فن صناعة الفساد ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ليس دائما ما يكون الفساد السلوكي والانحراف الأخلاقي في الشعوب هو من جراء فقرها ..
عوداً على (ثوماس هوبز) Th. Hobbsالفيلسوف السياسي الانجليزي الذي كان أشهر من وضع نظرية في (العقد الاجتماعي) قدمها في كتابه الأساسي (التنين) Leviathanوكيف جعله مسوغاً لصناعة الدولة كضرورة تاريخية اجتماعية ، فالدولة لديه هي حالة متفق عليها بين أفراد المجتمع للخلاص بها من الحالة الفطرية الأولى للإنسانية وهي حالة الحرب والاقتتال والتعدي المستمر للكل ضد الكل فإن استمرت لأدت إلى فناء الجنس البشري في عهده القريب .. وعلى هذا فإن الدولة هي كيان مصطنع بقصد تنظيم حياة الناس وتوزيع الواجبات وضمان الحقوق في المجتمع ..وهذا التنظيم الذي تجريه الدولة إما أن يكون حميداً بصناعة العمران أو أن يكون خبيثاً بصناعة الفساد في الأرض ، والحكومة في هذا هي الهيئة الرئاسية القائدة للدولة ، فإن كان قد تم تنصيبها ببيعة الناس ابتداءً وباختيارهم الحر ثم أفسدت فيلزم للناس حينها الصبر عليها لأن الخروج عليها يكون أمراً ذا شروط وقيود لاسيما لأنه حينها سيكون لدى الشعب آليات لنقد وتقويم الحكم .. اما وإن أتت جبراً على الناس بلا بيعة لها في أعناقهم أو انتخاب في الأساس ثم افسدت فمن الواجب حينئذ الخروج عليها وحذفها ومحاكمتها كسبا لحق المظلومين المستضعفين في البلاد ، فلا حق لمن يتسلط على الناس دون إرادة منهم أو اختيار في تسلطه عليهم .. وأذكر أنه كان لدى بعضاً ممن لهم اختصاص في السيكولوجيا الاجتماعية رأياً تحدثوا به عن التأثير الخطر (للدعاية) بكونها نوع من غسيل الأدمغة للشعوب وبما يماثل فعل التنويم المغناطسي ولكن على المستوى الجمعي وليس الفردي .. وربما قد استغلت الحكومات الفاسدة والطغاة من الحكام هذا التأثير من أجل التسويغ أمام الشعوب ما يحصل من فسادهم .. وهكذا ، تسير الأمور على منطق أن هناك حكومة فاسدة بكافة بطانتها ولكن إذا برز هذا الفساد للحكومة كفرس أوحد في الميدان لانتفض الناس عليها واندلعت الثورات .. فكيف إذن يكون الفعل لتستمر الحكومة باقية على دولتها على مدى الآجال الطوال رغم فسادها البين .. الاجابة الظاهرة على هذا السؤال بأن الحكومة تلك قد تلجأ إلى صناعة فساد موازي داخل صفوف الشعب .. أي أن يتم خلق ظواهر شاذة في الوسط الاجتماعي أو هكذا تبدو في بادئ الأمر ، حتى يستهجنها الناس وينشغلون بقولهم أن هذه الظواهر ليست من أخلاقنا أو ليست من ديننا أو ليست من عادات مجتمعنا .. ورغم أن الشعب سيصب في أول الأمر بطبيعة الحال جام سخطه على الحكومة وفسادها البارز بأنها السبب الحقيقي والمباشر في نشؤ هذه الظواهر المنحرفة والشاذة بين أفراد من الشعب بفعل الفقر وانعدام العدالة وضنك العيش وضياع الخدمة المدنية وتبديد الموارد القومية وانفراط الأمن وأن مع كل هذا وبسببه تضيع الأخلاق وتنحل القيم وتتلوث الأيدي .. ولكن ذلك لن يكون نهاية المطاف في هذه المؤامرة على الشعب .. إذ سرعان ما ستتكاثر الظواهر الاجتماعية والسلوكية السالبة وتنمو بصورة ملحوظة لدى كل أفراد الشعب وشعوب أخرى .. إلى أن يقع في يقين الناس أن هذا الفساد الكثيف فيما بينهم إنما مصدره هو الناس أنفسهم وليس من مصدر خارجي عنهم ، وأن ليس لفساد الحكومة يد بسبب في فساد الناس إلا أنها فقط اظهرته إلى العيان بعد أن مستتراً في اخبيتهم ، فيروا أكثر الشعب مرتشٍ داعر أكال للحرام سارق وقاتل .. في حين تكون حقيقة الأمر وراء ذلك والتي لم يفطنوا اليها أن هذا الفساد السلوكي العام ربما هو مكيدة دبرتها الحكومة الفاسدة بين الناس قصداً واصطناعاً ، حتى يدب اليأس أخيراً في قلوب ابناء الأمة من سوء أنفسهم فيكون ما قد اثار الاستهجان لديهم في الماضي هو في الحاضر الأمر العادي المألوف ، وأنه ليس بمستغرب ان يخرج من باطن الشعب الفاسد في أصله حكومة فاسدة بل إن هذا هو الحال الطبيعي .. هكذا يتحول شاخص الرمي من فساد الحكومة إلى فساد الذات ، إلى الدرجة التي لا يجد معها الصالحون الأبرياء بظنهم أنه لا ملجأ من فساد الناس الا إلى الحكومة التي حتى وإن علا فسادها ما علا يظل أهون من فساد الشعب ، لأن الحكومة مسبقاً كانت قد اضعفت كثيراً حاكمية القانون في الدولة واستعاضت عنها بقوة السلطة حيث أن غياب القانون يمثل فرصة لإظهار الفساد في الناس وكاشفاً عن سوءات نفوسهم ، هنا تصبح الميزة الوحيدة للحكومة الفاسدة على شعبها هي أنها تملك القوة .. اذن فلا مناص أن يقبل الناس بهذه الحكومة احتماءً تحت قوتها .. يسير هذا الوهم المصنوع بين الناس كالنار في الهشيم نحو صناديق الاقتراع للتصويت طوعاً لصالح تلك الحكومة التي بدت له لهم أنها أفضل السيئين وإن زالت فلربما تولى عليهم ما هي أسوء منها.. هكذا اذن هو فن صناعة الفساد بتكثير الظواهر الانحرافية السالبة والتي يتم تعميمها في أذهان الناس بفعل الدعاية المركزة ، فيضرب الوهم بذلك عقول أفراد الشعب بأن الفساد طبع وأصل فيهم هم دون سواهم ، وأن أمجاد الأقدمين في الشرف والعفة والأخلاق كلها قد ضاعت الآن .. ثم اليأس من الإصلاح ..ثم تأتي النتيجة الحتمية بالارتماء في أحضان الحكومة الفاسدة لتحول بينهم وبين فساد ذات بينهم .. وهكذا يعود (تنين) (ثوماس هوبز) لمرات أخرى وفي ثوب جديد، ففي الماضي كان الناس عنده كلهم مجرمون بالأصل فيهربون من إجرام أنفسهم بتوقيع العقد الاجتماعي فيما بينهم من أجل التخلي عن حرياتهم وحقوقهم لفرد فيهم وليس هو طرفاً في التعاقد ليكون حاكما عليهم يحتمون خلفه حتى ولو كان هو مجرم مثلهم أيضأ وليفعل هو ما بدا له شريطة ان يحفظ لهم حياتهم آمنة .. والآن في حاضرنا الراهن سيهرب الشعب جماعات وفرادى من بأسهم الشديد بينهم إلى الاحتماء بحاكمهم الذي هو كذلك من جملة الفاسدين بعدما كانوا يرمون بيته الزجاجي بالحجارة بحسن الظن منهم أن بيوتهم مدعمة بحيط من رخام وفضيلة .. هذا هو فن صناعة الفساد ، أن يصير الشاذ البعيد مألوف قريب .. والصورة كلها هي كما حال كبار علماء الطبيعة في مشاهدتهم لأكثر الظواهر واقامتهم عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها ظواهر يشاهدها كل الناس في كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه فيهم ، والأحوال الاجتماعية لا تختلف عن ذلك ، فنحتاج فيها إلى ناقد حصيف لا يرى في الظواهر السلوكية الشاذة والمنحرفة على كثرتها أمراً أصيلاً معتاداً عليه كما هو لدى عموم الناس ، بل يراه على الحقيقة فيحرك هو بذلك انتباه الناس من جديد ليروا إياها كمحض ظواهر شاذة وان الشعب في أصله ليس فاسداً ، وبالتالي تتجلى أمامهم حيلة السلطة في صناعة الفساد الوهمي الزائف في الناس وترويجه قصداً بينهم عبر الدعاية .. هنا وجب انفاذ أحكام القضاء الجنائية في حق السلطة .. اولاً، بفساد الحكم في ذاته ، ثم ثانياً، بصناعتهم الفساد في الشعب كله ليكون سمة له .. فسبحان من يمهل ولا يهمل .
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ليس دائما ما يكون الفساد السلوكي والانحراف الأخلاقي في الشعوب هو من جراء فقرها ..
عوداً على (ثوماس هوبز) Th. Hobbsالفيلسوف السياسي الانجليزي الذي كان أشهر من وضع نظرية في (العقد الاجتماعي) قدمها في كتابه الأساسي (التنين) Leviathanوكيف جعله مسوغاً لصناعة الدولة كضرورة تاريخية اجتماعية ، فالدولة لديه هي حالة متفق عليها بين أفراد المجتمع للخلاص بها من الحالة الفطرية الأولى للإنسانية وهي حالة الحرب والاقتتال والتعدي المستمر للكل ضد الكل فإن استمرت لأدت إلى فناء الجنس البشري في عهده القريب .. وعلى هذا فإن الدولة هي كيان مصطنع بقصد تنظيم حياة الناس وتوزيع الواجبات وضمان الحقوق في المجتمع ..وهذا التنظيم الذي تجريه الدولة إما أن يكون حميداً بصناعة العمران أو أن يكون خبيثاً بصناعة الفساد في الأرض ، والحكومة في هذا هي الهيئة الرئاسية القائدة للدولة ، فإن كان قد تم تنصيبها ببيعة الناس ابتداءً وباختيارهم الحر ثم أفسدت فيلزم للناس حينها الصبر عليها لأن الخروج عليها يكون أمراً ذا شروط وقيود لاسيما لأنه حينها سيكون لدى الشعب آليات لنقد وتقويم الحكم .. اما وإن أتت جبراً على الناس بلا بيعة لها في أعناقهم أو انتخاب في الأساس ثم افسدت فمن الواجب حينئذ الخروج عليها وحذفها ومحاكمتها كسبا لحق المظلومين المستضعفين في البلاد ، فلا حق لمن يتسلط على الناس دون إرادة منهم أو اختيار في تسلطه عليهم .. وأذكر أنه كان لدى بعضاً ممن لهم اختصاص في السيكولوجيا الاجتماعية رأياً تحدثوا به عن التأثير الخطر (للدعاية) بكونها نوع من غسيل الأدمغة للشعوب وبما يماثل فعل التنويم المغناطسي ولكن على المستوى الجمعي وليس الفردي .. وربما قد استغلت الحكومات الفاسدة والطغاة من الحكام هذا التأثير من أجل التسويغ أمام الشعوب ما يحصل من فسادهم .. وهكذا ، تسير الأمور على منطق أن هناك حكومة فاسدة بكافة بطانتها ولكن إذا برز هذا الفساد للحكومة كفرس أوحد في الميدان لانتفض الناس عليها واندلعت الثورات .. فكيف إذن يكون الفعل لتستمر الحكومة باقية على دولتها على مدى الآجال الطوال رغم فسادها البين .. الاجابة الظاهرة على هذا السؤال بأن الحكومة تلك قد تلجأ إلى صناعة فساد موازي داخل صفوف الشعب .. أي أن يتم خلق ظواهر شاذة في الوسط الاجتماعي أو هكذا تبدو في بادئ الأمر ، حتى يستهجنها الناس وينشغلون بقولهم أن هذه الظواهر ليست من أخلاقنا أو ليست من ديننا أو ليست من عادات مجتمعنا .. ورغم أن الشعب سيصب في أول الأمر بطبيعة الحال جام سخطه على الحكومة وفسادها البارز بأنها السبب الحقيقي والمباشر في نشؤ هذه الظواهر المنحرفة والشاذة بين أفراد من الشعب بفعل الفقر وانعدام العدالة وضنك العيش وضياع الخدمة المدنية وتبديد الموارد القومية وانفراط الأمن وأن مع كل هذا وبسببه تضيع الأخلاق وتنحل القيم وتتلوث الأيدي .. ولكن ذلك لن يكون نهاية المطاف في هذه المؤامرة على الشعب .. إذ سرعان ما ستتكاثر الظواهر الاجتماعية والسلوكية السالبة وتنمو بصورة ملحوظة لدى كل أفراد الشعب وشعوب أخرى .. إلى أن يقع في يقين الناس أن هذا الفساد الكثيف فيما بينهم إنما مصدره هو الناس أنفسهم وليس من مصدر خارجي عنهم ، وأن ليس لفساد الحكومة يد بسبب في فساد الناس إلا أنها فقط اظهرته إلى العيان بعد أن مستتراً في اخبيتهم ، فيروا أكثر الشعب مرتشٍ داعر أكال للحرام سارق وقاتل .. في حين تكون حقيقة الأمر وراء ذلك والتي لم يفطنوا اليها أن هذا الفساد السلوكي العام ربما هو مكيدة دبرتها الحكومة الفاسدة بين الناس قصداً واصطناعاً ، حتى يدب اليأس أخيراً في قلوب ابناء الأمة من سوء أنفسهم فيكون ما قد اثار الاستهجان لديهم في الماضي هو في الحاضر الأمر العادي المألوف ، وأنه ليس بمستغرب ان يخرج من باطن الشعب الفاسد في أصله حكومة فاسدة بل إن هذا هو الحال الطبيعي .. هكذا يتحول شاخص الرمي من فساد الحكومة إلى فساد الذات ، إلى الدرجة التي لا يجد معها الصالحون الأبرياء بظنهم أنه لا ملجأ من فساد الناس الا إلى الحكومة التي حتى وإن علا فسادها ما علا يظل أهون من فساد الشعب ، لأن الحكومة مسبقاً كانت قد اضعفت كثيراً حاكمية القانون في الدولة واستعاضت عنها بقوة السلطة حيث أن غياب القانون يمثل فرصة لإظهار الفساد في الناس وكاشفاً عن سوءات نفوسهم ، هنا تصبح الميزة الوحيدة للحكومة الفاسدة على شعبها هي أنها تملك القوة .. اذن فلا مناص أن يقبل الناس بهذه الحكومة احتماءً تحت قوتها .. يسير هذا الوهم المصنوع بين الناس كالنار في الهشيم نحو صناديق الاقتراع للتصويت طوعاً لصالح تلك الحكومة التي بدت له لهم أنها أفضل السيئين وإن زالت فلربما تولى عليهم ما هي أسوء منها.. هكذا اذن هو فن صناعة الفساد بتكثير الظواهر الانحرافية السالبة والتي يتم تعميمها في أذهان الناس بفعل الدعاية المركزة ، فيضرب الوهم بذلك عقول أفراد الشعب بأن الفساد طبع وأصل فيهم هم دون سواهم ، وأن أمجاد الأقدمين في الشرف والعفة والأخلاق كلها قد ضاعت الآن .. ثم اليأس من الإصلاح ..ثم تأتي النتيجة الحتمية بالارتماء في أحضان الحكومة الفاسدة لتحول بينهم وبين فساد ذات بينهم .. وهكذا يعود (تنين) (ثوماس هوبز) لمرات أخرى وفي ثوب جديد، ففي الماضي كان الناس عنده كلهم مجرمون بالأصل فيهربون من إجرام أنفسهم بتوقيع العقد الاجتماعي فيما بينهم من أجل التخلي عن حرياتهم وحقوقهم لفرد فيهم وليس هو طرفاً في التعاقد ليكون حاكما عليهم يحتمون خلفه حتى ولو كان هو مجرم مثلهم أيضأ وليفعل هو ما بدا له شريطة ان يحفظ لهم حياتهم آمنة .. والآن في حاضرنا الراهن سيهرب الشعب جماعات وفرادى من بأسهم الشديد بينهم إلى الاحتماء بحاكمهم الذي هو كذلك من جملة الفاسدين بعدما كانوا يرمون بيته الزجاجي بالحجارة بحسن الظن منهم أن بيوتهم مدعمة بحيط من رخام وفضيلة .. هذا هو فن صناعة الفساد ، أن يصير الشاذ البعيد مألوف قريب .. والصورة كلها هي كما حال كبار علماء الطبيعة في مشاهدتهم لأكثر الظواهر واقامتهم عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها ظواهر يشاهدها كل الناس في كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه فيهم ، والأحوال الاجتماعية لا تختلف عن ذلك ، فنحتاج فيها إلى ناقد حصيف لا يرى في الظواهر السلوكية الشاذة والمنحرفة على كثرتها أمراً أصيلاً معتاداً عليه كما هو لدى عموم الناس ، بل يراه على الحقيقة فيحرك هو بذلك انتباه الناس من جديد ليروا إياها كمحض ظواهر شاذة وان الشعب في أصله ليس فاسداً ، وبالتالي تتجلى أمامهم حيلة السلطة في صناعة الفساد الوهمي الزائف في الناس وترويجه قصداً بينهم عبر الدعاية .. هنا وجب انفاذ أحكام القضاء الجنائية في حق السلطة .. اولاً، بفساد الحكم في ذاته ، ثم ثانياً، بصناعتهم الفساد في الشعب كله ليكون سمة له .. فسبحان من يمهل ولا يهمل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق