الخميس، 9 مايو 2019

العظماء أيضا يموتون

العظماء أيضاً يموتون ..

د. وائل احمد خليل الكردي   
Wailahkhkordi@gmail.com                                           
في مطالعة لكتاب أنيس منصور الشهير (في صالون العقاد كانت لنا أيام) عثرت على الفقرات التالية:
(عندما كنت محرراً في (أخبار اليوم) عاتبني الأستاذ لأنني رفضت نشر مقال كتبه الصديق عامر العقاد ابن أخ الأستاذ بمناسبة عيد ميلاده ... وكل الذي أدركته من غضب الأستاذ قوله: أن صحيفة التايمز البريطانية قد خصصت عدداً ممتازاً لأديبها ريتشي، مع أنه ليس إلا كاتباً متواضعاً)..
(وكثيراً ما أحس الأستاذ أن صمتنا هو عظيم الاحترام لكلامه.. وأنه إذا كان الفم الوحيد فقد كنا آذانه العشرين)..
(وهذه نظرية أخرى عند الأستاذ: أن هناك تشابهاً بين أفكار الناس وأشكالهم.. ولذلك فحديقة حيوان العقاد ليست نكتة، إنما هي نظرية حقيقية)..
(ولم يكن عبد الرحمن بدوي مثل لويس عوض هاشاً باشاً... وهو يمشي على عجل دائماً. مندفع لا ينظر إلى أحد. وإذا نظر إليك فنظرة تقتحمك أو تكتسحك، أي تذيبك تماماً ليكون على راحته، ينظر إلى لا شيء، لأنه لا شيء هناك.. لا أنت ولا غيرك.. وإذا حاولت أن تستوقفه لم يقف في مواجهتك إنما يقف إلى جوارك، وينظر إليك ببعض عينيه وبعض جسمه)..
لا شك أن سقراط كان رجلاً عظيماً في عرفنا الإنساني.. وأرسطوطاليس أيضاً كان عظيماً.. وكذلك نيوتن ونابليون وأينشتاين والعقاد وعبد الرحمن بدوي وشكسبير وجوته وغاندي ومانديلا.. كلهم كانوا عظماء، عاشوا ما عاشوا ثم رحلوا وتركوا أعمالهم شاهدة على عظمتهم في زمانهم ومكانهم، كما تركوا الأرض لعظماء غيرهم يأتون من بعدهم.. ولكن هل العظمة الإنسانية صفة خالدة كما خلود الجنة والنار أم أن هناك قول آخر.. وهل العظمة هي الخالدة أم الشهرة، بما أن العظمة هي نتاج عمل كبير إيجابي نادر والشهرة هي رائحة هذا العمل بعدما تولي أثاره.. وإذا كانت العظمة ليست خالدة فما هو المعيار الذي ظن به العظماء أنهم عظماء أو الذي حكمنا نحن به على اختلاف أزماننا وبنياتنا وحقبنا التاريخية إنهم عظماء خالدون بعظمتهم؟.. وإن كان ظن العظماء في أنفسهم حقاً فهل هذا تعليل كافٍ لتحلى من وصفوا بها بأخلاق العلو والتعالي والغرور والغطرسة والحط من قدر الآخرين؟؟..
على ما قد يبدو أن الواحد من هؤلاء يرسل ما لديه إلى الجمهور ثم أن الجمهور هم الذين يمجدون ثراه الذي يمشي عليه.. الجمهور هو الذي يصنع من العظماء عظماءً وهو الذي يدعوهم بشتى ألقاب الفخامة، ولربما كانوا يستحقون وربما لا.. ولكن في النهاية لا شيء في الوجود لا يموت إلا وجه الله.. فحتى العظمة تموت كما يموت العظماء ولا يبقى من آثارهم بعد ذلك إلا زوع الصيت والشهرة وما يدانون به من أعمالهم في قبورهم وعند الناس.. فإذا كان المفكر قد أنتج من الأفكار ما يوسم بالعظمة فإن ذلك ليس إلا بمقاييس عصره الذي هو فيه بكل خصائصه الزمانية والمكانية وأحوال المجتمع فيه.. فإن تعدى ذلك العصر إلى العصر الذي يليه فهل تستمر تلك الأفكار في عظمتها أم أنها تقبع رهينة محبسها زماناً ومكاناً ولا يتسرب منها إلا شهرتها.. وهل إذا أحيا الله العقاد في عامنا هذا الذي نحن فيه وفيه أيضاً أجيال ممن لم يعرفوا العقاد أو قرأوا له أو عنه، وعاد فكتب من جديد على نفس منوال ما كتب في زمانه ولم يزد على طريقته شيئاً من سمات عصرنا وزماننا ومشكلات حضارتنا، فهل ستتولد عظمته لدى أولئك الغافلون عنه وعن ذكره.. أي هل ستتحقق عندهم نفس شروط عظمته كما تحققت لدى من عاصروه في زمانه. ربما يرد على هذا السؤال من يقول بأن شكسبير وهو أسطورة الآداب الإنسانية مازال النقاد والمبدعون والمؤلفون يكتبون فيه وفي أعماله عشرات وربما مئات المقالات والدراسات كل يوم، مما يدل لديه أن شكسبير هو بئر لا تعطل وسماء لا تنقطع أمطارها وأن عظمة شكسبير لا تموت في دنيا الأدب والفن، والمثل مضروب على منوال ذلك للكثيرين شرقاً وغرباً.. ولعل الواقع في الأمر أن ليس شكسبير هو الذي يمدنا بالجديد وأنه مازال يضيف إلينا بما كتب أفكاراً إبداعية جديدة في كل يوم برغم كل القرون التي باعدت بين زماننا وزمانه وبرغم البون الشاسع الاختلاف بين طريقة حياته هو وطريقة حياة سلالته الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فليس هو وأمثاله من العظماء من يضيفون إلينا وإنما نحن الذين نسكب عليهم ما في أنفسنا ونحن الذين نضيف إليهم في سياق أفكارهم بردة فعلنا عليها.. وقد نرى في أفكارهم ما لم يروه هم أنفسهم فيها وما لا يتوقعون.. نحن الذين نجدد أنفسننا بالنظر في أفكارهم وليس هم من يجددون لنا أنفسنا.. فإن ما يحدث ما بين المؤلف والقارئ ناقداً كان أو متذوقاً إنما هو نوع من التفاعل الكلي بين هذا القارئ وبين كلمات المؤلف وقلمه الذي يكتب به الكلمات ويده الممسكة بالقلم والجسد الحامل لليد وعقله الكامن في الجسد ويرسم كل أحوال شخصيته وانفعالاته وقيمه وسلوكه وردود أفعاله نحو كل شيء حوله.. وعند هذا الحد فإن المؤلف لا يغيب عن أفكاره أبداً فهو النصف المتمم للكلمة والوجه الآخر للعملة..
لقد كتب الأستاذ العقاد أغلب مقالاته بموضوعية ومنطق.. ولكنه أيضاً ربما كتب بعضها من واقع استشعار ذاته عن ذاته بكونه فقط هو الأستاذ لا غير فلا يحتاج إلى دليل أو حجة بخلاف أنه الأستاذ وهو من يقول وهو من يكتب وهو من يحكم.. وكثيرون من هم كذلك، بل وربما كلنا كذلك إما على النحو العلني لدى البعض أو بالنحو المستتر لدى بعض آخر نعتد بعظمتنا وأفكارنا وآثارنا لدى الأخرين ولكن القليل من يحمدون الله بعد ذلك وكثيرون من ينسون أنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولا، وأنهم يوماً ما حتماً سيموتون وستموت عظمتهم ولن يبقى من ذلك إلا سيرة تسير بها الركبان إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ويظل الناس يسكبون ذواتهم عليها عبر عصورهم الجديدة .. والفرق كبير بين من أراد أن يؤدي رسالة حقيقية ومن يريد فقط أن يصنع نفسه لنفسه.. فليوقن هذا الأخير أن كل منبع ينضب إلا معين من لم ينطق عن الهوى بل بوحي رسالات ربه.

الاغتراب

الاغتراب ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
أنه على ما أنشد الشاعر:
ليس الغريب غريب الشام واليمن .. إن الغريب غريب اللحد والكفن
سفري بعيد وزادي لن يبلغني .. وقوتي ضعفت والموت يطلبني
وأنه عندما انشد منشد البرهانية (وكل نور لنا من نوره قبس..) ارتمى في احضان الطريقة عتاة من جانحي ألمانيا لما سئموا عيش الخطيئة وشغفوا بروحانيات لم يعهدوها، هو اغترب قديم رجعوا منه إلى اغتراب جديد..
ليس الاغتراب أن تهجر بلداً إلى بلد آخر ،وإنما الاغتراب هو أن ترحل بعيداً عن حقيقة ما تراه في نفسك من كيان ووجود وهموم ومطامح ورسالة في الحياة .. وإلا فلماذا كتب (البير كامي) أشهر كتبه (اسطورة سيزيف)؟ ولماذا كان جل قصده فيه أن يحاول الوصول إلى تعليل كافٍ للسؤال: لماذا يقدم الانسان على الانتحار ووضع حد لحياته بإرادته؟.. لقد تحدث (سارتر) و(كامي) و(ياسبرز) بشكل أساسي عن أن ازمة الإنسان تكمن في اغترابه عن ذاته وعين وجوده، فلديهم قد اغترب الفرد عن نفسه بفقد تميزه اللامعقول عن غيره من سائر الناس، وأنه فقد ذلك بإغراقه في المعقولات والمنطق والعلوم والنظم والقواعد، ويغترب مرة أخرى عندما ينصهر في المجتمع ووسط كل هؤلاء البشر فتضيع ذاته وارادته دائماً خلف ذوات أقوام يسيرون أمامه على الطريق، والطريق ضيق ولا يملك سبيلاً إلى التجاوز فيخضع مضطراً للسقوط في ثرثرة الحياة اليومية لأولئك على حد قول فيلسوف الوجودية الألماني (مارتن هايدجر) ..لقد اعتاد الفلاسفة الوجوديون خلق مشكلة من لا مشكلة.. فإن النظم والقواعد والمنطق قد حمت الإنسان من اهوال الحياة مراراً وأراحته من مشاق كثيرة وعنت كبير، وحياته بين الناس جعلت لقوله وفعله معنى وقيمة وإحساس بالوجود والحياة..
وفي زمان قريب تحدث (كارل ماركس) كثيراً عن نظرية (فائض القيمة) وقال أنها هي حقيقة اغتراب الإنسان عن نفسه، فما الإنسان لديه إلا عمل أو مجموعة أعمال فهو (عامل)، فإن فقد حق عمله فقد معه ذاته وكيانه.. ولذلك عندما باع العامل للرأسمالي مجهوده بعقد ثابت القيمة من حيث الأجر، ولما تطورت الآلة التي عمل عليها العامل حتى صارت تنتج أضعاف ما كانت تنتجه وقت أن بدأ عمله عليها، زاد الانتاج وزاد معه المال الداخل إلى رصيد الرأسمالي وبقيت قيمة عمل العامل محلها وبقي أجره لا يتغير، فكان هذا هو عين الاغتراب.. ولكن الإنسان ليس مجرد مجهود وأعمال وإنتاج، الإنسان بجوار ذلك هو فكر وإبداع ودفق غزير من المشاعر والانفعالات وجدال مع كل شيء وكثير من المتناقضات وحلم لا ينتهي..
ومنا من صار اغترابه بأنه رافض للانتماء لمجتمع هو موطن ولد فيه، ولكنه لا يرضى بأن يموت فيه، وطن ليس بوطن.. فتسوقه نفسه لأن يخلق في داخل مجتمعه ذاك مجتمعاً جديداً يمسك هو بخطامه ويقود ناصيته شاء مجتمعه الأم أم لم يشأ، تماماً كما فعل (دون كيشوت) في خالدة (سيرفانتس)، فقد حلم بعهد الفرسان المتجولين من حملة القيم العليا والأخلاق السامية يغثون كل ملهوف مأزوم من دون منٍ ولا أذى ولا انتظار أجر أو ثناء.. لقد أغرق (دون كيشوت) نفسه في عالمه الجديد بين صفحات مئات الكتب التي تتحدث عن هؤلاء الفرسان وأعمالهم المأثورة، وخرج من الصفحات ليخلق ويحقق في الواقع عالم الفارس الجوال من جديد في مجتمع أفلت فيه عزائم الفرسان، حتى لو اضطره ذلك إلى اصطناع العدو أمامه اصطناعاً من أي شيء ليكون هناك ما ينفذ فيه سيف فروسيته، فأمست الطواحين بليل أمام عينيه مردة عماليق وحتى لما أطاحت به لم يصدق بعد أنها محض طواحين يدورها الهواء ولا شيء وراء ذلك.. كل ذلك حدث لأنه لم يفهم حكمة الله في أن أوجده في مجتمعه الذي هو فيه فراح يتوهم اغتراباً زائفاً، ولو أنه فهم الحكمة لكان حمد الله كثيراً أن كان منشأه في هذا الوطن هنا وليس، في أي مكان آخر..
وصورة أخرى للاغتراب هي الاغتراب الديني، يعيشه بعضا غير قليل من الشباب كتيار بحر جارف.. فإما أنهم – بتعبير الكاتب (عبد القادر دقاش) – (حملوا حقائبهم ورحلوا بعيداً عن الدين) فكان هو الإلحاد، وإما أنهم تركوا رحالهم واغرقوا أنفسهم فيما ظنوا أنه حق في الدين بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير فكان هو (التطرف) الذي أنجب الارهاب، فمن حملوا حقائبهم ورحلوا رأوا في الدين أنه وهم وأن الانتماء إليه اغتراب، وأما الذين غرقوا في بحر الظلمات فقد رأوا اغترابهم في تدين الناس والعامة وأن الاعتدال بالوسط هو ميع في الدين وارتخاء في التعبد وزيغ عن الحق الصارم فزادوا عليه شدة وصلفاً فأوردهم المهالك ما زادوه كما أورد الراحلون عن الدين سواء بسواء.. ولو أن كلاً من الفريقين رأى برهان ربه لعادوا كما عاد الدكتور (مصطفى محمود) رحمه الله في رحلته من الشك إلى اليقين فكان بتدينه وعلمه وإنسانيته رجلاً رضي به أهل الأرض ممن عرفوه واستفادوا منه.. إن الاغتراب هو إحساس وشعور يتملك نفس ابن آدم من داخلها دون سلطة أو إرادة من العقل، فربما جاء الشعور بالاغتراب من فعل تربية الأبوين لأبنائهم أو من خلل في سياسة المجتمع بما فيها من هضم للحقوق وضياع للأمانات.. وقد يجيء الاغتراب بفقدان القدرة والمثل الأعلى والمرشد الأمين.. تعددت الأسباب ويظل الاغتراب في النفس قائماً.. فما علينا من قهر الأسباب إن اعجزتنا وإنما علينا برعاية النفوس وتطييب القلوب وجبر كسور الأنفس ودفعاً بالتي هي أحسن ثم تغذية العقول من ثم ببراهين الله الساطعة.. فلربما عاد التاركون إلى رحالهم يوماً، ولربما عاد الراحلون مع حقائبهم..

محاكم التفتيش

(صحيفة اليوم التالي)

محاكم التفتيش..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي


(وكان هناك وفد صغير من قريته ... وآخرون قد ران على وجوههم الأسى والدهشة وهم يرون راهبهم تأكله النيران. وبقي في قلبه حتى تلك اللحظة الرهيبة إيمان ملح بأنه لم يأثم في نظر القديس (فرانسيس) على الأقل، فردد اسمه مرتين إذ لم يكن يجرؤ أن يذكر أسماءً أكبر خشية أن يكون قد أثم حقاً. ثم اتكأ مبتسماً على ألسنة اللهب وأسلم الروح)..
في ذلك اليوم من عهد قريب من القرون الوسطى كان قضاة محكمة التفتيش يتهللون بشراً وسروراً ويضحكون ولا تسعهم أنفسهم من السعادة والانتشاء عندما تصاعدت إلى أنوفهم رائحة شواء اللحم الحي وغطى قرع الأجراس على مسامعهم كل صرخة ألم واستجداء أخير.. هو عيد من الأعياد أن أصدر القضاة حكمهم على الراهب (جونيبر) بالحرق حياً على الصليب في رواية (جسر سان لويس ري) بسبب كتابه الذي أخلص فيها البحث للرب عن قانون الرب في الأقدار والحياة والموت، ولكنه كان عند قضاة محاكم التفتيش هرطقة وقياس بالعقل هو مرفوض عند الكهنوت ولأن آيات الرب المقدسة لا يجب أن يمسها العقل بتأويل أو تفسير بل هي محض تفويض وحظوة خاصة لمن يملكون السر والمرتبة العليا من الرهبان، أما من دونهم فلهم التسليم وحسب..
وعاد بنا الزمان وجدد التاريخ نفسه.. ولكن لم تعد محاكم التفتيش محارق ومسالخ بشرية وخوازيق تهتك بطون المغضوب عليهم، وإنما أصبح في زماننا نوع جديد من صدأ القلوب وقسوتها جعلت من تولى مسؤولية على الناس ينصب محاكمه ويأكل أموال ايتامهم ومساكينهم بالباطل حتى ليكاد يأكل لحومهم أحياء ويتلف الأخضر ويبيع حتى الهواء.. تلك هي إنسانية الإنسان في الماضي والحاضر لمن ينادون بها، فكما أن فيها الكرم والإيثار والإخاء فكذلك فيها القسوة بما لا تضاهيه قسوة الأحجار، فالأحجار أحياناً تكون أكثر خشوعاً وليناً من قلوب أبناء آدم..
الكل يعلم أن لدى شعوب الجبلة السمراء قوة وطاقة لا مثيل لها لدى من جاءوا من الأراضي الجديدة إلى أفريقيا غزاة في زمان الثورة الصناعية ليأخذوا منها رقيقاً قهراً يعمل الرجل الواحد منهم عمل رجال كثر ولا يبالي بنصب وعذاب.. وفي الحرب العالمية الثانية اتخذ البريطانيون جنداً كثيفاً من أبناء السمر لشدة بأسهم في القتال.. وبعد الحرب خرجت أوروبا كرجل بلغ أرذل العمر بعد أن ماتت أغلب الأيدي الشابة لديهم فصارت محاكم التفتيش بعد أن كانت في الماضي تفتيشاً عن العقيدة في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين أصبحت الآن تفتيشاً عن الثروة في عقولهم وأجسادهم ففتحت أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وبلاد اسكندنافيا الباب واسعاً للمهاجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا. وبطبيعة الحال كان لابد للتشجيع على الهجرة من إيجاد السبب الكافي لها بشدة المغريات والمنح هناك في الغرب، ولكي تظهر هذه الشدة بما يوازيها شدة في الطلب عليها كان أيضاً لابد من ظهور ضعف الحافز في بقاء الذين هاجروا في بلدانهم حتى صارت الهجرة حلماً وهدفاً.. وصدق (مارون عبود) حين قال (فالبيت بسكانه، والبلاد برجالها، والدر لو كان مطروحاً في المزابل ما من يعرف قدره فما فائدته؟ والأرض لو كانت كلها معادن ذهبية، وسكانها يجهلون استثمارها فماذا تفيد؟)..  ومما دعا للأسف الشديد أن ضعف الحافز هذا للبقاء كانت أسبابه بيدنا لا بيد عمرو..  ففي مجتمعاتنا الطيبة دائماً ما كنا نستغرب أن يأتي علينا إنسان راشد مكلف بأعناق الناس فيبلغ فساده وحرامه عنان السماء إلا أن نقول (أمعقول أنه يفعل هكذا بشعبه؟).. ونحاول دائماً أن نكذب على أنفسنا ونغطي ضمائرنا ونبطل ظنوننا المزعجة حتى نطمئن ونهنأ ولا نأسى.. وهكذا الحال يجري عندما يخرج علينا الثعلب في ثياب الواعظين فيكثر من الاعتذار للناس والتباكي أمامهم بكل أسف ثم لا يملك إلا أن يجدد الوعود، ويكذب.. إما لأنه يود لو يغمد في ظهورهم خنجره المسموم في غفلتهم بتلك الوعود فيسلب ما بقي لديهم، وإما أنه عاجز مشلول ولكنه متكالب على متاع الدنيا متثاقل بها إلى الأرض مشدود إلى كرسيه بعجزه فلا يتيح مكاناً للقادرين.. وكل ذلك لأن شعوبنا من أبناء الجبلة السمراء قد ألفوا العزف على أوتار المشاعر واستجداء العواطف فانساقوا وراء كل راوٍ وشاعرٍ وساحر ويجرفهم الضعف أمام أنفسهم وأمام من يهابونهم حتى وجد الثور الأسود فيهم أماناً للأسد الجائع فأكله بعدما أكل أخاه الثور الأبيض.. ولهذا بحثنا عن المخارج السهلة من السفينة المثقوبة برمتها دون أن نحاول سد ثقوبها فننجو جميعاً بإذن الله..
وهكذا قد بتنا الآن في زمان الشكوك والتوجس والحذر، فلم يعد يأمن رفيق رفيقه ولم يعد يسلم أخ مفتاح خبئه لأخيه.. كل هذا لأننا لم نعلم متى تنصب لنا محاكم التفتيش من جديد.. ولكن حتى ذاك الحين وإلى أن نعلم علينا بجلد الذات بلا هوادة بما كسبت أيدينا وأيدي الناس فينا.

موازين النهوض

موازين النهوض..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في خطبة للزعيم الصيني (ماوتسي تونغ) في العام 1948م قال:
(ففي الريف ينبغي للأجراء الزراعيين والفلاحين الفقراء والفلاحين المتوسطين والشغيلة الآخرين المتحدين جميعاً... وليس للفلاحين الفقراء والاجراء الزراعيين وحدهم أن يستولوا على الأنهار والجبال ويسودوها. في مجمل البلاد ينبغي للعمال والفلاحين - بمن فيهم الفلاحون الأغنياء الجدد – والحرفيين والتجار المستقلين الرأسماليين المتوسطين والصغار... والطلاب والمدرسين والأساتذة والمثقفين بصورة عامة وأفراد المهن الحرة والاقطاعيين المستنيرين والموظفين بصورة عامة والأقليات القومية المظلومة... جميعاً تحت قيادة الطبقة العاملة – وليس لأقلية من الشعب فقط – أن يستولوا على الأنهار والجبال ويسودوها)..
انتهى كلام (ماوتسي تونغ) وبدأ السؤال الكبير.. لماذا تنهار المجتمعات ذات الثروات الطبيعية الغزيرة ؟ .. ولماذا تنهض مجتمعات لا تحمل في تكويناتها الطبيعية وبيئاتها أي ثروات ومقومات عينية للنهضة؟.. المشاكل تكشف عن الحلول عليها في باطنها (فإن مع العسر يسرا)، فقط يحتاج الأمر إلى تحليل للظاهرة موضوع المشكلة بصورة كلية شاملة.. فلكم شاهدنا كيف أن أمم كان بالغ همها اخراج عطاء الإنسان فيها من ساعده وجبينه، فضربوا بمعاولهم وازاميلهم في باطن الحجر وظاهره ودقوا مساميرهم وربطوا براغيهم في الواح ومكائن وجدر هذه الأمم فنهضت  دون السؤال عن رؤوس أموالهم التي خلت منها البنوك، ودون السؤال عن ثروات تفجرت من تحت أرجلهم انهاراً بغير حصر ولا حساب.. فنهضت تلكم الأمم وعاش الإنسان فيها عيشاً كريماً لنفسه وللآخرين.. ولكم عرفنا عن أمم تكدست رؤوس الأموال في محافظها وأنبتت الارض من حولهم من كل خير والسماء أُرسلت عليهم مدراراً فباتوا في رخاء ولكنه رخاء مهدد في كل لحظة بالزوال بعد أن تدير الحياة لهم ظهر المجن اذا ما تأذنت بالخطب وتبدل الحال.. وما ذاك لهم إلا لأن إنسانهم نشأ وعاش مستهلكاً لا منتجاً، تعلموا كيف يملئون رؤوسهم بالعلوم كصناديق مغلقة لا يخرج منها ضوء ولا يصدر عنها صوت صرير، فتليفت علومهم داخل صناديقها وتلفت..
عندما نرى بلاداً مثل (المانيا) التي تمزقت عقب الحرب قد صارت فيما بعد في مقدمة العالم الصناعي وهي لم تكن تملك ثروات في الأرض ولا موارد ولا حتى كفاية من رجال أشداء.. وعندما نرى بلاداً مثل (كوبا) قد خنقها الحصار المضروب حولها في كل الجهات سنوات طوال، ولكنك إن دخلتها وجدت أهلها اعزة في أرضهم أصحاب عيش رغيد.. وعندما نرى بلاداً بعكس تلك تملك الذهب من كل لون، ذهباً أصفراً (ذهب) وذهباً أسوداً (نفط) وذهباً اخضراً (زرع وضرع) وذهباً ازرقاً (ماء عذب)، ولكن يحيا أهلها شظف العيش وضنكاً مريراً بلا انتهاء.. لعلمنا أن العامل الفاعل والحاسم في نهضة وتطوير الشعوب هو هذا الإنسان وأنه هو الاستثمار الحق، ولعلمنا أيضاً أن الصحيح هو ما يلي:
أولاً، تحويل الشعوب إلى شعوب عمّالية في المقام الأول.. وصفة العمالية هذه تشمل كل زارع وصانع وتقني.
ثانياً، تقليص حجم كتلة التكنوقراط من حملة الشهادات الأكاديمية والخبرات النظرية إلى حد الضرورة القصوى التي تجعل منهم كوادر انتاج وتطوير وتسد بهم الحاجة إلى الخبرات الإدارية العليا.. وحد الضرورة هذا يجعل من فئة حاملي الشهادات الجامعية (ناهيك عن فوق الجامعية) النسبة الأقل جداً من جملة عموم المجتمع في مقابل أصحاب الحرف.
ثالثاً، تغيير الثقافة المجتمعية غير الحقيقية في أن المتعلمين مدرسياً وجامعياً هم صفوة المجتمع وشرفه وواجهته المشرقة.. في حين أن الشرف والفخار الحقيقي هو في تلك اليد العاملة الصانعة الزارعة الحاسبة، والكل في الشرف سواء.
رابعاً، تحويل المزارع والحقول وبوابات المصانع نفسها إلى نقاط تجارة للمنتجات لكي يصبح القطاع العام هو المُضارب الرأسمالي الفاعل في أسواق البلاد مما يحقق الوفرة السلعية بأذهد أسعار.
خامساً، عدم إلغاء الملكية الإنتاجية الخاصة وإنما تقليصها رأسياً وليس أفقياً، أي ليس تقليص أعداد الملكية والمالكين وإنما تحديد نوع الملكية وشروطها وسقف فائدة المالك فيها ابتداءً باعتبار أن الموارد ومواد الانتاج الخام خلقها الله عامة فهي ملك الجميع وليست حكراً مخصوصاً.. وهذا يعني أن المالك يملك المشروع الإنتاجي بنسبة ما فيه من آليات ومنشآت واجراءات تخطيطية وليس ملكية مطلقة من حيث المواد والمواد الخام.
سادساً، استبدال التعليم الأكاديمي في أغلب الجامعات بطرق (تدريب) لكوادر أعمال.
سابعاً، جعل النهضة الحقيقية للمجتمع قائمة على الموارد المستديمة (الزراعة والماشية وثروات المياه)، ولتعبر من دونها تلك الموارد الساكنة المحدودة بوقت انتهاء تنضب فيه (نفط ومعادن) كزيادة في الخير.. ألم نرى كيف أن الله تعالى يوجهنا دوماً في القرآن العظيم نحو خيرات الأرض المتجددة وكيف أن الأرض تظل هامدة حبلى بما فيها حتى ينزل عليها الماء فتهتز وتربوا وتنبت من كل زوج بهيج، وأن البحار والأنهار كم فيها من اللحم الطري والحلى التي تنتجها كائنات الماء بلا انقطاع..
إن من أهم التجارب الحاضرة للتنمية المستقبلية في اتجاها السليم ما تم في إحدى دول الخليج العربي ويتم راهناً، فقد توسعت توسعاً كبيراً في إنشاء الكليات التقنية لتستوعب العدد الأكبر من الكوادر الوطنية الشابة بها ذكوراً وإناثاً فتقيم بهم مجتمعاً انتاجياً.. والملفت للانتباه والاستحسان في هذه الكليات التقنية هو النظم الدقيقة الصارمة التي تدار بها بدءاً من الزي الرسمي بها طلاباً وأساتذة وإلى نظم التدريب والتقييم، الأمر الذي من شأنه أن يزرع في روع هؤلاء الكوادر تعظيم شعيرة العمل.. إن هذا التوجه نحو التعليم الفني والتدريب التقني الحرفي قمين بتحويل كبير يحدث في بنية المجتمع العملية والثقافية بل وحتى التربوية في تنشئة الأجيال الجديدة.

قابيل .. أين اخوك هابيل

قابيل .. أين أخوك هابيل؟..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
صدر في حقبة الستينات من القرن العشرين كتاب مترجم إلى العربية عن مؤلف أمريكي بعنوان (قابيل.. أين اخوك هابيل؟).. لا أذكر ماذا كان أسم مؤلف هذا الكتاب، ولكنه كان واحداً من أفراد طاقم الطائرة التي القت القنبلة الذرية الأولى في العالم على مدينة (هيروشيما) اليابانية في منتصف الأربعينات.. كان غلاف الكتاب أحمر بلون الدم بكامله.. كتب المؤلف الشاهد على تلك المأساة هذا الكتاب من أجل أن يصف أعنف حالات الصراع الإنساني ليس بين الإنسان وأخيه الإنسان وإنما بين الإنسان ونفسه التي بين جنبيه وحسبما سبق في كتاب الله أن من ظلم غيره فإنما يكون قد ظلم نفسه في الأساس.. تحقق هذا الصراع على صورته القاسية  لدى أفراد طاقم الطائرة منذ اللحظات الأولى لإعدادها للرحيل نحو مهمتها في إبادة شعب بأكمله، وطبع آثار الدمار الصحي والتشوهات الخلقية الجسيمة فيمن افلت من الموت من ذريتهم ولأجيال عديدة لاحقة..
لقد وصف مؤلف الكتاب كيف كانت الدنيا تزداد اسواداً في أعينهم مع كل رقم يقتربون  به من ساعة الصفر.. ولذلك حينما فُتح الباب والقيت القنبلة في الفضاء نحو الأرض كانت قلوبهم قد انفجرت داخل صدورهم قبلها وهم في الطائرة من أماكنهم يرقبون.. بدا إحساسهم بجرمهم عظيم فادح عندما لفحت حرارة نيران الجحيم الذي اغرقوا فيه أخوانهم من بني الإنسان باطن طائرتهم وهم في أعلى الجو.. لقد فقدوا كل وجود لهم لحظة ارتطام القنبلة معلنة تحطم شعب (هيروشيما) بأكمله أشلاءً تناثرت وأجساد صهرها لهب الجحيم.. ولكن لحظتها لم يعد يجدي أي تعاطف أو بكاء أو إحساس بندم أو شعور بذنب ولو حز في النفس حز الخنجر لأعناق الشياه.. فهي جريمة بلا قصاص في دنيا البشر، الله وحده من يقتص فيها بقدرته..
وهكذا، يغرق بعضاً ممن تولوا الولاية على شعوبهم أيديهم في بحور من دماء الأبرياء العزل فقط لأنهم أرادوا حقهم في الحياة وطالبوهم به إما استجداءً وإما ثورة، ولكنهم في الأخير عُزّل لا يملكون سلاحاً سوى أصواتهم وبعض الحصى على هامش الطريق يدفعون به عن أنفسهم رصاصات الموت من ذوي الاحذية السميكة السوداء.. قتلوهم مع كثير من الشعور بالذنب والأسى وتأنيب الضمائر، ولكنهم لم يعودوا يملكون حيلة أمام هذا سوى التبرير لأنفسهم وللآخرين أنهم اضطروا إلى ذلك القتل وتلك الجراح الجسيمة بأنهم هم الذين كانوا على الحق وأنه لم يكن بالإمكان إلا ما كان .. ولكنه بات طريق مشوا فيه بأيديهم وأرجلهم كأنما يساقون إلى الانتحار البطيء فلا يعودون يذوقون للدنيا الزائفة التي أقبلت عليهم من كل جانب طعماً ولا معنى، إذ هي كلمة الله تعالى قائلها في لوحه المحفوظ (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)  ..لقد كان الرئيس الأمريكي الآمر بإلقاء قنبلة (هيروشيما) على نفسه بصيرة وقد ألقى بالفعل معاذيره، ولكن أنى له براحة البال مهما ألقى معاذيره.. وربما كانت الافتراءات على الناس أهون على نفس السادة الذين لا يعتقدون اصلاً في وعد الاخرة وعذاب القبر، ولكن المشكلة تعظم لدي من علم هذا جيدا، فأنى له إلا أن تتمزق احشائه حياً من الخوف في كل نهار يطلع عليه وكل ليل يجن، حتى لو تمنى الموت بقتل نفسه بمثل كفارة بني إسرائيل في زمانهم فما ذلك بمنجيه من عذاب أليم.. سيظل هو على نفسه بصيرة وسيظل يلقي معاذيره، ولكن سبق السيف العزل وصار القصاص منه في يد الله بحق كل روح ازهقت من رعيته على يديه أو بأمر منه أو بعلمه أو تحت وصايته.. وحتى إذا قام المقهورين عليه بثورة واقتصوا منه فسيكون ذلك حق نفس واحدة فقط من ضحاياه فماذا عن عشرات أو مئات الأنفس الأخرى..
ولنعلم أنه من لم يمت بالسيف مات بغيره، فالموت مصيرنا الحتمي حتى ولو كان من أجل الحياة.. لنمت إذن بالحق وعلى الحق ودون الحق.

على من تشرق الشمس

(صحيفة اليوم التالي، عدد 21 يناير 2019م)

على من تشرق الشمس..

د. وائل أحمد خليل الكردي   

الحقيقة ولدت في المنفى.. هكذا كان عنوان الرواية القديمة للكاتب (فانتيلا هوريا) وحاز بها على جائزة (جونكور) العالمية عام 1960م .. وفي أول صفحاتها كتب الوصف التالي لمن اقبلت عليه الدنيا ولكنه ظل يعيش في جحيمه الداخلي:
(وانا أغمض عيني لأعيش.. ولأقتل أيضا.. وفي هذا أجدني الأقوى، لأنه هو لا يغمض عينيه إلا لينام.. وحتى سباته، لا يحمل إليه أي عزاء.. فظلامه يعج بالأموات، وتلازمه القسوة.. أنا أعرف أنه لا يحب الراحة، ككل عظيم في الأرض.. الراحة تذره وحيداً مع ضميره وندامته، وحيداً مع الأسف الذي يساوره لأنه كان يتصرف دائماً كجبار، أي كرجل يخاف سلطانه..
مرة لخمس سنوات التقيت به ... كان الوقت صبحاً.. وكان هو قد استفاق تواً.. عيناه حمراوين.. جاحظتين تعباً.. لم يملك الشجاعة على النظر إلينا خشية أن نستشف في نظراته أسماء أو ملامح اولئك الذين قد أرقوه ليلته تلك.. لا يجد من يحبه.. هو خالق أعظم امبراطورية عرفت في جميع الأزمنة، ولكنه هو خالق الخوف.. بخاصة خوف الآخرين وخوفه الشخصي)..
ان اكبر جرم تحت السماء ان يستغل إنسان هو سيد رفيع في الناس إنساناً غيره  القت به خطيئة ابواه في مهالك الضياع، فيصنع منه أداة حادة تعيش على البطش والفتك بعباد الله مقابل لقمة عيشه واحساسه بقيمة الوجود وأنه كائن حي..
كم هناك من تشردوا خارج الأسوار صغاراً ووراء الحوائط والجدر.. وكم من طفل خطيئة لم يدري كيف أتى به أبواه إلى مكبات النفايات أو تحت عتبات الأبواب، وبأي قلب ألقياه.. وكم هناك من ظُلم على أيدي معلم الحرفة بالحي الفقير يدق على يدا البائس الصغير مسامير الحقد الموروث في نفسه، ثم بعد ذلك نرجو منهم أن يشبوا أسوياء بلا اعوجاج.. فإن اعوجوا دعوناهم (فاقداً تربوياً) كأنهم تالف من البشر لا يغنون عن شيء ولا جدوى من بقائهم في المجتمعات وبين البشر، ننظر إلى الواحد منهم نظرة المجرم الجاني مذ كان لا يعي جرمه وهو جنين في بطن أمه.. نراه شيء نبت من لا شيء فلا ضير إن اقتلعناه من جذور المجتمع أو ابقينا عليه سيان عندنا الأمر..
فبالله علينا، أين بعد ذلك يذهب هؤلاء وفي أي أحضان يرتمون، إلا أن تتصيدهم شراك ذوي السيادة والسلطان فيطعمون منهم الفم لتضرب اليد بطشاً لا تفرق بين محسن من الناس أو أثيم.. ينشأ الفتى من هؤلاء مشرداً ابناً للشوارع بين الخطيئة التي لا ذنب له فيها وظلم المجتمع، فيصير ناقماً حاقداً صلد القلب صدأ العقل، لا يرى في نفسه إلا حيوان كاسر ووحش لا يرحم فريسته ولم يعد يتلذذ إلا بالانتقام.. ونحن كنا من جعلناه هكذا حينما عزلناه بشيء من الشعور بالقرف والتقزز عنا والبسناه بظلم قاتم من كل جانب، في وقت كان هو طفل بكل معنى الطفولة براءة وحباً للحياة ورقة في القلب الصغير الغض والبسمة الوضاءة على شفاهه، كان هو ذلك الطفل.. فنزع عنه اسوياء المجتمع ووجهائه عنه ذاك الرداء، فقتلوا خطأً أو بانعقاد النية روح الانسان السوية فيه فصيرناه وحشاً ذئباً يأكل حتى لحوم إخوانه البشر.. فكيف به ان مد له الطاغية لقمةً وكساءً وخنجراً وبندقية، ثم يأمر ان يدق الأعناق ويبقر البطون فكل عقيدته قد صارت في ولي نعمته تماماً كالكلب عند حذاء سيده..
ان هؤلاء الفاقد التربوي سواءً من كان غنياً منهم أو من كان فقير الذين يظهرون على الناس بسياطهم هم ضحيا الأقربين اولاً، وضحايا الشوارع ثانياً، وضحايا لمن ارادوهم هكذا كما هم مرضى بداء (السادية) والتلذذ بتعذيب الناس منتشين كلما علا منهم الصياح بالألم.. والحكمة، أن هؤلاء بعد ان صاروا ذئاباً قد تجردوا من الشجاعة، فأنى لمن لا دين له ولا أخلاق ولا علم أن تكون لديه الشجاعة.. فإن قلباً لم يخشع للخالق ولا تأخذه رأفة بمخلوق أن يقوى قلبه أمام الاهوال والحروب، .أنى لمن كان عبداً لسلطانه إلا طاعته في سحق هامات الفقراء الجياع المنكوبين ظلماً المطالبين بحق الحياة أن تثبت قدماه أمام الموت الزاحف نحوه إذا ما بلغ الغضب العارم مبلغه ثم لا يفر مولياً تاركاً عتاد الدنيا حرصاً على دنياه.. فلماذا حجبنا الشمس عنهم واستمتعنا نحن بالضياء وتركنا لهم الظلام.. هم لا ذنب لهم فيما لامهم عليه المجتمع بجريرة مصائرهم واقدارهم.. نحن لم نأخذ لهم الحق من ذلك السيد الذي فرش بأيديهم ملاءات سريره الحمراء تئن تحته بدماء الأبرياء، وحتماً  أن عين السيد وإن اطبقت اجفانها لن تنام.. فهل من أمل أن تشرق الشمس على فاقدنا التربوي بضياء جديد بعدما تحجرت قلوبهم، أم ليس لهم من بعد ما اقترفوا إلا ظلمات السجون وغيابات المنافي والموت على الطرقات.

الشاعر الوزير .. عندما تموت الكلمات

الشاعر الوزير .. عندما تموت الكلمات

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لمن يطالع في صفحات كتاب (الرؤوس) يقرأ قول (مارون عبود) (لم يخل العالم العربي من (النظم) وإن خلا من (الشعر) .. فالنظٌامون كانوا في كل عصر أكثر من الهم على القلب ، فالشعر عندنا كالجبن والزيتون للسفرة . تعودنا أن نهيئ الشاعر قبل الوليمة ، فهو من حوائج كل حفلة . فلابد للزواج من عقد شعري يهدى إلى العروسين ، ولابد للمولود من أقمطة شعرية . وحق كل ميت أن يكفٌن بالشعر ، ثم يختم قبره بعدئذ ببلاطة التاريخ الشعري) .. وفي نفس الكتاب امتدح (مارون عبود) شعر (الشريف الرضي) كما لو كان يرسم مقابلة لمعنى ومكانة (الشاعر) أمام معنى ومكانة (الناظم) فقال في حقه (فبيت (المتنبي) الذي قاله عن نفسه :
               وفؤادي من الملوك وإن كان .. لساني يُرى من الشعراء
يصح في (الشريف الرضي) لا في (أبي الطيب) .. إنه ملك حقاً ، ومستقره في حنايا القلوب الكبيرة لا القصور الرفيعة العماد) انتهى كلام (مارون عبود) بما ميز فيه بين نظم وشعر .
ومن هنا تبدأ المقالة ، فأن يكون الشاعر وزيراً في الدولة فلا غضاضة البتة .. ولكنه ربما صار شخصين في إناء واحدة ، شخص رسم صورته في أذهان البشر شاعراً يوقع فنه على إيقاعات الحياة الإنسانية فيشعر الناس بقيمة ما هم فيه وبما يحلمون ، وشخص خرج بعباءة السياسة إلى الطرقات آمراً ناهياً بإذن مولاه وقد استلبت هذه العباءة كل اصبع فيه فلا يمضي على ورق إلا بما لا يملك أمر نفسه ولا  أمرغيره فيه .. ولربما دق رجل الدولة فيه عنق الشاعر فأمات كلماته لتصير نظماً لا يحرك ساكناً ..
والسؤال الآن ، هل هناك قيمة لإبداع شعري أو فني أو أدبي بلا أثر ؟ .. هل هناك قيمة لرسالة بلا متلقي يقرأها ؟ فما هو معنى الشعر إن لم يصادف متذوقاً ، حيث الشعر يذاق كما يذاق العسل والحنظل المر .. ألا يبدو جلياً أن قيمة أي عمل إبداعي تكمن في تداوليته بين المبدع والناس وبين الناس وبعضهم ، في التفاعل المشترك المتبادل بين المرسل للرسالة ومتلقيها .. فإن (حي بن يقظان) في سفر (بن طفيل) لم يكن ليبدع فكراً وتأملاً في جزيرته النائية لولا أن تمثلت له أمه الغزال في مخيلته بشراً سويا .. فهكذا الشاعر لا يوصف بفنه إلا لما يولده من أثر وأخذ في نفس سامعه أو قارئه أو ناظره ، وإلا لكان إبداعه موجوداً ولكن كالعدم سواء ، فلا قيمة لفن مسجون فقط في لوحات مغطاة بالستائر كما لا خوف من ذئب جائع محبوس خلف قضبان قفص منيع .. فأين إذن يروح أثر الشاعر الوزير في نفوس من كرهوا السلطة والسلطان وكل حاشية الفساد في البلاد .. فحتماً سيدخل الشاعر بوزارته دائرة الصراع بين السلطة والجمهور فتخرج رسائله الشعرية للناس على خطين ، خط نابع من شاعر أصابه الحنين إلى شعره الملهم المجيد الصادق فلا يجده .. وخط ثانٍ يصدر من انتماءٍ يُطلب منه الولاء له ولو على رقاب كل الشعب فأي قريحة شعرية تجدي بعد ذاك ، وحينها يقف المتلقي للرسائل حيران ، هل يتعاطى الشعر من ذاك الشاعر أم يتعاطى عنفاً سياسياً مع الوزير من أجل الخلاص .. بل السؤال الأعظم ليس ينشأ عندما يتولد الصراع بين شخصيات المرسل المزدوجة في ذاته الواحدة وطلاب رسالته ، وإنما السؤال ينشأ عندما يتولد الصراع بين الشاعر صاحب الرسالة ونفسه وهو يرى بنيان شعره الطويل في وجدان الناس يتهاوى تحت عرش السياسة والوزارة .. ولربما اختلط عليه الأمر فلا يدري عن نفسه في لحظة ما أهو ينطق فيها عن ذاته الأولى أم ذاته الثانية ، ومن الذي يتكلم للناس الآن ، أهو الشاعر أم هو الوزير .. ولكن طالما أن الولاء السياسي مصنوع فهو لن يتوافق إذن مع تذوق الجمهور لملكة الشعر عند الشاعر ، وإنما ربما يتوافق مع إدراك الجمهور لملكة النظم فيه .. فيتبدل أثر الشاعر القدير في أنفسهم حينما كانوا يتذوقون أشعاره لأن يصبح محض نظمٍ أجوفٍ وأثرٍ ممجوج لا برهان له من الابداع .. فالشاعر هو من عاش الوجود بوجدانٍ ، فألقت تجاربه الكلمات على قلمه رغماً عنه ، وليس هو من يطارد الكلمات كما الناظم الصانع للقصيد ويرائي بها المناسبات العظام ويداري أصحابها بما ليس فيهم ..
وهكذا ، كسب الشاعر ولاءاته السياسية بمصلحة وقصد ونية معقودة ، ولكنه ترك عند باب الوزارة وجدانه الشعري الصادق لدى الناس كما يترك المتفرج المقعد خالياً بعد انتهاء العرض .. فليهنئ إذن بما ترك إن كان سيهنئ حقاً بما كسب ، ولن يهنئ .. فيا للأسف على مجد ضاعت مآثره وبقي محض كلمات بلا حياة ..   


الاستشراق .. هل مات حقا

الاستشراق .. هل مات حقاً؟

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
تحدث مقدم المحاضرة (الدكتور صالح العمري)  بعلم فياض وطرح أخاذ عن مسألة (الاستشراق) وأبان كيف أن (إدوارد سعيد) ، ذلك المفكر البارز الأمريكي الجنسية ذو الأصل الفلسطيني ، قد نقد هذا العلم وقوض اركانه في كتابه المشهور (الاستشراق) Orientalism فأحدث نقده تحولاً في أنظار العلم الغربي اللاتيني والانجلوسكسوني عن هذا العلم بكل ما فيه من  سوءات وسقطات كشفت عن عدم الجدوى في تمسك أوروبا به على نحوه الذي كان عليه فيما سبق ..
كانت المحاضرة في الأمس القريب تحت راية (منتدى الفكر) في النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنورة .. وهناك ، حيث روعة المكان والزمان والإنسان ، بدت كأوضح ما يكون معالم تلك القضية التي اقلقت عقولنا الشرقية كما وصفها مستشرقو الغرب .. كانت المحاضرة هناك تسير على وقع خطى (إدوارد سعيد) في نقد الاستشراق واصوله ومالاته وحقيقة أمره والتشكيك في أدبياته واطروحاته بكونه عاملاً مؤسسا للثقافة الاستعمارية ..  ولكنني أجد نفسي في مقالتي هذه أنحو نحواً ليس يخالفهم وإنما يمتد بالتحليل إلى ما وراء سطورهم وسطور (إدوارد سعيد) .. فما هو (الاستشراق) الذي صار يحكم على ذواتنا بما فيها أحيانا وبما ليس فيها غالباً ؟ ..
إن الاصل الفلسفي للاستشراق ليس دلالة المكان الجغرافي لكلاً من الشرق والغرب ، وانما هو بحث من اجل معرفة الذات الأوروبية أمام الذات الخاصة ببلاد آسيا وشمال أفريقيا .. والمقصود بالذات هنا هو (نظام الوعي) الخاص بكل حالة من هاتين ، أي (نظام الوعي الغربي) في مقابل (نظام الوعي الشرقي) .. فلقد حاول الأوروبيون منذ عصر النهضة أن يحققوا طابعهم الشخصي المفقود في وقت عرف بعصور الظلام تحت ظل الدولة اللاهوتية هنالك لا سيما في أوروبا اللاتينية ، فكان لابد لهم من أجل هذا أن يضعوا نصب أعينهم كيانناً يخالف أو يقابل كيانهم فتكون المقارنة في هذا على منطق (أن الضد يظهر حسنه الضدُ) .. ولكن لماذا وقع اختيارهم على الشرق ونظام الوعي الشرقي ليكون هو البلورة العاكسة لضوء الشمس عليهم فيرون صورة أنفسهم في المرآة بأوضح ما يرون ؟ .. إن الهوية العقلية لشعوب أوروبا تجسدت في مثال الحضارة اليونانية والرومانية القديمة فيما قبل ميلاد المسيح بكل ما مظاهرها الفكرية والفلسفية والفنية والأدبية والعلمية .. ولكن عندما دخلت الديانة المسيحية إلى أوروبا وهي ديانة شرقية ، أخذها الأوروبيين على المذهب الكاثوليكي ، وقد رأي بعض كتاب الحضارة أن هذا الاعتقاد المسيحي ذا الطابع الشرقي لم يلائم نمط الوعي الأوروبي فوقع الصراع في داخل الشخصية الأوروبية  ما بين طارف وتليد .. وبناء على هذا أظلمت أوروبا في تلك الحقبة التاريخية وضاع إرثها القديم .. وعندما بلغ الصراع مداه وحتم ذلك استعادة الشخصية الأوروبية لطابعها الحضاري الوجداني والعقلي حينها بدأ عصر النهضة والتنوير ، ولم يتم رفض الديانة المسيحية جملة وانما عملوا على تكييفها مع نظام وعيهم الأصل فيما عرف بالمذهب البروتستانتي الإصلاحي، وكان لابد لهم أن يعتبروا كل تلك العناصر الشرقية التي تغلغلت في ثقافتهم أنها بمثابة الخصم الذي بمواجهته تستبين معالم الشخصية الأوروبية على الحقيقة ، فهذا سبب .. وسبب آخر، هو أن الفكر الذي ساد منطقة الشرق كان محملاً  بأثر الدين الإسلامي وبالكثير من عناصر الفكر والحضارة اليونانية والرومانية القديمة والتي استفادها العرب والمسلمين من خلال حركة الترجمة ، فكانت هذه العناصر سبباً أساسياً في نهضة الشرق في الوقت الذي رزح فيه الغرب تحت ظلمات الجهل والانغلاق في العصور الوسطى .. والآن حان الوقت لكي يسترد كل منهم بضاعته .. ولذلك ، وتحت وطأة هذه النظرة الحادة في الفصل بين أنماط الوعي تحول مقصد الاستشراق ليصبح  بدلاً من محاولة إعادة اكتشاف الذات أمام الآخر بعد أن تحقق لهم ذلك الاكتشاف للذات ، أداة لفض مغاليق هذا الوعي الشرقي نفسه وفتح الثغرات فيه وضرب مكامن القوة منه حتى تصفوا لهم السيادة العقلية على شعوب العالم دون منازع .. فكان هو الاستشراق كما عرفناه اليوم كعلم سيئ السمعة عندنا .. ولذلك انبرى (إدوارد سعيد) وهو الرجل الشرقي في أصله ليدفع عن العقل الشرقي ما حاول المستشرقين إثبات أنه فيه بلوي عنق الحقائق .. وكانت وسيلته في هذه المقاومة هي العمل بمثل ما فعله غيره من المفكرين المنتسبين للغرب بالمواطنة وليس بالأصل من ضرب لفكرة المركزية الفكرية الغربية وفق مناهج (ما بعد الحداثة) في النقد الحضاري والفكري .. ولما وجدت آراءه صدىً واسعاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية والفكرية الأوروبية والأمريكية ، عاد المستشرقون بقول جديد وهو بلسان الحال (شكراً (إدوارد سعيد) فلقد لفت انتباهنا إلى أن وعينا بذاتنا قد صار الآن مكتملاً ، فم تعد لنا حاجة إذن في الاستمرار تحت مسمى الاستشراق) .. لقد حاولوا بذلك تأويل آراء (إدوارد سعيد) بعيداً عن اتجاهها المقصود لديه في نقد مزاعم وتلفيقات المستشرقين على الشرق وما يحمل ، لكن هذا التأويل لم يكن مقصده الوحيد هو احتواء انتقادات (إدوارد سعيد) بقدر ما كانت هي اشارة الى المستشرقين أنفسهم إلى تقنية جديدة يسلكوا بها نفس ما سلكته (الماسونية) العالمية في المناطق التي تم فيها إلغاء الاعتراف بها ، وهي تقنية (تبديل الأثواب و الأقنعة) .. وها هو الاستشراق قد انحسر عن الظهور باسمه المعروف وبات يظهر بأسماء واثواب جديدة يرتديها بحسب ما يوافق الظروف في كل مرحلة ومكان وزمان ..
وهكذا طرحت المحاضرة سؤالاً اساسياً )هل مات الاستشراق بعد ظهور كتاب (إدوارد سعيد)) .. والإجابة (كلا) ، فما كانوا ليسمحوا له أن يموت في بلادهم كما لم يسمحوا للماسونية أن تموت من قبل ، فجعلوه يظهر بألف وجه جديد في بلادنا .. وكلما احترق وجه ابدلوه بآخر قشيب .. فهل سنظل هكذا ندور على دورانهم ، أم سنقلد فعلهم حتى نعرف هويتنا فنرسم لنا علماً (للاستغراب) كما رسموا هم لأنفسهم علماً (للاستشراق) ..أم ستكون لنا سبيل فريدة تخرجنا من كل هذا وذاك .

شيء في نفس (ليفيوس)

شيء في نفس (ليفيوس) ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ما أن كان ميكيافيللي Machiavelli يُذكر إلا وقرن بذكره كتاب (الأمير)  The Princeكأحد أهم الكتب الأكثر شهرة وتأثيراً في فلسفة السياسة ، حتى كدنا لا نعلم له أثر غيره .. ولكن الدكتور لويس عوض كانت له كلمة أخرى ، إذ كشف عن كتاب مختلف ألفه ميكيافيللي أيضأ  بعنوان (أحاديث عن ليفيوس)   .. في هذا الكتاب أورد ميكيافيللي  أفكاراً تبدو لأول وهلة غريبة عن نحوه الأول في (الأمير) وهي أن على السياسي الاحتفاظ في كل الأحوال والمراحل بشيء ما مخبئا في نفسه ، فعندما يعطي أفكاره يكون فعله كاشف عن جزء كبير أو ضئيل من فكرته وليس كلها .. ولقد عبر ميكيافيللي تعبيراً متقناً يؤيد فيه اولئك الذين يستخدمون الدين واجهة لتنظيماتهم يخفون ورائها حقيقة ايديولوجياتهم السياسية ، ليس من أجل صالح الدين نفسه وإنما لصالح أنفسهم فتمثل ميكيافيللي ما يدور في أذهانهم وما يصدر على لسانهم . وعلى هذا تأتي أقوال ميكيافيللي مرتبة يكشف آخرها عما اضمره أولها ، إذ قال :
(الأمراء والحكومات الجمهورية الذين يريدون أن يحافظوا على انفسهم من الفساد ينبغي عليهم قبل كل شيء آخر أن يحافظوا على شعائر دينهم مبرأة من الفساد ، وأن يحترموها على الدوام ، فليست هناك دلالة على خراب دولة أوضح من الاستهانة بقدر العبادات الإلهية . ومن اليسير إدراك ذلك إذا عرف المرء على أية قواعد يقوم الدين الذي يولد به الإنسان ... فواجب من يحكمون الجمهورية إذن هو أن يحافظوا على أسس الدين الذي يتبعونه ... حتى ولو كانوا يعتقدون أنها كاذبة) .. إن من يتأمل هذا الكلام – كما أشار لويس عوض – يجد أن (ميكيافيللي) يقصد بوضوح معنى أن قضية الدين ليست في صحته أو زيفه ولكن في وجوب التمسك به نظراً لوظيفته الهامة في ضبط المجتمع ، وليس من الضروري أن تكون المعجزات أو الكرامات مثلاً صحيحة ، وإنما المهم أن يعاملها الحكام على أنها صحيحة ، وعلى حد قوله (   وهكذا تضفي حجتهم على المعجزات مصداقية عند كل الناس) .. وهذه النظرة – والكلام مازال للويس عوض - نجدها فيما بعد لدى دعاة الحق الإلهي ، فالمؤسسة الدينية ظلت تستخدم لديهم كمانعة ثورات وضمان للسلام الاجتماعي ، وهي تقيم داخل كل مواطن شرطياً غير مرئي يحفظ الأمن العام دون قهر من الخارج (انتهى كلامه) .. وهكذا ، لم يخرج ميكيافيللي عن خطه الأساسي  بأن الغاية تبرر الوسيلة ، ولكنه البسه ثوباً آخر ..
والسؤال الآن .. أليس هذا هو نفس ما تفعله التنظيمات السياسية المعاصرة باسم الدين لتحقيق أغراضاً مغايرةً تماماً لحقيقة وجوهر تعاليم الدين وقيمه ، ألم يجعلوه أداة سلطة وسيطرة وتمكين لأنفسهم ولمن والاهم  .. الأمر الذي مجد العنف السياسي والاجتماعي لديهم فصار عندهم مبرراً وقطعوا له من النصوص الربانية ما يوافق غاياتهم وبغض النظر عن السياقات الكاملة لهذه النصوص  وما شُرعت له .. وكم من ابرياء راحوا ضحايا للوسائل التي تبررها الغايات غير الشريفة  ، وتعميد مقولة (إرادة القوة) سراً على نحو ما أرادها الفيلسوف نيتشه Nizsche وعلى نحو ما طبقتها جماعات الدين السياسي على المجتمعات والبلدان ، وبدعوى ميكيافيللي (أن العالم قد غدى مخنثاً والسماء لا تحارب دفاعاً عن الضعفاء ، فقد وصلنا إلى هذه الحالة نتيجة لتفاهة الرجال الذين فسروا ديننا وفقاً لروح الخمول وليس وفقاً لروح القوة) .. ولعل ميكيافيللي لم يستبعد أن تصدر أحاديث ليفيوس ايديولوجيات الدين السياسي ولكن دون تصريح عنها ، ولكي لا تعلم الشعوب أي منقلب هم ينقلبون ..
إن الفرق كبير بين من قال عن نفسه أنا مسلم ومن قال أنا إسلامي .. وبين من قال أنا مسيحي ومن قال أنا قديس دولة .. وبين من قال أنا يهودي ومن قال أنا صهيوني ..فبين الأصل والفرع مناط النفاق ، وكان النفاق دوماً علة ضياع الدين والدنيا معاً .

الجذور .. عبقرية الثورة

الجذور .. عبقرية الثورة

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (وحين وصل الرواة القصاصون ساد صمت سريع على القرويين ، وقد قعدوا حول الباوبات يستمعون إلى حديث الملوك القدامى ، وعشائر الأسر ، والمحاربين ، والمعارك الكبرى ، وأساطير الماضي . أو كان أحد العابرين المتدينين يهتف بالنبوءات والتحذيرات بأنه من الواجب إرضاء الله الجبار ، ومن ثم يعرض القيام بالاحتفالات الضرورية ... لقاء هدية صغيرة . وكان راوٍ جميل الصوت ينشد أبياتاً لا تنتهي عن الروائع القديمة لممالك غانا وسونغهاي ومالي القديمة ، فإذا انتهى من ذلك فما أكثر ما كان بعض سكان القرية يدفعون له من جيوبهم الخاصة كيما ينشد مدائح ذويهم المسنين في أكواخهم الخاصة . وكان الناس يصفقون عندما يأتي الشيوخ إلى أبوابهم ويقفون وهم يطرفون بعيونهم في أشعة الشمس اللامعة تفتر شفاههم عن ابتسامات عريضة خالية من الأسنان) رواية (الجذور) ، أليكس هايلي ..
لماذا اغلب النقاد لم يروا في رواية (الجذور) سوى رحلة الاستعباد ورحلة التحرر من الرق .. ولماذا لم يروا فيها كيف رسمت صورة متكاملة لطريقة ونظام حياة لشعب كان يعيش سيدا في بيئته .. ولماذا لم يروا كم كان النسيج الحضري والوجداني والأخلاقي المتميز يشد الناس إلى بعضهم وإلى الأرض من تحتهم وإلى السماء من فوق رؤوسهم كأنهم على كثرتهم وتعدد مواهبهم كائن واحد ذو قلب واحد وأذرع وأقدام .. لربما قصد الكاتب إلى ذلك وربما لم يكن يقصد ، ولكن كان ينبغي على الناقد أن يقصد .. فإن صورة تلك الحياة وأمشاج تلك القبائل هنالك كانت تشي بوعي آدمي رفيع لم تقدر على لمسه أقوام علوا بتقدمهم في أسباب العمران الحديث والرفاه المادي ما علوا ..
وكما فعل نقاد (الجذور) ، فعلنا نحن في ثورتنا السودانية .. فلماذا تطلعت أعناقنا نحو السقف العالي للثورة حيث الانجاز السياسي والاقتصادي وجعلناه حكماً وحيداً على نجاحها أو اخفاقها دون غيره ، فإذا تحقق السؤدد السياسي فرحنا به ، وحق لنا أن نفرح ، ولكن فرحنا يطغى دائما على سؤدد أخرى ، ولعلها هي الأهم .. فما قد كان داخل الصف الشعبي وعمقه أن ظهرت حقيقة طريقة حياة أبناء السودان في حضارتهم الإنسانية على أرض الاعتصام معراة عن كل ما جرى على سطح المجتمع من زبد زائف .. ثم كيف باتت اللحمة شديدة الوثاق بين الناس بغض النظر عن من هم وكيف هم ، حتى رأينا بينهم من كنا نظن أنهم ما دمام قد نشئوا في الحلية فلا بيان لهم في الخصام ، إذ هم على قلب رجل واحد مع الكادحين ودونهم ، يحملون عنهم ما حملوا سنوات طوال من الكدح الأليم .. ويالغفلة من ظن نفسه قبلها قد ملك على الشبان عزمهم بسطوة الشيب .. أما النساء فلهن سهم ضاربة .. فعندما دخل الموت جوعا عقر الدور بلا استئذان ، وعندما لم تجد الأمهات ما تمنع به ضياع ابنائها من بين أياديها ، وعندما لم يبقى إمام عادل تقول له إمرأة (وا معتصماه) ، ولما أصبح الرجال والنساء تحت الظلم والموت وانتهاك الحرمات سواء ، وقتها قال الحال بلسان الحق أن النساء شقائق الرجال ، وصحيح أن الثورة في الشارع حينها فرض عين على الرجال ولكن لا نمنع النساء ، ورسولنا العظيم صلوات الله عليه لم يفرض الجهاد والقتال على المرأة كما فرضه على الرجال ولكنه لم يمنعها منه ودوننا تاريخ (خولة بنت الأزور) وأخريات ، فكيف بنا عندما يكون ليس بعد الموت شيء والمطالبة بحق الحياة وحفظها أوجب من منع ما تبيحه الضرورات ، وحتى إن وقع شيء من الذلل هنا أو هناك فالأولى البقاء مع الأصل وترك الاستثناءات وشواذ الاحوال إلى وقتها المعلوم ، أما الآن فإما حياة وإما موت ، وطالما أن الموت لا يطال الرجال وحدهم فكذلك المطالبة بحق الحياة ليس حكراً على الرجال وحدهم ، لاسيما بعد أن كنا ظننا أننا في زمان  بات يغلق الناس فيه أبوابهم خوفاً على أنفسهم وما همهم أن يحمل الطوفان من يحمل خارج مأمنهم ، ولا يحس بوجع أخيه من بات هانئاً ، فلا يقول إلا نفسي نفسي .. فالنرد للمظلومين حقوقهم أولاً ثم بعد ذلك نحاسب من قد خرج عن الخط ومن بقي وراءه ..
لقد أثبتت أرض الاعتصام أن النفوس الأبية في السودان تعف عن كل سوء حين تصير المعاناة واحدة والخلاص واحداً للكل .. فهناك ظهرت المعادن الذهبية جلية بعد أن دثرها التراب سنين عددا ، والتف حول حق الحياة كل من هتف وجاهد الظلم واعتصم بحبل الله أمام مساكن الذين ظلموا ، وإنه لحق الله تعالى مظهره حين يشاء .. لقد غلبت حضارة (كونتا) النقية في (الجذور) إسار العبودية لدى بشر خانهم ظنهم بنفسهم أنهم الأفضل .