أحمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد كان ضرورياً لعلماء النفس والاجتماع وفلاسفة العلم أن يرسموا في مؤلفاتهم قاسماً مشتركاً اكبراً لعوامل التآزر والتغاير في مجموعة الوظائف الحيوية البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية من أجل الإبقاء على وحدة الكل ومن أجل أن يكون لدينا في النهاية كائن حي أو شخصية أو مجتمع .. وأياً كان الأمر فقد اقتضت كل جهود من ينادون بتصورات الهوية المستقلة لأي شعب وترتيب حقوق المواطنة على كل داخل تحت هذه الهوية أن يرسوا في البدء أساس التكامل الاجتماعي للوحدات البشرية لهذا الشعب أو ذاك ، وليخرج في الأخير ذلك القاسم المشترك الأكبر لهوية الشعب يحمل سمات الشخصية العامة له مزاجاً وانفعالاً واخلاقاً تلقائية ونزوعٍ فطريٍ وتقارب وجداني مع باقي شركاء تلك الهوية .. ومن هنا ننطلق .. فمن حيث أن اهلنا في بلاد النوبة يتشددون كثيراً في أن يحمل المنتمي إليهم سمات تلك الهوية النوبية التي بها يتكاملون اجتماعياً مع بعضهم البعض بعوامل التآزر والتآلف ، ويتكاملون بها مع غيرهم من الشعوب بعوامل التغاير والتمايز والاختلاف وما في هذا من تحقيق للتكامل الاجتماعي الشامل لبني آدم في كافة مطارح الأرض شرقاً وغرباً .. ثم حيث أنه ايضاً كان اغالب سكان الخرطوم الوسط في أيام منتصف القرن العشرين وحتى بدايات اواخره هم يحملون سمتاً مشتركاً بينهم في طريقة الحياة والذوق العام والتربية والثقافة حتى اسماهم بعض الوصافين بتيار مدرسة الخرطوم ، فكانوا هم آنذاك الذين أسسوا بيوتات الخرطوم العريقة سواء كانوا من أصحاب الميري الحكومي أو من الرأسماليين الوطنيين وموظفيهم أو كانوا تجاراً ، وجميعهم كانوا هم كادر الاستنارة والثقافة في مجتمع الخرطوم .. فكيف بالله جمع ذلك الرجل أطراف الخير من قلب وادي حلفا ومن قلب الخرطوم بل ومن قلب بلدة (حلوان) العامرة في بلاد شمال الوادي .. فإن كان قياسنا له على هوية وادي حلفا وبلدة (عبري) كان هو النوبي الصميم في تكوينه وعقله وخلقه وضميره الحي .. وإن كان قياسنا له على هوية بيوتات مجتمع الخرطوم الوسط الأصيلة كان هو ممثلاً اعظماً لآباء أُسر الخرطوم المحافظين ووجهاً نضراً من وجهائها .. وإن كان قياسنا له على هوية من نشّئوا في بلدة (حلوان) كان هو الأشد قرباً من نسيج أبناء السودان ومصر فيها .. هو الرجل الذي اجمع عليه كل من ادرك منه طرفا حباً واحتراماً وتقديراً عالياً .. رجل لم يكن ينطق بكلام كثير ، ولكنه إن تكلم كان نطقه قسطاساً وميزان وكانت كلمته حكمة وعدلاً .. وهو من تعلمنا منه في الحياة كيف أن القيم العليا والمثُل الرفيعة والعزائم الكبرى يمكن أن تُضرب لها الأمثال بشواهد صغيرة بسيطة فترسخ في الأذهان ولا تبارح .. فلا أنسى وقت ان كنت صغيراً في صفي الرابع الابتدائي وكان هو يقف ذات ليلة شاتية في آخر الصف الطويل عند المخبز وكان يقف زميل لي بالمدرسة في أول الصف عند الشباك ، فقال لي زميلي سراً وهو مملوء بالنية الحسنة لفعل الخير (احضر لي المال من والدك لأشتري له معي فيعفي نفسه من وقفة الصف الطويل) فعدت لوالدي بخبر زميلي فقال لي (من هم امامنا بالصف احق منا .. فتعلم أن لا تأخذ حق غيرك ولو سراً) ومن يومها لم أقدر أن اصطنع حيلة قط لأنال حظوة أمام الصفوف وأنا في آخرها .. ولا أنسى يوم أن نزل عن السيارة ليسأل عن أمر ما وظللت أنا الصغير أرقبه من داخلها ، فأراه يتواصل مع رجل بالمكان كمن كان له ولي حميم ، فعلقت له عندما قضى وعاد (واضح تماماً انه صديقك) قال (لا .. ولكن بادر الناس بمعاملة حسنة لن يملكوا إلا ان يعاملوك بالحسنى وإن لم يعرفوك) .. لا أحصي كم هي عدد تلك الامثال الكبيرة ألتي ضربت بشواهد صغيرة عابرة منه ولكنها كلها بقي أثرها معنا حتى اسرفنا في العمر بعدها سنين عددا .. وإنني جازم ، أنه حينما كان بطلاً للسودان في رياضة (الإسكواش) العنيفة كان مع كل طرقة من مضربه يلطم بها الكرة المطاطية الصغيرة على الجدار تحمل في غدوها قيمة وعبرة ثم عندما ترتد عن الجدار ترجع بحكمة منه وأثر بليغ ينطبع في نفوسنا ونفوس كل من حولنا .. وحتى في اعظم أحزانه وآلامه يظل مهيباً لا يئن أمام المشفقين عليه من وطأة الألم .. فعندما كفّن الموت والدتي ورحلت ، طعن الأوراق بقلمه فكتب عنها ما لم يكتبه باكٍ على مفقود له من قبل .. كتب عن رفيقة حياته بظنه أن كل النساء جمعن فيها ، فرأيناها بكلماته كما لم نعرفها يوماً في حياتها بيننا قط ، ويا ليتنا عرفناها هكذا قبل الرحيل .. واستمر يكتب عنها ولم يتوقف ولم يجف حبره يوماً أو ينكسر القلم .. والآن ، وهو يعيش ما بعد منتصف الثمانين من عمره مازال هو المعلم بضرب الامثال العليا في كل فضيلة وإيثار وخلق كريم .. ومازلنا نحن طلاباً في مدرسته نجلس في حضرته متأدبين على مقاعد الدرس ونستمع منه وهو ينطق فعلاً وليس قولاً فنتعلم ما لم نتعلم من غيره ..
هكذا يتوجب علينا إن اردنا بيان هويتنا وحقيقة وجودنا وانتمائنا ثم تكاملنا الاجتماعي أن تكون ضربة البداية هي (بورتريه) نرسمه لخاصة كل عظماء شعوبنا لا سيما من يقبعون في عقر ديارنا طول دهرٍ ولم يكتب عنهم أحد ..
عندما نعى (السادات) في أول بيان له وفاة الزعيم (جمال عبد الناصر) قال (فقدت الإنسانية كلها رجلاً من أغلى الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال ..) ولكننا على ذات المنوال نعلن (أنه الآن يحيا بيننا رجل لا ككل الرجال .. رجل هو كل الرجال) .. إن كلماتي تدين له كما تدين له قدماي التي اسعى فوقها بإذن ربي .. عجز اللسان والبنان عن وصفه ، كما عجز الشاعر عند من يحب أن يحدق بوجهٍ وأن يرقص بساق .. وإنما كان من نعمة ربي أن كان هو والدي وليس سواه (أحمد الكردي) وكفى ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد كان ضرورياً لعلماء النفس والاجتماع وفلاسفة العلم أن يرسموا في مؤلفاتهم قاسماً مشتركاً اكبراً لعوامل التآزر والتغاير في مجموعة الوظائف الحيوية البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية من أجل الإبقاء على وحدة الكل ومن أجل أن يكون لدينا في النهاية كائن حي أو شخصية أو مجتمع .. وأياً كان الأمر فقد اقتضت كل جهود من ينادون بتصورات الهوية المستقلة لأي شعب وترتيب حقوق المواطنة على كل داخل تحت هذه الهوية أن يرسوا في البدء أساس التكامل الاجتماعي للوحدات البشرية لهذا الشعب أو ذاك ، وليخرج في الأخير ذلك القاسم المشترك الأكبر لهوية الشعب يحمل سمات الشخصية العامة له مزاجاً وانفعالاً واخلاقاً تلقائية ونزوعٍ فطريٍ وتقارب وجداني مع باقي شركاء تلك الهوية .. ومن هنا ننطلق .. فمن حيث أن اهلنا في بلاد النوبة يتشددون كثيراً في أن يحمل المنتمي إليهم سمات تلك الهوية النوبية التي بها يتكاملون اجتماعياً مع بعضهم البعض بعوامل التآزر والتآلف ، ويتكاملون بها مع غيرهم من الشعوب بعوامل التغاير والتمايز والاختلاف وما في هذا من تحقيق للتكامل الاجتماعي الشامل لبني آدم في كافة مطارح الأرض شرقاً وغرباً .. ثم حيث أنه ايضاً كان اغالب سكان الخرطوم الوسط في أيام منتصف القرن العشرين وحتى بدايات اواخره هم يحملون سمتاً مشتركاً بينهم في طريقة الحياة والذوق العام والتربية والثقافة حتى اسماهم بعض الوصافين بتيار مدرسة الخرطوم ، فكانوا هم آنذاك الذين أسسوا بيوتات الخرطوم العريقة سواء كانوا من أصحاب الميري الحكومي أو من الرأسماليين الوطنيين وموظفيهم أو كانوا تجاراً ، وجميعهم كانوا هم كادر الاستنارة والثقافة في مجتمع الخرطوم .. فكيف بالله جمع ذلك الرجل أطراف الخير من قلب وادي حلفا ومن قلب الخرطوم بل ومن قلب بلدة (حلوان) العامرة في بلاد شمال الوادي .. فإن كان قياسنا له على هوية وادي حلفا وبلدة (عبري) كان هو النوبي الصميم في تكوينه وعقله وخلقه وضميره الحي .. وإن كان قياسنا له على هوية بيوتات مجتمع الخرطوم الوسط الأصيلة كان هو ممثلاً اعظماً لآباء أُسر الخرطوم المحافظين ووجهاً نضراً من وجهائها .. وإن كان قياسنا له على هوية من نشّئوا في بلدة (حلوان) كان هو الأشد قرباً من نسيج أبناء السودان ومصر فيها .. هو الرجل الذي اجمع عليه كل من ادرك منه طرفا حباً واحتراماً وتقديراً عالياً .. رجل لم يكن ينطق بكلام كثير ، ولكنه إن تكلم كان نطقه قسطاساً وميزان وكانت كلمته حكمة وعدلاً .. وهو من تعلمنا منه في الحياة كيف أن القيم العليا والمثُل الرفيعة والعزائم الكبرى يمكن أن تُضرب لها الأمثال بشواهد صغيرة بسيطة فترسخ في الأذهان ولا تبارح .. فلا أنسى وقت ان كنت صغيراً في صفي الرابع الابتدائي وكان هو يقف ذات ليلة شاتية في آخر الصف الطويل عند المخبز وكان يقف زميل لي بالمدرسة في أول الصف عند الشباك ، فقال لي زميلي سراً وهو مملوء بالنية الحسنة لفعل الخير (احضر لي المال من والدك لأشتري له معي فيعفي نفسه من وقفة الصف الطويل) فعدت لوالدي بخبر زميلي فقال لي (من هم امامنا بالصف احق منا .. فتعلم أن لا تأخذ حق غيرك ولو سراً) ومن يومها لم أقدر أن اصطنع حيلة قط لأنال حظوة أمام الصفوف وأنا في آخرها .. ولا أنسى يوم أن نزل عن السيارة ليسأل عن أمر ما وظللت أنا الصغير أرقبه من داخلها ، فأراه يتواصل مع رجل بالمكان كمن كان له ولي حميم ، فعلقت له عندما قضى وعاد (واضح تماماً انه صديقك) قال (لا .. ولكن بادر الناس بمعاملة حسنة لن يملكوا إلا ان يعاملوك بالحسنى وإن لم يعرفوك) .. لا أحصي كم هي عدد تلك الامثال الكبيرة ألتي ضربت بشواهد صغيرة عابرة منه ولكنها كلها بقي أثرها معنا حتى اسرفنا في العمر بعدها سنين عددا .. وإنني جازم ، أنه حينما كان بطلاً للسودان في رياضة (الإسكواش) العنيفة كان مع كل طرقة من مضربه يلطم بها الكرة المطاطية الصغيرة على الجدار تحمل في غدوها قيمة وعبرة ثم عندما ترتد عن الجدار ترجع بحكمة منه وأثر بليغ ينطبع في نفوسنا ونفوس كل من حولنا .. وحتى في اعظم أحزانه وآلامه يظل مهيباً لا يئن أمام المشفقين عليه من وطأة الألم .. فعندما كفّن الموت والدتي ورحلت ، طعن الأوراق بقلمه فكتب عنها ما لم يكتبه باكٍ على مفقود له من قبل .. كتب عن رفيقة حياته بظنه أن كل النساء جمعن فيها ، فرأيناها بكلماته كما لم نعرفها يوماً في حياتها بيننا قط ، ويا ليتنا عرفناها هكذا قبل الرحيل .. واستمر يكتب عنها ولم يتوقف ولم يجف حبره يوماً أو ينكسر القلم .. والآن ، وهو يعيش ما بعد منتصف الثمانين من عمره مازال هو المعلم بضرب الامثال العليا في كل فضيلة وإيثار وخلق كريم .. ومازلنا نحن طلاباً في مدرسته نجلس في حضرته متأدبين على مقاعد الدرس ونستمع منه وهو ينطق فعلاً وليس قولاً فنتعلم ما لم نتعلم من غيره ..
هكذا يتوجب علينا إن اردنا بيان هويتنا وحقيقة وجودنا وانتمائنا ثم تكاملنا الاجتماعي أن تكون ضربة البداية هي (بورتريه) نرسمه لخاصة كل عظماء شعوبنا لا سيما من يقبعون في عقر ديارنا طول دهرٍ ولم يكتب عنهم أحد ..
عندما نعى (السادات) في أول بيان له وفاة الزعيم (جمال عبد الناصر) قال (فقدت الإنسانية كلها رجلاً من أغلى الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال ..) ولكننا على ذات المنوال نعلن (أنه الآن يحيا بيننا رجل لا ككل الرجال .. رجل هو كل الرجال) .. إن كلماتي تدين له كما تدين له قدماي التي اسعى فوقها بإذن ربي .. عجز اللسان والبنان عن وصفه ، كما عجز الشاعر عند من يحب أن يحدق بوجهٍ وأن يرقص بساق .. وإنما كان من نعمة ربي أن كان هو والدي وليس سواه (أحمد الكردي) وكفى ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق