الأحد، 2 سبتمبر 2018

والأغنياء أيضا يقاطعون ..

والأغنياء أيضا يقاطعون ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (إذا كان للدنيا حد محدود ، فليس لمطامع الإنسان وامانيه حد ... ولو فرض أن استولى على الدنيا كلها لما قنع بها ، بل أخذ يفتش عن عالم آخر ليوطد به دعائم مطامعه .. فهيهات أن يقنع وهيهات أن تشبع النفوس الحبلى بالأماني والآمال ، وهب على حد ما قيل  : إن الطعام يقوي شهوة النهم .. يُخلق الطمع في صدر الرضيع صغيرا ، ويكبر وينمو مع الجسم ، ولكنه لا يهرم .. بل تراه في سن الشيخوخة أقوى منه في الشباب) ..
هذا ملخص الأزمة ، قدمه (مارون عبود) بكلمات مضيئة في صحافة زمانه .. وأنه للحق في القول أن الطمع علة كل رشوة واعتداء وربا وسرقة وسفك دماء .. وهو علة جشع التجار وطغيان الأغنياء   .. وحتى الفقراء لم يسلموا من الطمع فيما عند غيرهم ، يعاتبون القدر على ضنك معيشتهم وجفاف أقواتهم إلا من رحم الله منهم القانعين الشاكرين قسمة الله لهم وحق عليهم وعد الله (ولئن شكرتم لأزيدنكم) .. ولكن تصاريف الرب في الكون بمشيئته لا تسقط عنا واجب المنع لدوُلة المال بين الأغنياء منا فقط .. فكثير ما أمسك أغنياء البلاد عن بذل ريعهم والفيوض لفارغي البطون وهم بطونهم ملئ على مدى الأيام والليالي ، فهم إذن لا يعبئون بمن ماتوا في منازلهم غبناً وحسرات أن نخر السرطان الخبيث لحوم أدمغتهم والدواء معروض تحت أعينهم ولكن لا يناله إلا أهل اليسار والمال الوفير .. وليس هذا في حال المرض وحسب ، ولكن حتى أقل حقوق الغذاء هضمت ظلماً وقهراً .. فترى الشياه المنسلخة عن جلودها معلقة من أذنابها يتقاطر منها الدهن والدسم على حاملة القصاب الثري .. يعبر من أمامها الساعين من ذوي الأقداح المملؤة في قعرها ماء على خبزها المعجون وملحها شيء من دموع العين واعتصار الفؤاد هذا غدائهم لأيام بلا عد .. فأي غيرة تلك تجتاح القلوب وتمتلك العقول على مناظر دهن يتقطر تمتد إليه أعين الكادحين قصداً والأيدي عنها تكفكفت فلا تنال منه قطافاَ ولا حباً .. في حين تمتد إليها أعين الهانئين عفواً من خلف النوافذ في السيارات اللامعة فتأتيهم الأنعام مسومة محمولة على أكتف الحُمال بطلب وبغير طلب مادامت أوراق النقد مرشوشة على طاولات القصابين بغير حساب .. أفلا يخشى اولئك من مثل أصحاب الجنة أن أقسموا أن لن يدخلنها عليهم بعد يومهم مسكين فباتت جنتهم من بعد قسمهم بغير صريم .. أوليسوا هم من قال فيهم ربنا (وإذا مسه الخير منوعا) .. ولقد وُضع هؤلاء على المحك في أيام قريبات خلت أتى فيها الشعب بجمع من ابنائه بحملة لمقاطعة شراء اللحوم بسبب مغلاة التجار في أسعارها استغلالاً لوقت العسر الاقتصادي الشديد على الناس فدقوا بغير رحمة عدداً من الأصفار الزائدة على يمين أثمانها الحقيقية .. وما ذاك إلا لأنهم اعتادوا من الناس أنهم يدفعون باستسلام دائماً رغم التذمر والاعتراض ولكنه اعتراض شفاهي لا يخلف دونه أثر ولا طحين.. ولما كانت الجماهير الفقيرة لا يشترون اللحوم أصلاً إلا على أطراف أشهر متباعدة في حال دنو أسعارها أو بتوفر زيادة زهيدة في حظ المال .. فلذلك قامت الحملة تناشد أولئك الأغنياء القادرين على الشراء مهما غلا السعر ، أن يتضامنوا أخلاقياً وإنسانياً مع الأكثرية الفقيرة في مقاطعة متاجر اللحوم وبيوتات القصابين  وأن يتركوا تلك اللحوم لتعفن في محاجرها ، حينها ستنخفض الأثمان لزاماً .. ولكن هل ترى فيمن ننادي حياةً أم أن على قلوب اقفالها .. إنها معاناة شعب بأكمله في قوته ورزق يومه كادت به تضيع البيوت وتتشرد الأُسر ويدب اليأس في جوف الناس ، والجرائم المستحدثة بسبب الفقر والجوع والمرض تترا من كل فج وصوب .. فإن تتعفن كل اللحوم في محاجرها خير من أن يموت طفل واحد عن جوع أو عن مرض أو بضياع أسرة ، فإذا الطعام  لم ينتفع به إنسان فلا خير فيه .. وإن عز الطعام اليوم فماذا سيمنع أن يعز الماء غداً أو يعز الهواء .. فمتى صارت البلاد بعد هذا أرض مستضعفين فلن يبقى إلا أن يغلق الشعب أبوابها خلفهم ويمتطون الطوارد نحو المهاجر .. ألم ترى أن حالنا اليوم قد انبأ عنه (مارون عبود) قبل أكثر من مئة عام (فعليك السلام أيها الفقير الأمين الذي تفتدي صيتك بكل غالٍ ورخيص .. وأنت أيها الغني النهاب فغنى عن الإطراء لأن الذين نهبت أموالهم وهضمت حقوقهم يُذيعون مجدك .. فطوباك) .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق