بذل ريعهم والفيوض لفارغي البطون وهم بطونهم ملئ على مدى الأيام والليالي ، فهم إذن لا يعبئون بمن ماتوا في منازلهم غبناً وحسرات أن نخر السرطان الخبيث لحوم أدمغتهم والدواء معروض تحت أعينهم ولكن لا يناله إلا أهل اليسار والمال الوفير .. وليس هذا في حال المرض وحسب ، ولكن حتى أقل حقوق الغذاء هضمت ظلماً وقهراً .. فترى الشياه المنسلخة عن جلودها معلقة من أذنابها يتقاطر منها الدهن والدسم على حاملة القصاب الثري .. يعبر من أمامها الساعين من ذوي الأقداح المملؤة في قعرها ماء على خبزها المعجون وملحها شيء من دموع العين واعتصار الفؤاد هذا غدائهم لأيام بلا عد .. فأي غيرة تلك تجتاح القلوب وتمتلك العقول على مناظر دهن يتقطر تمتد إليه أعين الكادحين قصداً والأيدي عنها تكفكفت فلا تنال منه قطافاَ ولا حباً .. في حين تمتد إليها أعين الهانئين عفواً من خلف النوافذ في السيارات اللامعة فتأتيهم الأنعام مسومة محمولة على أكتف الحُمال بطلب وبغير طلب مادامت أوراق النقد مرشوشة على طاولات القصابين بغير حساب .. أفلا يخشى اولئك من مثل أصحاب الجنة أن أقسموا أن لن يدخلنها عليهم بعد يومهم مسكين فباتت جنتهم من بعد قسمهم بغير صريم .. أوليسوا هم من قال فيهم ربنا (وإذا مسه الخير منوعا) .. ولقد وُضع هؤلاء على المحك في أيام قريبات خلت أتى فيها الشعب بجمع من ابنائه بحملة لمقاطعة شراء اللحوم بسبب مغلاة التجار في أسعارها استغلالاً لوقت العسر الاقتصادي الشديد على الناس فدقوا بغير رحمة عدداً من الأصفار الزائدة على يمين أثمانها الحقيقية .. وما ذاك إلا لأنهم اعتادوا من الناس أنهم يدفعون باستسلام دائماً رغم التذمر والاعتراض ولكنه اعتراض شفاهي لا يخلف دونه أثر ولا طحين.. ولما كانت الجماهير الفقيرة لا يشترون اللحوم أصلاً إلا على أطراف أشهر متباعدة في حال دنو أسعارها أو بتوفر زيادة زهيدة في حظ المال .. فلذلك قامت الحملة تناشد أولئك الأغنياء القادرين على الشراء مهما غلا السعر ، أن يتضامنوا أخلاقياً وإنسانياً مع الأكثرية الفقيرة في مقاطعة متاجر اللحوم وبيوتات القصابين  وأن يتركوا تلك اللحوم لتعفن في محاجرها ، حينها ستنخفض الأثمان لزاماً .. ولكن هل ترى فيمن ننادي حياةً أم أن على قلوب اقفالها .. إنها معاناة شعب بأكمله في قوته ورزق يومه كادت به تضيع البيوت وتتشرد الأُسر ويدب اليأس في جوف الناس ، والجرائم المستحدثة بسبب الفقر والجوع والمرض تترا من كل فج وصوب .. فإن تتعفن كل اللحوم في محاجرها خير من أن يموت طفل واحد عن جوع أو عن مرض أو بضياع أسرة ، فإذا الطعام  لم ينتفع به إنسان فلا خير فيه .. وإن عز الطعام اليوم فماذا سيمنع أن يعز الماء غداً أو يعز الهواء .. فمتى صارت البلاد بعد هذا أرض مستضعفين فلن يبقى إلا أن يغلق الشعب أبوابها خلفهم ويمتطون الطوارد نحو المهاجر .. ألم ترى أن حالنا اليوم قد انبأ عنه (مارون عبود) قبل أكثر من مئة عام (فعليك السلام أيها الفقير الأمين الذي تفتدي صيتك بكل غالٍ ورخيص .. وأنت أيها الغني النهاب فغنى عن الإطراء لأن الذين نهبت أموالهم وهضمت حقوقهم يُذيعون مجدك .. فطوباك) .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

الاثنين، 9 يوليو 2018

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هنالك نظرية انجليزية قديمة في الفقه القانوني البريطاني تدعى بنظرية (اندماج سبب الدعوى في الحكم) The doctrine of merger of cause of action in judgment   وبمقتضى هذه النظرية يفقد سبب الدعوى ذاتيته بمجرد صدور الحكم وينقضي سبب الدعوى بأن يحل الحكم محله كمصدر للحق أو الالتزام .. وقد اوضح القانوني البارز (هنري رياض) ذلك شارحاً بأنه لا يجوز للخصم أن يرفع دعوى اخرى بناء على نفس سبب الدعوى حتى لو كان طلبه في الدعوى الثانية مختلفاً تماما عن طلبه في الدعوى الاولى وحتى لو تولدت الحاجة الى الطلب الثاني عقب صدور الحكم على الاول، اي ان القانون لا يعترف سوى بمطلب واحد على سبب الدعوى وبالتالي يسقط اي مطلب اخر ينشا عن نفس سبب الدعوى في حال الحكم القضائي على موجب المطلب الاول .. وهكذا تؤدي نظرية الاندماج هذه الى حرمان الشخص من التقدم بطلب مبني على نفس سبب الدعوى السابق وذلك بدافع تقصير آماد النزاع ومن ثم حث الخصوم على التقدم بكل طلباتهم دفعة واحدة حتى يتم الفصل فيها بحكم واحد .. ولكن اليس يحمل هذا اشارة لتعدي الحكم الصادر في مطالبة على سبب دعوى ما الى ان يلغي كل المطالبات التي قد تنشأ على نفس سبب الدعوى مستقبلا والتي قد يكون فيها حق لصاحب الدعوى وإن لم تظهر حيثيات ذلك الا بعد صدور الحكم على المطالبة الاولى فتقع بذلك مظلمة بينة على صاحب الحق لتكون بمثابة عقوبة ضمنية له بإسقاط الحق له في رفع دعوى قضائية لمطلب جديد على نفس سبب الدعوى المحكوم فيها .. اوليس هذا هو الوجه الاخر للعقوبة التي تتعدى موضع القدم مني لتبلغ نحو موضع الرأس لدى غيري  .. اوليس بداية اية قصة ظلم قانوني تنشأ في الاصل عن جملة من الافهام الخاطئة .. وأن ليس حقيقة ما نرى من سراب على الشوارع هو بماء ..
وما نخص الذكر به هنا هو توضيح أن من الحقوق ما هو موصول بمفهوم العمل الذي هو قيمة لا تعلوها قيمة لما فيه من سبب لعمران الارض وبقاء للشعوب ..  وهذا ما تعطيه يد العامل أيا ما كان عمله سواءً اقام بين الاضابير بالدواوين أو طعن بطن الارض والصخر بالمنجل والمعول .. فكيف تعيش الشعوب والامم إن نحن قطعنا عن عاملها مداد الماء والغذاء والكساء .. فإن يكن العامل هو المحرك لعجلة الوجود بدفعه المستمر في العمل، فإن ما يتقاضاه من أجر راتب على ذلك هو ما يكون زوادة عيش أسرته واهله وخاصة بيته .. تلك الأسر التي هي الوحدات اللازمة ليتألف منها عموم المجتمع وبضياعها يضيع، فلو أن عاملا قد اخطأ وجنت يداه بجرم ذات مرة وتم ايقافه عن العمل اشهر او سنوات الى حين اصدار الحكم النهائي عليه وتم تجميد الراتب طوال تلك المدة، فهكذا لم يعاقب هو كفرد قائم بنفسه بل تعدى العقاب بذلك لكل من تبع لقوامته ممن يعول من ابرياء النساء والولدان ومن بلغوا ورائه من الكبر عتيا، فإن ثبتت عليه الادانة وتحققت التهمة في حقه ثم أودع السجن عاش هو أيامه تحت ظل نفقة هذا السجن ما شاء الله له فيه وهناك المال عن اهله مقطوع .. فتلك هي العقوبة المتعدية بظلم حيث تطال عائلة الفرد الخاطئ اكثر مما تطاله بنفسه، واذ نكون قد كففنا عن المجتمع ظلم الجاني من بوابته فإننا قد اعدنا ظلم المجتمع من بوابة اسرته .. وبهذا تنهار العدالة في الدنيا .
لذلك أتى أمر الله تعالى أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(أن ليس للإنسان الا ما سعى)  ليكون قانوناً على الأرض تدور حولة اقصى درجات العدالة في كل شرائع بني آدم .. فلا عقوبة تتعدى مرتكب الخطيئة ، ولعل لذلك أن اتى العقاب جله في شريعة الله تعالى بالتوقيع على جسد الاثيم الجاني إما جلداً أو قطعاً أو نفياً أو اعداماً، ولكن ليس يتعداه الى ما يقيم أود رعيته وأبنائه من اسباب لقمة العيش وسترة الحال، إذ هم في الشرع قد صاروا اوصياء من حكم وليسوا اوصياء من ظلم أو اخذ نفسه بجرم فتعطلت بذلك مسؤوليته عليهم وصار لزاماً على الحاكم للمجتمع حق عقاب الجاني ولزاماً عليه لعائلة المحكوم بعقوبة حق خلفته فيهم لحين ان يرجع ..
ووفقاً لهذا المنطق ومن وجه اجتماعي غير ذاك الجنائي، أنه من الممكن اعتبار فائدة ما بعد الخدمة أو راتب المعاش لمن تقاعد عن العمل ببلوغه السن المقررة رسميا أو دونها أنها ليست لأجله هو وانما لأجل أن لا ينقطع مداد الحياة وأسبابها عمن تعلقت رقابهم بعنقه فلا يضيع منهم أحد .. هكذا يكون دوماً عدل الله في شريعته .. ورغم ذلك فلربما كان احياناً في (المعاش) كراتب دون عمل شيء من ظلم مؤثر على المجتمع .. إذ يحرم المجتمع نفسه من عطاء انسان قد تقاعد وهو ما يزال يقدر بقوة على العمل والكد وغرس الفسائل تحت التراب وصارت له من الخبرات ما يطاول به اعالي الجبال .. فإن كان لا محالة من منحه صفة المعاش وراتبه ليعيش من يعول دونه، فإذن من الممكن أن لا نجعلها (ما بعد الخدمة) بأن يكون قيد الخدمة مستمراً ولكن بمستوى مختلف عن ذي قبل إلى أن يبلغ مبلغ العجز الشديد عن الاداء .. وليس حجةً أن ندعي اخلاء المقاعد من الامام حتى يتاح للدماء الجديدة ولوج الوظائف بمداخل الخدمة من الخلف .. فإن كان لا محالة مدفوع راتب المعاش لهذا ومدفوع راتب الخدمة لذاك، فلابد اذن من عدم جعل هذا الرجل المعاشي عالة براتب معاشه على الدولة بنيل المال بغير عمل فهذه عقوبة تتعدى نفس العامل المنتج القادر الى المجتمع العريض دون جرم من احد، فلندع إذن كلاهما عاملاً ففي ذاك كسب للبلاد وبركة للعامل ورزق كريم للعائلة .. والأمر في هذا قد لا يحتاج الا لنوع من التقنين وتوفيق حال التوظيف والاستعمال وصياغة ابعاد مستحدثة للأوصاف الوظيفية وتعيين أوجه ومستويات الفائدة من العامل عقب تجاوزه للسن القانونية المسماة للتقاعد وبحيث لا يكون هناك تقاعد إلا لمن صار مقعداً أو معاقاً أو ذو حاجة خاصة .. وهناك الكثير على مثل ذاك من المتعديات بظلم خلف الجدر أو من وراء الحجب ..

احمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة

أحمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد كان ضرورياً لعلماء النفس والاجتماع وفلاسفة العلم أن يرسموا في مؤلفاتهم قاسماً مشتركاً اكبراً لعوامل التآزر والتغاير في مجموعة الوظائف الحيوية البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية من أجل الإبقاء على وحدة الكل ومن أجل أن يكون لدينا في النهاية كائن حي أو شخصية أو مجتمع .. وأياً كان الأمر فقد اقتضت كل جهود من ينادون بتصورات الهوية المستقلة لأي شعب وترتيب حقوق المواطنة على كل داخل تحت هذه الهوية أن يرسوا في البدء أساس التكامل الاجتماعي للوحدات البشرية لهذا الشعب أو ذاك ، وليخرج في الأخير ذلك القاسم المشترك الأكبر لهوية الشعب يحمل سمات الشخصية العامة له مزاجاً وانفعالاً واخلاقاً تلقائية ونزوعٍ فطريٍ وتقارب وجداني مع باقي شركاء تلك الهوية .. ومن هنا ننطلق .. فمن حيث أن اهلنا في بلاد النوبة يتشددون كثيراً في أن يحمل المنتمي إليهم سمات تلك الهوية النوبية التي بها يتكاملون اجتماعياً مع بعضهم البعض بعوامل التآزر والتآلف ، ويتكاملون بها مع غيرهم من الشعوب بعوامل التغاير والتمايز والاختلاف وما في هذا من تحقيق للتكامل الاجتماعي الشامل لبني آدم في كافة مطارح الأرض شرقاً وغرباً .. ثم حيث أنه ايضاً كان اغالب سكان الخرطوم الوسط في أيام منتصف القرن العشرين وحتى بدايات اواخره هم يحملون سمتاً مشتركاً بينهم في طريقة الحياة والذوق العام والتربية والثقافة حتى اسماهم بعض الوصافين بتيار مدرسة الخرطوم ، فكانوا هم آنذاك الذين أسسوا بيوتات الخرطوم العريقة سواء كانوا من أصحاب الميري الحكومي أو من الرأسماليين الوطنيين وموظفيهم أو كانوا تجاراً ، وجميعهم كانوا هم كادر الاستنارة والثقافة في مجتمع الخرطوم .. فكيف بالله جمع ذلك الرجل أطراف الخير من قلب وادي حلفا ومن قلب الخرطوم بل ومن قلب بلدة (حلوان) العامرة في بلاد شمال الوادي .. فإن كان قياسنا له على هوية وادي حلفا وبلدة (عبري) كان هو النوبي الصميم في تكوينه وعقله وخلقه وضميره الحي .. وإن كان قياسنا له على هوية بيوتات مجتمع الخرطوم الوسط الأصيلة كان هو ممثلاً اعظماً لآباء أُسر الخرطوم المحافظين ووجهاً نضراً من وجهائها .. وإن كان قياسنا له على هوية من نشّئوا في بلدة (حلوان) كان هو الأشد قرباً من نسيج أبناء السودان ومصر فيها .. هو الرجل الذي اجمع عليه كل من ادرك منه طرفا حباً واحتراماً وتقديراً عالياً .. رجل لم يكن ينطق بكلام كثير ، ولكنه إن تكلم كان نطقه قسطاساً وميزان وكانت كلمته حكمة وعدلاً .. وهو من تعلمنا منه في الحياة كيف أن القيم العليا والمثُل الرفيعة والعزائم الكبرى يمكن أن تُضرب لها الأمثال بشواهد صغيرة بسيطة فترسخ في الأذهان ولا تبارح .. فلا أنسى وقت ان كنت صغيراً في صفي الرابع الابتدائي وكان هو يقف ذات ليلة شاتية في آخر الصف الطويل عند المخبز وكان يقف زميل لي بالمدرسة في أول الصف عند الشباك ، فقال لي زميلي سراً وهو مملوء بالنية الحسنة لفعل الخير (احضر لي المال من والدك لأشتري له معي فيعفي نفسه من وقفة الصف الطويل) فعدت لوالدي بخبر زميلي فقال لي (من هم امامنا بالصف احق منا .. فتعلم أن لا تأخذ حق غيرك ولو سراً) ومن يومها لم أقدر أن اصطنع حيلة قط لأنال حظوة أمام الصفوف وأنا في آخرها .. ولا أنسى يوم أن نزل عن السيارة ليسأل عن أمر ما وظللت أنا الصغير أرقبه من داخلها ، فأراه يتواصل مع رجل بالمكان كمن كان له ولي حميم ، فعلقت له عندما قضى وعاد (واضح تماماً انه صديقك) قال (لا .. ولكن بادر الناس بمعاملة حسنة لن يملكوا إلا ان يعاملوك بالحسنى وإن لم يعرفوك) .. لا أحصي كم هي عدد تلك الامثال الكبيرة ألتي ضربت بشواهد صغيرة عابرة منه ولكنها كلها بقي أثرها معنا حتى اسرفنا في العمر بعدها سنين عددا .. وإنني جازم ، أنه حينما كان بطلاً للسودان في رياضة (الإسكواش) العنيفة كان مع كل طرقة من مضربه يلطم بها الكرة المطاطية الصغيرة على الجدار تحمل في غدوها قيمة وعبرة ثم عندما ترتد عن الجدار ترجع بحكمة منه وأثر بليغ ينطبع في نفوسنا ونفوس كل من حولنا .. وحتى في اعظم أحزانه وآلامه يظل مهيباً لا يئن أمام المشفقين عليه من وطأة الألم .. فعندما كفّن الموت والدتي ورحلت ، طعن الأوراق بقلمه فكتب عنها ما لم يكتبه باكٍ على مفقود له من قبل .. كتب عن رفيقة حياته بظنه أن كل النساء جمعن فيها ، فرأيناها بكلماته كما لم نعرفها يوماً في حياتها بيننا قط ، ويا ليتنا عرفناها هكذا قبل الرحيل .. واستمر يكتب عنها ولم يتوقف ولم يجف حبره يوماً أو ينكسر القلم .. والآن ، وهو يعيش ما بعد منتصف الثمانين من عمره مازال هو المعلم بضرب الامثال العليا في كل فضيلة وإيثار وخلق كريم .. ومازلنا نحن طلاباً في مدرسته نجلس في حضرته متأدبين على مقاعد الدرس ونستمع منه وهو ينطق فعلاً وليس قولاً فنتعلم ما لم نتعلم من غيره ..
هكذا يتوجب علينا إن اردنا بيان هويتنا وحقيقة وجودنا وانتمائنا ثم تكاملنا الاجتماعي أن تكون ضربة البداية هي (بورتريه) نرسمه لخاصة كل عظماء شعوبنا لا سيما من يقبعون في عقر ديارنا طول دهرٍ ولم يكتب عنهم أحد ..
عندما نعى (السادات) في أول بيان له وفاة الزعيم (جمال عبد الناصر) قال (فقدت الإنسانية كلها رجلاً من أغلى الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال ..) ولكننا على ذات المنوال نعلن (أنه الآن يحيا بيننا رجل لا ككل الرجال .. رجل هو كل الرجال) ..  إن كلماتي تدين له كما تدين له قدماي التي اسعى فوقها بإذن ربي .. عجز اللسان والبنان عن وصفه ، كما عجز الشاعر عند من يحب أن يحدق بوجهٍ وأن يرقص بساق ..  وإنما كان من نعمة ربي أن كان هو والدي وليس سواه (أحمد الكردي) وكفى ..

بوصلة الوجدان الشعبي

بوصلة الوجدان الشعبي ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

قضت الحبكة الدرامية في فيلم الأوسكار الانجليزي (Darkest Hour) من اخراج (جو رايت) وبطولة (جاري أولدمان) باحترافية بارعة تشخيص الأزمة الكبرى التي ضجت تبعاً لها قاعة مجلس العموم البريطاني في أيام الحرب العالمية الثانية جراء احتجاجات اللوردات والنبلاء من رجال مجلس الحرب على تردد رئيس الوزراء (ونستون تشرشل) W. Churchill في اتخاذ موقفاً حاسماً لقبول التفاوض مع الألمان خوفاً من اجتياحهم بريطانيا كما حدث مع بلجيكا وفرنسا وكان هو  أميل إلى رفض التفاوض ورفض قبول شروط (هتلر) حال التوصل إلى معاهدة سلم بين الدولتين .. كان (تشرشل) يدرك أن النزول على شروط (هتلر) معناه تعليق الصليب المعقوف الألماني على مصالح ودور الحكومة البريطانية جانباً إلى جنب مع العلم الانجليزي رمزاً للسيادة الألمانية ، وسيطأطئ الشعب الانجليزي حينها رأسه .. وحيث ان علية القوم قد تعقد الأمر أمامهم وأعياهم الحل في إقناع (تشرشل) فقد نزل هو إلى ضواحي (لندن) حيث يسعى العابرون من العامة على الطرقات ويتصرفون بحدسهم التلقائي في الاحتماء من الأمطار ، ويترك سيارته ليركب معهم في إحدى الحافلات الشعبية ثم يظل يسأل كل من هنالك من أبناء الشعب الانجليزي العاديين أن لو كانوا هم قيد الأمر اللازم فهل سيقبلون بالتفاوض رغم الثمن المدفوع أم يرضون بالحرب مع الموت بشرف ولربما كان خيار الحرب حينها هو السبيل الأكثر سلماً .. الكل اجابه بالرفض المطلق للحياة هوناً تحت سقف الألمان ، قالوا ذلك وكانوا هم الأجدر من رجال الحرب بالخوف على حياتهم ومعاشهم .. وحتى الطفلة البريئة في الحافلة رفضت .. كتب (تشرشل) أسماءهم على ظهر علبة أعواد ثقاب وهو الذي لم يعرفهم قط من قبل ولكن ذلك كان اوقع كثيراً في التأثير على رجال الدولة بالبرلمان .. كان ما فعله (تشرشل) هو استشعار لبوصلة وجدان عموم الناس فرآها تتجه نحو ما يضمره أبناء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من اعتداد بالذات وعزة للنفس تلك التي بدت فيهم بدءاً من الحفاظ على تقاليد نطق الكلمات الإنجليزية على صورتها الرصينة وحتى نظام الهيئة الملكية الموقرة على مدى القرون واختلاف الأجيال ، ومن هم على نمط (فيلاس فوج) الشخصية الانجليزية الصميمة محور رواية (جول فيرن) العالمية (ثمانين يوماً حول العالم) يحصي عدد خطواته في السير إلى امكانه المعتادة كل يوم ويرقم أطقم ازيائه الرسمية من ربطة العنق إلى الحذاء بحسب كل يوم من أيام الأسبوع ..
 هكذا انطلق (تشرشل) بوحي بوصلة وجدان الشارع الانجليزي العام والبسيط إلى قاعة البرلمان ليضرب على أوتار اللوردات والنبلاء ورجال مجلس الحرب بنفس اتجاه تلك البوصلة الوجدانية ، فكانت النتيجة أن حصل على تأييد مطلق وبحماس شهد له التاريخ كان فيه من كان في الحكومة مع من كان في المعارضة سواء .. وسطع نجم (تشرشل) كأشهر رئيس للوزراء في تاريخ بريطانيا العظمى .. ولعله بذات المنطق في التماس بوصلة الوجدان الشعبي قام بتحويل معركة انجلترا مع الألمان الى معركة طائرات باستغلال الصعوبة التي واجهت الألمان في اختراق الحدود البحرية المحيطة ببريطانيا كمدخل وحيد لها ، فلم يكن مفر من استخدام الجو حيث رجحت فيه كفة الطيران الانجليزي ..
إن الشاهد الرئيسي في هذه الواقعة التي كانت محور الدائرة وحجر الزاوية فيما قد يستفاد من الفيلم هي أن الخبرة الأكاديمية والمهنية الكثيفة من الممكن ان تكون عائقاً حقيقياً احياناً بسبب المبالغة في تعقيد التفكير أمام حل بعض المعضلات الحيوية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بل وفي أمور استراتيجية عالية الأهمية .. ولكن قد يأتي الحل جزلاً سهلاً بسيطاً واضحاً  من عامة الناس تنطق به حكمتهم كأنهم يرون من جدار شفاف في حدود مجريات حياتهم اليومية القصيرة وليست مثقلة قريحتهم الفطرية بعبء زخم الخبرات العلمية والمعرفية المتقدمة .. فأحيانا اعظم المعضلات الاستراتيجية تحتاج فقط إلى رؤية أمثال أولئك الناس العاديين أو البسطاء .. وربما يحسم (بيدق) لا يؤبه له بكونه الأدنى أهمية في لعبة الشطرنج مبارة كاملة لصالح فريقه بحركة بسيطة تبدو كما لو فكر فيها هذا البيدق بعقله هو وليس بعقل الملك او الوزير .. ولذلك عندما تكون الحرب هي الخيار الأكثر سلماً فلا مناص من تحسس بوصلة الوجدان الشعبي من ادنى فرد إلى أعلى فرد في الأمة  لاسيما إن كانت تلك الحرب ليست حرب قتال وسلاح وإنما حرب شرف وأخلاق لعموم الأمة..

الجسور الثقافية

الجسور الثقافية ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
لعل من يطالع رواية (الجذور) لمؤلفها (اليكس هايلي) يرى أنه قد شاء من ضمن أغراضه في تأليف الرواية أن يعرض تصوراً لنسيج التكامل الاجتماعي السلمي والمتجانس بالفطرة هناك في قرى افريقيا القديمة وبلداتها .. ثم كيف كانت صدمتهم قاسية أولئك الذين انتزعوا من بيئتهم مرغمين ليدخلوا في نسيج اجتماعي من شكل جديد غير مألوف لديهم وفي مكان غريب .. هكذا فعل قادة الرق من بيض الولايات الأمريكية من ذوي الاصول الأوروبية فيمن استقدموهم قهراً كعبيد سود من باطن افريقيا الهادئة المطمئنة .. كان نمط حياتهم الجديدة تحت الأسر عسيراً مؤلماً بنفس قسوة انتزاع الجلد عن اللحم .. ومرت عقود وقرون إلى أن صار لأحفاد أحفاد هؤلاء الزنوج المساكين بعد أن تم لهم التحرير فرصة  لإعادة تكوين شكل جديد لتكاملهم الاجتماعي في تلك الاراضي التي باتت موطناً لهم غير موطن اجدادهم .. وربما كان نسيجهم الاجتماعي الجديد مع اقرانهم من احفاد السادة البيض فيه ملمح ما من فطرتهم القديمة ، ولكن لن يعود هذا كما كان ذاك مطلقاً  ، وحتى بعد ان صار واحد منهم رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية .. ومنذ ذلك الحين صار التفكير المعاصر في تحقيق التكامل الاجتماعي الشامل لأبناء آدم قائم على شرط التواصل والصلة بين كافة شعوب الأرض ، ولا مناص أن تكون هذه الجسور الممتدة بينهم جسوراً ثقافية حيث لم يعد هناك سبيل لهيمنة حضارية جبرية لشعب على آخر وحيث أن الجسور الثقافية لاتزال تعكس حالة كل شعب أو فئة اجتماعية من خلال المميزات الخاصة لطرق حياتهم  ثم من أين يمكن الدخول إليها لعمل التعارف المطلوب كما أمر رب العالمين .. وصدق عالم النفس الاجتماعي (جدسون هيريك) C. J. Herrik عندما قرر أن التكامل الاجتماعي بين الأفراد وبين الشعوب على السواء لا ينطوي على معنى التآزر فحسب بل وعلى معنى التغاير أيضأً وذلك حتى يكون التكامل دينامياً لا تكاملاً ثباتياً (استاتيكياً) ..لذلك كان لابد من اللجوء إلى منهج التحليل الفلسفي من أجل إظهار المكونات الثقافية المتفردة لدى أي من الشعوب ، وحيث لنا أن نعمل وفق وصية الفيلسوف الإنجليزي (فيتجنشتاين) Wittgenstein بأن نترك كل شيء على حاله لدى كل شعب ولا نعبث به حذفاً وتقطيعاً وتخليقاً إلا ما شان منه كرامة الإنسان ثم نكتفي فحسب بالتحليل من اجل الفهم والمعاملة ونقل وتبادل الأثر واختيار امثل السبل للتواصل ..
إن مد تلك الجسور الثقافية من أجل التكامل الاجتماعي الشامل والمتفاعل بين الناس هو الذي يفسر بجلاء ما يتميز به الكائن الإنساني حقيقة عن غيره من الكائنات التي حاول الكثير من علماء الأحياء والانثروبولوجيا إيجاد نسب وأصل مشترك بينها وبين الإنسان مثل قردة الشمبانزي وغيرها ، وقد ثبت هذا التميز للإنسان في فعل انفرد به على عدة أوجه منها المثابرة على المنتج المتواصل واتساع مجال الحياة الزمني نحو المستقبل وهذا بعكس ما لدى الكائنات الأخرى غير الإنسان حيث يتسع المدى الزمني لديها نحو الماضي ، وبالتالي فليس ثمة ما يعرف بالتخطيط الاستراتيجي في صياغة الصور الجديدة والمتطورة للمستقبل البعيد إلا لدى الإنسان .. كذلك ايضا (الاستقرار الوجداني) الذي يتطلبه الاستمرار في عمل ما بفعل ارتباط الإنسان بقيمة الهدف من هذا العمل ، وهو أيضأً ما يخلق الأساس النفسي المهم لظهور السلوك التعاوني بين الناس الأمر الذي يحيلنا فوراً إلى مبدأ انساني اساسي وهو (القدرة على اعتبار الآخر والاستجابة له في مستوى الخيال) وهو على نحو ما عبر الدكتور (مصطفى سويف) احد أبرز علماء النفس في الشرق الأوسط بقوله (قد تصادفني في الطريق دمية لا البث أن اشتريها لأني اتخيل مقدار الفرح الذي ستدخله على ابنتي عندما افاجئها بها ، وقد أؤجل شراء شيء يلزمني من أجل ان أشتري بثمنه هدية اقدمها لصديقي ... في هذه القدرة تكمن بذور المشاركة الوجدانية واستطاعتنا تغيير موقفنا تبعاً لموقف الآخر)   ..
وعلى هذا الأساس ، وكما قامت تنظيمات في العالم بإنشاء مؤسسات انتاجية تعاونية تقوم في جوهرها على الرابطة الاجتماعية التكاملية بين افرادها .. قامت ايضاً حركات تحقق نفس الغاية في التكامل الاجتماعي العام بواسطة عنصر الثقافة والتبادل والتداخل الثقافي التعاوني والذي يظهر فيه نقاط الاختلاف والتمايز بين الشعوب وفي نفس الوقت تكون هذه النقاط عينها هي أدوات ولوازم التكامل الاجتماعي الثقافي ، الأمر الذي يمكن أن يجسد هذه الحركات على هيئة (تعاونيات ثقافية) إن جاز التعبير ..
فإذن ، والمقام هكذا ، يكون علينا واجب تشجيع وتقوية اي مبادرة في بلادنا لإنشاء تعاونيات ثقافية والإشادة بمخرجاتها الفاعلة .. عسى الله ان يجعلها مفتاحاً تفتح به ابواب ونوافذ التكامل المجتمعي لأواصر البلاد ، ووعياً وعلماً سائغا للقارئين ..