‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحضارة تحت ركام المدنية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحضارة تحت ركام المدنية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 29 ديسمبر 2016

الحضارة تحت ركام المدنية ..

د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com

ورد ذكر (جبل الأوليمب) في الأسطورة الاغريقية القديمة بأنه يمثل قمة العالم آنذاك وأهم مكان فيه لأنه مستقر القوى الكونية العليا .. وعندما ازاحه العملاق الهائل (أطلس) عن وجه الأرض كان ذاك جرماً لا يماثله جرم في عقيدة من دانوا بها .. فأن تعتدي على أهم موطن في الأرض فكأنما اعتديت على الدنيا كلها ..وبذا استحل (أطلس) عليه غضب القوى العليا بقيادة (زيوس) فكان الحكم بأن يظل حاملاً الكرة الأرضية على كتفه أبد الدهر .. وليس المعتبر في هذا الحكم هو ثقل وزن المحمول بموازين الكيل .. وإنما المعتبر هو أن يعلم الحامل قيمة المحمول وحق الأرض في التكريم بأنها درة الكون وجوهرته النفيسة .. وكذلك هو تأديب وإشعار للجاني في حقها بوجوب الكفارة ولزوم الاحترام الصارم ..

من هنا تكَون أصل التصور لمعنى (حضارة) بأن تتعامل مع هذا الوجود بما هو أهل له .. ومناط تكليفك أيها الإنسان أن تدفع به إلى العلياء ، لا أن تحيا عليه فقط .. وأن تعلم أن في كل تسخير لك عليه حق به له عليك ، فلا تبخسه .. ولتكن أيها الإنسان بطريقة حياتك في العالم أيا كانت قبيلتك أو شعبك رهنا بلوازم نمائه وكماله وسلامة سجاياه .. ولتكن في سربك الاجتماعي معاشراً بكرم ، حليم ، خلوق ، معطاء ، غير فظ ولا غليظ ، هادئ الصوت غير صخاب ، قاصداً في المشي ، غاضاً للطرف حيي .. ولتكن في بنيانك بمدائن العالمين مثيراً لحساسية الجمال في الأنفس ، باعثاً لأبهة الجلال في الروعات والخواطر .. وأن تجعل وظائف البنيان تسد الحوائج وتغني عما خارجه بلا فيض كثير مسرفاً وبلا تقطير ، غير مفاخر بزينة جوفاء وزخم من الزخارف والحلي والتطاول ما تذبح به كبرياء الشرفاء من باتوا بلا سقف في العراء أو تحت حطام وخرق بالية تكشف النجوم البيارق في السماء فوقهم عن طناجرهم الخاوية ..  ليكن وعيك بالوجود تثاقفاً وعلماً وتعقلاً وزنة بالقسطاس المستقيم .. وأن يكون سعيك فوقه صراطاً قاصداً لا تحيد .. تلكم هي (الحضارة) وكذا هو الإنسان (المتحضر) ..
إن (الحاضر) هو من شاهد الحق وأجراه في قلب المجتمع ، وأما (الباد) فهو على أطراف ذلك يرنو إلى القلب فلا يدركه نهاية ولا يقصى عنه نهاية .. وأما (المدنية) فبينها وبين (الحضارة) بون شاسع يدركه كل من خبر علوم التاريخ والإنسان والمجتمع ، ويغلب على عموم الناس الخلط بينهما ، وربما اصطناع اللبس ، حتى لا تنكشف الحقيقة عن حال ما نحن عليه في بلادنا .. إن التحضر هو رقي الإنسان درجة علو درجة في سلم الوعي والأخلاق والقيم والحس السليم والذوق الرفيع ونظافة اليد والعقل والبدن واللسان .. والأمر في هذا غير موصول بفقر أو غنى ، فالسلوك السوي لا يباع ولا يشترى .. ولا أعلم فيمن علمت من بشر ببلاد ما وراء البحر في الشمال ، مفكرين ومثقفين وعلماء من قال منذ العهود القديمة بأن الحضارة هي كثرة المال وعظم التقانة وتطاول العمران .. وإنما إن كان كل ذلك – متى كان – بلا ذوق وخلق ووعي ، يظل فقط (مدنية) جوفاء تعلوا فيها الآلات والحواسيب والعقول الاصطناعية بينما ينحط فيها الإنسان إلى أسفل درك .. ولنا المثل الأعلى في قرن النبي محمد صل الله عليه وسلم ، ودونك الصديق والفاروق وذي النورين وباب قلعة العلم ثم الراشد الخامس فهم نماذج من بني آدم مثلنا ولكنهم شادوا الحد الأقصى لأروع ما يمكن أن يبلغه الإنسان من إنسانية وكيان متحضر .

ثم لعلك إن خطوت برجلك في ممرات مدائننا تعثر كثيراً على من قد ارتدى أثمن الثياب وامتطى أفخر السيارات وحمل في خبايا عباءته أحدث أنماط الهواتف الذكية و دفتر شيكاته يحدث عن أرقام لأموال لا يحصيها النقد والعد ، ولكنه بجوار كل ذلك يلقي بكل ما تلف منه على قارعات الطرقات ، ويحمل لساناً على الخلائق كأنه السوط إذا أدمى خاصرات الدواب ، لا أدب ولا خلق ولا حياء ناهيك عن علم وثقافة ودين .. وكثير ما هم وأبنائهم .. يتوارثون الهون البشري جيلاً من بعد جيل .. يمرون على كل رابية وواد بلا عقل كأنهم الزمن يمر ثقيلاً كأنه يكبل وقعه قيد الحديد .. تقتلهم المدنية وهم يظنون أنهم ملاك حضارة بما كسبوا لا بما جبلوا عليه. لقد أثبت التاريخ أن القيمة الحضارية هي فيما يبنيه الإنسان من عيش سليم متناغم مع كون فسيح فيجري على مجراه ولا يفسد البر والبحر بما تكسب يديه .. ويرسل كل ذلك عبر جسور الثقافة التي هي أحوال نقل الوعي وقوالبه من طريقة حياة إلى أخرى .. وهكذا فإن ذو الحضارة وإن كان على ضيق حال وقلة مال فإنه امرئ لا يليق الوصف في حقه لحظة أنه (محدث نعمة) متى فتحت عليه أبواب السماء بمال منهمر .. ثم إن ذهب الله بكل ماله من بعد غنى كان هو كما هو لم يتغير .. غنياً متحضراً إن كان بمال أوبغير مال ..