البنية العقلية لعرقنا ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
تلك هي التسمية ألتي أطلقها (جوستاف لوبون) الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي عند حديثه عن سيكولوجية الجماهير .. ورغم أن الفطرة السليمة تأبى قبول كلامه عن دور اللاوعي المخزون في أعراقنا في حسم سلوك الجماهير ، وأن عظمة الحضارات وانحطاطها تكمن في روح العرق الذي ننتمي إليه .. إلا أننا في الوضع الراهن نحتاج لكثير من الجهد لأجل أن لا تثبت علينا بأفعالنا احكام (جوستاف لوبون) تلك عن الجماهير حيث أفاد بأن الانقلابات الكبرى التي تسبق عادة تبدل الحضارات للوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسية ضخمة ، ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالباً أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب ، وأما الأحداث الضخمة المأثورة ألتي تتناقلها كتب التاريخ فهي ليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية ألتي تصيب عواطف البشر ، وإذا كانت لا تظهر إلى السطح إلا نادراً ، فذلك لأن المخزون الوراثي لعواطف عرق بشري ما هو عنصره الأكثر ثباتاً ..
فماذا إذن لو رأينا جماهيرنا تلهث وراء كل حافلة ونازلة ليغيب الواحد منا قصدا عن نفسه وحقيقة ذاته ويغرق في احوال المجموع ، فإننا إن فطنا إلي ذواتنا رأيناها خواء .. على هذا درجت سنة الجماهير في مجتمعاتنا المعاصرة ، نأكل القشور تصنعاً ونلقي باللباب في الحاويات يتخطفها البؤساء والمجهولين عن ذكر الناس لهم .. ونلبس كل يوم أقنعة جديدة كي نرائي أو نداجي من كانت لدينا عندهم الحاجة .. واتخذنا الأقوام من بني جلدتنا مطية لتحقيق الذات والشعور بقيمة النفس وربطنا محاسن حظنا في الحياة بتعس حظوظهم .. وكم ترى الساعين لتلبية المناسبات والمآدب وليالي الطرب الصاخبة رجالاً ونساءً قصدوا إليها تزلفاً لوجهاء القبائل وعلية الأقوام وقد خلت صدورهم إلا من نفاق إجتماعي ورغبة في الظهور .. وحتى في المآتم يبكي صاحب أو صاحبة البلوى في فقد العزيز بعين واحدة وينظر بأخرى إلى من قد جاء معزياً ومن لم يكن من الحاضرين ، ليبادلوا من أتى إليهم بمثل ما أتى ويقطعون الأواصر مع من لم يأتِ .. أما من مات فقد راحت عليه الحسرات يوم دفنه وعاد للناس عند قبره لهو حياتهم بينهم وتبادل الأقنعة الزائفة وهم مازالوا جلوساً في دار مأتمه فلا ذكر لله ولا دعاء.. وكثيرون إن رأيتهم يصطفون في الصلاة تطالع على سحناتهم الخشوع والتبتل فلعلهم قد أتى بهم حسن الصوت فحسب في تلاوة الإمام ، وإن رأيت منهم بكاءً شديداً فلربما كان هو استصحاب لذكرى حزنٍ قديم أو مقيم حضرت مع ذاك الصوت الشجي بالقرآن ولكن ليس بكاءً على ما في آيات الكتاب المبين .. وأناس من بيننا لا يفعلون الخير إلا اعلاءً للواجب الاجتماعي وليس بقصد اخلاص النوايا في الترضي لله تعالى ، فلا يقدمون الخير للناس إلا بعدما يقدم لهم أولاً ..
أما في أروقة الدواوين والدوائر فحدث عنا أننا تداهناً نتبسم بين أيدي من له الرئاسة علينا وقلوبنا في الخفاء تلعن كل قولة منه وفعل .. ونشرئب بأعناقنا لنطاول أسفل موطئ نعل السيد فينا ونطأ بنعالنا رقاب الضعفاء منا ، ولا حياء .. وما ذاد وغطى أننا اينما تولينا وجدنا حولنا قلوب تغلي كالمراجل حسداً على السالمين الموفّقين في الحياة وفي الوظائف وفي العلوم وفي الزواج الكريم وفي فلاح الأبناء وحتى في العبادة ، فإن لم يطالوا أخوانهم بمحض الأيدي والمكيدة فإنهم لا يتورعون عن الكفران بالحق لدى كل ساحر دجال وضارب رمل وودع ليعقدون الأعمال السوء بأيديهم على الطيبين الغافلين عنهم ، وهذا آخر الزبد .. فكيف لنا من بعد ذلك لوماً على ديارنا البريئة ونحن من اقترفت ايدينا ميتة ودماً فاسداً ، فحتى وإن هاجرنا هاجرت معنا كل مآسينا وطوايا سرائرنا المريضة .. فهكذا ضرب الله علينا الفقر والمسكنة بذلٍ فندعوه فلا يستجيب لأيدينا المرفوعة إليه بالدعاء ملوثة بكل نفاق ومداجاة وحسد وكفران عشير وظلم ومالٍ حرام ومد بأعيننا إلى حرمات وحمى غيرنا .. ثم نعود نسائل أنفسنا في غباء لما ولى الله علينا بذنوبنا من يسوموننا سوء العذاب ، ومازال يولي .. لقد جعل الله كفارة الفرد الصالح حتى شوكة يشاكها ، فكيف بكفارة مجتمع كبير سوى حاكم مستبد وبطانة فاسدة وحاشيات قصور جائرة .. فهل نقتص أمام القضاء من حكامنا وولاتنا أولاً ، أم نقتص من بعض أنفسنا حتى ندرك لماذا عجزنا عن الاقتصاص من حكامنا وولاتنا .. ولماذا تظل أيادينا مشدودة إلى الأرض ناهيك عن ثقل أرجلنا عليها .. إذن ، لابد من حل هو لدى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، يقلبون أعاليها أسافلها .. واللبيب بالصمت دون الإشارة يفهم .
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
تلك هي التسمية ألتي أطلقها (جوستاف لوبون) الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي عند حديثه عن سيكولوجية الجماهير .. ورغم أن الفطرة السليمة تأبى قبول كلامه عن دور اللاوعي المخزون في أعراقنا في حسم سلوك الجماهير ، وأن عظمة الحضارات وانحطاطها تكمن في روح العرق الذي ننتمي إليه .. إلا أننا في الوضع الراهن نحتاج لكثير من الجهد لأجل أن لا تثبت علينا بأفعالنا احكام (جوستاف لوبون) تلك عن الجماهير حيث أفاد بأن الانقلابات الكبرى التي تسبق عادة تبدل الحضارات للوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسية ضخمة ، ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالباً أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب ، وأما الأحداث الضخمة المأثورة ألتي تتناقلها كتب التاريخ فهي ليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية ألتي تصيب عواطف البشر ، وإذا كانت لا تظهر إلى السطح إلا نادراً ، فذلك لأن المخزون الوراثي لعواطف عرق بشري ما هو عنصره الأكثر ثباتاً ..
فماذا إذن لو رأينا جماهيرنا تلهث وراء كل حافلة ونازلة ليغيب الواحد منا قصدا عن نفسه وحقيقة ذاته ويغرق في احوال المجموع ، فإننا إن فطنا إلي ذواتنا رأيناها خواء .. على هذا درجت سنة الجماهير في مجتمعاتنا المعاصرة ، نأكل القشور تصنعاً ونلقي باللباب في الحاويات يتخطفها البؤساء والمجهولين عن ذكر الناس لهم .. ونلبس كل يوم أقنعة جديدة كي نرائي أو نداجي من كانت لدينا عندهم الحاجة .. واتخذنا الأقوام من بني جلدتنا مطية لتحقيق الذات والشعور بقيمة النفس وربطنا محاسن حظنا في الحياة بتعس حظوظهم .. وكم ترى الساعين لتلبية المناسبات والمآدب وليالي الطرب الصاخبة رجالاً ونساءً قصدوا إليها تزلفاً لوجهاء القبائل وعلية الأقوام وقد خلت صدورهم إلا من نفاق إجتماعي ورغبة في الظهور .. وحتى في المآتم يبكي صاحب أو صاحبة البلوى في فقد العزيز بعين واحدة وينظر بأخرى إلى من قد جاء معزياً ومن لم يكن من الحاضرين ، ليبادلوا من أتى إليهم بمثل ما أتى ويقطعون الأواصر مع من لم يأتِ .. أما من مات فقد راحت عليه الحسرات يوم دفنه وعاد للناس عند قبره لهو حياتهم بينهم وتبادل الأقنعة الزائفة وهم مازالوا جلوساً في دار مأتمه فلا ذكر لله ولا دعاء.. وكثيرون إن رأيتهم يصطفون في الصلاة تطالع على سحناتهم الخشوع والتبتل فلعلهم قد أتى بهم حسن الصوت فحسب في تلاوة الإمام ، وإن رأيت منهم بكاءً شديداً فلربما كان هو استصحاب لذكرى حزنٍ قديم أو مقيم حضرت مع ذاك الصوت الشجي بالقرآن ولكن ليس بكاءً على ما في آيات الكتاب المبين .. وأناس من بيننا لا يفعلون الخير إلا اعلاءً للواجب الاجتماعي وليس بقصد اخلاص النوايا في الترضي لله تعالى ، فلا يقدمون الخير للناس إلا بعدما يقدم لهم أولاً ..
أما في أروقة الدواوين والدوائر فحدث عنا أننا تداهناً نتبسم بين أيدي من له الرئاسة علينا وقلوبنا في الخفاء تلعن كل قولة منه وفعل .. ونشرئب بأعناقنا لنطاول أسفل موطئ نعل السيد فينا ونطأ بنعالنا رقاب الضعفاء منا ، ولا حياء .. وما ذاد وغطى أننا اينما تولينا وجدنا حولنا قلوب تغلي كالمراجل حسداً على السالمين الموفّقين في الحياة وفي الوظائف وفي العلوم وفي الزواج الكريم وفي فلاح الأبناء وحتى في العبادة ، فإن لم يطالوا أخوانهم بمحض الأيدي والمكيدة فإنهم لا يتورعون عن الكفران بالحق لدى كل ساحر دجال وضارب رمل وودع ليعقدون الأعمال السوء بأيديهم على الطيبين الغافلين عنهم ، وهذا آخر الزبد .. فكيف لنا من بعد ذلك لوماً على ديارنا البريئة ونحن من اقترفت ايدينا ميتة ودماً فاسداً ، فحتى وإن هاجرنا هاجرت معنا كل مآسينا وطوايا سرائرنا المريضة .. فهكذا ضرب الله علينا الفقر والمسكنة بذلٍ فندعوه فلا يستجيب لأيدينا المرفوعة إليه بالدعاء ملوثة بكل نفاق ومداجاة وحسد وكفران عشير وظلم ومالٍ حرام ومد بأعيننا إلى حرمات وحمى غيرنا .. ثم نعود نسائل أنفسنا في غباء لما ولى الله علينا بذنوبنا من يسوموننا سوء العذاب ، ومازال يولي .. لقد جعل الله كفارة الفرد الصالح حتى شوكة يشاكها ، فكيف بكفارة مجتمع كبير سوى حاكم مستبد وبطانة فاسدة وحاشيات قصور جائرة .. فهل نقتص أمام القضاء من حكامنا وولاتنا أولاً ، أم نقتص من بعض أنفسنا حتى ندرك لماذا عجزنا عن الاقتصاص من حكامنا وولاتنا .. ولماذا تظل أيادينا مشدودة إلى الأرض ناهيك عن ثقل أرجلنا عليها .. إذن ، لابد من حل هو لدى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، يقلبون أعاليها أسافلها .. واللبيب بالصمت دون الإشارة يفهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق