مركز الدكتور وائل أحمد خليل الكردي للدراسات الإنسانية هو مركز يعنى بالنشر العلمي والفكري ومعاونة الباحثين الأكاديميين (وغيرهم) في العلوم الإنسانية والاجتماعية . ويقوم على تقديم الخدمات الاستشاريه ، والتدريبية ، وتكوين قاعات البحث الافتراضية ، ومهام الارشاد والتوجيه في التخطيط والتأليف العلمي ، والمراجعات التحليلية على الأفكار الأساسية لدى الباحثين وكتاب البحوث والأوراق العلمية. كل ذلك باستهداف مناهج وأساليب وأنماط البحث العلمي وبناء الخلفيات المنطقية في تصميم الأبحاث والأوراق العلمية.
الاثنين، 20 يناير 2020
الأحد، 8 ديسمبر 2019
الأربعاء، 2 أكتوبر 2019
ثم ماذا بعد
ثم ماذا بعد..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد صدق (ميخائيل نعيمة) فيما قال (لو أن (كولومبوس) اكتشف اليوم عالماً جديداً لطار الخبر في لمحة الطرف من القطب إلى القطب ومن المشارق إلى المغارب. أما منذ أربعة قرون ونصف فاكتشاف أمريكا لم يدر به سكان أمريكا إلا بعد أعوام وأعوام. ناهيكم بسكان الهند والصين والجزر المنتشرة في عرض البحار.. لقد كانت الحوادث الجسام تمر باﻷرض من غير أن ندري بها في وقتها إلا القليل من ابناء اﻷرض، ولولا التاريخ الذي يدأب أبداً في وصل ماضينا بحاضرنا لما استطعنا أن نصور اﻹنسانية الماضية إلا أعضاء مفككة لا تربطها أعصاب واحدة في جسم واحد. ولكن التاريخ بربطه ما كان منا بما هو كائن يسهل علينا أن نرى الانسانية وفرة شعوبها وتعدد مساكنها قافلة واحدة تسير في طريق واحد إلى هدف واحد).. صدق (ميخائيل نعيمة) عندما قال (ما شهد العالم في كل ما شهد سيلاً جارفاً من الكلام كالذي يشهده اليوم... ما ذاك ﻷن العالم صام زماناً عن الكلام فراح يعوض عن صيامه بالثرثرة. فالعالم ما عرف الصمت يوماً من أيام حياته، ولكنه ما عرف كذلك مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل الكلام كالمرحلة التي هو فيها اليوم)..
ثم ماذا بعد أن كثر الكلام.. لم يعد اﻵن أوان البقاء على التاريخ بما أنجز في عمر البشرية، ولكن الان أوان أن يثمر التاريخ مستقبلاً.. وكما أن التاريخ هو رصد حقيقي لما كان، فللمستقبل ودراساته أن يكون رصداً حقيقياً لما يمكن أن يكون بإذن الله. وهذا رهين بفتح بوابات المعلومات على مصرعيها. ويبدو أن ما يتداوله الناس في واقع حياتهم بكل ما لها وما عليها هو أوسع حقل لصيد المعلومات في زرع الراهن من أجل ثمر المستقبل.. ولذلك ظهر ما نراه اليوم من اتجاه عقول العالم نحو تأسيس ما عرف بالدراسات المستقبلية حيث أن الاوان قد آن أن نستنطق التاريخ ليس من أجل معرفة الماضي فحسب بل لجعل الماضي زرع الحاضر وحصاد المستقبل.. وما يلزم في ذلك من ربط هذا المجال للدراسات بحقول المعلومات التي تمثلت في اتجاهات (الرأي العام) وضرورة استطلاع هذا الرأي العام لأجل رسم الطريق السليم لبناء وتوجيه الخطط المستقبلية. ولأن أصحاب هذا الرأي العام من أفراد وجماعات هم من سيكون بناء المستقبل ﻷجلهم.
ولما كان لكل علم محاوره وقوالبه التي يصب فيها، فإن لعلم المستقبليات على ذات النحو محاور وقوالب، فهي على ما يلي:
أولاً – الاستطلاع – وهو جمع المعلومات من أجل الانطلاق من الحاضر المتعلق بأي حالة مجتمعية اقتصاديه أو سياسية أو ثقافية بإعطاء مؤشرات لما يمكن أن تصير إليه تلك الحالة في المستقبل القريب ومن ثم رصد التوقعات على ذلك ورسم التدابير العملية والاجراءات والوسائل والخطط الاستراتيجية المناسبة لتحقيق اﻷهداف المسقبلية المطلوبة.
ثانياً – الادارة والسيطرة – وهو ليس الاكتفاء بالعلم بالشيء والتحسب لما يمكن وقوعه سلباً أو ايجاباً، وإنما التوجيه نحو اعادة الصياغة أو الضبط التحكمي للواقع المستقبلي ما أمكن بنوع من الادارة للموارد والفرص والمصادر المتاحة بما من شأنه أن يحقق أعلى درجة من الاستثمار والفائدة العامة، وهذا ما يعرف (بإدارة المستقبل) والاعتماد في ذلك على العناصر التالية:
أ/ تحري وتحليل الرأي العام – القيام بذلك على الوضع الراهن مقروناً بالوضع في الماضي القريب.
ب/ التخطيط الاستراتيجي – باعتباره اﻵلية اﻷساسية في الضبط والادارة التحكمية.
ج/ البحث العلمي – بغرض التوثيق المعرفي للتطور في النظم والادارة من جهة، واستدعاء وحفظ المعلومات العلمية من جهة أخرى.
ثالثاً – التدريب – تكوين وتحفيز القدرات البشرية من أجل الاستغلال اﻷمثل لها بصدد استطلاع وإدارة أي واقع مستقبلي.
وفي اﻷخير، مازلنا منذ أن نلنا الحكم الذاتي في بلادنا نسأل لماذا نحن اﻵن دولة فقيرة نامية بينما اﻷرض من تحتنا تدفقت بالخيرات من كل نوع وتزاحمت ثرواتها.. لماذا نهضت دولة مثل ألمانيا بعد دمارها كاملة بنهاية الحرب وصارت الان برغم هذا دولة عظمى في الاقتصاد والرفاه الإنساني وهي موطن بلا موارد إلا البشر.. هذا لأن علماء المانيا وحكامها عبر التاريخ قد استثمروا بصورة أساسية في الانسان فلم يعد من الغريب أن أدارت النساء عجلات المصانع بلا مقابل أو حوافز حينما عز الرجال بموتهم في الحرب، ولذلك صنعوا مستقبلهم آنذاك الذي صار حاضرهم اليوم، والغد عندهم ينتظر المزيد..
أما نحن فقد اتجهنا نحو اﻷرض قبل الإنسان وجمدنا الحاضر والمستقبل لحساب الماضي وكتفينا باﻷحلام والوعود وحكمنا أنفسنا بمنطق المصالح الذاتية وليس مصالح الشعب الذي نحن منه.. فلن يجدي أن نثور على حكامنا دون أن نثور على أنفسنا.. ولم يعد يكفي أن نزيح الباطل عن كرسيه دون أن نزيل مدمرات عزائمنا في اﻷساس.. وليكن أمام كل كلمة حق معول تدق به يد إنسان قوي على ظهر اﻷرض الخيرة، فالمعول لوحده لن يدق ولو تراكمت عليه السنين تلو السنين.. ولنبقى معاً على العهد.
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد صدق (ميخائيل نعيمة) فيما قال (لو أن (كولومبوس) اكتشف اليوم عالماً جديداً لطار الخبر في لمحة الطرف من القطب إلى القطب ومن المشارق إلى المغارب. أما منذ أربعة قرون ونصف فاكتشاف أمريكا لم يدر به سكان أمريكا إلا بعد أعوام وأعوام. ناهيكم بسكان الهند والصين والجزر المنتشرة في عرض البحار.. لقد كانت الحوادث الجسام تمر باﻷرض من غير أن ندري بها في وقتها إلا القليل من ابناء اﻷرض، ولولا التاريخ الذي يدأب أبداً في وصل ماضينا بحاضرنا لما استطعنا أن نصور اﻹنسانية الماضية إلا أعضاء مفككة لا تربطها أعصاب واحدة في جسم واحد. ولكن التاريخ بربطه ما كان منا بما هو كائن يسهل علينا أن نرى الانسانية وفرة شعوبها وتعدد مساكنها قافلة واحدة تسير في طريق واحد إلى هدف واحد).. صدق (ميخائيل نعيمة) عندما قال (ما شهد العالم في كل ما شهد سيلاً جارفاً من الكلام كالذي يشهده اليوم... ما ذاك ﻷن العالم صام زماناً عن الكلام فراح يعوض عن صيامه بالثرثرة. فالعالم ما عرف الصمت يوماً من أيام حياته، ولكنه ما عرف كذلك مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل الكلام كالمرحلة التي هو فيها اليوم)..
ثم ماذا بعد أن كثر الكلام.. لم يعد اﻵن أوان البقاء على التاريخ بما أنجز في عمر البشرية، ولكن الان أوان أن يثمر التاريخ مستقبلاً.. وكما أن التاريخ هو رصد حقيقي لما كان، فللمستقبل ودراساته أن يكون رصداً حقيقياً لما يمكن أن يكون بإذن الله. وهذا رهين بفتح بوابات المعلومات على مصرعيها. ويبدو أن ما يتداوله الناس في واقع حياتهم بكل ما لها وما عليها هو أوسع حقل لصيد المعلومات في زرع الراهن من أجل ثمر المستقبل.. ولذلك ظهر ما نراه اليوم من اتجاه عقول العالم نحو تأسيس ما عرف بالدراسات المستقبلية حيث أن الاوان قد آن أن نستنطق التاريخ ليس من أجل معرفة الماضي فحسب بل لجعل الماضي زرع الحاضر وحصاد المستقبل.. وما يلزم في ذلك من ربط هذا المجال للدراسات بحقول المعلومات التي تمثلت في اتجاهات (الرأي العام) وضرورة استطلاع هذا الرأي العام لأجل رسم الطريق السليم لبناء وتوجيه الخطط المستقبلية. ولأن أصحاب هذا الرأي العام من أفراد وجماعات هم من سيكون بناء المستقبل ﻷجلهم.
ولما كان لكل علم محاوره وقوالبه التي يصب فيها، فإن لعلم المستقبليات على ذات النحو محاور وقوالب، فهي على ما يلي:
أولاً – الاستطلاع – وهو جمع المعلومات من أجل الانطلاق من الحاضر المتعلق بأي حالة مجتمعية اقتصاديه أو سياسية أو ثقافية بإعطاء مؤشرات لما يمكن أن تصير إليه تلك الحالة في المستقبل القريب ومن ثم رصد التوقعات على ذلك ورسم التدابير العملية والاجراءات والوسائل والخطط الاستراتيجية المناسبة لتحقيق اﻷهداف المسقبلية المطلوبة.
ثانياً – الادارة والسيطرة – وهو ليس الاكتفاء بالعلم بالشيء والتحسب لما يمكن وقوعه سلباً أو ايجاباً، وإنما التوجيه نحو اعادة الصياغة أو الضبط التحكمي للواقع المستقبلي ما أمكن بنوع من الادارة للموارد والفرص والمصادر المتاحة بما من شأنه أن يحقق أعلى درجة من الاستثمار والفائدة العامة، وهذا ما يعرف (بإدارة المستقبل) والاعتماد في ذلك على العناصر التالية:
أ/ تحري وتحليل الرأي العام – القيام بذلك على الوضع الراهن مقروناً بالوضع في الماضي القريب.
ب/ التخطيط الاستراتيجي – باعتباره اﻵلية اﻷساسية في الضبط والادارة التحكمية.
ج/ البحث العلمي – بغرض التوثيق المعرفي للتطور في النظم والادارة من جهة، واستدعاء وحفظ المعلومات العلمية من جهة أخرى.
ثالثاً – التدريب – تكوين وتحفيز القدرات البشرية من أجل الاستغلال اﻷمثل لها بصدد استطلاع وإدارة أي واقع مستقبلي.
وفي اﻷخير، مازلنا منذ أن نلنا الحكم الذاتي في بلادنا نسأل لماذا نحن اﻵن دولة فقيرة نامية بينما اﻷرض من تحتنا تدفقت بالخيرات من كل نوع وتزاحمت ثرواتها.. لماذا نهضت دولة مثل ألمانيا بعد دمارها كاملة بنهاية الحرب وصارت الان برغم هذا دولة عظمى في الاقتصاد والرفاه الإنساني وهي موطن بلا موارد إلا البشر.. هذا لأن علماء المانيا وحكامها عبر التاريخ قد استثمروا بصورة أساسية في الانسان فلم يعد من الغريب أن أدارت النساء عجلات المصانع بلا مقابل أو حوافز حينما عز الرجال بموتهم في الحرب، ولذلك صنعوا مستقبلهم آنذاك الذي صار حاضرهم اليوم، والغد عندهم ينتظر المزيد..
أما نحن فقد اتجهنا نحو اﻷرض قبل الإنسان وجمدنا الحاضر والمستقبل لحساب الماضي وكتفينا باﻷحلام والوعود وحكمنا أنفسنا بمنطق المصالح الذاتية وليس مصالح الشعب الذي نحن منه.. فلن يجدي أن نثور على حكامنا دون أن نثور على أنفسنا.. ولم يعد يكفي أن نزيح الباطل عن كرسيه دون أن نزيل مدمرات عزائمنا في اﻷساس.. وليكن أمام كل كلمة حق معول تدق به يد إنسان قوي على ظهر اﻷرض الخيرة، فالمعول لوحده لن يدق ولو تراكمت عليه السنين تلو السنين.. ولنبقى معاً على العهد.
(براجماتيزم) السياسة الجديدة ..
(براجماتيزم) السياسة الجديدة..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في البدء.. استغلت طائفة المعلمين السفسطائيين إغراق المجتمع الأثيني القديم في التجريدات والتمييز بين النظر الفكري والتأمل العقلي المجرد كسمة لازمة للسادة، وجعل النشاطات العملية اليدوية والأداتية لمن هم دون السادة.. فعمدوا والحال هكذا إلى خلق الصراع الوجودي بين الانسان ومجتمعه وكل ما حوله من ثوابت ومتغيرات من خلال ادارتهم للسياقات اللفظية المحضة وتأليف المفارقات والمغالطات المنطقية التجريدية البعيدة عن حسم الواقع العملي لها بشكل نهائي.. فبالله، أي برنامج للعمل الايجابي يمكن أن يُبنى على مثل مقولتهم المشهورة (الإنسان هو مقياس كل شيء، الوجود واللاوجود.. وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعرف شيئاً على حقيقته، وحتى إذا صار وعرفنا شيئاً فإنه سيستحيل علينا نقله إلى غيرنا)؟.. ثم تلت العصور عصرهم ذاك، وفرضت الحاجات العملية نفسها على المجتمعات، فعرفنا اليوم أن فائدة ما فعل السفسطائيون جعْلنا ندرك قيمة أن يفضي القول إلى عمل وإلا فيكون قول معلق في الهواء بلا قيمة..
وعلى ذلك جاءت كلمة رئيس الحكومة الجديدة في السودان بأن الاقتصاد في العالم لم يعد يدار بفواصل أيديولوجية حاسمة وإنما برؤى برجماتية Pragmatism نوعاً ما.. ولعله كان المقصود ليس هو التبني الحرفي لتلك البراجماتية المذهبية التي صاغتها المدرسة اﻷمريكية في الفلسفة المعاصرة على يد (تشارلز ساندرس بيرس) و(وليام جيمس) و(جون ديوي).. وإنما المقصود هو الدلالة اﻷصلية لمصطلح Pragma في تحويل كل ما هو نظري تأملي إلى عمل فعلي ومشاريع للتنفيذ.. ولعل تلك الدلالة اﻷولية للمصطلح هي ما أخذ منها فعل التداول (براجماتكس) Pragmatics في مجال (علم العلامات) Semiotics وهو اﻷخذ والرد والتفاعل بين مرسل لرسالة ومستقبل لها داخل أي مجال من مجالات النشاط اﻹنساني.. ويمكن أن يتحقق فهم نوع البراجماتية هذا من خلال المحاور التالية:
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقال (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
1/ النظم الفكرية (الايديولوجيات) قديما وحديثا كانت تضع تصورات كلية عامة تجاه كل شيء بغض النظر عن حاجة الناس لها.. فصارت البراجماتية وضع التصورات في حدود ما يحتاجه الناس في مجتمع معين .
2/ النظم الفكرية المختلفة كانت تفصل دائما بين ما هو نظري وما هو عملي، وأن نجاح ما هو نظري ليس بالضرورة مرتبطاً بنجاح ما هو عملي، وأن الفكرة قد تكون صحيحة جدا ولكن برامج العمل والتنفيذ الناتجة او المتولدة عنها قد تكون فاشلة ولا يؤثر هذا الفشل على كون الفكرة على المستوى النظري صحيحة .. فهنا تقول البراجماتية بانه لا قيمة لأي فكرة نظرية اذا لم تثمر عملا أو أن تكون قابلة لأن تثمر عملاً، وبالتالي فالتأملات التجريدية لا معنى لها ما لم تتحقق في تطبيقات عملية، فكل فكرة يجب أن تكون مشروع عمل .
3/ فكرة البراجماتية تقول أن قيمة أي عمل هو ما يحققه من نتائج نافعة مثمرة، واي عمل لا يحقق فائدة ونجاح لأهدافه فهو عمل بلا قيمة أو مغذى ولا داعي له.
4/ معيار العمل الناجح في النظم الفكرية الفردانية مثل (الوجودية) هو تحقيق المنفعة الذاتية للفرد، ومعيار العمل الناجح في النظم الفكرية الجمعية مثل (الماركسية) هو تحقيق المنفعة للمجتمع الكبير بغض النظر عن منفعة الأفراد .. فجاءت البراجماتية لتوازن في نجاح أي عمل بين المنفعة والفائدة الذاتية للأفراد والمنفعة العامة للمجتمع، وذلك بدراسة العوامل المشتركة بين كافة الأفراد في مجتمع معين بما يحدد الحاجات المشتركة بين الافراد لتشكل في مجموعها حاجات المجتمع.. ويختلف كل مجتمع عن الاخر في حاجاته بنحو ما يختلف في نوع وخصوصية العوامل المشتركة بين افراده عن غيره من المجتمعات.
5/ في البراجماتية لا يكون نجاح العمل مرهونا بالفوائد المادية فقط ، بل وايضا الفوائد المعنوية النفسية سواء بسواء.
6/ البراجماتية كمنهج أو طريقة للرؤية هي ..
فكرة = عمل
عمل = نتائج ناجحة
نتائج ناجحة = جلب مصلحة أو درء مفسدة
جلب مصلحة او درء مفسدة = ماديا ومعنويا ، فرديا واجتماعيا .
بناء على كل ما تقدم فإن العالم المعاصر بحكم تطور الاكتشاف العلمي ومتغيرات الرؤية العلمية المعاصرة لم يعد يبحث عن تأسيس نظم مغلقة ﻹدارة مستقلة لمجالات الحياة على النحو الذي يجعل كل نظام ذا تحديد صارم يفصله عن النظم اﻷخرى، ولم يعد كل نظام يستمد مشروعيته فقط من خصوصية المجال الذي صمم لأجله هذا النظام.. فمثلاً عندما أتحدث عن التدريب العسكري ونظام الخدمة العسكرية وقوانينها، ينبغي علي أن أتخلص تماماً من كل ما يتعلق بالحياة المدنية ونظم الخدمة المدنية وقوانينها، بل ويأتي التمييز هنا حتى على مستوى التفاعل الاجتماعي، فهذا المثال يمكن أن تقاس عليه تلك النظرة القديمة.. أما اليوم، فلم تعد صورة العالم في أذهان العلماء والمفكرين وحتى اﻷدباء كما كانت في السابق، وأن فكرة النظم المستقلة لم تعد تلائم حقيقة الواقع الجديد، ولذلك اتجه البحث نحو مبدأ (تداخل النظم) وإزالة الجدر الثلجية بين نظام وآخر طالما أن العامل المشترك في اﻷخير هو اﻹنسان.. وطالما أيضاً أن الهوة الكبيرة بين اﻹنسان والكون باتت قريبة جداً، وعلى ذلك انطلقت دعاوى التكامل المعرفي بين العلوم وبعضها من جهة وبين العلوم وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى..
اﻷمر على هذا النحو يجعل الفشل الاقتصادي والسياسي لدولة غنية بثرواتها مثل السودان أمراً مبرراً فقد كان التعامل الاقتصادي فيها قبل ثورة الشعب في ديسمبر قائم باختيار البدائل بين النظم المدرسية للاقتصاد، فإذا تم تبني نظام ما يتم في نفس الوقت إسقاط البدائل اﻷخرى وهو ما جعل الساسة دائمي الارتطام بالواقع المتفاقم بأزمته، ومن ثم تحويل الشعب إلى حقل للتجارب الاقتصادية والسياسية.
أما اﻵن.. وللمستقبل.. ومن الانتقال من مرحلة اﻷزمة إلى مرحلة البناء والتطوير، يكون المطلوب هو الانتقال من حالة الانتماء للنظم إلى حالة اعتماد عامل (التخطيط) الذي هو مفهوم اكثر مرونة، وإحلال مصطلح (خطة) أو (برنامج) محل (نظام) System .. فالاعتماد على الخطة أو البرنامج بحسب مقتضيات الظرف المحلي يراعي تماماً مبدأ تداخل النظم أو اﻷنساق بمراعاة عوامل التميز والاختلاف بينهم.. هذا هو براجماتزم السياسة الجديدة.. ولعل اﻷمر يكون حميداً ويفتح الباب لمستقبل أفضل.
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في البدء.. استغلت طائفة المعلمين السفسطائيين إغراق المجتمع الأثيني القديم في التجريدات والتمييز بين النظر الفكري والتأمل العقلي المجرد كسمة لازمة للسادة، وجعل النشاطات العملية اليدوية والأداتية لمن هم دون السادة.. فعمدوا والحال هكذا إلى خلق الصراع الوجودي بين الانسان ومجتمعه وكل ما حوله من ثوابت ومتغيرات من خلال ادارتهم للسياقات اللفظية المحضة وتأليف المفارقات والمغالطات المنطقية التجريدية البعيدة عن حسم الواقع العملي لها بشكل نهائي.. فبالله، أي برنامج للعمل الايجابي يمكن أن يُبنى على مثل مقولتهم المشهورة (الإنسان هو مقياس كل شيء، الوجود واللاوجود.. وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعرف شيئاً على حقيقته، وحتى إذا صار وعرفنا شيئاً فإنه سيستحيل علينا نقله إلى غيرنا)؟.. ثم تلت العصور عصرهم ذاك، وفرضت الحاجات العملية نفسها على المجتمعات، فعرفنا اليوم أن فائدة ما فعل السفسطائيون جعْلنا ندرك قيمة أن يفضي القول إلى عمل وإلا فيكون قول معلق في الهواء بلا قيمة..
وعلى ذلك جاءت كلمة رئيس الحكومة الجديدة في السودان بأن الاقتصاد في العالم لم يعد يدار بفواصل أيديولوجية حاسمة وإنما برؤى برجماتية Pragmatism نوعاً ما.. ولعله كان المقصود ليس هو التبني الحرفي لتلك البراجماتية المذهبية التي صاغتها المدرسة اﻷمريكية في الفلسفة المعاصرة على يد (تشارلز ساندرس بيرس) و(وليام جيمس) و(جون ديوي).. وإنما المقصود هو الدلالة اﻷصلية لمصطلح Pragma في تحويل كل ما هو نظري تأملي إلى عمل فعلي ومشاريع للتنفيذ.. ولعل تلك الدلالة اﻷولية للمصطلح هي ما أخذ منها فعل التداول (براجماتكس) Pragmatics في مجال (علم العلامات) Semiotics وهو اﻷخذ والرد والتفاعل بين مرسل لرسالة ومستقبل لها داخل أي مجال من مجالات النشاط اﻹنساني.. ويمكن أن يتحقق فهم نوع البراجماتية هذا من خلال المحاور التالية:
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وقال (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
1/ النظم الفكرية (الايديولوجيات) قديما وحديثا كانت تضع تصورات كلية عامة تجاه كل شيء بغض النظر عن حاجة الناس لها.. فصارت البراجماتية وضع التصورات في حدود ما يحتاجه الناس في مجتمع معين .
2/ النظم الفكرية المختلفة كانت تفصل دائما بين ما هو نظري وما هو عملي، وأن نجاح ما هو نظري ليس بالضرورة مرتبطاً بنجاح ما هو عملي، وأن الفكرة قد تكون صحيحة جدا ولكن برامج العمل والتنفيذ الناتجة او المتولدة عنها قد تكون فاشلة ولا يؤثر هذا الفشل على كون الفكرة على المستوى النظري صحيحة .. فهنا تقول البراجماتية بانه لا قيمة لأي فكرة نظرية اذا لم تثمر عملا أو أن تكون قابلة لأن تثمر عملاً، وبالتالي فالتأملات التجريدية لا معنى لها ما لم تتحقق في تطبيقات عملية، فكل فكرة يجب أن تكون مشروع عمل .
3/ فكرة البراجماتية تقول أن قيمة أي عمل هو ما يحققه من نتائج نافعة مثمرة، واي عمل لا يحقق فائدة ونجاح لأهدافه فهو عمل بلا قيمة أو مغذى ولا داعي له.
4/ معيار العمل الناجح في النظم الفكرية الفردانية مثل (الوجودية) هو تحقيق المنفعة الذاتية للفرد، ومعيار العمل الناجح في النظم الفكرية الجمعية مثل (الماركسية) هو تحقيق المنفعة للمجتمع الكبير بغض النظر عن منفعة الأفراد .. فجاءت البراجماتية لتوازن في نجاح أي عمل بين المنفعة والفائدة الذاتية للأفراد والمنفعة العامة للمجتمع، وذلك بدراسة العوامل المشتركة بين كافة الأفراد في مجتمع معين بما يحدد الحاجات المشتركة بين الافراد لتشكل في مجموعها حاجات المجتمع.. ويختلف كل مجتمع عن الاخر في حاجاته بنحو ما يختلف في نوع وخصوصية العوامل المشتركة بين افراده عن غيره من المجتمعات.
5/ في البراجماتية لا يكون نجاح العمل مرهونا بالفوائد المادية فقط ، بل وايضا الفوائد المعنوية النفسية سواء بسواء.
6/ البراجماتية كمنهج أو طريقة للرؤية هي ..
فكرة = عمل
عمل = نتائج ناجحة
نتائج ناجحة = جلب مصلحة أو درء مفسدة
جلب مصلحة او درء مفسدة = ماديا ومعنويا ، فرديا واجتماعيا .
بناء على كل ما تقدم فإن العالم المعاصر بحكم تطور الاكتشاف العلمي ومتغيرات الرؤية العلمية المعاصرة لم يعد يبحث عن تأسيس نظم مغلقة ﻹدارة مستقلة لمجالات الحياة على النحو الذي يجعل كل نظام ذا تحديد صارم يفصله عن النظم اﻷخرى، ولم يعد كل نظام يستمد مشروعيته فقط من خصوصية المجال الذي صمم لأجله هذا النظام.. فمثلاً عندما أتحدث عن التدريب العسكري ونظام الخدمة العسكرية وقوانينها، ينبغي علي أن أتخلص تماماً من كل ما يتعلق بالحياة المدنية ونظم الخدمة المدنية وقوانينها، بل ويأتي التمييز هنا حتى على مستوى التفاعل الاجتماعي، فهذا المثال يمكن أن تقاس عليه تلك النظرة القديمة.. أما اليوم، فلم تعد صورة العالم في أذهان العلماء والمفكرين وحتى اﻷدباء كما كانت في السابق، وأن فكرة النظم المستقلة لم تعد تلائم حقيقة الواقع الجديد، ولذلك اتجه البحث نحو مبدأ (تداخل النظم) وإزالة الجدر الثلجية بين نظام وآخر طالما أن العامل المشترك في اﻷخير هو اﻹنسان.. وطالما أيضاً أن الهوة الكبيرة بين اﻹنسان والكون باتت قريبة جداً، وعلى ذلك انطلقت دعاوى التكامل المعرفي بين العلوم وبعضها من جهة وبين العلوم وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى..
اﻷمر على هذا النحو يجعل الفشل الاقتصادي والسياسي لدولة غنية بثرواتها مثل السودان أمراً مبرراً فقد كان التعامل الاقتصادي فيها قبل ثورة الشعب في ديسمبر قائم باختيار البدائل بين النظم المدرسية للاقتصاد، فإذا تم تبني نظام ما يتم في نفس الوقت إسقاط البدائل اﻷخرى وهو ما جعل الساسة دائمي الارتطام بالواقع المتفاقم بأزمته، ومن ثم تحويل الشعب إلى حقل للتجارب الاقتصادية والسياسية.
أما اﻵن.. وللمستقبل.. ومن الانتقال من مرحلة اﻷزمة إلى مرحلة البناء والتطوير، يكون المطلوب هو الانتقال من حالة الانتماء للنظم إلى حالة اعتماد عامل (التخطيط) الذي هو مفهوم اكثر مرونة، وإحلال مصطلح (خطة) أو (برنامج) محل (نظام) System .. فالاعتماد على الخطة أو البرنامج بحسب مقتضيات الظرف المحلي يراعي تماماً مبدأ تداخل النظم أو اﻷنساق بمراعاة عوامل التميز والاختلاف بينهم.. هذا هو براجماتزم السياسة الجديدة.. ولعل اﻷمر يكون حميداً ويفتح الباب لمستقبل أفضل.
الدفعة صفر ..
الدفعة صفر ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
علمنا يوماً أن الثعلب الجائع قد احتال على الغراب قبيح الصوت كي يغني لتسقط من منقاره المفتوح قطعة الجبن الصغيرة المسروقة فيلتقمها .. فلا الغراب بغنائه أطرب ، ولا الثعلب بأكله الجبن قد شبع .. وكلاهما يعلم حقيقة نفسه من قبل أن يشرع فيما فعل .. وهناك طائر النعام يدفن رأسه في الرمال ليقنع نفسه أنه في أمان فلا ضير إن أكل الذئب كل الجسد ما دام قد أبقى الرأس في الرمال ..
الدفعة صفر .. هم الذين أوهموا أنفسهم بأن التمكين لمن أتى بهم سوف يجعل صوت الغراب عذباً في اذان سامعيه .. وأن سادتهم الكبار هم الذين منوا النفس بحظوة مشبعة من المال إذا ما احتالوا على الدفعة صفر واحتالوا بهم ..
وتبدأ القصة في الماضي ، بأن قال ، فيما يحكى ، أحد قادة الحقبة المظلمة عند تخريج ضباط الدفعة صفر (من هاهنا تبدأ الشرطة) .. فكان ذلك العدد صفر الذي يؤسس لما تلاه من عهد جديد في الشرطة أطفئ فيه النور على مجد تليد ، ولكأنما الشرطة قبل هذا الصفر لم يكن لها تاريخ عريق ولكأنما قد ضاع ما صار بها على ذروة الريادة للشرطة في أفريقيا وبلاد العرب بما كان لها من أعراف وتقاليد راسخة وعقيدة مهنية لدى رجالها لا تلين في منع ومكافحة الجريمة وتنظيم شؤون الوطن والمواطنين (حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم) قسماً أدوه لله تعالى وعهداً قاطعاً على ضمائرهم ، فكانوا بذلك ما كانوا دفعة تلو دفعة تتخرج من كلية الشرطة، وكذلك من كلية السجون تلك النجمة البارزة في سماء أفريقيا والعالم العربي .. وبعد الدفعة صفر ، لم يعد قسم الولاء لله في العمل بقانون الشرطة وواجباتها خالصاً لله ثم الوطن كما كان بلا تمكين لحزب وبلا حماية لنظام وبلا دفاع عن رئيس .. ولم يعد العهد المهني للشرطة في منع الجريمة وخدمة الناس هو أولى اﻷولويات وهو أوجب الواجبات ، إلا أن صار اﻷمر بعدهم هو الدعم السياسي للنظام الحاكم للدولة ، وليصبح الهم اﻷساسي هو جباية المال من المواطن والدفع به إلى ما ليس من الشرطة ورسالتها في شيء ، فدارت حولها أسئلة قاسية إجاباتها إن صحت ، ولتصبح الدفعة صفر هي العنوان واللافتة البارزة لحقبة الثلاثين سنة من ضياع الشرطة وقهر رجالها ..
فهل كان أن صارت أقسام الشرطة رغم مال الشرطة الوفير جحوراً ضيقة لا طائل معها في منع كثير من الجرائم وهي الوحدات اﻷساسية في ذلك ؟ .. هل صار رجال الشرطة ضباطاً وأفراداً هم أفقر عناصر العمل الرسمي في الدولة واضعف حلقاتها وارثاهم حالاً بعدما اختزلت أسباب رفاهيتهم وعزة نفسهم ونقاء سريرتهم ويدهم في حزمة من المباني المترفة والعالية لا يسكنها إلا من نفض يده من شدائد المهنة من أصحاب الرتب العليا والذين تباعدت الشقة بينهم وبين جنودهم فأفقدت أولئك الجنود كل ولاء وبراء .. ثم لانزال نعود نتساءل عن أسباب الرشوة والفساد ؟ .. هل صار مبدأ التمكين بجهاد كاذب ذا الصفة الحزبية الصارخة هو الهم اﻷكبر ﻷصحاب الدفعة صفر فباتو يكتسحون بطغيان وكيد كل ما أمامهم وصولاً إلى مفاصل السلطة واﻹدارة والمال في الشرطة ، فصارت الادارة ظلماً وصار المال إلى الجيوب الخاصة واﻷملاك العريضة ؟ .. هل بلغت معدلات الفصل التعسفي تحت مادة بقاء أطول فترة في الرتبة درجة وبائية لكل من لم يثبت ولائه للتنظيم الحاكم والتشريد لهم باسم الصالح العام ، أليس كان هذا مصير كل من علا صوته بكلمة الحق فصدح به أمام سلطان قائده الجائر أو حتى انصرف تماماً إلى أداء واجبه المهني الصرف بحق القسم الذي لله في عنقه ؟ .. هل كان من الحق والعدل والوطنية أن يأتي التنظيم الحاكم بوزير داخلية وهو يحمل جنسية وانتماءً وأصلاً لبلد آخر ، برغم ما هو من المعلوم بالضرورة أن وزارة الداخلية هي مستودع لهوية الوطن ولخصوصية كل مواطن في البلاد وكل أسرار المجتمع ، فكيف وضعت في يد من حامت حوله الشبهات بأنه ليس من عين أهل البلاد ، وكيف له هو أن يكون أميناً على وطن ليس وطنه ؟ .. هل حرص النظام الحاكم أن يوسد أمر الشرطة إلى من هو أقل خبرة في المهنة ومقتضياتها من أدنى ضابط فيها أو ضابط صف ليكون مديراً عاماً عليها . وهل كان هذا التولي لمن لا يستحق مسوغاً منطقياً كافياً له أن ينصرف إلى جباية كل موارد الشرطة وصبها بالمليارات الممليرة في أبراج عالية من حجارة وأسمنت ، ولكأنما أدخل يده في جيب كل فرد في الشرطة حتى أبسط جندي فيها وأخرج من قوت يومه ليطلي به جدران مبانيه الاسمنتية وترك أولئك المساكين يعاني الواحد منهم قسوة الفقر وانكشاف عورات بيته ؟ أفبعد هذا نطالب رجال الشرطة بأن لا تغلي قدور الغبن بدمائهم في صدورهم إلى درجة أن يقع الكثيرون منهم طي الظلم فيخرجوا مضربين عن العمل ، وما أدراك بخراب الديار إن أضرب الشرطة يوماً أو حتى بعض يوم ؟ .. هل اختلط الحابل بالنابل بكثرة المليشيات التي باتت تعمل عمل الشرطة وتغولت على مهامها بصنع النظام لها امام مرأى ومسمع قيادات الشرطة..
لقد كان في الشرطة قبيل الدفعة صفر رجال عشقوا رسالتها تجرداً عن كل هوىً ودون سؤال عن كم وكيف ومتى ، فدققوا في كل شيء بحنكة ومهارة ونكران ذات بدأً من فتح دفتر البلاغات والتحري فيها وانتهاءً باستقبال الموت في كل لحظة فداء للوطن وحماية لروح المواطن الغالية ، فانعكس ذلك حتى على ضبط الهندام الكاكي أخضر اللون الداكن بعلاماته وشد (القاش) الغليظ على الوسط والالتزام بحذاء الخمسة رباط اللامع أو (البوت) العسكري المهيب ، والضبط والربط والانضباط العالي في ميدان التدريب وميدان العمل سواء ، وعدم خفض التحية للقادة إلا مع الخطوة السادسة في السير ..
فهذه إذن دعوة جادة لفتح الملفات وإعداد فرق المراجعة المالية والعقارية والتفتيش القانوني العام على كل المخالفات الادارية والاجرائية ، وتنزيل قانون محاسبة الثراء الحرام على كل إدارات ووحدات وهيئات الشرطة .. ولكي تتم الاجابة عن اﻷسئلة إما بإثبات وإما بنفي ، حتى يُنصف الشرفاء من رجال الشرطة الذين قبضوا على الجمر طويلاً ومازالوا قابضين ، وحتى يجازى كل من أكتسب فيها بظلم .. والقول هنا هو فحسب قطرة في أول الغيث ، ثم لا يبقى إلا أن ينهمر .
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
علمنا يوماً أن الثعلب الجائع قد احتال على الغراب قبيح الصوت كي يغني لتسقط من منقاره المفتوح قطعة الجبن الصغيرة المسروقة فيلتقمها .. فلا الغراب بغنائه أطرب ، ولا الثعلب بأكله الجبن قد شبع .. وكلاهما يعلم حقيقة نفسه من قبل أن يشرع فيما فعل .. وهناك طائر النعام يدفن رأسه في الرمال ليقنع نفسه أنه في أمان فلا ضير إن أكل الذئب كل الجسد ما دام قد أبقى الرأس في الرمال ..
الدفعة صفر .. هم الذين أوهموا أنفسهم بأن التمكين لمن أتى بهم سوف يجعل صوت الغراب عذباً في اذان سامعيه .. وأن سادتهم الكبار هم الذين منوا النفس بحظوة مشبعة من المال إذا ما احتالوا على الدفعة صفر واحتالوا بهم ..
وتبدأ القصة في الماضي ، بأن قال ، فيما يحكى ، أحد قادة الحقبة المظلمة عند تخريج ضباط الدفعة صفر (من هاهنا تبدأ الشرطة) .. فكان ذلك العدد صفر الذي يؤسس لما تلاه من عهد جديد في الشرطة أطفئ فيه النور على مجد تليد ، ولكأنما الشرطة قبل هذا الصفر لم يكن لها تاريخ عريق ولكأنما قد ضاع ما صار بها على ذروة الريادة للشرطة في أفريقيا وبلاد العرب بما كان لها من أعراف وتقاليد راسخة وعقيدة مهنية لدى رجالها لا تلين في منع ومكافحة الجريمة وتنظيم شؤون الوطن والمواطنين (حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم) قسماً أدوه لله تعالى وعهداً قاطعاً على ضمائرهم ، فكانوا بذلك ما كانوا دفعة تلو دفعة تتخرج من كلية الشرطة، وكذلك من كلية السجون تلك النجمة البارزة في سماء أفريقيا والعالم العربي .. وبعد الدفعة صفر ، لم يعد قسم الولاء لله في العمل بقانون الشرطة وواجباتها خالصاً لله ثم الوطن كما كان بلا تمكين لحزب وبلا حماية لنظام وبلا دفاع عن رئيس .. ولم يعد العهد المهني للشرطة في منع الجريمة وخدمة الناس هو أولى اﻷولويات وهو أوجب الواجبات ، إلا أن صار اﻷمر بعدهم هو الدعم السياسي للنظام الحاكم للدولة ، وليصبح الهم اﻷساسي هو جباية المال من المواطن والدفع به إلى ما ليس من الشرطة ورسالتها في شيء ، فدارت حولها أسئلة قاسية إجاباتها إن صحت ، ولتصبح الدفعة صفر هي العنوان واللافتة البارزة لحقبة الثلاثين سنة من ضياع الشرطة وقهر رجالها ..
فهل كان أن صارت أقسام الشرطة رغم مال الشرطة الوفير جحوراً ضيقة لا طائل معها في منع كثير من الجرائم وهي الوحدات اﻷساسية في ذلك ؟ .. هل صار رجال الشرطة ضباطاً وأفراداً هم أفقر عناصر العمل الرسمي في الدولة واضعف حلقاتها وارثاهم حالاً بعدما اختزلت أسباب رفاهيتهم وعزة نفسهم ونقاء سريرتهم ويدهم في حزمة من المباني المترفة والعالية لا يسكنها إلا من نفض يده من شدائد المهنة من أصحاب الرتب العليا والذين تباعدت الشقة بينهم وبين جنودهم فأفقدت أولئك الجنود كل ولاء وبراء .. ثم لانزال نعود نتساءل عن أسباب الرشوة والفساد ؟ .. هل صار مبدأ التمكين بجهاد كاذب ذا الصفة الحزبية الصارخة هو الهم اﻷكبر ﻷصحاب الدفعة صفر فباتو يكتسحون بطغيان وكيد كل ما أمامهم وصولاً إلى مفاصل السلطة واﻹدارة والمال في الشرطة ، فصارت الادارة ظلماً وصار المال إلى الجيوب الخاصة واﻷملاك العريضة ؟ .. هل بلغت معدلات الفصل التعسفي تحت مادة بقاء أطول فترة في الرتبة درجة وبائية لكل من لم يثبت ولائه للتنظيم الحاكم والتشريد لهم باسم الصالح العام ، أليس كان هذا مصير كل من علا صوته بكلمة الحق فصدح به أمام سلطان قائده الجائر أو حتى انصرف تماماً إلى أداء واجبه المهني الصرف بحق القسم الذي لله في عنقه ؟ .. هل كان من الحق والعدل والوطنية أن يأتي التنظيم الحاكم بوزير داخلية وهو يحمل جنسية وانتماءً وأصلاً لبلد آخر ، برغم ما هو من المعلوم بالضرورة أن وزارة الداخلية هي مستودع لهوية الوطن ولخصوصية كل مواطن في البلاد وكل أسرار المجتمع ، فكيف وضعت في يد من حامت حوله الشبهات بأنه ليس من عين أهل البلاد ، وكيف له هو أن يكون أميناً على وطن ليس وطنه ؟ .. هل حرص النظام الحاكم أن يوسد أمر الشرطة إلى من هو أقل خبرة في المهنة ومقتضياتها من أدنى ضابط فيها أو ضابط صف ليكون مديراً عاماً عليها . وهل كان هذا التولي لمن لا يستحق مسوغاً منطقياً كافياً له أن ينصرف إلى جباية كل موارد الشرطة وصبها بالمليارات الممليرة في أبراج عالية من حجارة وأسمنت ، ولكأنما أدخل يده في جيب كل فرد في الشرطة حتى أبسط جندي فيها وأخرج من قوت يومه ليطلي به جدران مبانيه الاسمنتية وترك أولئك المساكين يعاني الواحد منهم قسوة الفقر وانكشاف عورات بيته ؟ أفبعد هذا نطالب رجال الشرطة بأن لا تغلي قدور الغبن بدمائهم في صدورهم إلى درجة أن يقع الكثيرون منهم طي الظلم فيخرجوا مضربين عن العمل ، وما أدراك بخراب الديار إن أضرب الشرطة يوماً أو حتى بعض يوم ؟ .. هل اختلط الحابل بالنابل بكثرة المليشيات التي باتت تعمل عمل الشرطة وتغولت على مهامها بصنع النظام لها امام مرأى ومسمع قيادات الشرطة..
لقد كان في الشرطة قبيل الدفعة صفر رجال عشقوا رسالتها تجرداً عن كل هوىً ودون سؤال عن كم وكيف ومتى ، فدققوا في كل شيء بحنكة ومهارة ونكران ذات بدأً من فتح دفتر البلاغات والتحري فيها وانتهاءً باستقبال الموت في كل لحظة فداء للوطن وحماية لروح المواطن الغالية ، فانعكس ذلك حتى على ضبط الهندام الكاكي أخضر اللون الداكن بعلاماته وشد (القاش) الغليظ على الوسط والالتزام بحذاء الخمسة رباط اللامع أو (البوت) العسكري المهيب ، والضبط والربط والانضباط العالي في ميدان التدريب وميدان العمل سواء ، وعدم خفض التحية للقادة إلا مع الخطوة السادسة في السير ..
فهذه إذن دعوة جادة لفتح الملفات وإعداد فرق المراجعة المالية والعقارية والتفتيش القانوني العام على كل المخالفات الادارية والاجرائية ، وتنزيل قانون محاسبة الثراء الحرام على كل إدارات ووحدات وهيئات الشرطة .. ولكي تتم الاجابة عن اﻷسئلة إما بإثبات وإما بنفي ، حتى يُنصف الشرفاء من رجال الشرطة الذين قبضوا على الجمر طويلاً ومازالوا قابضين ، وحتى يجازى كل من أكتسب فيها بظلم .. والقول هنا هو فحسب قطرة في أول الغيث ، ثم لا يبقى إلا أن ينهمر .
السبت، 7 سبتمبر 2019
فك أختام الأمس
فك أختام الأمس..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
كعادته، كتب الدكتور – بالألف واللام – (زكي نجيب محمود) مقدمة رائعة ثرة لترجمة محاورات الفيلسوف وعالم الرياضيات الانجليزي البارز (الفرد نورث هوايتهد) A.N.Whithead (1861- 1947م)، قارن فيها بين روحين مختلفتين لدى شخصين مختلفين لم يكن لهما أن يلتقيا مطلقاً في الحياة لبعد الزمان بينهما، فمن جهة كانت روح الشرق التي تحققت في (أبو حيان التوحيدي) من خلال كتابه الفذ (الامتاع والمؤانسة)، ومن الجهة الأخرى كانت روح الغرب التي تجسدت في الرجل الأوروبي الصميم (أ. ن. هوايتهد).. لم يكن الشاهد في هذه المقارنة هو درجة الاختلاف التي ميزت كل منهما عن الآخر، بل كان الأمر عكس ذلك تماماً بأنهما قد سارا معاً في خط واحد ليصلا إلى نفس النتيجة في فكرة معينة.. وبالرغم من التصنيف الثقافي الذي ميز بحسم بين الحالة الإنسانية الشرقية التي اتسم فيها الساميون بالصرامة والجهامة والجدية إلى حد الحزن بالفطرة كما عبرت عنهم (التوراة)، وما اتسمت به الحالة الإنسانية الغربية في طابع الروح الهيلينية لدى ورثة الثقافة اليونانية من فكاهة وتبسط واغراق في المرح إلى حد النشوة وربما إلى حد المجون.. إلا أن المقارنة جمعت بين المزاجين المتضادين في خلاصة واحدة اتفق فيها الرجلان فيما يتعلق بحقيقة الاجتماع البشري وتكون الأوطان، وعبر عنها (هوايتهد) بقوله (أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوط العنصرية، وأنه كلما صفا الجنس عنصراً ولم تدخله أخلاط من الخارج كان أقرب إلى الانحلال)..
ومن هنا ننطلق..
لم يفهم (هتلر) الداعي إلى صفاء وسيادة العرق الآري وحده غي العالم، ولا (أفلاطون) الفيلسوف من قبله الداعي إلى سيادة الرجل من اثينا من طبقة معدن الذهب ليستولي على الحكمة والدولة معاً دون غيره، أن الخبرة البشرية الطويلة أثبتت أن البقاء فعلاً يكون للأصلح، وأن الأصلح في الشعوب هو ما اتصلت فيه اعراق وألوان البشر برباط موثق فصاروا مجتمعاً بمعنى الكلمة.. ولعل الآية القرآنية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) ارشدت بنحو بذلك عندما تقدم فيها ذكر الشعوب على القبائل.. فربما كان الظاهر في سنة التطور البشري أن القبيلة حالة مؤقتة وأن التمسك المفرط بزمام القبلية الحادة للحفاظ على الصفاء العرقي حتماً سوف يتخطاه تقادم الأزمان بفعل التوسع الحضري والعمراني فلا يعود الأمر يسيراً في لملمة أطراف العشائر لنصنع منها حدود القبائل لأنها ستكون قد احيلت شعباً ودولة.. ولذلك إن قلنا أن (القبيلة) هي حالة تاريخية مؤقتة فإن(الشعب) هو الحالة المستقرة التي تنتهي إليها دوماً هيئة الاجتماع البشري في استمرار تطورها، والمعادلة في تفسير هذا بسيطة.. (القبيلة) طريقة حياة الناس الواحدة فيها تقوم على العرق أو العنصر، وهذا أمر قد يختل بالتزاوج من خارجها. بينما (الشعب) طريقة حياة الناس الواحدة فيه تقوم على التعايش المشترك، وذاك أمر لا يبليه تباين الأعراق وتداخلها..
وليس المقصود هو قمع العشائرية القبلية على الإطلاق، فإن لها من الفائدة ما يمنح المرء معها الشعور بالانتماء الأسري، وهذا شيء مهم.. وإنما المقصود أن لا نجعلها عاملاً حكماً في تحديد الانتماء المجتمعي..
ولربما وجدنا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول آسيا نماذج شاهدة على قوة بناء المجتمع القائم على التعايش المشترك لأعراق بشرية متعددة..
إذن، وإذا كان هذا هو سر البقاء للأصلح، فإن هذا التمازج الخلاق الموجود على أرض السودان قمين أن يجعله أهلاً للبقاء والتقدم بجلد.. والضرورة في هذا تفرض التجاوز لسطوة التعصب للقبلية خارج حدود الانتماء الأسري من أجل التوسع والتفسح في مجالس التعايش المشترك بين جميع من توطن هذه الأرض.. وهذا ليس مجرد إمكان للحدوث، بل هو قد وقع بالفعل، وكان ذلك في ملحمة الاعتصام الكبرى قبيل وفي رمضان المبارك.. حيث لم تكن الثورة الشعبية هناك أنجح في أيٍ من مناحيها من نجاحها في إثبات هوية الوطن عبر النسيج المجتمعي الذي تشابكت فيه كافة الخيوط العرقية للسودان، قلباً ووجداناً وهدفاً واحداً، ومعاناة إنسانية واحدة، وموت واحد وحياة واحدة.. وأمام ذلك المشهد الذي ختم التاريخ بخاتمه لا نملك ناصية للكلمات ويصير الصمت أبلغ في حضرة الأفعال.. والوصف لأناس هناك كانوا يدونون مفكرة الثورة على ما قال (مارون عبود) في إحدى صفحاته ) يقرأون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس).
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
كعادته، كتب الدكتور – بالألف واللام – (زكي نجيب محمود) مقدمة رائعة ثرة لترجمة محاورات الفيلسوف وعالم الرياضيات الانجليزي البارز (الفرد نورث هوايتهد) A.N.Whithead (1861- 1947م)، قارن فيها بين روحين مختلفتين لدى شخصين مختلفين لم يكن لهما أن يلتقيا مطلقاً في الحياة لبعد الزمان بينهما، فمن جهة كانت روح الشرق التي تحققت في (أبو حيان التوحيدي) من خلال كتابه الفذ (الامتاع والمؤانسة)، ومن الجهة الأخرى كانت روح الغرب التي تجسدت في الرجل الأوروبي الصميم (أ. ن. هوايتهد).. لم يكن الشاهد في هذه المقارنة هو درجة الاختلاف التي ميزت كل منهما عن الآخر، بل كان الأمر عكس ذلك تماماً بأنهما قد سارا معاً في خط واحد ليصلا إلى نفس النتيجة في فكرة معينة.. وبالرغم من التصنيف الثقافي الذي ميز بحسم بين الحالة الإنسانية الشرقية التي اتسم فيها الساميون بالصرامة والجهامة والجدية إلى حد الحزن بالفطرة كما عبرت عنهم (التوراة)، وما اتسمت به الحالة الإنسانية الغربية في طابع الروح الهيلينية لدى ورثة الثقافة اليونانية من فكاهة وتبسط واغراق في المرح إلى حد النشوة وربما إلى حد المجون.. إلا أن المقارنة جمعت بين المزاجين المتضادين في خلاصة واحدة اتفق فيها الرجلان فيما يتعلق بحقيقة الاجتماع البشري وتكون الأوطان، وعبر عنها (هوايتهد) بقوله (أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوط العنصرية، وأنه كلما صفا الجنس عنصراً ولم تدخله أخلاط من الخارج كان أقرب إلى الانحلال)..
ومن هنا ننطلق..
لم يفهم (هتلر) الداعي إلى صفاء وسيادة العرق الآري وحده غي العالم، ولا (أفلاطون) الفيلسوف من قبله الداعي إلى سيادة الرجل من اثينا من طبقة معدن الذهب ليستولي على الحكمة والدولة معاً دون غيره، أن الخبرة البشرية الطويلة أثبتت أن البقاء فعلاً يكون للأصلح، وأن الأصلح في الشعوب هو ما اتصلت فيه اعراق وألوان البشر برباط موثق فصاروا مجتمعاً بمعنى الكلمة.. ولعل الآية القرآنية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) ارشدت بنحو بذلك عندما تقدم فيها ذكر الشعوب على القبائل.. فربما كان الظاهر في سنة التطور البشري أن القبيلة حالة مؤقتة وأن التمسك المفرط بزمام القبلية الحادة للحفاظ على الصفاء العرقي حتماً سوف يتخطاه تقادم الأزمان بفعل التوسع الحضري والعمراني فلا يعود الأمر يسيراً في لملمة أطراف العشائر لنصنع منها حدود القبائل لأنها ستكون قد احيلت شعباً ودولة.. ولذلك إن قلنا أن (القبيلة) هي حالة تاريخية مؤقتة فإن(الشعب) هو الحالة المستقرة التي تنتهي إليها دوماً هيئة الاجتماع البشري في استمرار تطورها، والمعادلة في تفسير هذا بسيطة.. (القبيلة) طريقة حياة الناس الواحدة فيها تقوم على العرق أو العنصر، وهذا أمر قد يختل بالتزاوج من خارجها. بينما (الشعب) طريقة حياة الناس الواحدة فيه تقوم على التعايش المشترك، وذاك أمر لا يبليه تباين الأعراق وتداخلها..
وليس المقصود هو قمع العشائرية القبلية على الإطلاق، فإن لها من الفائدة ما يمنح المرء معها الشعور بالانتماء الأسري، وهذا شيء مهم.. وإنما المقصود أن لا نجعلها عاملاً حكماً في تحديد الانتماء المجتمعي..
ولربما وجدنا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول آسيا نماذج شاهدة على قوة بناء المجتمع القائم على التعايش المشترك لأعراق بشرية متعددة..
إذن، وإذا كان هذا هو سر البقاء للأصلح، فإن هذا التمازج الخلاق الموجود على أرض السودان قمين أن يجعله أهلاً للبقاء والتقدم بجلد.. والضرورة في هذا تفرض التجاوز لسطوة التعصب للقبلية خارج حدود الانتماء الأسري من أجل التوسع والتفسح في مجالس التعايش المشترك بين جميع من توطن هذه الأرض.. وهذا ليس مجرد إمكان للحدوث، بل هو قد وقع بالفعل، وكان ذلك في ملحمة الاعتصام الكبرى قبيل وفي رمضان المبارك.. حيث لم تكن الثورة الشعبية هناك أنجح في أيٍ من مناحيها من نجاحها في إثبات هوية الوطن عبر النسيج المجتمعي الذي تشابكت فيه كافة الخيوط العرقية للسودان، قلباً ووجداناً وهدفاً واحداً، ومعاناة إنسانية واحدة، وموت واحد وحياة واحدة.. وأمام ذلك المشهد الذي ختم التاريخ بخاتمه لا نملك ناصية للكلمات ويصير الصمت أبلغ في حضرة الأفعال.. والوصف لأناس هناك كانوا يدونون مفكرة الثورة على ما قال (مارون عبود) في إحدى صفحاته ) يقرأون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس).
أليس الله بكاف عبده ..
أليس الله بكافٍ عبده ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
خدعوا الواعظ الشاب .. حينما أقنعوه بأن مذكرات موعظته التي سيلقيها في الصباح أن الله سوف يزيدها خصباً إذا تركها طوال الليل بين طيات الكتاب المقدس .. فأتى الصغار المحتالين في أمسية يوم السبت وأخذوا المذكرات ووضعوا بدلاً منها ورقة بيضاء .. وفي صباح يوم اﻷحد عندما صعد المنبر ليلقي موعظته ، كانت الورقة أمامه بيضاء وعقله خاوياً .. كانت الاشاعة قد انتشرت في كل مكان ، فجاء كل من هب ودب ليسمع ماذا يمكن أن يفعله الواعظ الشاب .. ولكنه لإلهام هبط على قلبه اﻵن أعلن أن موعظته ستكون بعيدة عن الترانيم التقليدية ، وأنه سوف ينطلق من اﻵية التي تقول (في البدء خلق الله السماء واﻷرض) .. ثم أمسك في يده بالورقة البيضاء ، ثم قلب الورقة ، ولا شيء أيضاً على الجانب اﻵخر .. وعلى مثل هذه الحالة لم يكن هناك شيء في الدنيا عند بدء الخليقة .. ولكن من هذا اللاشيء خلق الله السماوات واﻷرض وكل أساليب الحياة .. وبعد أن انتهى من الموعظة أحس أنها كانت من أحسن الخطب التي ألقاها (من رواية (قصة رجل طيب) ، تأليف (كونراد ريشتر)) .. ولو أن هذا الشاب كان قد تحسس وقع خطبته على الجمهور أثناء إلقائها لربما لم ينطلق فيها منذ البدء بعد أن اكتشف أن ورقته خالية وأن ذهنه بذات القدر خالٍ ، وأمامه جموع من الناس جاءوا لامتحان قدراته أمام هذا الموقف الصعب .. ولكني أرجح أن هذا الواعظ الشاب لكي يجتاز هذا الامتحان قد ألغى من حساباته ، ولو مؤقتاً، مواقف الجمهور وأهدافهم وجعلهم كمن يتكلمون تحت الماء بالنسبة إليه ، وكرس جل وعيه نحو سبك موعظة يفاجئ هو بها نفسه أولاً قبل أن يفاجئ بها هؤلاء الناس .. وكما أنه وجد الورقة خالية ، فكذلك قد أخلى عقله من السؤال عما إذا كانت موعظته ستحدث تأثيراً أياً كان نوعه على مستمعيه .. ولربما لم يدري بهذا التأثير عليهم إلا بعد أن نجح في جعل تأثيره على نفسه أولاً ، وأنه كان تأثير إيجابي مرضٍ ، وهكذا كان سر نجاحه ..
وكم من صديق يشكوا لصديقه عن أحزانه بأنه يبادر دائماً بالخير والاحسان لمن يهمه أمرهم وهم لا يولونه أَذن صاغية ولا قلوب واعية ، فيكره من نفسه أن جادت لهم يوماً بما جادت ، ليسلم نفسه لليأس والحزن وكثير من الشكوى .. ولعل أن اغلب مشكلاتنا والاحزان التي تنتابنا هي من فعل ايدينا.. كيف؟ لأننا عندما نقدم شيئا فيه خير للآخرين، نهتم كثيرا بردة فعلهم عليه واستجابتهم له ، فإذا كانت استجابتهم بخلاف ما نتوقع أو انهم تجاهلوا هذا العطاء فإننا نحبط ونيأس ونحس بالحزن الشديد .. فما الحل؟ الحل هو ان نتعامل مع كل الناس من وراء جدار زجاجي .. بمعنى ان نلقي للناس بالخير الذي لدينا إليهم دون ان نشغل انفسنا بضرورة أن يكون لديهم رد فعل عليه .. الجدار الزجاجي يجعلنا نرى الناس وهم ايضا يروننا ونمد لهم بعطائنا ولكن دون ان تخترق ردود أفعالهم على عطائنا هذا حاجز الجدار الزجاجي الينا .. هكذا فعل الانبياء والرسل والا لكانوا توقفوا عن دعواهم في أولها مما يجدوه من جفاء ومحاربة الناس لهم وعدم قبول رسالاتهم .. اذن ، اعطي ما عندك ثم لا يعنيك ما يكون من ردود افعال واستجابات ، حيث سترتاح النفس انها افرغت ما عندها ولم تدخر شيئا .. ثم لا ندري ابدا إلى اي مدى اثرت كلماتنا في غيرنا فلربما التزموا الصمت ولربما كانوا يظهرون عكس ما يبطنون ، ولكنهم في كل الاحوال يتأثرون .. الفيلسوف الألماني (ارثر شوبنهاور) Schopenhauer لم يشتهر ولم يلمع أسمه كفيلسوف مهم في تاريخ العالم إلا بعد أن أوشكت حياته على نهايتها ، فلقد كان طلابه في مطلع حياته كأستاذ بالجامعة يتركونه قائماً ليلحقوا بقاعة درس فيلسوفهم العملاق آنذاك (فلهلم فون هيجل) Hegel.. ولكن حزنه بذلك لم يمنعه أن يكتب ويكتب ، حتى إذا مات انتبه الناس بموته إلى أنه ربما كان فيما كتب وألف أعظم من (هيجل) .. وهكذا كم من مبدعين بارعين لم يعرف الناس قدرهم إلا بعد موتهم ليدون التاريخ أنهم ربما كانوا ذوي أثر عميق في جماهيرهم ولكنهم فقط لم يروا هذا التأثير بياناً في أعينهم وأقوالهم ، ولكنهم بالفعل تأثروا .. ولو أن هؤلاء الكتاب قد شغلوا أنفسهم كثيراً بتأثر الناس بهم لربما لم يكتبوا سطراً .. وهكذا ، فإن شرط ترك اﻷثر هو قناعتنا بعمق ما نكتب وأحقية وفائدة ما نكتب أو نقول ، وأن هذه القناعة تأتي من الكنز الروحاني الذي منحنا إياه رب العلمين ، فكل اﻷمر رهين برضا الله عنه وهو من يأذن في نسأ أثره في الناس إذا كان دفعاً بالحق في القول أو الكتابة دون تزكية للنفس على الله والعباد ودون طلب لدعاية أو شهرة أو حمد من الناس بما لا استحقاق فيه ..
لم يكن أنبياء الله يرجون تمجيداً لذواتهم بما دعوا الناس إليه .. فثبت الله الفؤاد منهم على الطريق الشاقة بما طمئن به نبينا العظيم بأن قال له ولنا من بعده ولكل من كان كائناً في الدهر (أليس الله بكاف عبده . ويخوفونك بالذين من دونه) فكل ما دون الله فالله كفيل به .. فلتطمئن القلوب إذن وتقر ، ثم تقدم العطاء بإخلاص ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
خدعوا الواعظ الشاب .. حينما أقنعوه بأن مذكرات موعظته التي سيلقيها في الصباح أن الله سوف يزيدها خصباً إذا تركها طوال الليل بين طيات الكتاب المقدس .. فأتى الصغار المحتالين في أمسية يوم السبت وأخذوا المذكرات ووضعوا بدلاً منها ورقة بيضاء .. وفي صباح يوم اﻷحد عندما صعد المنبر ليلقي موعظته ، كانت الورقة أمامه بيضاء وعقله خاوياً .. كانت الاشاعة قد انتشرت في كل مكان ، فجاء كل من هب ودب ليسمع ماذا يمكن أن يفعله الواعظ الشاب .. ولكنه لإلهام هبط على قلبه اﻵن أعلن أن موعظته ستكون بعيدة عن الترانيم التقليدية ، وأنه سوف ينطلق من اﻵية التي تقول (في البدء خلق الله السماء واﻷرض) .. ثم أمسك في يده بالورقة البيضاء ، ثم قلب الورقة ، ولا شيء أيضاً على الجانب اﻵخر .. وعلى مثل هذه الحالة لم يكن هناك شيء في الدنيا عند بدء الخليقة .. ولكن من هذا اللاشيء خلق الله السماوات واﻷرض وكل أساليب الحياة .. وبعد أن انتهى من الموعظة أحس أنها كانت من أحسن الخطب التي ألقاها (من رواية (قصة رجل طيب) ، تأليف (كونراد ريشتر)) .. ولو أن هذا الشاب كان قد تحسس وقع خطبته على الجمهور أثناء إلقائها لربما لم ينطلق فيها منذ البدء بعد أن اكتشف أن ورقته خالية وأن ذهنه بذات القدر خالٍ ، وأمامه جموع من الناس جاءوا لامتحان قدراته أمام هذا الموقف الصعب .. ولكني أرجح أن هذا الواعظ الشاب لكي يجتاز هذا الامتحان قد ألغى من حساباته ، ولو مؤقتاً، مواقف الجمهور وأهدافهم وجعلهم كمن يتكلمون تحت الماء بالنسبة إليه ، وكرس جل وعيه نحو سبك موعظة يفاجئ هو بها نفسه أولاً قبل أن يفاجئ بها هؤلاء الناس .. وكما أنه وجد الورقة خالية ، فكذلك قد أخلى عقله من السؤال عما إذا كانت موعظته ستحدث تأثيراً أياً كان نوعه على مستمعيه .. ولربما لم يدري بهذا التأثير عليهم إلا بعد أن نجح في جعل تأثيره على نفسه أولاً ، وأنه كان تأثير إيجابي مرضٍ ، وهكذا كان سر نجاحه ..
وكم من صديق يشكوا لصديقه عن أحزانه بأنه يبادر دائماً بالخير والاحسان لمن يهمه أمرهم وهم لا يولونه أَذن صاغية ولا قلوب واعية ، فيكره من نفسه أن جادت لهم يوماً بما جادت ، ليسلم نفسه لليأس والحزن وكثير من الشكوى .. ولعل أن اغلب مشكلاتنا والاحزان التي تنتابنا هي من فعل ايدينا.. كيف؟ لأننا عندما نقدم شيئا فيه خير للآخرين، نهتم كثيرا بردة فعلهم عليه واستجابتهم له ، فإذا كانت استجابتهم بخلاف ما نتوقع أو انهم تجاهلوا هذا العطاء فإننا نحبط ونيأس ونحس بالحزن الشديد .. فما الحل؟ الحل هو ان نتعامل مع كل الناس من وراء جدار زجاجي .. بمعنى ان نلقي للناس بالخير الذي لدينا إليهم دون ان نشغل انفسنا بضرورة أن يكون لديهم رد فعل عليه .. الجدار الزجاجي يجعلنا نرى الناس وهم ايضا يروننا ونمد لهم بعطائنا ولكن دون ان تخترق ردود أفعالهم على عطائنا هذا حاجز الجدار الزجاجي الينا .. هكذا فعل الانبياء والرسل والا لكانوا توقفوا عن دعواهم في أولها مما يجدوه من جفاء ومحاربة الناس لهم وعدم قبول رسالاتهم .. اذن ، اعطي ما عندك ثم لا يعنيك ما يكون من ردود افعال واستجابات ، حيث سترتاح النفس انها افرغت ما عندها ولم تدخر شيئا .. ثم لا ندري ابدا إلى اي مدى اثرت كلماتنا في غيرنا فلربما التزموا الصمت ولربما كانوا يظهرون عكس ما يبطنون ، ولكنهم في كل الاحوال يتأثرون .. الفيلسوف الألماني (ارثر شوبنهاور) Schopenhauer لم يشتهر ولم يلمع أسمه كفيلسوف مهم في تاريخ العالم إلا بعد أن أوشكت حياته على نهايتها ، فلقد كان طلابه في مطلع حياته كأستاذ بالجامعة يتركونه قائماً ليلحقوا بقاعة درس فيلسوفهم العملاق آنذاك (فلهلم فون هيجل) Hegel.. ولكن حزنه بذلك لم يمنعه أن يكتب ويكتب ، حتى إذا مات انتبه الناس بموته إلى أنه ربما كان فيما كتب وألف أعظم من (هيجل) .. وهكذا كم من مبدعين بارعين لم يعرف الناس قدرهم إلا بعد موتهم ليدون التاريخ أنهم ربما كانوا ذوي أثر عميق في جماهيرهم ولكنهم فقط لم يروا هذا التأثير بياناً في أعينهم وأقوالهم ، ولكنهم بالفعل تأثروا .. ولو أن هؤلاء الكتاب قد شغلوا أنفسهم كثيراً بتأثر الناس بهم لربما لم يكتبوا سطراً .. وهكذا ، فإن شرط ترك اﻷثر هو قناعتنا بعمق ما نكتب وأحقية وفائدة ما نكتب أو نقول ، وأن هذه القناعة تأتي من الكنز الروحاني الذي منحنا إياه رب العلمين ، فكل اﻷمر رهين برضا الله عنه وهو من يأذن في نسأ أثره في الناس إذا كان دفعاً بالحق في القول أو الكتابة دون تزكية للنفس على الله والعباد ودون طلب لدعاية أو شهرة أو حمد من الناس بما لا استحقاق فيه ..
لم يكن أنبياء الله يرجون تمجيداً لذواتهم بما دعوا الناس إليه .. فثبت الله الفؤاد منهم على الطريق الشاقة بما طمئن به نبينا العظيم بأن قال له ولنا من بعده ولكل من كان كائناً في الدهر (أليس الله بكاف عبده . ويخوفونك بالذين من دونه) فكل ما دون الله فالله كفيل به .. فلتطمئن القلوب إذن وتقر ، ثم تقدم العطاء بإخلاص ..
الخميس، 9 مايو 2019
العظماء أيضا يموتون
العظماء أيضاً يموتون ..
د. وائل احمد خليل الكردي
Wailahkhkordi@gmail.com
في مطالعة لكتاب أنيس منصور الشهير (في صالون العقاد كانت لنا أيام) عثرت على الفقرات التالية:
(عندما كنت محرراً في (أخبار اليوم) عاتبني الأستاذ لأنني رفضت نشر مقال كتبه الصديق عامر العقاد ابن أخ الأستاذ بمناسبة عيد ميلاده ... وكل الذي أدركته من غضب الأستاذ قوله: أن صحيفة التايمز البريطانية قد خصصت عدداً ممتازاً لأديبها ريتشي، مع أنه ليس إلا كاتباً متواضعاً)..
(وكثيراً ما أحس الأستاذ أن صمتنا هو عظيم الاحترام لكلامه.. وأنه إذا كان الفم الوحيد فقد كنا آذانه العشرين)..
(وهذه نظرية أخرى عند الأستاذ: أن هناك تشابهاً بين أفكار الناس وأشكالهم.. ولذلك فحديقة حيوان العقاد ليست نكتة، إنما هي نظرية حقيقية)..
(ولم يكن عبد الرحمن بدوي مثل لويس عوض هاشاً باشاً... وهو يمشي على عجل دائماً. مندفع لا ينظر إلى أحد. وإذا نظر إليك فنظرة تقتحمك أو تكتسحك، أي تذيبك تماماً ليكون على راحته، ينظر إلى لا شيء، لأنه لا شيء هناك.. لا أنت ولا غيرك.. وإذا حاولت أن تستوقفه لم يقف في مواجهتك إنما يقف إلى جوارك، وينظر إليك ببعض عينيه وبعض جسمه)..
لا شك أن سقراط كان رجلاً عظيماً في عرفنا الإنساني.. وأرسطوطاليس أيضاً كان عظيماً.. وكذلك نيوتن ونابليون وأينشتاين والعقاد وعبد الرحمن بدوي وشكسبير وجوته وغاندي ومانديلا.. كلهم كانوا عظماء، عاشوا ما عاشوا ثم رحلوا وتركوا أعمالهم شاهدة على عظمتهم في زمانهم ومكانهم، كما تركوا الأرض لعظماء غيرهم يأتون من بعدهم.. ولكن هل العظمة الإنسانية صفة خالدة كما خلود الجنة والنار أم أن هناك قول آخر.. وهل العظمة هي الخالدة أم الشهرة، بما أن العظمة هي نتاج عمل كبير إيجابي نادر والشهرة هي رائحة هذا العمل بعدما تولي أثاره.. وإذا كانت العظمة ليست خالدة فما هو المعيار الذي ظن به العظماء أنهم عظماء أو الذي حكمنا نحن به على اختلاف أزماننا وبنياتنا وحقبنا التاريخية إنهم عظماء خالدون بعظمتهم؟.. وإن كان ظن العظماء في أنفسهم حقاً فهل هذا تعليل كافٍ لتحلى من وصفوا بها بأخلاق العلو والتعالي والغرور والغطرسة والحط من قدر الآخرين؟؟..
على ما قد يبدو أن الواحد من هؤلاء يرسل ما لديه إلى الجمهور ثم أن الجمهور هم الذين يمجدون ثراه الذي يمشي عليه.. الجمهور هو الذي يصنع من العظماء عظماءً وهو الذي يدعوهم بشتى ألقاب الفخامة، ولربما كانوا يستحقون وربما لا.. ولكن في النهاية لا شيء في الوجود لا يموت إلا وجه الله.. فحتى العظمة تموت كما يموت العظماء ولا يبقى من آثارهم بعد ذلك إلا زوع الصيت والشهرة وما يدانون به من أعمالهم في قبورهم وعند الناس.. فإذا كان المفكر قد أنتج من الأفكار ما يوسم بالعظمة فإن ذلك ليس إلا بمقاييس عصره الذي هو فيه بكل خصائصه الزمانية والمكانية وأحوال المجتمع فيه.. فإن تعدى ذلك العصر إلى العصر الذي يليه فهل تستمر تلك الأفكار في عظمتها أم أنها تقبع رهينة محبسها زماناً ومكاناً ولا يتسرب منها إلا شهرتها.. وهل إذا أحيا الله العقاد في عامنا هذا الذي نحن فيه وفيه أيضاً أجيال ممن لم يعرفوا العقاد أو قرأوا له أو عنه، وعاد فكتب من جديد على نفس منوال ما كتب في زمانه ولم يزد على طريقته شيئاً من سمات عصرنا وزماننا ومشكلات حضارتنا، فهل ستتولد عظمته لدى أولئك الغافلون عنه وعن ذكره.. أي هل ستتحقق عندهم نفس شروط عظمته كما تحققت لدى من عاصروه في زمانه. ربما يرد على هذا السؤال من يقول بأن شكسبير وهو أسطورة الآداب الإنسانية مازال النقاد والمبدعون والمؤلفون يكتبون فيه وفي أعماله عشرات وربما مئات المقالات والدراسات كل يوم، مما يدل لديه أن شكسبير هو بئر لا تعطل وسماء لا تنقطع أمطارها وأن عظمة شكسبير لا تموت في دنيا الأدب والفن، والمثل مضروب على منوال ذلك للكثيرين شرقاً وغرباً.. ولعل الواقع في الأمر أن ليس شكسبير هو الذي يمدنا بالجديد وأنه مازال يضيف إلينا بما كتب أفكاراً إبداعية جديدة في كل يوم برغم كل القرون التي باعدت بين زماننا وزمانه وبرغم البون الشاسع الاختلاف بين طريقة حياته هو وطريقة حياة سلالته الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فليس هو وأمثاله من العظماء من يضيفون إلينا وإنما نحن الذين نسكب عليهم ما في أنفسنا ونحن الذين نضيف إليهم في سياق أفكارهم بردة فعلنا عليها.. وقد نرى في أفكارهم ما لم يروه هم أنفسهم فيها وما لا يتوقعون.. نحن الذين نجدد أنفسننا بالنظر في أفكارهم وليس هم من يجددون لنا أنفسنا.. فإن ما يحدث ما بين المؤلف والقارئ ناقداً كان أو متذوقاً إنما هو نوع من التفاعل الكلي بين هذا القارئ وبين كلمات المؤلف وقلمه الذي يكتب به الكلمات ويده الممسكة بالقلم والجسد الحامل لليد وعقله الكامن في الجسد ويرسم كل أحوال شخصيته وانفعالاته وقيمه وسلوكه وردود أفعاله نحو كل شيء حوله.. وعند هذا الحد فإن المؤلف لا يغيب عن أفكاره أبداً فهو النصف المتمم للكلمة والوجه الآخر للعملة..
لقد كتب الأستاذ العقاد أغلب مقالاته بموضوعية ومنطق.. ولكنه أيضاً ربما كتب بعضها من واقع استشعار ذاته عن ذاته بكونه فقط هو الأستاذ لا غير فلا يحتاج إلى دليل أو حجة بخلاف أنه الأستاذ وهو من يقول وهو من يكتب وهو من يحكم.. وكثيرون من هم كذلك، بل وربما كلنا كذلك إما على النحو العلني لدى البعض أو بالنحو المستتر لدى بعض آخر نعتد بعظمتنا وأفكارنا وآثارنا لدى الأخرين ولكن القليل من يحمدون الله بعد ذلك وكثيرون من ينسون أنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولا، وأنهم يوماً ما حتماً سيموتون وستموت عظمتهم ولن يبقى من ذلك إلا سيرة تسير بها الركبان إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ويظل الناس يسكبون ذواتهم عليها عبر عصورهم الجديدة .. والفرق كبير بين من أراد أن يؤدي رسالة حقيقية ومن يريد فقط أن يصنع نفسه لنفسه.. فليوقن هذا الأخير أن كل منبع ينضب إلا معين من لم ينطق عن الهوى بل بوحي رسالات ربه.
د. وائل احمد خليل الكردي
Wailahkhkordi@gmail.com
في مطالعة لكتاب أنيس منصور الشهير (في صالون العقاد كانت لنا أيام) عثرت على الفقرات التالية:
(عندما كنت محرراً في (أخبار اليوم) عاتبني الأستاذ لأنني رفضت نشر مقال كتبه الصديق عامر العقاد ابن أخ الأستاذ بمناسبة عيد ميلاده ... وكل الذي أدركته من غضب الأستاذ قوله: أن صحيفة التايمز البريطانية قد خصصت عدداً ممتازاً لأديبها ريتشي، مع أنه ليس إلا كاتباً متواضعاً)..
(وكثيراً ما أحس الأستاذ أن صمتنا هو عظيم الاحترام لكلامه.. وأنه إذا كان الفم الوحيد فقد كنا آذانه العشرين)..
(وهذه نظرية أخرى عند الأستاذ: أن هناك تشابهاً بين أفكار الناس وأشكالهم.. ولذلك فحديقة حيوان العقاد ليست نكتة، إنما هي نظرية حقيقية)..
(ولم يكن عبد الرحمن بدوي مثل لويس عوض هاشاً باشاً... وهو يمشي على عجل دائماً. مندفع لا ينظر إلى أحد. وإذا نظر إليك فنظرة تقتحمك أو تكتسحك، أي تذيبك تماماً ليكون على راحته، ينظر إلى لا شيء، لأنه لا شيء هناك.. لا أنت ولا غيرك.. وإذا حاولت أن تستوقفه لم يقف في مواجهتك إنما يقف إلى جوارك، وينظر إليك ببعض عينيه وبعض جسمه)..
لا شك أن سقراط كان رجلاً عظيماً في عرفنا الإنساني.. وأرسطوطاليس أيضاً كان عظيماً.. وكذلك نيوتن ونابليون وأينشتاين والعقاد وعبد الرحمن بدوي وشكسبير وجوته وغاندي ومانديلا.. كلهم كانوا عظماء، عاشوا ما عاشوا ثم رحلوا وتركوا أعمالهم شاهدة على عظمتهم في زمانهم ومكانهم، كما تركوا الأرض لعظماء غيرهم يأتون من بعدهم.. ولكن هل العظمة الإنسانية صفة خالدة كما خلود الجنة والنار أم أن هناك قول آخر.. وهل العظمة هي الخالدة أم الشهرة، بما أن العظمة هي نتاج عمل كبير إيجابي نادر والشهرة هي رائحة هذا العمل بعدما تولي أثاره.. وإذا كانت العظمة ليست خالدة فما هو المعيار الذي ظن به العظماء أنهم عظماء أو الذي حكمنا نحن به على اختلاف أزماننا وبنياتنا وحقبنا التاريخية إنهم عظماء خالدون بعظمتهم؟.. وإن كان ظن العظماء في أنفسهم حقاً فهل هذا تعليل كافٍ لتحلى من وصفوا بها بأخلاق العلو والتعالي والغرور والغطرسة والحط من قدر الآخرين؟؟..
على ما قد يبدو أن الواحد من هؤلاء يرسل ما لديه إلى الجمهور ثم أن الجمهور هم الذين يمجدون ثراه الذي يمشي عليه.. الجمهور هو الذي يصنع من العظماء عظماءً وهو الذي يدعوهم بشتى ألقاب الفخامة، ولربما كانوا يستحقون وربما لا.. ولكن في النهاية لا شيء في الوجود لا يموت إلا وجه الله.. فحتى العظمة تموت كما يموت العظماء ولا يبقى من آثارهم بعد ذلك إلا زوع الصيت والشهرة وما يدانون به من أعمالهم في قبورهم وعند الناس.. فإذا كان المفكر قد أنتج من الأفكار ما يوسم بالعظمة فإن ذلك ليس إلا بمقاييس عصره الذي هو فيه بكل خصائصه الزمانية والمكانية وأحوال المجتمع فيه.. فإن تعدى ذلك العصر إلى العصر الذي يليه فهل تستمر تلك الأفكار في عظمتها أم أنها تقبع رهينة محبسها زماناً ومكاناً ولا يتسرب منها إلا شهرتها.. وهل إذا أحيا الله العقاد في عامنا هذا الذي نحن فيه وفيه أيضاً أجيال ممن لم يعرفوا العقاد أو قرأوا له أو عنه، وعاد فكتب من جديد على نفس منوال ما كتب في زمانه ولم يزد على طريقته شيئاً من سمات عصرنا وزماننا ومشكلات حضارتنا، فهل ستتولد عظمته لدى أولئك الغافلون عنه وعن ذكره.. أي هل ستتحقق عندهم نفس شروط عظمته كما تحققت لدى من عاصروه في زمانه. ربما يرد على هذا السؤال من يقول بأن شكسبير وهو أسطورة الآداب الإنسانية مازال النقاد والمبدعون والمؤلفون يكتبون فيه وفي أعماله عشرات وربما مئات المقالات والدراسات كل يوم، مما يدل لديه أن شكسبير هو بئر لا تعطل وسماء لا تنقطع أمطارها وأن عظمة شكسبير لا تموت في دنيا الأدب والفن، والمثل مضروب على منوال ذلك للكثيرين شرقاً وغرباً.. ولعل الواقع في الأمر أن ليس شكسبير هو الذي يمدنا بالجديد وأنه مازال يضيف إلينا بما كتب أفكاراً إبداعية جديدة في كل يوم برغم كل القرون التي باعدت بين زماننا وزمانه وبرغم البون الشاسع الاختلاف بين طريقة حياته هو وطريقة حياة سلالته الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فليس هو وأمثاله من العظماء من يضيفون إلينا وإنما نحن الذين نسكب عليهم ما في أنفسنا ونحن الذين نضيف إليهم في سياق أفكارهم بردة فعلنا عليها.. وقد نرى في أفكارهم ما لم يروه هم أنفسهم فيها وما لا يتوقعون.. نحن الذين نجدد أنفسننا بالنظر في أفكارهم وليس هم من يجددون لنا أنفسنا.. فإن ما يحدث ما بين المؤلف والقارئ ناقداً كان أو متذوقاً إنما هو نوع من التفاعل الكلي بين هذا القارئ وبين كلمات المؤلف وقلمه الذي يكتب به الكلمات ويده الممسكة بالقلم والجسد الحامل لليد وعقله الكامن في الجسد ويرسم كل أحوال شخصيته وانفعالاته وقيمه وسلوكه وردود أفعاله نحو كل شيء حوله.. وعند هذا الحد فإن المؤلف لا يغيب عن أفكاره أبداً فهو النصف المتمم للكلمة والوجه الآخر للعملة..
لقد كتب الأستاذ العقاد أغلب مقالاته بموضوعية ومنطق.. ولكنه أيضاً ربما كتب بعضها من واقع استشعار ذاته عن ذاته بكونه فقط هو الأستاذ لا غير فلا يحتاج إلى دليل أو حجة بخلاف أنه الأستاذ وهو من يقول وهو من يكتب وهو من يحكم.. وكثيرون من هم كذلك، بل وربما كلنا كذلك إما على النحو العلني لدى البعض أو بالنحو المستتر لدى بعض آخر نعتد بعظمتنا وأفكارنا وآثارنا لدى الأخرين ولكن القليل من يحمدون الله بعد ذلك وكثيرون من ينسون أنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولا، وأنهم يوماً ما حتماً سيموتون وستموت عظمتهم ولن يبقى من ذلك إلا سيرة تسير بها الركبان إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ويظل الناس يسكبون ذواتهم عليها عبر عصورهم الجديدة .. والفرق كبير بين من أراد أن يؤدي رسالة حقيقية ومن يريد فقط أن يصنع نفسه لنفسه.. فليوقن هذا الأخير أن كل منبع ينضب إلا معين من لم ينطق عن الهوى بل بوحي رسالات ربه.
الاغتراب
الاغتراب ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
أنه على ما أنشد الشاعر:
ليس الغريب غريب الشام واليمن .. إن الغريب غريب اللحد والكفن
سفري بعيد وزادي لن يبلغني .. وقوتي ضعفت والموت يطلبني
وأنه عندما انشد منشد البرهانية (وكل نور لنا من نوره قبس..) ارتمى في احضان الطريقة عتاة من جانحي ألمانيا لما سئموا عيش الخطيئة وشغفوا بروحانيات لم يعهدوها، هو اغترب قديم رجعوا منه إلى اغتراب جديد..
ليس الاغتراب أن تهجر بلداً إلى بلد آخر ،وإنما الاغتراب هو أن ترحل بعيداً عن حقيقة ما تراه في نفسك من كيان ووجود وهموم ومطامح ورسالة في الحياة .. وإلا فلماذا كتب (البير كامي) أشهر كتبه (اسطورة سيزيف)؟ ولماذا كان جل قصده فيه أن يحاول الوصول إلى تعليل كافٍ للسؤال: لماذا يقدم الانسان على الانتحار ووضع حد لحياته بإرادته؟.. لقد تحدث (سارتر) و(كامي) و(ياسبرز) بشكل أساسي عن أن ازمة الإنسان تكمن في اغترابه عن ذاته وعين وجوده، فلديهم قد اغترب الفرد عن نفسه بفقد تميزه اللامعقول عن غيره من سائر الناس، وأنه فقد ذلك بإغراقه في المعقولات والمنطق والعلوم والنظم والقواعد، ويغترب مرة أخرى عندما ينصهر في المجتمع ووسط كل هؤلاء البشر فتضيع ذاته وارادته دائماً خلف ذوات أقوام يسيرون أمامه على الطريق، والطريق ضيق ولا يملك سبيلاً إلى التجاوز فيخضع مضطراً للسقوط في ثرثرة الحياة اليومية لأولئك على حد قول فيلسوف الوجودية الألماني (مارتن هايدجر) ..لقد اعتاد الفلاسفة الوجوديون خلق مشكلة من لا مشكلة.. فإن النظم والقواعد والمنطق قد حمت الإنسان من اهوال الحياة مراراً وأراحته من مشاق كثيرة وعنت كبير، وحياته بين الناس جعلت لقوله وفعله معنى وقيمة وإحساس بالوجود والحياة..
وفي زمان قريب تحدث (كارل ماركس) كثيراً عن نظرية (فائض القيمة) وقال أنها هي حقيقة اغتراب الإنسان عن نفسه، فما الإنسان لديه إلا عمل أو مجموعة أعمال فهو (عامل)، فإن فقد حق عمله فقد معه ذاته وكيانه.. ولذلك عندما باع العامل للرأسمالي مجهوده بعقد ثابت القيمة من حيث الأجر، ولما تطورت الآلة التي عمل عليها العامل حتى صارت تنتج أضعاف ما كانت تنتجه وقت أن بدأ عمله عليها، زاد الانتاج وزاد معه المال الداخل إلى رصيد الرأسمالي وبقيت قيمة عمل العامل محلها وبقي أجره لا يتغير، فكان هذا هو عين الاغتراب.. ولكن الإنسان ليس مجرد مجهود وأعمال وإنتاج، الإنسان بجوار ذلك هو فكر وإبداع ودفق غزير من المشاعر والانفعالات وجدال مع كل شيء وكثير من المتناقضات وحلم لا ينتهي..
ومنا من صار اغترابه بأنه رافض للانتماء لمجتمع هو موطن ولد فيه، ولكنه لا يرضى بأن يموت فيه، وطن ليس بوطن.. فتسوقه نفسه لأن يخلق في داخل مجتمعه ذاك مجتمعاً جديداً يمسك هو بخطامه ويقود ناصيته شاء مجتمعه الأم أم لم يشأ، تماماً كما فعل (دون كيشوت) في خالدة (سيرفانتس)، فقد حلم بعهد الفرسان المتجولين من حملة القيم العليا والأخلاق السامية يغثون كل ملهوف مأزوم من دون منٍ ولا أذى ولا انتظار أجر أو ثناء.. لقد أغرق (دون كيشوت) نفسه في عالمه الجديد بين صفحات مئات الكتب التي تتحدث عن هؤلاء الفرسان وأعمالهم المأثورة، وخرج من الصفحات ليخلق ويحقق في الواقع عالم الفارس الجوال من جديد في مجتمع أفلت فيه عزائم الفرسان، حتى لو اضطره ذلك إلى اصطناع العدو أمامه اصطناعاً من أي شيء ليكون هناك ما ينفذ فيه سيف فروسيته، فأمست الطواحين بليل أمام عينيه مردة عماليق وحتى لما أطاحت به لم يصدق بعد أنها محض طواحين يدورها الهواء ولا شيء وراء ذلك.. كل ذلك حدث لأنه لم يفهم حكمة الله في أن أوجده في مجتمعه الذي هو فيه فراح يتوهم اغتراباً زائفاً، ولو أنه فهم الحكمة لكان حمد الله كثيراً أن كان منشأه في هذا الوطن هنا وليس، في أي مكان آخر..
وصورة أخرى للاغتراب هي الاغتراب الديني، يعيشه بعضا غير قليل من الشباب كتيار بحر جارف.. فإما أنهم – بتعبير الكاتب (عبد القادر دقاش) – (حملوا حقائبهم ورحلوا بعيداً عن الدين) فكان هو الإلحاد، وإما أنهم تركوا رحالهم واغرقوا أنفسهم فيما ظنوا أنه حق في الدين بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير فكان هو (التطرف) الذي أنجب الارهاب، فمن حملوا حقائبهم ورحلوا رأوا في الدين أنه وهم وأن الانتماء إليه اغتراب، وأما الذين غرقوا في بحر الظلمات فقد رأوا اغترابهم في تدين الناس والعامة وأن الاعتدال بالوسط هو ميع في الدين وارتخاء في التعبد وزيغ عن الحق الصارم فزادوا عليه شدة وصلفاً فأوردهم المهالك ما زادوه كما أورد الراحلون عن الدين سواء بسواء.. ولو أن كلاً من الفريقين رأى برهان ربه لعادوا كما عاد الدكتور (مصطفى محمود) رحمه الله في رحلته من الشك إلى اليقين فكان بتدينه وعلمه وإنسانيته رجلاً رضي به أهل الأرض ممن عرفوه واستفادوا منه.. إن الاغتراب هو إحساس وشعور يتملك نفس ابن آدم من داخلها دون سلطة أو إرادة من العقل، فربما جاء الشعور بالاغتراب من فعل تربية الأبوين لأبنائهم أو من خلل في سياسة المجتمع بما فيها من هضم للحقوق وضياع للأمانات.. وقد يجيء الاغتراب بفقدان القدرة والمثل الأعلى والمرشد الأمين.. تعددت الأسباب ويظل الاغتراب في النفس قائماً.. فما علينا من قهر الأسباب إن اعجزتنا وإنما علينا برعاية النفوس وتطييب القلوب وجبر كسور الأنفس ودفعاً بالتي هي أحسن ثم تغذية العقول من ثم ببراهين الله الساطعة.. فلربما عاد التاركون إلى رحالهم يوماً، ولربما عاد الراحلون مع حقائبهم..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
أنه على ما أنشد الشاعر:
ليس الغريب غريب الشام واليمن .. إن الغريب غريب اللحد والكفن
سفري بعيد وزادي لن يبلغني .. وقوتي ضعفت والموت يطلبني
وأنه عندما انشد منشد البرهانية (وكل نور لنا من نوره قبس..) ارتمى في احضان الطريقة عتاة من جانحي ألمانيا لما سئموا عيش الخطيئة وشغفوا بروحانيات لم يعهدوها، هو اغترب قديم رجعوا منه إلى اغتراب جديد..
ليس الاغتراب أن تهجر بلداً إلى بلد آخر ،وإنما الاغتراب هو أن ترحل بعيداً عن حقيقة ما تراه في نفسك من كيان ووجود وهموم ومطامح ورسالة في الحياة .. وإلا فلماذا كتب (البير كامي) أشهر كتبه (اسطورة سيزيف)؟ ولماذا كان جل قصده فيه أن يحاول الوصول إلى تعليل كافٍ للسؤال: لماذا يقدم الانسان على الانتحار ووضع حد لحياته بإرادته؟.. لقد تحدث (سارتر) و(كامي) و(ياسبرز) بشكل أساسي عن أن ازمة الإنسان تكمن في اغترابه عن ذاته وعين وجوده، فلديهم قد اغترب الفرد عن نفسه بفقد تميزه اللامعقول عن غيره من سائر الناس، وأنه فقد ذلك بإغراقه في المعقولات والمنطق والعلوم والنظم والقواعد، ويغترب مرة أخرى عندما ينصهر في المجتمع ووسط كل هؤلاء البشر فتضيع ذاته وارادته دائماً خلف ذوات أقوام يسيرون أمامه على الطريق، والطريق ضيق ولا يملك سبيلاً إلى التجاوز فيخضع مضطراً للسقوط في ثرثرة الحياة اليومية لأولئك على حد قول فيلسوف الوجودية الألماني (مارتن هايدجر) ..لقد اعتاد الفلاسفة الوجوديون خلق مشكلة من لا مشكلة.. فإن النظم والقواعد والمنطق قد حمت الإنسان من اهوال الحياة مراراً وأراحته من مشاق كثيرة وعنت كبير، وحياته بين الناس جعلت لقوله وفعله معنى وقيمة وإحساس بالوجود والحياة..
وفي زمان قريب تحدث (كارل ماركس) كثيراً عن نظرية (فائض القيمة) وقال أنها هي حقيقة اغتراب الإنسان عن نفسه، فما الإنسان لديه إلا عمل أو مجموعة أعمال فهو (عامل)، فإن فقد حق عمله فقد معه ذاته وكيانه.. ولذلك عندما باع العامل للرأسمالي مجهوده بعقد ثابت القيمة من حيث الأجر، ولما تطورت الآلة التي عمل عليها العامل حتى صارت تنتج أضعاف ما كانت تنتجه وقت أن بدأ عمله عليها، زاد الانتاج وزاد معه المال الداخل إلى رصيد الرأسمالي وبقيت قيمة عمل العامل محلها وبقي أجره لا يتغير، فكان هذا هو عين الاغتراب.. ولكن الإنسان ليس مجرد مجهود وأعمال وإنتاج، الإنسان بجوار ذلك هو فكر وإبداع ودفق غزير من المشاعر والانفعالات وجدال مع كل شيء وكثير من المتناقضات وحلم لا ينتهي..
ومنا من صار اغترابه بأنه رافض للانتماء لمجتمع هو موطن ولد فيه، ولكنه لا يرضى بأن يموت فيه، وطن ليس بوطن.. فتسوقه نفسه لأن يخلق في داخل مجتمعه ذاك مجتمعاً جديداً يمسك هو بخطامه ويقود ناصيته شاء مجتمعه الأم أم لم يشأ، تماماً كما فعل (دون كيشوت) في خالدة (سيرفانتس)، فقد حلم بعهد الفرسان المتجولين من حملة القيم العليا والأخلاق السامية يغثون كل ملهوف مأزوم من دون منٍ ولا أذى ولا انتظار أجر أو ثناء.. لقد أغرق (دون كيشوت) نفسه في عالمه الجديد بين صفحات مئات الكتب التي تتحدث عن هؤلاء الفرسان وأعمالهم المأثورة، وخرج من الصفحات ليخلق ويحقق في الواقع عالم الفارس الجوال من جديد في مجتمع أفلت فيه عزائم الفرسان، حتى لو اضطره ذلك إلى اصطناع العدو أمامه اصطناعاً من أي شيء ليكون هناك ما ينفذ فيه سيف فروسيته، فأمست الطواحين بليل أمام عينيه مردة عماليق وحتى لما أطاحت به لم يصدق بعد أنها محض طواحين يدورها الهواء ولا شيء وراء ذلك.. كل ذلك حدث لأنه لم يفهم حكمة الله في أن أوجده في مجتمعه الذي هو فيه فراح يتوهم اغتراباً زائفاً، ولو أنه فهم الحكمة لكان حمد الله كثيراً أن كان منشأه في هذا الوطن هنا وليس، في أي مكان آخر..
وصورة أخرى للاغتراب هي الاغتراب الديني، يعيشه بعضا غير قليل من الشباب كتيار بحر جارف.. فإما أنهم – بتعبير الكاتب (عبد القادر دقاش) – (حملوا حقائبهم ورحلوا بعيداً عن الدين) فكان هو الإلحاد، وإما أنهم تركوا رحالهم واغرقوا أنفسهم فيما ظنوا أنه حق في الدين بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير فكان هو (التطرف) الذي أنجب الارهاب، فمن حملوا حقائبهم ورحلوا رأوا في الدين أنه وهم وأن الانتماء إليه اغتراب، وأما الذين غرقوا في بحر الظلمات فقد رأوا اغترابهم في تدين الناس والعامة وأن الاعتدال بالوسط هو ميع في الدين وارتخاء في التعبد وزيغ عن الحق الصارم فزادوا عليه شدة وصلفاً فأوردهم المهالك ما زادوه كما أورد الراحلون عن الدين سواء بسواء.. ولو أن كلاً من الفريقين رأى برهان ربه لعادوا كما عاد الدكتور (مصطفى محمود) رحمه الله في رحلته من الشك إلى اليقين فكان بتدينه وعلمه وإنسانيته رجلاً رضي به أهل الأرض ممن عرفوه واستفادوا منه.. إن الاغتراب هو إحساس وشعور يتملك نفس ابن آدم من داخلها دون سلطة أو إرادة من العقل، فربما جاء الشعور بالاغتراب من فعل تربية الأبوين لأبنائهم أو من خلل في سياسة المجتمع بما فيها من هضم للحقوق وضياع للأمانات.. وقد يجيء الاغتراب بفقدان القدرة والمثل الأعلى والمرشد الأمين.. تعددت الأسباب ويظل الاغتراب في النفس قائماً.. فما علينا من قهر الأسباب إن اعجزتنا وإنما علينا برعاية النفوس وتطييب القلوب وجبر كسور الأنفس ودفعاً بالتي هي أحسن ثم تغذية العقول من ثم ببراهين الله الساطعة.. فلربما عاد التاركون إلى رحالهم يوماً، ولربما عاد الراحلون مع حقائبهم..
محاكم التفتيش
(صحيفة اليوم التالي)
محاكم التفتيش..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
(وكان هناك وفد صغير من قريته ... وآخرون قد ران على وجوههم الأسى والدهشة وهم يرون راهبهم تأكله النيران. وبقي في قلبه حتى تلك اللحظة الرهيبة إيمان ملح بأنه لم يأثم في نظر القديس (فرانسيس) على الأقل، فردد اسمه مرتين إذ لم يكن يجرؤ أن يذكر أسماءً أكبر خشية أن يكون قد أثم حقاً. ثم اتكأ مبتسماً على ألسنة اللهب وأسلم الروح)..
في ذلك اليوم من عهد قريب من القرون الوسطى كان قضاة محكمة التفتيش يتهللون بشراً وسروراً ويضحكون ولا تسعهم أنفسهم من السعادة والانتشاء عندما تصاعدت إلى أنوفهم رائحة شواء اللحم الحي وغطى قرع الأجراس على مسامعهم كل صرخة ألم واستجداء أخير.. هو عيد من الأعياد أن أصدر القضاة حكمهم على الراهب (جونيبر) بالحرق حياً على الصليب في رواية (جسر سان لويس ري) بسبب كتابه الذي أخلص فيها البحث للرب عن قانون الرب في الأقدار والحياة والموت، ولكنه كان عند قضاة محاكم التفتيش هرطقة وقياس بالعقل هو مرفوض عند الكهنوت ولأن آيات الرب المقدسة لا يجب أن يمسها العقل بتأويل أو تفسير بل هي محض تفويض وحظوة خاصة لمن يملكون السر والمرتبة العليا من الرهبان، أما من دونهم فلهم التسليم وحسب..
وعاد بنا الزمان وجدد التاريخ نفسه.. ولكن لم تعد محاكم التفتيش محارق ومسالخ بشرية وخوازيق تهتك بطون المغضوب عليهم، وإنما أصبح في زماننا نوع جديد من صدأ القلوب وقسوتها جعلت من تولى مسؤولية على الناس ينصب محاكمه ويأكل أموال ايتامهم ومساكينهم بالباطل حتى ليكاد يأكل لحومهم أحياء ويتلف الأخضر ويبيع حتى الهواء.. تلك هي إنسانية الإنسان في الماضي والحاضر لمن ينادون بها، فكما أن فيها الكرم والإيثار والإخاء فكذلك فيها القسوة بما لا تضاهيه قسوة الأحجار، فالأحجار أحياناً تكون أكثر خشوعاً وليناً من قلوب أبناء آدم..
الكل يعلم أن لدى شعوب الجبلة السمراء قوة وطاقة لا مثيل لها لدى من جاءوا من الأراضي الجديدة إلى أفريقيا غزاة في زمان الثورة الصناعية ليأخذوا منها رقيقاً قهراً يعمل الرجل الواحد منهم عمل رجال كثر ولا يبالي بنصب وعذاب.. وفي الحرب العالمية الثانية اتخذ البريطانيون جنداً كثيفاً من أبناء السمر لشدة بأسهم في القتال.. وبعد الحرب خرجت أوروبا كرجل بلغ أرذل العمر بعد أن ماتت أغلب الأيدي الشابة لديهم فصارت محاكم التفتيش بعد أن كانت في الماضي تفتيشاً عن العقيدة في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين أصبحت الآن تفتيشاً عن الثروة في عقولهم وأجسادهم ففتحت أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وبلاد اسكندنافيا الباب واسعاً للمهاجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا. وبطبيعة الحال كان لابد للتشجيع على الهجرة من إيجاد السبب الكافي لها بشدة المغريات والمنح هناك في الغرب، ولكي تظهر هذه الشدة بما يوازيها شدة في الطلب عليها كان أيضاً لابد من ظهور ضعف الحافز في بقاء الذين هاجروا في بلدانهم حتى صارت الهجرة حلماً وهدفاً.. وصدق (مارون عبود) حين قال (فالبيت بسكانه، والبلاد برجالها، والدر لو كان مطروحاً في المزابل ما من يعرف قدره فما فائدته؟ والأرض لو كانت كلها معادن ذهبية، وسكانها يجهلون استثمارها فماذا تفيد؟).. ومما دعا للأسف الشديد أن ضعف الحافز هذا للبقاء كانت أسبابه بيدنا لا بيد عمرو.. ففي مجتمعاتنا الطيبة دائماً ما كنا نستغرب أن يأتي علينا إنسان راشد مكلف بأعناق الناس فيبلغ فساده وحرامه عنان السماء إلا أن نقول (أمعقول أنه يفعل هكذا بشعبه؟).. ونحاول دائماً أن نكذب على أنفسنا ونغطي ضمائرنا ونبطل ظنوننا المزعجة حتى نطمئن ونهنأ ولا نأسى.. وهكذا الحال يجري عندما يخرج علينا الثعلب في ثياب الواعظين فيكثر من الاعتذار للناس والتباكي أمامهم بكل أسف ثم لا يملك إلا أن يجدد الوعود، ويكذب.. إما لأنه يود لو يغمد في ظهورهم خنجره المسموم في غفلتهم بتلك الوعود فيسلب ما بقي لديهم، وإما أنه عاجز مشلول ولكنه متكالب على متاع الدنيا متثاقل بها إلى الأرض مشدود إلى كرسيه بعجزه فلا يتيح مكاناً للقادرين.. وكل ذلك لأن شعوبنا من أبناء الجبلة السمراء قد ألفوا العزف على أوتار المشاعر واستجداء العواطف فانساقوا وراء كل راوٍ وشاعرٍ وساحر ويجرفهم الضعف أمام أنفسهم وأمام من يهابونهم حتى وجد الثور الأسود فيهم أماناً للأسد الجائع فأكله بعدما أكل أخاه الثور الأبيض.. ولهذا بحثنا عن المخارج السهلة من السفينة المثقوبة برمتها دون أن نحاول سد ثقوبها فننجو جميعاً بإذن الله..
وهكذا قد بتنا الآن في زمان الشكوك والتوجس والحذر، فلم يعد يأمن رفيق رفيقه ولم يعد يسلم أخ مفتاح خبئه لأخيه.. كل هذا لأننا لم نعلم متى تنصب لنا محاكم التفتيش من جديد.. ولكن حتى ذاك الحين وإلى أن نعلم علينا بجلد الذات بلا هوادة بما كسبت أيدينا وأيدي الناس فينا.
محاكم التفتيش..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
(وكان هناك وفد صغير من قريته ... وآخرون قد ران على وجوههم الأسى والدهشة وهم يرون راهبهم تأكله النيران. وبقي في قلبه حتى تلك اللحظة الرهيبة إيمان ملح بأنه لم يأثم في نظر القديس (فرانسيس) على الأقل، فردد اسمه مرتين إذ لم يكن يجرؤ أن يذكر أسماءً أكبر خشية أن يكون قد أثم حقاً. ثم اتكأ مبتسماً على ألسنة اللهب وأسلم الروح)..
في ذلك اليوم من عهد قريب من القرون الوسطى كان قضاة محكمة التفتيش يتهللون بشراً وسروراً ويضحكون ولا تسعهم أنفسهم من السعادة والانتشاء عندما تصاعدت إلى أنوفهم رائحة شواء اللحم الحي وغطى قرع الأجراس على مسامعهم كل صرخة ألم واستجداء أخير.. هو عيد من الأعياد أن أصدر القضاة حكمهم على الراهب (جونيبر) بالحرق حياً على الصليب في رواية (جسر سان لويس ري) بسبب كتابه الذي أخلص فيها البحث للرب عن قانون الرب في الأقدار والحياة والموت، ولكنه كان عند قضاة محاكم التفتيش هرطقة وقياس بالعقل هو مرفوض عند الكهنوت ولأن آيات الرب المقدسة لا يجب أن يمسها العقل بتأويل أو تفسير بل هي محض تفويض وحظوة خاصة لمن يملكون السر والمرتبة العليا من الرهبان، أما من دونهم فلهم التسليم وحسب..
وعاد بنا الزمان وجدد التاريخ نفسه.. ولكن لم تعد محاكم التفتيش محارق ومسالخ بشرية وخوازيق تهتك بطون المغضوب عليهم، وإنما أصبح في زماننا نوع جديد من صدأ القلوب وقسوتها جعلت من تولى مسؤولية على الناس ينصب محاكمه ويأكل أموال ايتامهم ومساكينهم بالباطل حتى ليكاد يأكل لحومهم أحياء ويتلف الأخضر ويبيع حتى الهواء.. تلك هي إنسانية الإنسان في الماضي والحاضر لمن ينادون بها، فكما أن فيها الكرم والإيثار والإخاء فكذلك فيها القسوة بما لا تضاهيه قسوة الأحجار، فالأحجار أحياناً تكون أكثر خشوعاً وليناً من قلوب أبناء آدم..
الكل يعلم أن لدى شعوب الجبلة السمراء قوة وطاقة لا مثيل لها لدى من جاءوا من الأراضي الجديدة إلى أفريقيا غزاة في زمان الثورة الصناعية ليأخذوا منها رقيقاً قهراً يعمل الرجل الواحد منهم عمل رجال كثر ولا يبالي بنصب وعذاب.. وفي الحرب العالمية الثانية اتخذ البريطانيون جنداً كثيفاً من أبناء السمر لشدة بأسهم في القتال.. وبعد الحرب خرجت أوروبا كرجل بلغ أرذل العمر بعد أن ماتت أغلب الأيدي الشابة لديهم فصارت محاكم التفتيش بعد أن كانت في الماضي تفتيشاً عن العقيدة في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين أصبحت الآن تفتيشاً عن الثروة في عقولهم وأجسادهم ففتحت أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وبلاد اسكندنافيا الباب واسعاً للمهاجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا. وبطبيعة الحال كان لابد للتشجيع على الهجرة من إيجاد السبب الكافي لها بشدة المغريات والمنح هناك في الغرب، ولكي تظهر هذه الشدة بما يوازيها شدة في الطلب عليها كان أيضاً لابد من ظهور ضعف الحافز في بقاء الذين هاجروا في بلدانهم حتى صارت الهجرة حلماً وهدفاً.. وصدق (مارون عبود) حين قال (فالبيت بسكانه، والبلاد برجالها، والدر لو كان مطروحاً في المزابل ما من يعرف قدره فما فائدته؟ والأرض لو كانت كلها معادن ذهبية، وسكانها يجهلون استثمارها فماذا تفيد؟).. ومما دعا للأسف الشديد أن ضعف الحافز هذا للبقاء كانت أسبابه بيدنا لا بيد عمرو.. ففي مجتمعاتنا الطيبة دائماً ما كنا نستغرب أن يأتي علينا إنسان راشد مكلف بأعناق الناس فيبلغ فساده وحرامه عنان السماء إلا أن نقول (أمعقول أنه يفعل هكذا بشعبه؟).. ونحاول دائماً أن نكذب على أنفسنا ونغطي ضمائرنا ونبطل ظنوننا المزعجة حتى نطمئن ونهنأ ولا نأسى.. وهكذا الحال يجري عندما يخرج علينا الثعلب في ثياب الواعظين فيكثر من الاعتذار للناس والتباكي أمامهم بكل أسف ثم لا يملك إلا أن يجدد الوعود، ويكذب.. إما لأنه يود لو يغمد في ظهورهم خنجره المسموم في غفلتهم بتلك الوعود فيسلب ما بقي لديهم، وإما أنه عاجز مشلول ولكنه متكالب على متاع الدنيا متثاقل بها إلى الأرض مشدود إلى كرسيه بعجزه فلا يتيح مكاناً للقادرين.. وكل ذلك لأن شعوبنا من أبناء الجبلة السمراء قد ألفوا العزف على أوتار المشاعر واستجداء العواطف فانساقوا وراء كل راوٍ وشاعرٍ وساحر ويجرفهم الضعف أمام أنفسهم وأمام من يهابونهم حتى وجد الثور الأسود فيهم أماناً للأسد الجائع فأكله بعدما أكل أخاه الثور الأبيض.. ولهذا بحثنا عن المخارج السهلة من السفينة المثقوبة برمتها دون أن نحاول سد ثقوبها فننجو جميعاً بإذن الله..
وهكذا قد بتنا الآن في زمان الشكوك والتوجس والحذر، فلم يعد يأمن رفيق رفيقه ولم يعد يسلم أخ مفتاح خبئه لأخيه.. كل هذا لأننا لم نعلم متى تنصب لنا محاكم التفتيش من جديد.. ولكن حتى ذاك الحين وإلى أن نعلم علينا بجلد الذات بلا هوادة بما كسبت أيدينا وأيدي الناس فينا.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)