بوصلة الوجدان الشعبي ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
قضت الحبكة الدرامية في فيلم الأوسكار الانجليزي (Darkest Hour) من اخراج (جو رايت) وبطولة (جاري أولدمان) باحترافية بارعة تشخيص الأزمة الكبرى التي ضجت تبعاً لها قاعة مجلس العموم البريطاني في أيام الحرب العالمية الثانية جراء احتجاجات اللوردات والنبلاء من رجال مجلس الحرب على تردد رئيس الوزراء (ونستون تشرشل) W. Churchill في اتخاذ موقفاً حاسماً لقبول التفاوض مع الألمان خوفاً من اجتياحهم بريطانيا كما حدث مع بلجيكا وفرنسا وكان هو أميل إلى رفض التفاوض ورفض قبول شروط (هتلر) حال التوصل إلى معاهدة سلم بين الدولتين .. كان (تشرشل) يدرك أن النزول على شروط (هتلر) معناه تعليق الصليب المعقوف الألماني على مصالح ودور الحكومة البريطانية جانباً إلى جنب مع العلم الانجليزي رمزاً للسيادة الألمانية ، وسيطأطئ الشعب الانجليزي حينها رأسه .. وحيث ان علية القوم قد تعقد الأمر أمامهم وأعياهم الحل في إقناع (تشرشل) فقد نزل هو إلى ضواحي (لندن) حيث يسعى العابرون من العامة على الطرقات ويتصرفون بحدسهم التلقائي في الاحتماء من الأمطار ، ويترك سيارته ليركب معهم في إحدى الحافلات الشعبية ثم يظل يسأل كل من هنالك من أبناء الشعب الانجليزي العاديين أن لو كانوا هم قيد الأمر اللازم فهل سيقبلون بالتفاوض رغم الثمن المدفوع أم يرضون بالحرب مع الموت بشرف ولربما كان خيار الحرب حينها هو السبيل الأكثر سلماً .. الكل اجابه بالرفض المطلق للحياة هوناً تحت سقف الألمان ، قالوا ذلك وكانوا هم الأجدر من رجال الحرب بالخوف على حياتهم ومعاشهم .. وحتى الطفلة البريئة في الحافلة رفضت .. كتب (تشرشل) أسماءهم على ظهر علبة أعواد ثقاب وهو الذي لم يعرفهم قط من قبل ولكن ذلك كان اوقع كثيراً في التأثير على رجال الدولة بالبرلمان .. كان ما فعله (تشرشل) هو استشعار لبوصلة وجدان عموم الناس فرآها تتجه نحو ما يضمره أبناء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من اعتداد بالذات وعزة للنفس تلك التي بدت فيهم بدءاً من الحفاظ على تقاليد نطق الكلمات الإنجليزية على صورتها الرصينة وحتى نظام الهيئة الملكية الموقرة على مدى القرون واختلاف الأجيال ، ومن هم على نمط (فيلاس فوج) الشخصية الانجليزية الصميمة محور رواية (جول فيرن) العالمية (ثمانين يوماً حول العالم) يحصي عدد خطواته في السير إلى امكانه المعتادة كل يوم ويرقم أطقم ازيائه الرسمية من ربطة العنق إلى الحذاء بحسب كل يوم من أيام الأسبوع ..
هكذا انطلق (تشرشل) بوحي بوصلة وجدان الشارع الانجليزي العام والبسيط إلى قاعة البرلمان ليضرب على أوتار اللوردات والنبلاء ورجال مجلس الحرب بنفس اتجاه تلك البوصلة الوجدانية ، فكانت النتيجة أن حصل على تأييد مطلق وبحماس شهد له التاريخ كان فيه من كان في الحكومة مع من كان في المعارضة سواء .. وسطع نجم (تشرشل) كأشهر رئيس للوزراء في تاريخ بريطانيا العظمى .. ولعله بذات المنطق في التماس بوصلة الوجدان الشعبي قام بتحويل معركة انجلترا مع الألمان الى معركة طائرات باستغلال الصعوبة التي واجهت الألمان في اختراق الحدود البحرية المحيطة ببريطانيا كمدخل وحيد لها ، فلم يكن مفر من استخدام الجو حيث رجحت فيه كفة الطيران الانجليزي ..
إن الشاهد الرئيسي في هذه الواقعة التي كانت محور الدائرة وحجر الزاوية فيما قد يستفاد من الفيلم هي أن الخبرة الأكاديمية والمهنية الكثيفة من الممكن ان تكون عائقاً حقيقياً احياناً بسبب المبالغة في تعقيد التفكير أمام حل بعض المعضلات الحيوية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بل وفي أمور استراتيجية عالية الأهمية .. ولكن قد يأتي الحل جزلاً سهلاً بسيطاً واضحاً من عامة الناس تنطق به حكمتهم كأنهم يرون من جدار شفاف في حدود مجريات حياتهم اليومية القصيرة وليست مثقلة قريحتهم الفطرية بعبء زخم الخبرات العلمية والمعرفية المتقدمة .. فأحيانا اعظم المعضلات الاستراتيجية تحتاج فقط إلى رؤية أمثال أولئك الناس العاديين أو البسطاء .. وربما يحسم (بيدق) لا يؤبه له بكونه الأدنى أهمية في لعبة الشطرنج مبارة كاملة لصالح فريقه بحركة بسيطة تبدو كما لو فكر فيها هذا البيدق بعقله هو وليس بعقل الملك او الوزير .. ولذلك عندما تكون الحرب هي الخيار الأكثر سلماً فلا مناص من تحسس بوصلة الوجدان الشعبي من ادنى فرد إلى أعلى فرد في الأمة لاسيما إن كانت تلك الحرب ليست حرب قتال وسلاح وإنما حرب شرف وأخلاق لعموم الأمة..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
قضت الحبكة الدرامية في فيلم الأوسكار الانجليزي (Darkest Hour) من اخراج (جو رايت) وبطولة (جاري أولدمان) باحترافية بارعة تشخيص الأزمة الكبرى التي ضجت تبعاً لها قاعة مجلس العموم البريطاني في أيام الحرب العالمية الثانية جراء احتجاجات اللوردات والنبلاء من رجال مجلس الحرب على تردد رئيس الوزراء (ونستون تشرشل) W. Churchill في اتخاذ موقفاً حاسماً لقبول التفاوض مع الألمان خوفاً من اجتياحهم بريطانيا كما حدث مع بلجيكا وفرنسا وكان هو أميل إلى رفض التفاوض ورفض قبول شروط (هتلر) حال التوصل إلى معاهدة سلم بين الدولتين .. كان (تشرشل) يدرك أن النزول على شروط (هتلر) معناه تعليق الصليب المعقوف الألماني على مصالح ودور الحكومة البريطانية جانباً إلى جنب مع العلم الانجليزي رمزاً للسيادة الألمانية ، وسيطأطئ الشعب الانجليزي حينها رأسه .. وحيث ان علية القوم قد تعقد الأمر أمامهم وأعياهم الحل في إقناع (تشرشل) فقد نزل هو إلى ضواحي (لندن) حيث يسعى العابرون من العامة على الطرقات ويتصرفون بحدسهم التلقائي في الاحتماء من الأمطار ، ويترك سيارته ليركب معهم في إحدى الحافلات الشعبية ثم يظل يسأل كل من هنالك من أبناء الشعب الانجليزي العاديين أن لو كانوا هم قيد الأمر اللازم فهل سيقبلون بالتفاوض رغم الثمن المدفوع أم يرضون بالحرب مع الموت بشرف ولربما كان خيار الحرب حينها هو السبيل الأكثر سلماً .. الكل اجابه بالرفض المطلق للحياة هوناً تحت سقف الألمان ، قالوا ذلك وكانوا هم الأجدر من رجال الحرب بالخوف على حياتهم ومعاشهم .. وحتى الطفلة البريئة في الحافلة رفضت .. كتب (تشرشل) أسماءهم على ظهر علبة أعواد ثقاب وهو الذي لم يعرفهم قط من قبل ولكن ذلك كان اوقع كثيراً في التأثير على رجال الدولة بالبرلمان .. كان ما فعله (تشرشل) هو استشعار لبوصلة وجدان عموم الناس فرآها تتجه نحو ما يضمره أبناء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من اعتداد بالذات وعزة للنفس تلك التي بدت فيهم بدءاً من الحفاظ على تقاليد نطق الكلمات الإنجليزية على صورتها الرصينة وحتى نظام الهيئة الملكية الموقرة على مدى القرون واختلاف الأجيال ، ومن هم على نمط (فيلاس فوج) الشخصية الانجليزية الصميمة محور رواية (جول فيرن) العالمية (ثمانين يوماً حول العالم) يحصي عدد خطواته في السير إلى امكانه المعتادة كل يوم ويرقم أطقم ازيائه الرسمية من ربطة العنق إلى الحذاء بحسب كل يوم من أيام الأسبوع ..
هكذا انطلق (تشرشل) بوحي بوصلة وجدان الشارع الانجليزي العام والبسيط إلى قاعة البرلمان ليضرب على أوتار اللوردات والنبلاء ورجال مجلس الحرب بنفس اتجاه تلك البوصلة الوجدانية ، فكانت النتيجة أن حصل على تأييد مطلق وبحماس شهد له التاريخ كان فيه من كان في الحكومة مع من كان في المعارضة سواء .. وسطع نجم (تشرشل) كأشهر رئيس للوزراء في تاريخ بريطانيا العظمى .. ولعله بذات المنطق في التماس بوصلة الوجدان الشعبي قام بتحويل معركة انجلترا مع الألمان الى معركة طائرات باستغلال الصعوبة التي واجهت الألمان في اختراق الحدود البحرية المحيطة ببريطانيا كمدخل وحيد لها ، فلم يكن مفر من استخدام الجو حيث رجحت فيه كفة الطيران الانجليزي ..
إن الشاهد الرئيسي في هذه الواقعة التي كانت محور الدائرة وحجر الزاوية فيما قد يستفاد من الفيلم هي أن الخبرة الأكاديمية والمهنية الكثيفة من الممكن ان تكون عائقاً حقيقياً احياناً بسبب المبالغة في تعقيد التفكير أمام حل بعض المعضلات الحيوية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بل وفي أمور استراتيجية عالية الأهمية .. ولكن قد يأتي الحل جزلاً سهلاً بسيطاً واضحاً من عامة الناس تنطق به حكمتهم كأنهم يرون من جدار شفاف في حدود مجريات حياتهم اليومية القصيرة وليست مثقلة قريحتهم الفطرية بعبء زخم الخبرات العلمية والمعرفية المتقدمة .. فأحيانا اعظم المعضلات الاستراتيجية تحتاج فقط إلى رؤية أمثال أولئك الناس العاديين أو البسطاء .. وربما يحسم (بيدق) لا يؤبه له بكونه الأدنى أهمية في لعبة الشطرنج مبارة كاملة لصالح فريقه بحركة بسيطة تبدو كما لو فكر فيها هذا البيدق بعقله هو وليس بعقل الملك او الوزير .. ولذلك عندما تكون الحرب هي الخيار الأكثر سلماً فلا مناص من تحسس بوصلة الوجدان الشعبي من ادنى فرد إلى أعلى فرد في الأمة لاسيما إن كانت تلك الحرب ليست حرب قتال وسلاح وإنما حرب شرف وأخلاق لعموم الأمة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق