الاثنين، 9 يوليو 2018

الجسور الثقافية

الجسور الثقافية ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
لعل من يطالع رواية (الجذور) لمؤلفها (اليكس هايلي) يرى أنه قد شاء من ضمن أغراضه في تأليف الرواية أن يعرض تصوراً لنسيج التكامل الاجتماعي السلمي والمتجانس بالفطرة هناك في قرى افريقيا القديمة وبلداتها .. ثم كيف كانت صدمتهم قاسية أولئك الذين انتزعوا من بيئتهم مرغمين ليدخلوا في نسيج اجتماعي من شكل جديد غير مألوف لديهم وفي مكان غريب .. هكذا فعل قادة الرق من بيض الولايات الأمريكية من ذوي الاصول الأوروبية فيمن استقدموهم قهراً كعبيد سود من باطن افريقيا الهادئة المطمئنة .. كان نمط حياتهم الجديدة تحت الأسر عسيراً مؤلماً بنفس قسوة انتزاع الجلد عن اللحم .. ومرت عقود وقرون إلى أن صار لأحفاد أحفاد هؤلاء الزنوج المساكين بعد أن تم لهم التحرير فرصة  لإعادة تكوين شكل جديد لتكاملهم الاجتماعي في تلك الاراضي التي باتت موطناً لهم غير موطن اجدادهم .. وربما كان نسيجهم الاجتماعي الجديد مع اقرانهم من احفاد السادة البيض فيه ملمح ما من فطرتهم القديمة ، ولكن لن يعود هذا كما كان ذاك مطلقاً  ، وحتى بعد ان صار واحد منهم رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية .. ومنذ ذلك الحين صار التفكير المعاصر في تحقيق التكامل الاجتماعي الشامل لأبناء آدم قائم على شرط التواصل والصلة بين كافة شعوب الأرض ، ولا مناص أن تكون هذه الجسور الممتدة بينهم جسوراً ثقافية حيث لم يعد هناك سبيل لهيمنة حضارية جبرية لشعب على آخر وحيث أن الجسور الثقافية لاتزال تعكس حالة كل شعب أو فئة اجتماعية من خلال المميزات الخاصة لطرق حياتهم  ثم من أين يمكن الدخول إليها لعمل التعارف المطلوب كما أمر رب العالمين .. وصدق عالم النفس الاجتماعي (جدسون هيريك) C. J. Herrik عندما قرر أن التكامل الاجتماعي بين الأفراد وبين الشعوب على السواء لا ينطوي على معنى التآزر فحسب بل وعلى معنى التغاير أيضأً وذلك حتى يكون التكامل دينامياً لا تكاملاً ثباتياً (استاتيكياً) ..لذلك كان لابد من اللجوء إلى منهج التحليل الفلسفي من أجل إظهار المكونات الثقافية المتفردة لدى أي من الشعوب ، وحيث لنا أن نعمل وفق وصية الفيلسوف الإنجليزي (فيتجنشتاين) Wittgenstein بأن نترك كل شيء على حاله لدى كل شعب ولا نعبث به حذفاً وتقطيعاً وتخليقاً إلا ما شان منه كرامة الإنسان ثم نكتفي فحسب بالتحليل من اجل الفهم والمعاملة ونقل وتبادل الأثر واختيار امثل السبل للتواصل ..
إن مد تلك الجسور الثقافية من أجل التكامل الاجتماعي الشامل والمتفاعل بين الناس هو الذي يفسر بجلاء ما يتميز به الكائن الإنساني حقيقة عن غيره من الكائنات التي حاول الكثير من علماء الأحياء والانثروبولوجيا إيجاد نسب وأصل مشترك بينها وبين الإنسان مثل قردة الشمبانزي وغيرها ، وقد ثبت هذا التميز للإنسان في فعل انفرد به على عدة أوجه منها المثابرة على المنتج المتواصل واتساع مجال الحياة الزمني نحو المستقبل وهذا بعكس ما لدى الكائنات الأخرى غير الإنسان حيث يتسع المدى الزمني لديها نحو الماضي ، وبالتالي فليس ثمة ما يعرف بالتخطيط الاستراتيجي في صياغة الصور الجديدة والمتطورة للمستقبل البعيد إلا لدى الإنسان .. كذلك ايضا (الاستقرار الوجداني) الذي يتطلبه الاستمرار في عمل ما بفعل ارتباط الإنسان بقيمة الهدف من هذا العمل ، وهو أيضأً ما يخلق الأساس النفسي المهم لظهور السلوك التعاوني بين الناس الأمر الذي يحيلنا فوراً إلى مبدأ انساني اساسي وهو (القدرة على اعتبار الآخر والاستجابة له في مستوى الخيال) وهو على نحو ما عبر الدكتور (مصطفى سويف) احد أبرز علماء النفس في الشرق الأوسط بقوله (قد تصادفني في الطريق دمية لا البث أن اشتريها لأني اتخيل مقدار الفرح الذي ستدخله على ابنتي عندما افاجئها بها ، وقد أؤجل شراء شيء يلزمني من أجل ان أشتري بثمنه هدية اقدمها لصديقي ... في هذه القدرة تكمن بذور المشاركة الوجدانية واستطاعتنا تغيير موقفنا تبعاً لموقف الآخر)   ..
وعلى هذا الأساس ، وكما قامت تنظيمات في العالم بإنشاء مؤسسات انتاجية تعاونية تقوم في جوهرها على الرابطة الاجتماعية التكاملية بين افرادها .. قامت ايضاً حركات تحقق نفس الغاية في التكامل الاجتماعي العام بواسطة عنصر الثقافة والتبادل والتداخل الثقافي التعاوني والذي يظهر فيه نقاط الاختلاف والتمايز بين الشعوب وفي نفس الوقت تكون هذه النقاط عينها هي أدوات ولوازم التكامل الاجتماعي الثقافي ، الأمر الذي يمكن أن يجسد هذه الحركات على هيئة (تعاونيات ثقافية) إن جاز التعبير ..
فإذن ، والمقام هكذا ، يكون علينا واجب تشجيع وتقوية اي مبادرة في بلادنا لإنشاء تعاونيات ثقافية والإشادة بمخرجاتها الفاعلة .. عسى الله ان يجعلها مفتاحاً تفتح به ابواب ونوافذ التكامل المجتمعي لأواصر البلاد ، ووعياً وعلماً سائغا للقارئين ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق