الجمعة، 30 ديسمبر 2016

كن كشافاً دوماً..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

لا أنسى تلك الأيام التي كنا نداولها بيننا صغاراً .. حول الخيام ووسط الأشجار في الغابات أو على ضفاف نهر النيل العظيم .. لا أنسى كيف أن الأب المربي القائد (ربيع محمد خير) - رحمه الله - أشهر قادة الفرقة العاشرة والحادية عشرة كشافة ، وواحد من أقوى قادة الكشافة السودانية في تاريخها العريق .. والذي أشهد له عند الله تعالى أنه كان يقطع حفلات التتويج – وهي أهم الاحتفالات الكشفية لإثبات العضوية ومنح الجوائز والشارات – وقت الصلاة ليصلي بأولياء أمور الكشافين إماماً  في زمان مضى كانت رعاية حقوق الله فيه أمراً طي النسيان لدى أغلب طبقات المجتمع ، ثم يعاود تتمة الاحتفال .. كيف كان هذا الرجل الشاب وقتها  قائداً بالفعل دون القول .. يزرع ويشتل ويحصد في أنفسنا منذ الصبا الباكر أصول قيادة الذات والآخرين والاعتماد على النفس في كل حين ،  وقدرة التصرف في أي ظرف وحال فقط بما يحيطنا من إمكانات متاحة مهما قلت أو شحت ..  لقد أسلم (ربيع محمد خير) روحه إلى بارئها بعد أن أسس صرح كشافة دولة الإمارات العربية المتحدة فحمل في ذلك اسم السودان عالياً .. ألا رحمه الله وأسكنه الجنة ..
ولقد كان مما يحفزنا على الصبر وطول الجلد والالتزام ويثير حاسة الحماس والفخر في نفوسنا ذلك الملبس الموحد الذي يضاهي في بهائه أزياء الضباط والأفراد بالقوات العسكرية .. والمنديل المعقود على الأعناق مذكراً بعظم المسؤولية وشارة العضوية الكشفية المعلقة على جهة القلب تحمل في طيها -  روحاً أو نصاً -  الشعار الكشفي الدائم (كن مستعداً) .. ثم ذلك الكم الهائل على الأكمام من شارات الكفاية والجدارة والهواية تعلن للناس أن هنا كشاف ماهر فاطمئنوا ولا تحقرن حداثة سنه فهو شبل ابن ليث ..  ثم تلك التحية الكشفية المميزة باليد اليمنى الثلاثة أصابع المشرعة تذكر ببنود الوعد الكشفي في واجبنا نحو الله ثم الوطن وأن نساعد جميع الناس في جميع الأحوال ، والإصبعين المعقودين أحدهما فوق الأخر يدلان على توقير الكبير ورحمة الصغير ثم الحلقة المستديرة بين الإصبعين المعقودين تدل على دائرة الرابطة الكشفية بين كل من انتمى يوماً إلى الحركة الكشفية في أي مكان من العالم .. لم أجد أبداً من نسي أنه كان يوماً كشافاً ، إذا كان .. ولا كيف أنه مازال حتى أرذل العمر يفاد مما تلقاه فيها وإن طال عليه الأمد بينه وبينها وبعدت الشقة ..
لم أجد فيما علمت تنظيماً تربوياً وتدريبياً مثلما الكشافة بين نمط القيادة العسكرية من جهة والقيادة المدنية من جهة أخرى .. القيادة العسكرية بانتظامها الشكلي والحركي فرقاً وطلائع ، التي تقضي بالالتحام مع الطبيعة الحرة والبقاء في الظروف الخلوية الصعبة ومواجهة المخاطر والطاعة العمياء للتنفيذ المباشر في الميدان براً وبحراً وجواً وحيث لا وقت للتوقف للسؤال وللإجابة، والأهمية القصوى لعامل الزمن وحساب الاحتمالات ألاستراتيجيه .. والقيادة المدنية التي تعتمد على التفسير والإيضاح لكل المواقف ، والمشاركة في صناعة القرارات ، والاتصال المباشر بالجمهور وعموم الناس ، والترتيب المدني للحياة ..
وعن المستقبل ، فقد أثبت تأسيس فرقة كشفية مؤخراً بإحدى أبرز مناطق الفساد والجريمة بقيادة جمعية الكشافة السودانية وبإشراف ورعاية  جامعة الرباط الوطني في تحويل حالة هذه المنطقة من تلك التي كانت عليها إلى منطقة تنموية ناهضة بأيدي الكشافين الصغار أن الكشافة قد أصابت هدفها الكبير (نحو غدا أفضل) بالفعل والعمل والتدريب لا مجرد الشعار .. هذا كله ناهيك عن علو قدرها في الملمات والخطوب بيئيةً كانت أو إنسانية .. ومن يرى خدمة الكشافين صغاراً وكباراً للحجيج في مواسم الحج يوقن بأن الأمر الكشفي ليس لهواً ولعباً وإنما تدريب وتربية ، وغير ذلك كثير .. شهد التاريخ على هذا منذ حرب (البوير) وظهور كتاب (Scouting for Boys) لمؤلفه المؤسس الأول للكشافة اللورد (بادن باول) B.P.  في العقد الأول من القرن العشرين .. ثم إلى يومنا هذا ..

فلتكن أيدك الله كشافاً يوماً .. تكن كشافاً دوماً .  
"كعصفور العابور على قضيب الدبق" .. حال البحث العلمي
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
"كعصفور العابور على قضيب الدبق" عبارة مستعارة عن (مارون عبود) في كتابه (حبر على ورق) وصف بها من تعلقوا جماعات على لوح الصيد اللزج كناية عن أصحاب الشهادات الكثر يصطفون طابوراً أمام مكتب التوظيف ليفوز منهم واحد فقط ثم يسرح الباقون على وجوههم في الأرض , لا انتفعوا ولا نفعوا ..
هكذا يمكن أن يكون وصف حال (البحث العلمي) في ديارنا وزماننا على الأغلب .. فقد ازداد مد القلم على الأوراق لدى من ظنوا أنفسهم بحاثة وعمال علم ، في حين أنهم على الحقيقة أصحاب غث .. فليلتفت أولئك إلى ماض من الزمان كان فيه رجال يموتون قتلاً أو حتف أنوفهم لتشتعل الدنيا بعدهم بعلوم ومعارف وحقائق لا تموت ..
والأمر على صنفين من بحاثة العلم .. صنف لم يأخذ من البحث العلمي إلا شكله إدعاءً بعد أن ضرب مراراً بطون الأسفار على هيئاتها وهياكلها ، فلم يخرج منها إلا بحمأة وقليل ماء ونزر من علم يسير دون باع له فيه .. وبرغم ذلك نراه قد أغرق اسواق الوراقين بآلاف الكتب والصفحات ، ولكنها خرجت بلا مبتدأ ولا خبر من أجل حياة الناس واجتماعهم وهمومهم ، عمله "كاجترار العنز في القيلولة" كما قال (مارون عبود) أيضاً .. فماذا ينشد من وراء ذلك إلا عرض زائل .. 
لقد كتب (هيجل) G. W. Hiegel وهو من أعظم فلاسفة الجرمان كتباً ذات دسم ثقيل انهال عليه الشراح من كل حدب وصوب .. ولكنه بكل هذا لم يمكنه أن يثبت الدولة (البروسية) في المانيا آنذاك من أن تزول أقدامها وأن تصبح كما اراد لها أن تكون (نهاية التاريخ) .. إلى أن يأتي (ماركس) K. Marx فيقلب هرم (هيجل) نفسه رأسه على عقبه تماماً فيقيم به على يد (لينين)  V. Lenin دولة عظمى جثمت على نصف العالم سبعين سنة ..
أما الصنف الثاني ، فهم ما قل وندر ولكنهم حققوا وقدموا .. وهم ما جرى على أيديهم شرط البحث العلمي ذو الزنة والقيمة والنفع العام .. وهو شرط على ثلاثة وجوه :
أولاً -  أن يتجاوز البحث الاقتصار على ملامسة سطح الموضوع أو القضية بل ينفذ إلى المحاور والنقاطها المركزية والبنيات الأساسية .
ثانياً – أن يقوم البحث اعتماداً على الاستدلالات التحليلية والبنائية لدى الباحث بنسبة لا تقل عن 79% من عموم البحث والباقي احالات توثيقية ، فمجهود الباحث ليس مجرد إطار يضفيه على الموضوع فلا يكون الأمر سوى تبديل وتغيير أزياء وألوان ، وإنما عمل الباحث هو خلق للبحث .
ثالثاً – أن يقدم البحث إضافة معرفية حقيقية وإيجابية جديدة ومعتبرة على مستوى طرح المشكلات وصوغ الفرضيات عليها ثم إثبات الحلول الفاعلة مع أصالة الصياغة العامة للبحث ، أي تطوير المعرفة العلمية لموضوع البحث ..
وهكذا .. فلقد مات الراهب (جونيبر) في رائعة (جسر سان لويس ري) لـ (ثورنتون وايلدر) محكوماً عليه بالحرق مع كتابه الوحيد ، لأنه بحث فيه أن سيرة حياة الناس في الدنيا ليست بمحض أقدار عمي لا يعلمها الله ولا العباد .. وإنما ربما هي قوانين ربانية واعية قاصدة غرست في قلب الوجود ولا مكان فيها للصدفة ، ويمكن لجميع بني آدم معرفتها من غير واسطة من راهب أو سلطان .. كتاب وحيد ولكنه عندما تسربت منه نسخة ما .. زلزلت الأرض تحت سيطرة الآباء ..
فاختر أيها الصديق إما أن تصير بين الناس أثراً ودرة تاج يحسبها الرائي خرزة عين بما قدمت يداك .. أو أن تصير فيهم محض لقب يزهو بحامله عمر قصير (.. كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) فهذا قول رب العالمين ..
وأردد دائماً لقلبي .. لا يغرن نفسك الزبد الكثيف يغطي وجه البحر بياضاً ، فإنه يذهب جفاءً وإن كثر ويبقى اللؤلؤ في أعماقه ساكناً ..   


علي البارودي .. الرجل القابض على الجمر
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           

 شريان نبع من بطون حلفا وما وراءها .. هو رجل من أولئك الرجال الذين تعرفهم فوراً ومنذ أول وهلة فظاهره يخبر عن باطنه دون إخفاء ولا مداراه ودون اختلاق .. مهيب الطلعة .. قوي النظرة في استحياء .. عالي الهمة والهامة .. يمشي سوياً على صراط مستقيم ..   تبدو للعيان مآثره الثرة عندما يبدأ حديثه .. وعندما يصمت تصبك نفحات الوقار وسكون النفس . والرجل إن كان عادته الصمت فلقد حدث عن نفسه كثيراً فعلاً وعملاً إذ كان حياً ، وبعدما مات وجب علينا نحن أن نحدث عنه قولاً وخبرا بعدما انقطع العمل ..
لقد فاق (علي أحمد البارودي) في صفاته مضارب الأمثال من أبناء العجم ذوي البشرة البيضاء فيما وراء البحار نظاماً ونظافة وأمانة ودقة والتزام ، وهكذا المسلم حقاً .. لم يدع يوماً صلاة الفجر في جماعة وتلاوة ورد من القرآن كل صباح .. وله دائماً مشياً قاصداً بوقع الخطى قبل مغيب الشمس .. وبعد العشاء كان ككل الصالحين من السالفين يأوي إلى نومه في الشطر الباكر من الليل ، فجمع بكل ذلك الخير من أطرافه .. كان كل شيء عنده وكل شاردة وواردة بميعاد وساعة .. شغل نفسه بجادة الأمور عن لغو الخبر وأحاديث الناس ..
أما عن أخلاقه فلا أقول أنه غالب هوى نفسه وغلبه .. بل أن الهوى بفعل أدنى المنكرات لم يراود نفسه أصلاً سجية وفطرةً ، فُيرى الصلاح في محياه طبعاً لا تكلفاً .. ولم يذكره ذاكر في حال حياته وبعد موته إلا بالخير ثم الخير .. مات الرجل وكان لابد أن يموت فلقد ضرب المثل وعقد القدوة .. هذا عن حاله مع نفسه .. أما عن حاله مع العمل الرسمي فلقد كان الرجل مديراً للبنك الزراعي بـ (ود مدني) ، ثم ترقى من بعد مشرفاً عاماً على كل أفرع البنك الزراعي بقطاع ولاية الجزيرة  .. ولم يشهد البنك الزراعي ازدهاراً وقوة – والشهادة للقائلين ممن عملوا معه – مثلما شهد في عصره .. فلقد كانت أفرع ذلك القطاع أفضل البنوك عملاً وأقومها منهجاً وأبرزها طهارة في المال والعقار بقيادة الرجل ، خاصة وأنها كانت تتعهد أخطر وأعظم مشاريع الثروة في السودان (مشروع الجزيرة) ..
كم رد(علي البارودي) هدايا وهبات كانت تأتيه سعياً من أصحاب المصالح بحسن نية أو بسوء نية سيان لديه ، فلم يقبل .. كان يقف على رأس عمله ويرعى رعيته بنفسه بحسم وحزم دون ظلم أو بغي فيرتدع كل مرتدع ويحذر كل حاذر ، ويأمن الكريم الخلوق في عمله فإن فوق رؤوسهم القوي الأمين .. وكفى بما خطت يدا مدراء عموم البنك بخطابات الشكر والإشادة شاهدة عليه وبما له من علو يد وفضل ..
أما المغذى من هذا الذكر للرجل .. أن بلادنا كم هي مليئة بمثله ، وأن النماذج المثلى والقدوات العالية لم تنتهي .. فهذا الإنسان هو رجل من زماننا .. كان كما السلف في ثوب عصري .. حكم فيما يليه فعدل والتزم وأجاد بجدارة .. فلا ييئسن الناس بأن زمان الراشدين قد انتهى .. فمن قبل كان (عمر بن عبد العزيز) مثلاً أعلى في العدل والحكمة والورع وقوة القيادة وسياسة الناس على طريق الصلاح ، وهو الذي انقطع الطريق بينه وبين أجيال النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه بسنوات طوال .. ولكنه وفي عامين فقط أزال فيها كل ما ران على قلب الأمة من جور بني أمية ..وأحق الحق .. وفاض بيت المال .. وانعدم كل مسكين وفقير إلا هو .. فكان لابد أن يموت .. كما كان لابد أن يموت (علي البارودي) ليبقى بعدهم المثل والأمل ..

هي عبرة أنا قائلها ، أخرج بها الأمر عن ضميري إلى الناس دون تزكية لأحد على الله إلا بذكر إحسان من ماتوا وأقبروا .. فمتى لنا أن نقدر أمثاله من رجال بلادنا ونسائها ونكتب عن مآثرهم ونحكي لأجيال قادمة تأتي وتمر . 

الخميس، 29 ديسمبر 2016

علامة ترقيم في الإستراتيجية السياسية الراهنة
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           
إن النجاح في لعبة الشطرنج   يعتمد أكثر الشيء أولا - على اتخاذ خانت إستراتيجية على الرقعة .. بمعنى التمركز والسيطرة على المواقع التي تمثل نقاط استشراف عام على الرقعة  وتيسر الوصول إلى الهدف بأسرع واقصر السبل .. وثانياً – على التوزيع المناسب والمتكامل للقطع على هذه الأماكن الإستراتيجية على الرقعة بحسب أدوارها الوظيفية .. وثالثاً – على بذل شيء من التضحية الضرورية ببعض القطع المهمة من أجل فتح الطريق وكشف مواطن الثغرات لدى قوات العدو مما ييسر استغلالها ثم النفاذ منها ..
وليس الرقعة الطبيعية في المعارك الحقيقية على اختلاف كثير مما هو الوضع على رقعة الشطرنج .. فذات المبادئ الإستراتيجية التي يمكن أن ترجح فرصة النصر على رقعة الشطرنج هي بذاتها – على نحو ما – تتمثل في الواقع الحقيقي ..

 فبغض النظر عن الدوافع الحزبية القريبة داخل وحول السودان وراء ما يجري من أحداث وتأويلات ذلك  ..  فان الأمر يبدو على المستوى الاستراتيجي العام والمتقدم للمنطقة كلها انه يسير في اتجاه صحيح..  واقصد بذلك القوة الضاربة الجديدة ليس على المستوى العسكري فحسب وإنما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وهي قوة تحالف المثلث الكبير السعودية وتركيا والسودان (وإن لم يكن بتعاقد رسمي مباشر ومعلن إلا جزئياً) ..  هذا التحالف يشكل مركز القلب جغرافيا وبشريا واقتصاديا في المنطقة والذي سيجعل من السهولة السيطرة والتحكم حتى في التوجهات السياسية للدول الكبرى ومجلس الأمن..  
لا ينبغي أن نضيق نظرتنا للأمور في حدود المشكلات الداخلية المتفرقة مثل الفساد والتمرد والمعارضة وما نحو ذلك..  فربما أصبحت  تلك من الأمور التابعة للازمة الإستراتيجية الشاملة للعالم واجتهادات السبق نحو احتلال خانات سياسية دولية تقود دفة دول المنطقة إلى موازين قوى دولية جديدة ، ولا يجدي قطع الذنب والرأس حي..  ثم لا يجب أن ننسى ضلع رابع لهذا التحالف المثلث على درجة عالية من الخطورة  ولا يظهر لكثير من الناس ولكنه حاضر بقوة في مشروع التمكين للسيادة الجديدة للكتلة الأفريقية الأسيوية في كفة الميزان الدولي للصراع..  هذا الضلع هو الصين..  والتي ظهر دورها الخطير ليس كما هو في السابق على المستوى الاقتصادي كما اعتدنا أن نراها دائما..  وإنما على المستوى السياسي داخليا وخارجيا - منذ مقتل (جون قرانق) بيد من هذه الصين - والى الآن..  وعلى هذا الأساس حتى فصل الجنوب ينبغي إعادة النظر إليه بصورة أخرى..  فما تكشف عنه الأحداث الراهنة أن الجنوب كان يؤكل في الماضي كوجبة غير ناضجة السواء سياسيا وعسكرياً من جملة الوجبة العامة للقصعة السودانية  بتداعي أكلة الدول الكبرى إليها ..  والآن أيضا يعاد طهيه كوجبة ولكنها هذه المرة ناضجة وببهارات مختلفة ولكي يبدو الأمر كسب وضم لأراضي جديدة على الرقعة الجغرافية الإستراتيجية للسودان حتى لو بدا في الظاهر أنها منفصلة سياسيا واجتماعيا فهذا سيكون أقوى لمصلحة التحالف الثلاثي ذا الضلع الرابع من أن تكون السودان والجنوب دولة واحدة كما في السابق..  
ينبغي أن لا ننشغل بمشكلة المعايش اليومية ونعظم من شانها كهم أوحد للمواطن في بلادنا ونغفل الايدولوجيا  الجديدة في التخطيط الشامل للمنطقة والعالم   والتي من قد تتطلب نوعاً من التحقيق للمبدأ الثالث في لعبة الشطرنج .. ولكن بما لا يخل مطلقاً بحرمة دم الإنسان ، وبما لا يخترق حدود الله في بسط السياسة الشرعية .. تلك هي الموازنة الصعبة..
عالم المثل المفارق ..

د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

تلك هي العبارة التي كانت ترددها زوجتي (رشا البارودي) كلما مررنا بعدد من الاعلانات التجارية المنتصبة على أطراف الشوارع .. (عالم المثل المفارق .. هنا في بلادنا) ..
وقصة هذه العبارة وما ورائها من حقيقة ، أن (أفلاطون) Plato  الأعظم شهرة في تاريخ الفلسفة والفكر العالمي ، كان قد بنى مجمل تصوره للكون والإنسان والسياسة والمجتمع على افتراض عالمين بديعين .. أحدهما عالم الوقائع الحسية المادية والجزئية المتفرقة والذي نعيش فيه على الأرض وهو العالم الأخس أو الأدنى قيمة .. وعالم آخر عظيم هو عالم المثل المفارق الذي هو عالم عقلي فيه حقائق وكليات الأشياء ، هو عالم الخير المطلق والحق المطلق والجمال المطلق بلا حدود وبلا وصف .. وعالمنا الأرضي ما هو إلا صورة باهتة ناقصة التفاصيل لهذا العالم العظيم المفارق ، بنحو ذلك الكهف الذي افترض (أفلاطون) أن أناس ولدوا وعاشوا عمرهم مقيدي الأيدي والأرجل والأعناق باتجاه حائطه وخلفهم بابه لا يلتفتون إليه ولا يقدرون ، ذلك أنهم لا يرون فقط إلا خيالات وظلال الأجسام الأصلية في الخارج عندما تعكسها أشعة الشمس على جدار الكهف فيحسبون أن تلك الخيالات والظلال هي كل ما هنالك من حقيقة في العالم .. وعندما يكسرون القيد ويخرجون حينها يدركون الفرق بين الحقيقة والخيال ..
ولعل الحال - بحسب مقولة (رشا البارودي) – أن التناقض بين العالمين قد وقع على الحقيقة في حيز صغير من الكرة الأرضية .. هنا في البلد ..  فعندما يسير الراكب أو الراجل في الطرقات ويرفع رأسه قليلاً ليرى كل ذلك الزهو والأبهة والروعة والأناقة والنقاء والنظافة لصور البلد في لوحات الإعلانات التجارية أياً كان موضوعها .. ثم ما أن يخفض  هذا السائر رأسه وبصره نحو أرض الشارع الواقع تصعقه كل تلك الأهوال من أكداس النفايات والأوساخ ، والطرقات التي أبلت عزائمها أمطار الخريف .. فيعلم أن ما في تلك الصور واللافتات إن هو إلا عالم المثل المفارق ومحض خيال وظلال .. وعندما يشاهد ذي العينين هؤلاء الأشخاص اللامعين المنعمين المطرزين بالحلي والثياب القشيبة وعليهم دلالات الحياة المترفة بإعلانات التلفاز ، يحسب أن البلد لا شقاء فيها ولا عنت .. ولكن سرعان ما يلطمه الواقع بمشهد أبناء الشمس والشحاذين والبؤساء في أسواق المدن وزقائقها  كبئر معطلة دون قصر مشيد ..
لقد حاول الإعلام - كعادته – أن يرسم صور زائفة لواقع مغاير جداً لما عليه تلك الصور .. حتى يظن من يتصدع رأسه من غلبة الغناء والطرب على برامج قنوات البلد الفضائية الغثة أن الشعب كله يغني ويطرب ، ولا يرى مسحات الحزن ولوعات الأسى وغوائر الدموع الجافة على وجون رجالها ونسائها وأطفالها .. وحالهم كلهم الستر ..

وحتى الاعلام نفسه واقعه مغاير .. فمن صنع لذاته أمام الناس صورة أنه الحامل لهمومهم والمحاكم لمسئوليهم وحكامهم والمتفقد لمواطن السقط والزلل .. إنما هي مجرد صورة للشخص عينه وقد أثرى هو نفسه بتقربه خفية وزلفى لأولي الأمر من وراء حجب مهتوكة لم تستر عن فطنة الناس عوراته وطفح الثراء المحدث على محياه بغير حق .. وحتى يبلغ به المدى ليفتح قناة جديدة باسم البلد ليفسد ما بقي من قليل لم يفسد بعد .. ولكن الإنسان على نفسه بصيرا ولو ألقى معاذيره .. ذلك قانون الله باق في الخلق .. ويوم الدينونة تتطاير الصحف .. وإنه ديَن البلد لا بد أن يوفي من الأعناق لو يعلمون ولو طال الزمن .. فقد روعت الصدمات القلوب عند زيغ الخطو بالنقلة الكارثية من مشاهدة عالم افتراضي مثالي إلى معاينة واقع أليم مرير .. ولله الحمد .
حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء ..
                 د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

كلنا يعلم أن الديانة المسيحية منذ مطلع عهودها على يد السيد المسيح عليه السلام هي ديانة التسامح العالي .. (فمن ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً .. ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً .. ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين).  ثم جاء الإسلام معضداً ومؤيداً لهذا التسامح العالي .. (ادفع بالتي هي أحسن .. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .. لا إكراه في الدين .. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصا ..) والكثير الكثير من التعاليم الربانية بإفشاء التسامح والسلام بين الناس جميعاً ..
لذا كان لابد أن يكون هناك تفسير آخر لتلك الأحداث الجسيمة والآلام التي تحدث عنها "إكتور أباد فاسيولينسي" H. A. faciolince في روايته الواقعية (النسيان) والتي كتبت بالأسبانية وذكر بخط صغير على مطلع صفحة العنوان (انتقامي الوحيد .. أن أقول الحقيقة)  فقد قال فيها ما نصه (إذا صح ما لاقاه شهداء المسيحية في سنواتها الأولى من شهادة بطولية عندما تقبلوا الموت على أيدي الرومان دفاعاً عن الصليب وعن فكرة الإله الواحد في مواجهة الآلهة الوثنية المتعددة ، ورغم تقبلهم الاستشهاد بألسنة النيران أو أنياب الأسود أو حد السيف بنفس غير مبالية ... فإن بطولتهم ... لم تكن أعظم أو أشد ألماً من بطولة السكان الأصليين الذين استشهدوا على أيدي ممثلي الإيمان المسيحي . فلم تكن قسوة المسيحيين ووحشيتهم في القارة الأمريكية بأقل مما ارتكب الرومان في حق المسيحيين في أوروبا القديمة ... باسم نفس الصليب الذي تكبدوا الشهادة من أجله ، أقدم الغزاة المسيحيون على قتل بشر آخرين ... سعياً لإبادة الشر المتمثل في مجتمعات تؤمن بلون آخر من ألوان العقائد الأخروية ... وكل هذا كي يفرضوا عن طريق الكراهية ما يفترض به أن يكون دين حب الأخر والرب الرحوم والتآخي بين الناس جميعاً ... وفي تلك الرقصة ، رقصة الموت ، حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء ..)  وربما استند في هذا الذي ذكره بالرواية – وهو الليبرالي الثائر ضد التقاليد الكاثوليكية – على ورد نصه في (انجيل متى 35,10) (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنه ضد حماتها ..) كذلك ربما استند على نفس النص اولئك الذين صاروا هم جلادو المساء بعد أن كانوا ضحايا الصباح ، بقتل وتعذيب من خالفهم العقائد والمذاهب ..

ولعلي إذا عدت بذاكرتي نحو عهد الصبا فيما مضى من الزمن حيث كنا تلاميذ بكلية (كمبوني) Commboni الخرطوم .. كيف كان الأب الإيطالي (جرومينو) Groumino ناظر الكلية – وهو من جملة بابوات طليان كثر في ذلك الوقت - يتلوا باللاتينية في طابور الصباح الصلوات الواجبة من (العهد الجديد) بخشوع وتضرع لله ، لدرجة قد يظن معها من يأتي عابراً عند الباب ويرى ذلك المشهد أن الملائكة تتنزل عليه في ذلك المكان وبتلك اللحظات .. ولكنه كان سرعان ما يمحو ذلك الخشوع بإسدال ستار عليه من العنف والقسوة البالغة في معاقبة من يأتي من الفتية دقيقة واحدة بعد بدء الصلوات .. وكان ذلك بأن يستدعيه إلى مكتبه ثم ينهال عليه بجلدات ساخنات ملهبة من سوط غليظ يختاره من بين ترسانة سياط معلقة كلها على جدار مكتبه الأنيق والمهيب أيضاُ .. وكم كانت تمر تلك اللحظات مرعبة تدمي القلب على الفتى وهو ينتظر فيها متى ينتهي سير الطوابير نحو الفصول ويرجع الأب (جرومينو) إلى مكتبه لتوقيع العقاب الأليم عليه .. اليوم فقط وجدت تفسيراً لكل ذلك .. بأن المشكلة ليست في تعاليم الدين ، وإنما تكمن في ذات الإنسان الذي يتأول هذه التعاليم مرة .. ويلتزم بها كما هي مرة أخرى .. ويضرب عنها صفحاً مرة ثالثة .. إن الإنسان هو المذنب دائماً وليس النصوص والآيات .. هو من في قلبه زيغ نحو ما يطمع فيه ويملئ به ما فرغ من جراب شخصيته .. الإنسان هو من إذا مسه الشر جذوعا وإذا مسه الخير منوعا .. الإنسان هو دائماً من يبرر لنفسه سوء نفسه وفساد قصده باقتطاع نصوص وآيات بعينها من أصولها في الكتاب فيجعلها (عضين) ويعيد رصها وترتيبها بحسب هواه لتبين في مجمل الأمر سنداً وحجة لضلاله .. حقاً  (إن الإنسان ليطغى ..) فلا ينبغي بعد هذا أن نخطئ الهدف (فالتختة بارزة) كما يقول العسكريون في بلادي .. والإنسان يقف هناك شاهداً  بجرمه على مدى التاريخ ..      
أي عدد على ما لا نهاية .. يساوي صفر
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           
بالأمس القريب استوقفتني قصة قصيرة جداً كتبها في بضعة وريقات معدودات عملاق الأدب الروسي (أنطون تشيخوف) Anton Chekhov ..قصة بعنوان (الرهان) .. لقد بدت هذه القصة القصيرة هي نوع من الكبسولات الدوائية التي تبدو أصغر ما تكون في حجمها .. ولكنها متى ما ولجت إلى جوف الإنسان سرعان ما تنفجر فتحدث أثراً عظيماً لا يتصور من مدى حجمها الضئيل في الخارج ..
هكذا كانت قصة (الرهان).. والتي تدور أحداثها في رهان بين صيرفي ثري ومحام شاب متواضع الحال .. فقد نشأ خلاف بينهما حول أيهما أكثر أخلاقية ورحمة (حكم الإعدام) أم (السجن المؤبد) .. وكان المحامي الشاب يقول بالمؤبد ، أما الصيرفي فيقول بالإعدام .. فقام الرهان بينهما على أن يمكث المحامي الشاب خمسة عشر عاماً في حبس إنفرادي دون انقطاع ، مقابل أن يدفع له الصيرفي الثري مبلغ مليوني (روبل) روسي .. فالصيرفي إذن قد راهن بمليوني روبل أن الشاب لن يحتمل في الحبس الانفرادي أكثر من بضعة أشهر .. بينما راهن المحامي الشاب بحريته لخمسة عشر سنة لا تنقص دقيقة واحدة .. وبدأ التنفيذ في الليلة المتفق عليها .. ودخل الشاب الحبس الانفرادي بمحض إرادته في قبو فيلا الصيرفي وليس من حق له في دنياه الجديدة إلا كل ما يريده من الكتب وفي أي موضوع ، وآلة موسيقية، ورسائل يرسلها دون أن يكون من حقه تلقي رد عليها .. مرت السنوات ، وقرأ الشاب آلاف الكتب من قصص وروايات وعلوم وآداب وفلسفة وتاريخ .. ثم انتهى إلى الكتب الروحية واللاهوتية الدينية .. كل هذا بعد أن تعلم بنفسه في سجنه ستة لغات مختلفة قرأ بها كل تلك الآلاف من الكتب وعاش معها مئات الحيوات والحضارات والشخوص .. ولكنه بعد أن انتهى إلى الإغراق في الكتب الدينية والروحية بلغ منتهى القناعة لديه بالعالم أنه يساوي صفراً أمام الموت وبطلان الحياة الدنيوية في مقابل الخلود الأبدي.. كتب المحامي هذه النتيجة في رسالة مطولة إلى سجانه واحتقر له فيها الدنيا وكل متعلقاتها حتى تلك الاثنين مليون روبل الموعودة .. وصلت هذه الرسالة إلى السجان بعد أن لم يتبقى على نهاية مدة حبسه سوى دقائق ، وفي الوقت الذي انتاب الصيرفي فيه كل اليأس من أن يربح الرهان لاسيما وأنه قد خسر في إحدى مغامراته المالية كل ثروته ولم يتبقى منها سوى الاثنين مليون روبل قيد الرهان .. ولكن بعد أن بلغ به اليأس حداً إلى التفكير الجدي في قتل سجينه ، استوقفته العبارات الأخيرة في رسالته أنه قد قرر التخلي عن الرهان وخسارة الاثنين مليون روبل وأنه عندما تصله الرسالة سيكون قد غادر القبو بعد كل هذه السنوات من الحبس الانفرادي الاختياري إمعاناً في احتقار السجان والدنيا والمال وأنه لا يوجد ما يستحق ..
ولنا أن نستفيد من هذه القصة ثلاثة قيم أساسية :
القيمة الأولى - أن العمر الحقيقي للإنسان أمام الموت هو أن (أي عدد على لا نهاية يساوي صفر .. فعدد أيام عمر الفرد من الناس لا تساوي قيمة حقيقية إذا ما قيست بصيغة السؤال (كم ؟) .. ولكن الحساب يبدأ إذا قسنا بصيغة (كيف؟) .. فكيف فعل بعمره ، وماذا قدم ، وماذا ترك .. والرابح هو من تجاوز الزمن في عمره وعدد الأيام وحواجز الأمكنة والأشياء القريبة .. وإليك المثل الأعظم في سيد الخلق (محمد) صل الله عليه وسلم ، عاش فقط ثلاثة وستون عاماً ولكن عمره أمتد إلى مئات السنين منذ أن كان وحتى الآن ، بل وسيظل يمتد إلى قيام الساعة .. وكذلك يكون كل من ترك خلفه بعد مماته ما لا ينقطع به عمله ..
ولعل النعمة المغبون فيها كثير من الناس (الفراغ) هي فترات في عمر الإنسان يخلو فيها من كل شغل أو إنشغال .. فإما أن يضيع هذه الفترات ، وإما أن يستثمرها فيكسب بها أعماراً إلى عمره ، فهي ليست فراغاً مطلقاً وإنما توقف للحظات قد تطول وقد تقصر .. هي فرصة يأخذها الإنسان طوعاً أو قصراً .. وربما لا يأخذها أبداً .. فيجعل منها ميدان لمزيد من التعلم وبناء الذات والعطاء المجرد عن كل أجر إلا أجر الله تعالى ..
والقيمة الثانية – فهي المعنى الكبير للكتاب .. فمعظمنا كان يري (الكتاب) على وظيفته كمادة للعلم والمعرفة ، يستفيد منه دروسه وخطبه وأوراقه وكتب جديدة ينتجها ويصدرها للناس .. وحسب . ولكن القيمة الجديدة هنا هو أن (يعيش) القارئ أنماطاً واسعة من الحياة .. ليس فقط يتعلم بل يعيش .. يعيش عادات ومعتقدات وعلاقات آلاف البشر الذين لم يعرفهم في حياته أبداً ..

والقيمة الثالثة – فإن الرجل إذا أصدر قراراً من فيهِ بشأن نفسه ، فعليه أن يمضيه .. وأن لا يكون في ذلك من شيء ذا اعتبار عنده في التراجع  إلا أن يظن أنه يصيب من حدود الله ما حرم على عباده .. ونحن هنا نعيش بأيام نحتاج فيها من القرارات أصعبها دون أهونها .. وأن لا نرخي العزائم في العض على أصول الشجر .. وأن يظل التحدي قائماً ..     
أي عدد على ما لا نهاية .. يساوي صفر
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           
بالأمس القريب استوقفتني قصة قصيرة جداً كتبها في بضعة وريقات معدودات عملاق الأدب الروسي (أنطون تشيخوف) Anton Chekhov ..قصة بعنوان (الرهان) .. لقد بدت هذه القصة القصيرة هي نوع من الكبسولات الدوائية التي تبدو أصغر ما تكون في حجمها .. ولكنها متى ما ولجت إلى جوف الإنسان سرعان ما تنفجر فتحدث أثراً عظيماً لا يتصور من مدى حجمها الضئيل في الخارج ..
هكذا كانت قصة (الرهان).. والتي تدور أحداثها في رهان بين صيرفي ثري ومحام شاب متواضع الحال .. فقد نشأ خلاف بينهما حول أيهما أكثر أخلاقية ورحمة (حكم الإعدام) أم (السجن المؤبد) .. وكان المحامي الشاب يقول بالمؤبد ، أما الصيرفي فيقول بالإعدام .. فقام الرهان بينهما على أن يمكث المحامي الشاب خمسة عشر عاماً في حبس إنفرادي دون انقطاع ، مقابل أن يدفع له الصيرفي الثري مبلغ مليوني (روبل) روسي .. فالصيرفي إذن قد راهن بمليوني روبل أن الشاب لن يحتمل في الحبس الانفرادي أكثر من بضعة أشهر .. بينما راهن المحامي الشاب بحريته لخمسة عشر سنة لا تنقص دقيقة واحدة .. وبدأ التنفيذ في الليلة المتفق عليها .. ودخل الشاب الحبس الانفرادي بمحض إرادته في قبو فيلا الصيرفي وليس من حق له في دنياه الجديدة إلا كل ما يريده من الكتب وفي أي موضوع ، وآلة موسيقية، ورسائل يرسلها دون أن يكون من حقه تلقي رد عليها .. مرت السنوات ، وقرأ الشاب آلاف الكتب من قصص وروايات وعلوم وآداب وفلسفة وتاريخ .. ثم انتهى إلى الكتب الروحية واللاهوتية الدينية .. كل هذا بعد أن تعلم بنفسه في سجنه ستة لغات مختلفة قرأ بها كل تلك الآلاف من الكتب وعاش معها مئات الحيوات والحضارات والشخوص .. ولكنه بعد أن انتهى إلى الإغراق في الكتب الدينية والروحية بلغ منتهى القناعة لديه بالعالم أنه يساوي صفراً أمام الموت وبطلان الحياة الدنيوية في مقابل الخلود الأبدي.. كتب المحامي هذه النتيجة في رسالة مطولة إلى سجانه واحتقر له فيها الدنيا وكل متعلقاتها حتى تلك الاثنين مليون روبل الموعودة .. وصلت هذه الرسالة إلى السجان بعد أن لم يتبقى على نهاية مدة حبسه سوى دقائق ، وفي الوقت الذي انتاب الصيرفي فيه كل اليأس من أن يربح الرهان لاسيما وأنه قد خسر في إحدى مغامراته المالية كل ثروته ولم يتبقى منها سوى الاثنين مليون روبل قيد الرهان .. ولكن بعد أن بلغ به اليأس حداً إلى التفكير الجدي في قتل سجينه ، استوقفته العبارات الأخيرة في رسالته أنه قد قرر التخلي عن الرهان وخسارة الاثنين مليون روبل وأنه عندما تصله الرسالة سيكون قد غادر القبو بعد كل هذه السنوات من الحبس الانفرادي الاختياري إمعاناً في احتقار السجان والدنيا والمال وأنه لا يوجد ما يستحق ..
ولنا أن نستفيد من هذه القصة ثلاثة قيم أساسية :
القيمة الأولى - أن العمر الحقيقي للإنسان أمام الموت هو أن (أي عدد على لا نهاية يساوي صفر .. فعدد أيام عمر الفرد من الناس لا تساوي قيمة حقيقية إذا ما قيست بصيغة السؤال (كم ؟) .. ولكن الحساب يبدأ إذا قسنا بصيغة (كيف؟) .. فكيف فعل بعمره ، وماذا قدم ، وماذا ترك .. والرابح هو من تجاوز الزمن في عمره وعدد الأيام وحواجز الأمكنة والأشياء القريبة .. وإليك المثل الأعظم في سيد الخلق (محمد) صل الله عليه وسلم ، عاش فقط ثلاثة وستون عاماً ولكن عمره أمتد إلى مئات السنين منذ أن كان وحتى الآن ، بل وسيظل يمتد إلى قيام الساعة .. وكذلك يكون كل من ترك خلفه بعد مماته ما لا ينقطع به عمله ..
ولعل النعمة المغبون فيها كثير من الناس (الفراغ) هي فترات في عمر الإنسان يخلو فيها من كل شغل أو إنشغال .. فإما أن يضيع هذه الفترات ، وإما أن يستثمرها فيكسب بها أعماراً إلى عمره ، فهي ليست فراغاً مطلقاً وإنما توقف للحظات قد تطول وقد تقصر .. هي فرصة يأخذها الإنسان طوعاً أو قصراً .. وربما لا يأخذها أبداً .. فيجعل منها ميدان لمزيد من التعلم وبناء الذات والعطاء المجرد عن كل أجر إلا أجر الله تعالى ..
والقيمة الثانية – فهي المعنى الكبير للكتاب .. فمعظمنا كان يري (الكتاب) على وظيفته كمادة للعلم والمعرفة ، يستفيد منه دروسه وخطبه وأوراقه وكتب جديدة ينتجها ويصدرها للناس .. وحسب . ولكن القيمة الجديدة هنا هو أن (يعيش) القارئ أنماطاً واسعة من الحياة .. ليس فقط يتعلم بل يعيش .. يعيش عادات ومعتقدات وعلاقات آلاف البشر الذين لم يعرفهم في حياته أبداً ..

والقيمة الثالثة – فإن الرجل إذا أصدر قراراً من فيهِ بشأن نفسه ، فعليه أن يمضيه .. وأن لا يكون في ذلك من شيء ذا اعتبار عنده في التراجع  إلا أن يظن أنه يصيب من حدود الله ما حرم على عباده .. ونحن هنا نعيش بأيام نحتاج فيها من القرارات أصعبها دون أهونها .. وأن لا نرخي العزائم في العض على أصول الشجر .. وأن يظل التحدي قائماً ..     
رسالة موحد إلى معدد ..


د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

يا صاحب الرفاق .. اذا كانت المرأة في حياتك مجرد ماعون لقضاء الحاجة الجنسية وإنجاب الاولاد ورعايتهم .  وطهي الطعام .وتنظيف البيت وغسل الثياب ..  فإذن انت محروم وحق لك ان تتزوج اربعة ومعها ما تشاء مما ملكت يمينك ..  خاصة لو كنت ممن يمعنون التفكير جل الوقت في الخسائر والأرباح ..
وأما ان كانت هي تلكم الحبيبة .. شريكة الحياة بكل دقائقها .. تدخل معك وجودك فتمنحه متعة واستقرارا. .  وتدخل معك عقلك وفكرك فتمنحه قيمة وتفتحاً .. وتدخل معك محرابك فترفع من درجة ايمانك .. وتدخل معك افراحك فتزيد سرورك .. وتدخل معك احزانك فتزيل همومك .. تجعل لضحكاتك معنى .. وتجعل لدمعاتك مغذي .. وتجعلك لضيقك مخرجا باذن الله .. تحبك لا لأنك تملك وتنفق ..بل تحبك لأنك انت انت .. عندما تتبسم انت لها فتلك كل دنياها .. وعندما تغضب وتولي عنها وجهك فذاك كل خسرانها .. تشتاق اليك وتشتاق اليها وانتم بين جدران بناء واحد .. ويدعو كل منكم ربه خاليا ان يكون قبض روحه هو اولاً فهو لا يقدر على ذبحة الفراق أن يحيا  هو فوق الارض وتحتها شريك حياته ..
ان كان منكم من هو هكذا فتلك هي جنة في الدنيا لو علمتها حواء الأخرى لجالدت كل نساء الارض زوجته  الوحيدة تلك بالسيوف والكيد .. ويلحق بالطيبون الطيبات في الدار الآخرة ..
هذا هو من يتذوق متعة حياته  وعمره وعلمه وفنه قطرة قطرة  .. ولا مكان لديه لأخريات كثيرات ينتزعن قطعا من وجوده فلا يبقى له من ذاته لنفسه إلا بعض الفتات وشعث الفراء ..
كل هذا باستثناء خير البشر .. وحتى هو لم تغني لديه الثمانية في قلبه عن عائشة الواحدة .. حتى اظن ان زواجه بهن دونها ليس لحاجة له بل هو كمال لهن ..
والباحث في الواقع والتاريخ يلقى ان اعظم عطاء الانسانية كان ممن قل نساؤهم وذاد توحدهم .. ولا تقل لي انك بلغت اعلى المراتب في الشهادات والمناصب .. فهذا لك نجاح وأما ما لذاك فهو التفوق والعلو   ..
اما عن جوهر المشكلة الانسانية في التعدد .. فليست في تلبية اربعة جباه وأنت بمفردك  فحسب..وإنما في همك انك لن تعدل بين النساء ولو حرصت فذاك امر الله ماض على رقبتك  فيكون في الظلم عبئا لك على اعبائك بهن .. مسكين أنت . فإما انك في هذه الحال شريد النفس ضائع البال .. وإما انك هارب مغترب دوما عن  نفسك .. فأنت واحد ولكن حياتك ليست واحدة .. بل ستظل دوما شرها الى تجديد تلك الاباريق والمواعين من النساء دون توقف .. فمتى ذقت واحدة ثم الفتها .. تاقت نفسك بعدها الى طعم جديد .. وهكذا حتى نهاية آخر قطرة من دمك .. هذا إن كنت مستطيعا .. أما إن عجزت عند الثانية أو الثالثة أو الرابعة فذاك هم آخر وغم عظيم بحريق التطلع ما مرت بك الخواطر والرغائب وألوان النساء .. فتصير النساء اكبر همك وان اخفيته عن الناس ولكن عينك على نفسك بصيرة .. واخشى عليك من فرط عيشك للمنشئآت في الحلية بحياتك .. ان تصير ناعم اليد فاقد لعزم الرجال غير مبين في الخصام وإن بدا عليك غلظة الشارب والتفاف العضلات ..
اخيراً .. اخي الكريم فالتعدد مباح من المباحات .. ولكنه ليس الافضل للرجال .. وان  كان الافضل للنساء .. ولم يذكر الله تعالي نكاح الطيب من النساء مثنى وثلاث ورباع إلا بشرط الإقساط في اليتامى قبلها .. وهو شرط خارج عن وجدان الرجل وذاته .. فأين بربك (الواحدة) الأولى قبل (المثنى) وما بعدها .. لقد جاء ذكرها في خوف القلب أن يزيغ نحو إحداهن فيميل بها كل الميل دون الأخريات ، والخوف عاطفة .. والعاطفة صميم الوجود وعين الذات ..
وان كان التذرع في التعدد بتكثير الولدان .. فأكبر المصيبة أن نزيد البحر غثاءً بأن الله لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه (حسابات الربح والخسارة ثم تربية الأنجال) فتطلب دون ذلك الرعاية لك من فيض النساء العوان لديك وعشائر القطعان من البنين والبنات عوضاً عن أن كنت أنت الراعي لهم القائم عليهم .. ولا خير فيمن ضاق عزمه ووسعه ان يبني بيديه ما قد انتجته نطفته ..  فإياك ان تزرعه انت ويحصده سواك  ..
الحضارة تحت ركام المدنية ..

د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com

ورد ذكر (جبل الأوليمب) في الأسطورة الاغريقية القديمة بأنه يمثل قمة العالم آنذاك وأهم مكان فيه لأنه مستقر القوى الكونية العليا .. وعندما ازاحه العملاق الهائل (أطلس) عن وجه الأرض كان ذاك جرماً لا يماثله جرم في عقيدة من دانوا بها .. فأن تعتدي على أهم موطن في الأرض فكأنما اعتديت على الدنيا كلها ..وبذا استحل (أطلس) عليه غضب القوى العليا بقيادة (زيوس) فكان الحكم بأن يظل حاملاً الكرة الأرضية على كتفه أبد الدهر .. وليس المعتبر في هذا الحكم هو ثقل وزن المحمول بموازين الكيل .. وإنما المعتبر هو أن يعلم الحامل قيمة المحمول وحق الأرض في التكريم بأنها درة الكون وجوهرته النفيسة .. وكذلك هو تأديب وإشعار للجاني في حقها بوجوب الكفارة ولزوم الاحترام الصارم ..

من هنا تكَون أصل التصور لمعنى (حضارة) بأن تتعامل مع هذا الوجود بما هو أهل له .. ومناط تكليفك أيها الإنسان أن تدفع به إلى العلياء ، لا أن تحيا عليه فقط .. وأن تعلم أن في كل تسخير لك عليه حق به له عليك ، فلا تبخسه .. ولتكن أيها الإنسان بطريقة حياتك في العالم أيا كانت قبيلتك أو شعبك رهنا بلوازم نمائه وكماله وسلامة سجاياه .. ولتكن في سربك الاجتماعي معاشراً بكرم ، حليم ، خلوق ، معطاء ، غير فظ ولا غليظ ، هادئ الصوت غير صخاب ، قاصداً في المشي ، غاضاً للطرف حيي .. ولتكن في بنيانك بمدائن العالمين مثيراً لحساسية الجمال في الأنفس ، باعثاً لأبهة الجلال في الروعات والخواطر .. وأن تجعل وظائف البنيان تسد الحوائج وتغني عما خارجه بلا فيض كثير مسرفاً وبلا تقطير ، غير مفاخر بزينة جوفاء وزخم من الزخارف والحلي والتطاول ما تذبح به كبرياء الشرفاء من باتوا بلا سقف في العراء أو تحت حطام وخرق بالية تكشف النجوم البيارق في السماء فوقهم عن طناجرهم الخاوية ..  ليكن وعيك بالوجود تثاقفاً وعلماً وتعقلاً وزنة بالقسطاس المستقيم .. وأن يكون سعيك فوقه صراطاً قاصداً لا تحيد .. تلكم هي (الحضارة) وكذا هو الإنسان (المتحضر) ..
إن (الحاضر) هو من شاهد الحق وأجراه في قلب المجتمع ، وأما (الباد) فهو على أطراف ذلك يرنو إلى القلب فلا يدركه نهاية ولا يقصى عنه نهاية .. وأما (المدنية) فبينها وبين (الحضارة) بون شاسع يدركه كل من خبر علوم التاريخ والإنسان والمجتمع ، ويغلب على عموم الناس الخلط بينهما ، وربما اصطناع اللبس ، حتى لا تنكشف الحقيقة عن حال ما نحن عليه في بلادنا .. إن التحضر هو رقي الإنسان درجة علو درجة في سلم الوعي والأخلاق والقيم والحس السليم والذوق الرفيع ونظافة اليد والعقل والبدن واللسان .. والأمر في هذا غير موصول بفقر أو غنى ، فالسلوك السوي لا يباع ولا يشترى .. ولا أعلم فيمن علمت من بشر ببلاد ما وراء البحر في الشمال ، مفكرين ومثقفين وعلماء من قال منذ العهود القديمة بأن الحضارة هي كثرة المال وعظم التقانة وتطاول العمران .. وإنما إن كان كل ذلك – متى كان – بلا ذوق وخلق ووعي ، يظل فقط (مدنية) جوفاء تعلوا فيها الآلات والحواسيب والعقول الاصطناعية بينما ينحط فيها الإنسان إلى أسفل درك .. ولنا المثل الأعلى في قرن النبي محمد صل الله عليه وسلم ، ودونك الصديق والفاروق وذي النورين وباب قلعة العلم ثم الراشد الخامس فهم نماذج من بني آدم مثلنا ولكنهم شادوا الحد الأقصى لأروع ما يمكن أن يبلغه الإنسان من إنسانية وكيان متحضر .

ثم لعلك إن خطوت برجلك في ممرات مدائننا تعثر كثيراً على من قد ارتدى أثمن الثياب وامتطى أفخر السيارات وحمل في خبايا عباءته أحدث أنماط الهواتف الذكية و دفتر شيكاته يحدث عن أرقام لأموال لا يحصيها النقد والعد ، ولكنه بجوار كل ذلك يلقي بكل ما تلف منه على قارعات الطرقات ، ويحمل لساناً على الخلائق كأنه السوط إذا أدمى خاصرات الدواب ، لا أدب ولا خلق ولا حياء ناهيك عن علم وثقافة ودين .. وكثير ما هم وأبنائهم .. يتوارثون الهون البشري جيلاً من بعد جيل .. يمرون على كل رابية وواد بلا عقل كأنهم الزمن يمر ثقيلاً كأنه يكبل وقعه قيد الحديد .. تقتلهم المدنية وهم يظنون أنهم ملاك حضارة بما كسبوا لا بما جبلوا عليه. لقد أثبت التاريخ أن القيمة الحضارية هي فيما يبنيه الإنسان من عيش سليم متناغم مع كون فسيح فيجري على مجراه ولا يفسد البر والبحر بما تكسب يديه .. ويرسل كل ذلك عبر جسور الثقافة التي هي أحوال نقل الوعي وقوالبه من طريقة حياة إلى أخرى .. وهكذا فإن ذو الحضارة وإن كان على ضيق حال وقلة مال فإنه امرئ لا يليق الوصف في حقه لحظة أنه (محدث نعمة) متى فتحت عليه أبواب السماء بمال منهمر .. ثم إن ذهب الله بكل ماله من بعد غنى كان هو كما هو لم يتغير .. غنياً متحضراً إن كان بمال أوبغير مال ..