الأحد، 2 سبتمبر 2018

فن صناعة الفساد ..

فن صناعة الفساد ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ليس دائما ما يكون الفساد السلوكي والانحراف الأخلاقي في الشعوب هو من جراء فقرها ..
 عوداً على (ثوماس هوبز)  Th. Hobbsالفيلسوف السياسي الانجليزي الذي كان أشهر من وضع نظرية في (العقد الاجتماعي) قدمها في كتابه الأساسي (التنين)       Leviathanوكيف جعله مسوغاً لصناعة الدولة كضرورة تاريخية اجتماعية ، فالدولة لديه هي حالة متفق عليها بين أفراد المجتمع للخلاص بها من الحالة الفطرية الأولى للإنسانية وهي حالة الحرب والاقتتال والتعدي المستمر للكل ضد الكل فإن استمرت لأدت إلى فناء الجنس البشري في عهده القريب .. وعلى هذا فإن الدولة هي كيان مصطنع بقصد تنظيم حياة الناس وتوزيع الواجبات وضمان الحقوق في المجتمع ..وهذا التنظيم الذي تجريه الدولة إما أن يكون حميداً بصناعة العمران أو أن يكون خبيثاً بصناعة الفساد في الأرض ، والحكومة في هذا هي الهيئة الرئاسية القائدة للدولة ، فإن كان قد تم تنصيبها ببيعة الناس ابتداءً وباختيارهم الحر ثم أفسدت فيلزم للناس حينها الصبر عليها لأن الخروج عليها يكون أمراً ذا شروط وقيود لاسيما لأنه حينها سيكون لدى الشعب آليات لنقد وتقويم الحكم .. اما وإن أتت جبراً على الناس بلا بيعة لها في أعناقهم أو انتخاب في الأساس ثم افسدت فمن الواجب حينئذ الخروج عليها وحذفها ومحاكمتها كسبا لحق المظلومين المستضعفين في البلاد ، فلا حق لمن يتسلط على الناس دون إرادة منهم أو اختيار في تسلطه عليهم .. وأذكر أنه كان لدى بعضاً ممن لهم اختصاص في السيكولوجيا الاجتماعية رأياً تحدثوا به عن التأثير الخطر (للدعاية) بكونها نوع من غسيل الأدمغة للشعوب وبما يماثل فعل التنويم المغناطسي ولكن على المستوى الجمعي وليس الفردي .. وربما قد استغلت الحكومات الفاسدة والطغاة من الحكام هذا التأثير من أجل التسويغ أمام الشعوب ما يحصل من فسادهم .. وهكذا ، تسير الأمور على منطق أن هناك حكومة  فاسدة بكافة بطانتها ولكن إذا برز هذا الفساد للحكومة كفرس أوحد في الميدان لانتفض الناس عليها واندلعت الثورات .. فكيف إذن يكون الفعل لتستمر الحكومة باقية على دولتها على مدى الآجال الطوال رغم فسادها البين .. الاجابة الظاهرة على هذا السؤال بأن الحكومة تلك قد تلجأ إلى صناعة فساد موازي داخل صفوف الشعب .. أي أن يتم خلق ظواهر شاذة في الوسط الاجتماعي أو هكذا تبدو في بادئ الأمر ، حتى يستهجنها الناس وينشغلون بقولهم أن هذه الظواهر ليست من أخلاقنا أو ليست من ديننا أو ليست من عادات مجتمعنا .. ورغم أن الشعب سيصب في أول الأمر بطبيعة الحال جام سخطه على الحكومة وفسادها البارز بأنها السبب الحقيقي والمباشر في نشؤ هذه الظواهر المنحرفة والشاذة بين أفراد من الشعب بفعل الفقر وانعدام العدالة وضنك العيش وضياع الخدمة المدنية وتبديد الموارد القومية وانفراط الأمن وأن مع كل هذا وبسببه تضيع الأخلاق وتنحل القيم وتتلوث الأيدي .. ولكن ذلك لن يكون نهاية المطاف في هذه المؤامرة على الشعب .. إذ سرعان ما ستتكاثر الظواهر الاجتماعية والسلوكية السالبة وتنمو بصورة ملحوظة لدى كل أفراد الشعب وشعوب أخرى .. إلى أن يقع في يقين الناس أن هذا الفساد الكثيف فيما بينهم إنما مصدره هو الناس أنفسهم وليس من مصدر خارجي عنهم ، وأن ليس لفساد الحكومة يد بسبب في فساد الناس إلا أنها فقط اظهرته إلى العيان بعد أن مستتراً في اخبيتهم ، فيروا أكثر الشعب مرتشٍ داعر أكال للحرام  سارق وقاتل .. في حين تكون حقيقة الأمر وراء ذلك والتي لم يفطنوا اليها أن هذا الفساد السلوكي العام ربما هو مكيدة دبرتها الحكومة الفاسدة بين الناس قصداً واصطناعاً ، حتى يدب اليأس أخيراً في قلوب ابناء الأمة من سوء أنفسهم فيكون ما قد اثار الاستهجان لديهم في الماضي هو في الحاضر الأمر العادي المألوف ، وأنه ليس بمستغرب ان يخرج من باطن الشعب الفاسد في أصله حكومة فاسدة بل إن هذا هو الحال الطبيعي .. هكذا يتحول شاخص الرمي من فساد الحكومة إلى فساد الذات ، إلى الدرجة التي لا يجد معها الصالحون الأبرياء بظنهم أنه لا ملجأ من فساد الناس الا إلى الحكومة التي حتى وإن علا فسادها ما علا يظل أهون من فساد الشعب ، لأن الحكومة مسبقاً كانت قد اضعفت كثيراً حاكمية القانون في الدولة واستعاضت عنها بقوة السلطة حيث أن غياب القانون يمثل فرصة لإظهار الفساد في الناس وكاشفاً عن سوءات نفوسهم ، هنا تصبح الميزة الوحيدة للحكومة الفاسدة على شعبها هي أنها تملك القوة .. اذن فلا مناص أن يقبل الناس بهذه الحكومة احتماءً تحت قوتها .. يسير هذا الوهم المصنوع بين الناس كالنار في الهشيم نحو صناديق الاقتراع للتصويت طوعاً لصالح تلك الحكومة التي بدت له لهم أنها أفضل السيئين وإن زالت فلربما تولى عليهم ما هي أسوء منها.. هكذا اذن هو فن صناعة الفساد بتكثير الظواهر الانحرافية السالبة والتي يتم تعميمها في أذهان الناس بفعل الدعاية المركزة ، فيضرب الوهم بذلك عقول أفراد الشعب بأن الفساد طبع وأصل فيهم هم دون سواهم ، وأن أمجاد الأقدمين في الشرف والعفة والأخلاق كلها قد ضاعت الآن .. ثم اليأس من الإصلاح ..ثم تأتي النتيجة الحتمية بالارتماء في أحضان الحكومة الفاسدة لتحول بينهم وبين فساد ذات بينهم .. وهكذا يعود (تنين) (ثوماس هوبز) لمرات أخرى وفي ثوب جديد، ففي الماضي كان الناس عنده كلهم مجرمون بالأصل فيهربون من إجرام أنفسهم بتوقيع العقد الاجتماعي فيما بينهم من أجل التخلي عن حرياتهم وحقوقهم لفرد فيهم وليس هو طرفاً في التعاقد ليكون حاكما عليهم يحتمون خلفه حتى ولو كان هو مجرم مثلهم أيضأ وليفعل هو ما بدا له شريطة ان يحفظ لهم حياتهم آمنة .. والآن في حاضرنا الراهن سيهرب الشعب جماعات وفرادى من بأسهم الشديد بينهم إلى الاحتماء بحاكمهم الذي هو كذلك من جملة الفاسدين بعدما كانوا يرمون بيته الزجاجي بالحجارة بحسن الظن منهم أن بيوتهم مدعمة بحيط من رخام وفضيلة .. هذا هو فن صناعة الفساد ، أن يصير الشاذ البعيد مألوف قريب .. والصورة كلها هي كما حال كبار علماء الطبيعة في مشاهدتهم لأكثر الظواهر واقامتهم عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها ظواهر يشاهدها كل الناس في كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه فيهم ، والأحوال الاجتماعية لا تختلف عن ذلك ، فنحتاج فيها إلى ناقد حصيف لا يرى في الظواهر السلوكية الشاذة والمنحرفة على كثرتها أمراً أصيلاً معتاداً عليه كما هو لدى عموم الناس ، بل يراه على الحقيقة فيحرك هو بذلك انتباه الناس من جديد ليروا إياها كمحض ظواهر شاذة وان الشعب في أصله ليس فاسداً ، وبالتالي تتجلى أمامهم حيلة السلطة في صناعة الفساد الوهمي الزائف في الناس وترويجه قصداً بينهم عبر الدعاية .. هنا وجب انفاذ أحكام القضاء الجنائية في حق السلطة .. اولاً، بفساد الحكم في ذاته ، ثم ثانياً، بصناعتهم الفساد في الشعب كله ليكون سمة له .. فسبحان من يمهل ولا يهمل .

البنية العقلية لعرقنا ..

البنية العقلية لعرقنا ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
تلك هي التسمية ألتي أطلقها (جوستاف لوبون) الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي عند حديثه عن سيكولوجية الجماهير .. ورغم أن الفطرة السليمة تأبى قبول كلامه عن دور اللاوعي المخزون في أعراقنا في حسم سلوك الجماهير ، وأن عظمة الحضارات وانحطاطها تكمن في روح العرق الذي ننتمي إليه .. إلا أننا في الوضع الراهن نحتاج لكثير من الجهد لأجل أن لا تثبت علينا بأفعالنا احكام (جوستاف لوبون) تلك عن الجماهير حيث أفاد بأن الانقلابات الكبرى التي تسبق عادة تبدل الحضارات للوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسية ضخمة ، ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالباً أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب ، وأما الأحداث الضخمة المأثورة ألتي تتناقلها كتب التاريخ فهي ليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية ألتي تصيب عواطف البشر ، وإذا كانت لا تظهر إلى السطح إلا نادراً ، فذلك لأن المخزون الوراثي لعواطف عرق بشري ما هو عنصره الأكثر ثباتاً ..
فماذا إذن لو رأينا جماهيرنا تلهث وراء كل حافلة ونازلة ليغيب الواحد منا قصدا عن نفسه وحقيقة ذاته ويغرق في احوال المجموع ، فإننا إن فطنا إلي ذواتنا رأيناها خواء .. على هذا درجت سنة الجماهير في مجتمعاتنا المعاصرة ، نأكل القشور تصنعاً ونلقي باللباب في الحاويات يتخطفها البؤساء والمجهولين عن ذكر الناس لهم .. ونلبس كل يوم أقنعة جديدة كي نرائي أو نداجي من كانت لدينا عندهم الحاجة .. واتخذنا الأقوام من بني جلدتنا مطية لتحقيق الذات والشعور بقيمة النفس وربطنا محاسن حظنا في الحياة بتعس حظوظهم .. وكم ترى الساعين لتلبية المناسبات والمآدب وليالي الطرب الصاخبة رجالاً ونساءً قصدوا إليها تزلفاً لوجهاء القبائل وعلية الأقوام وقد خلت صدورهم إلا من نفاق إجتماعي ورغبة في الظهور .. وحتى في المآتم يبكي صاحب أو صاحبة البلوى في فقد العزيز بعين واحدة وينظر بأخرى إلى من قد جاء معزياً ومن لم يكن من الحاضرين ، ليبادلوا من أتى إليهم بمثل ما أتى ويقطعون الأواصر مع من لم يأتِ .. أما من مات فقد راحت عليه الحسرات يوم دفنه وعاد للناس عند قبره لهو حياتهم بينهم وتبادل الأقنعة الزائفة وهم مازالوا جلوساً في دار مأتمه فلا ذكر لله ولا دعاء.. وكثيرون إن رأيتهم يصطفون في الصلاة تطالع على سحناتهم الخشوع والتبتل فلعلهم قد أتى بهم حسن الصوت فحسب في تلاوة الإمام ، وإن رأيت منهم بكاءً شديداً فلربما كان هو استصحاب لذكرى حزنٍ قديم أو مقيم حضرت مع ذاك الصوت الشجي بالقرآن ولكن ليس بكاءً على ما في آيات الكتاب المبين .. وأناس من بيننا لا يفعلون الخير إلا اعلاءً للواجب الاجتماعي وليس بقصد اخلاص النوايا في الترضي لله تعالى ، فلا يقدمون الخير للناس إلا بعدما يقدم لهم أولاً ..
أما في أروقة الدواوين والدوائر فحدث عنا أننا تداهناً نتبسم بين أيدي من له الرئاسة علينا وقلوبنا في الخفاء تلعن كل قولة منه وفعل .. ونشرئب بأعناقنا لنطاول أسفل موطئ نعل السيد فينا ونطأ بنعالنا رقاب الضعفاء منا ، ولا حياء .. وما ذاد وغطى أننا اينما تولينا وجدنا حولنا قلوب تغلي كالمراجل حسداً على السالمين الموفّقين في الحياة وفي الوظائف وفي العلوم وفي الزواج الكريم وفي فلاح الأبناء وحتى في العبادة ، فإن لم يطالوا أخوانهم بمحض الأيدي والمكيدة فإنهم لا يتورعون عن الكفران بالحق لدى كل ساحر دجال وضارب رمل وودع ليعقدون الأعمال السوء بأيديهم على الطيبين الغافلين عنهم ، وهذا آخر الزبد .. فكيف لنا من بعد ذلك لوماً على ديارنا البريئة ونحن من اقترفت ايدينا ميتة ودماً فاسداً ، فحتى وإن هاجرنا هاجرت معنا كل مآسينا وطوايا سرائرنا المريضة .. فهكذا ضرب الله علينا الفقر والمسكنة بذلٍ فندعوه فلا يستجيب لأيدينا المرفوعة إليه بالدعاء ملوثة بكل نفاق ومداجاة وحسد وكفران عشير وظلم ومالٍ حرام ومد بأعيننا إلى حرمات وحمى غيرنا .. ثم نعود نسائل أنفسنا في غباء لما ولى الله علينا بذنوبنا من يسوموننا سوء العذاب ، ومازال يولي .. لقد جعل الله كفارة الفرد الصالح حتى شوكة يشاكها ، فكيف بكفارة مجتمع كبير سوى حاكم مستبد وبطانة فاسدة وحاشيات قصور جائرة .. فهل نقتص أمام القضاء من حكامنا وولاتنا أولاً ، أم نقتص من بعض أنفسنا حتى ندرك لماذا عجزنا عن الاقتصاص من حكامنا وولاتنا .. ولماذا تظل أيادينا مشدودة إلى الأرض ناهيك عن ثقل أرجلنا عليها .. إذن ، لابد من حل هو لدى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، يقلبون أعاليها أسافلها .. واللبيب بالصمت دون الإشارة يفهم .

والأغنياء أيضا يقاطعون ..

والأغنياء أيضا يقاطعون ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (إذا كان للدنيا حد محدود ، فليس لمطامع الإنسان وامانيه حد ... ولو فرض أن استولى على الدنيا كلها لما قنع بها ، بل أخذ يفتش عن عالم آخر ليوطد به دعائم مطامعه .. فهيهات أن يقنع وهيهات أن تشبع النفوس الحبلى بالأماني والآمال ، وهب على حد ما قيل  : إن الطعام يقوي شهوة النهم .. يُخلق الطمع في صدر الرضيع صغيرا ، ويكبر وينمو مع الجسم ، ولكنه لا يهرم .. بل تراه في سن الشيخوخة أقوى منه في الشباب) ..
هذا ملخص الأزمة ، قدمه (مارون عبود) بكلمات مضيئة في صحافة زمانه .. وأنه للحق في القول أن الطمع علة كل رشوة واعتداء وربا وسرقة وسفك دماء .. وهو علة جشع التجار وطغيان الأغنياء   .. وحتى الفقراء لم يسلموا من الطمع فيما عند غيرهم ، يعاتبون القدر على ضنك معيشتهم وجفاف أقواتهم إلا من رحم الله منهم القانعين الشاكرين قسمة الله لهم وحق عليهم وعد الله (ولئن شكرتم لأزيدنكم) .. ولكن تصاريف الرب في الكون بمشيئته لا تسقط عنا واجب المنع لدوُلة المال بين الأغنياء منا فقط .. فكثير ما أمسك أغنياء البلاد عن بذل ريعهم والفيوض لفارغي البطون وهم بطونهم ملئ على مدى الأيام والليالي ، فهم إذن لا يعبئون بمن ماتوا في منازلهم غبناً وحسرات أن نخر السرطان الخبيث لحوم أدمغتهم والدواء معروض تحت أعينهم ولكن لا يناله إلا أهل اليسار والمال الوفير .. وليس هذا في حال المرض وحسب ، ولكن حتى أقل حقوق الغذاء هضمت ظلماً وقهراً .. فترى الشياه المنسلخة عن جلودها معلقة من أذنابها يتقاطر منها الدهن والدسم على حاملة القصاب الثري .. يعبر من أمامها الساعين من ذوي الأقداح المملؤة في قعرها ماء على خبزها المعجون وملحها شيء من دموع العين واعتصار الفؤاد هذا غدائهم لأيام بلا عد .. فأي غيرة تلك تجتاح القلوب وتمتلك العقول على مناظر دهن يتقطر تمتد إليه أعين الكادحين قصداً والأيدي عنها تكفكفت فلا تنال منه قطافاَ ولا حباً .. في حين تمتد إليها أعين الهانئين عفواً من خلف النوافذ في السيارات اللامعة فتأتيهم الأنعام مسومة محمولة على أكتف الحُمال بطلب وبغير طلب مادامت أوراق النقد مرشوشة على طاولات القصابين بغير حساب .. أفلا يخشى اولئك من مثل أصحاب الجنة أن أقسموا أن لن يدخلنها عليهم بعد يومهم مسكين فباتت جنتهم من بعد قسمهم بغير صريم .. أوليسوا هم من قال فيهم ربنا (وإذا مسه الخير منوعا) .. ولقد وُضع هؤلاء على المحك في أيام قريبات خلت أتى فيها الشعب بجمع من ابنائه بحملة لمقاطعة شراء اللحوم بسبب مغلاة التجار في أسعارها استغلالاً لوقت العسر الاقتصادي الشديد على الناس فدقوا بغير رحمة عدداً من الأصفار الزائدة على يمين أثمانها الحقيقية .. وما ذاك إلا لأنهم اعتادوا من الناس أنهم يدفعون باستسلام دائماً رغم التذمر والاعتراض ولكنه اعتراض شفاهي لا يخلف دونه أثر ولا طحين.. ولما كانت الجماهير الفقيرة لا يشترون اللحوم أصلاً إلا على أطراف أشهر متباعدة في حال دنو أسعارها أو بتوفر زيادة زهيدة في حظ المال .. فلذلك قامت الحملة تناشد أولئك الأغنياء القادرين على الشراء مهما غلا السعر ، أن يتضامنوا أخلاقياً وإنسانياً مع الأكثرية الفقيرة في مقاطعة متاجر اللحوم وبيوتات القصابين  وأن يتركوا تلك اللحوم لتعفن في محاجرها ، حينها ستنخفض الأثمان لزاماً .. ولكن هل ترى فيمن ننادي حياةً أم أن على قلوب اقفالها .. إنها معاناة شعب بأكمله في قوته ورزق يومه كادت به تضيع البيوت وتتشرد الأُسر ويدب اليأس في جوف الناس ، والجرائم المستحدثة بسبب الفقر والجوع والمرض تترا من كل فج وصوب .. فإن تتعفن كل اللحوم في محاجرها خير من أن يموت طفل واحد عن جوع أو عن مرض أو بضياع أسرة ، فإذا الطعام  لم ينتفع به إنسان فلا خير فيه .. وإن عز الطعام اليوم فماذا سيمنع أن يعز الماء غداً أو يعز الهواء .. فمتى صارت البلاد بعد هذا أرض مستضعفين فلن يبقى إلا أن يغلق الشعب أبوابها خلفهم ويمتطون الطوارد نحو المهاجر .. ألم ترى أن حالنا اليوم قد انبأ عنه (مارون عبود) قبل أكثر من مئة عام (فعليك السلام أيها الفقير الأمين الذي تفتدي صيتك بكل غالٍ ورخيص .. وأنت أيها الغني النهاب فغنى عن الإطراء لأن الذين نهبت أموالهم وهضمت حقوقهم يُذيعون مجدك .. فطوباك) .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

الاثنين، 9 يوليو 2018

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هنالك نظرية انجليزية قديمة في الفقه القانوني البريطاني تدعى بنظرية (اندماج سبب الدعوى في الحكم) The doctrine of merger of cause of action in judgment   وبمقتضى هذه النظرية يفقد سبب الدعوى ذاتيته بمجرد صدور الحكم وينقضي سبب الدعوى بأن يحل الحكم محله كمصدر للحق أو الالتزام .. وقد اوضح القانوني البارز (هنري رياض) ذلك شارحاً بأنه لا يجوز للخصم أن يرفع دعوى اخرى بناء على نفس سبب الدعوى حتى لو كان طلبه في الدعوى الثانية مختلفاً تماما عن طلبه في الدعوى الاولى وحتى لو تولدت الحاجة الى الطلب الثاني عقب صدور الحكم على الاول، اي ان القانون لا يعترف سوى بمطلب واحد على سبب الدعوى وبالتالي يسقط اي مطلب اخر ينشا عن نفس سبب الدعوى في حال الحكم القضائي على موجب المطلب الاول .. وهكذا تؤدي نظرية الاندماج هذه الى حرمان الشخص من التقدم بطلب مبني على نفس سبب الدعوى السابق وذلك بدافع تقصير آماد النزاع ومن ثم حث الخصوم على التقدم بكل طلباتهم دفعة واحدة حتى يتم الفصل فيها بحكم واحد .. ولكن اليس يحمل هذا اشارة لتعدي الحكم الصادر في مطالبة على سبب دعوى ما الى ان يلغي كل المطالبات التي قد تنشأ على نفس سبب الدعوى مستقبلا والتي قد يكون فيها حق لصاحب الدعوى وإن لم تظهر حيثيات ذلك الا بعد صدور الحكم على المطالبة الاولى فتقع بذلك مظلمة بينة على صاحب الحق لتكون بمثابة عقوبة ضمنية له بإسقاط الحق له في رفع دعوى قضائية لمطلب جديد على نفس سبب الدعوى المحكوم فيها .. اوليس هذا هو الوجه الاخر للعقوبة التي تتعدى موضع القدم مني لتبلغ نحو موضع الرأس لدى غيري  .. اوليس بداية اية قصة ظلم قانوني تنشأ في الاصل عن جملة من الافهام الخاطئة .. وأن ليس حقيقة ما نرى من سراب على الشوارع هو بماء ..
وما نخص الذكر به هنا هو توضيح أن من الحقوق ما هو موصول بمفهوم العمل الذي هو قيمة لا تعلوها قيمة لما فيه من سبب لعمران الارض وبقاء للشعوب ..  وهذا ما تعطيه يد العامل أيا ما كان عمله سواءً اقام بين الاضابير بالدواوين أو طعن بطن الارض والصخر بالمنجل والمعول .. فكيف تعيش الشعوب والامم إن نحن قطعنا عن عاملها مداد الماء والغذاء والكساء .. فإن يكن العامل هو المحرك لعجلة الوجود بدفعه المستمر في العمل، فإن ما يتقاضاه من أجر راتب على ذلك هو ما يكون زوادة عيش أسرته واهله وخاصة بيته .. تلك الأسر التي هي الوحدات اللازمة ليتألف منها عموم المجتمع وبضياعها يضيع، فلو أن عاملا قد اخطأ وجنت يداه بجرم ذات مرة وتم ايقافه عن العمل اشهر او سنوات الى حين اصدار الحكم النهائي عليه وتم تجميد الراتب طوال تلك المدة، فهكذا لم يعاقب هو كفرد قائم بنفسه بل تعدى العقاب بذلك لكل من تبع لقوامته ممن يعول من ابرياء النساء والولدان ومن بلغوا ورائه من الكبر عتيا، فإن ثبتت عليه الادانة وتحققت التهمة في حقه ثم أودع السجن عاش هو أيامه تحت ظل نفقة هذا السجن ما شاء الله له فيه وهناك المال عن اهله مقطوع .. فتلك هي العقوبة المتعدية بظلم حيث تطال عائلة الفرد الخاطئ اكثر مما تطاله بنفسه، واذ نكون قد كففنا عن المجتمع ظلم الجاني من بوابته فإننا قد اعدنا ظلم المجتمع من بوابة اسرته .. وبهذا تنهار العدالة في الدنيا .
لذلك أتى أمر الله تعالى أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(أن ليس للإنسان الا ما سعى)  ليكون قانوناً على الأرض تدور حولة اقصى درجات العدالة في كل شرائع بني آدم .. فلا عقوبة تتعدى مرتكب الخطيئة ، ولعل لذلك أن اتى العقاب جله في شريعة الله تعالى بالتوقيع على جسد الاثيم الجاني إما جلداً أو قطعاً أو نفياً أو اعداماً، ولكن ليس يتعداه الى ما يقيم أود رعيته وأبنائه من اسباب لقمة العيش وسترة الحال، إذ هم في الشرع قد صاروا اوصياء من حكم وليسوا اوصياء من ظلم أو اخذ نفسه بجرم فتعطلت بذلك مسؤوليته عليهم وصار لزاماً على الحاكم للمجتمع حق عقاب الجاني ولزاماً عليه لعائلة المحكوم بعقوبة حق خلفته فيهم لحين ان يرجع ..
ووفقاً لهذا المنطق ومن وجه اجتماعي غير ذاك الجنائي، أنه من الممكن اعتبار فائدة ما بعد الخدمة أو راتب المعاش لمن تقاعد عن العمل ببلوغه السن المقررة رسميا أو دونها أنها ليست لأجله هو وانما لأجل أن لا ينقطع مداد الحياة وأسبابها عمن تعلقت رقابهم بعنقه فلا يضيع منهم أحد .. هكذا يكون دوماً عدل الله في شريعته .. ورغم ذلك فلربما كان احياناً في (المعاش) كراتب دون عمل شيء من ظلم مؤثر على المجتمع .. إذ يحرم المجتمع نفسه من عطاء انسان قد تقاعد وهو ما يزال يقدر بقوة على العمل والكد وغرس الفسائل تحت التراب وصارت له من الخبرات ما يطاول به اعالي الجبال .. فإن كان لا محالة من منحه صفة المعاش وراتبه ليعيش من يعول دونه، فإذن من الممكن أن لا نجعلها (ما بعد الخدمة) بأن يكون قيد الخدمة مستمراً ولكن بمستوى مختلف عن ذي قبل إلى أن يبلغ مبلغ العجز الشديد عن الاداء .. وليس حجةً أن ندعي اخلاء المقاعد من الامام حتى يتاح للدماء الجديدة ولوج الوظائف بمداخل الخدمة من الخلف .. فإن كان لا محالة مدفوع راتب المعاش لهذا ومدفوع راتب الخدمة لذاك، فلابد اذن من عدم جعل هذا الرجل المعاشي عالة براتب معاشه على الدولة بنيل المال بغير عمل فهذه عقوبة تتعدى نفس العامل المنتج القادر الى المجتمع العريض دون جرم من احد، فلندع إذن كلاهما عاملاً ففي ذاك كسب للبلاد وبركة للعامل ورزق كريم للعائلة .. والأمر في هذا قد لا يحتاج الا لنوع من التقنين وتوفيق حال التوظيف والاستعمال وصياغة ابعاد مستحدثة للأوصاف الوظيفية وتعيين أوجه ومستويات الفائدة من العامل عقب تجاوزه للسن القانونية المسماة للتقاعد وبحيث لا يكون هناك تقاعد إلا لمن صار مقعداً أو معاقاً أو ذو حاجة خاصة .. وهناك الكثير على مثل ذاك من المتعديات بظلم خلف الجدر أو من وراء الحجب ..

احمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة

أحمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد كان ضرورياً لعلماء النفس والاجتماع وفلاسفة العلم أن يرسموا في مؤلفاتهم قاسماً مشتركاً اكبراً لعوامل التآزر والتغاير في مجموعة الوظائف الحيوية البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية من أجل الإبقاء على وحدة الكل ومن أجل أن يكون لدينا في النهاية كائن حي أو شخصية أو مجتمع .. وأياً كان الأمر فقد اقتضت كل جهود من ينادون بتصورات الهوية المستقلة لأي شعب وترتيب حقوق المواطنة على كل داخل تحت هذه الهوية أن يرسوا في البدء أساس التكامل الاجتماعي للوحدات البشرية لهذا الشعب أو ذاك ، وليخرج في الأخير ذلك القاسم المشترك الأكبر لهوية الشعب يحمل سمات الشخصية العامة له مزاجاً وانفعالاً واخلاقاً تلقائية ونزوعٍ فطريٍ وتقارب وجداني مع باقي شركاء تلك الهوية .. ومن هنا ننطلق .. فمن حيث أن اهلنا في بلاد النوبة يتشددون كثيراً في أن يحمل المنتمي إليهم سمات تلك الهوية النوبية التي بها يتكاملون اجتماعياً مع بعضهم البعض بعوامل التآزر والتآلف ، ويتكاملون بها مع غيرهم من الشعوب بعوامل التغاير والتمايز والاختلاف وما في هذا من تحقيق للتكامل الاجتماعي الشامل لبني آدم في كافة مطارح الأرض شرقاً وغرباً .. ثم حيث أنه ايضاً كان اغالب سكان الخرطوم الوسط في أيام منتصف القرن العشرين وحتى بدايات اواخره هم يحملون سمتاً مشتركاً بينهم في طريقة الحياة والذوق العام والتربية والثقافة حتى اسماهم بعض الوصافين بتيار مدرسة الخرطوم ، فكانوا هم آنذاك الذين أسسوا بيوتات الخرطوم العريقة سواء كانوا من أصحاب الميري الحكومي أو من الرأسماليين الوطنيين وموظفيهم أو كانوا تجاراً ، وجميعهم كانوا هم كادر الاستنارة والثقافة في مجتمع الخرطوم .. فكيف بالله جمع ذلك الرجل أطراف الخير من قلب وادي حلفا ومن قلب الخرطوم بل ومن قلب بلدة (حلوان) العامرة في بلاد شمال الوادي .. فإن كان قياسنا له على هوية وادي حلفا وبلدة (عبري) كان هو النوبي الصميم في تكوينه وعقله وخلقه وضميره الحي .. وإن كان قياسنا له على هوية بيوتات مجتمع الخرطوم الوسط الأصيلة كان هو ممثلاً اعظماً لآباء أُسر الخرطوم المحافظين ووجهاً نضراً من وجهائها .. وإن كان قياسنا له على هوية من نشّئوا في بلدة (حلوان) كان هو الأشد قرباً من نسيج أبناء السودان ومصر فيها .. هو الرجل الذي اجمع عليه كل من ادرك منه طرفا حباً واحتراماً وتقديراً عالياً .. رجل لم يكن ينطق بكلام كثير ، ولكنه إن تكلم كان نطقه قسطاساً وميزان وكانت كلمته حكمة وعدلاً .. وهو من تعلمنا منه في الحياة كيف أن القيم العليا والمثُل الرفيعة والعزائم الكبرى يمكن أن تُضرب لها الأمثال بشواهد صغيرة بسيطة فترسخ في الأذهان ولا تبارح .. فلا أنسى وقت ان كنت صغيراً في صفي الرابع الابتدائي وكان هو يقف ذات ليلة شاتية في آخر الصف الطويل عند المخبز وكان يقف زميل لي بالمدرسة في أول الصف عند الشباك ، فقال لي زميلي سراً وهو مملوء بالنية الحسنة لفعل الخير (احضر لي المال من والدك لأشتري له معي فيعفي نفسه من وقفة الصف الطويل) فعدت لوالدي بخبر زميلي فقال لي (من هم امامنا بالصف احق منا .. فتعلم أن لا تأخذ حق غيرك ولو سراً) ومن يومها لم أقدر أن اصطنع حيلة قط لأنال حظوة أمام الصفوف وأنا في آخرها .. ولا أنسى يوم أن نزل عن السيارة ليسأل عن أمر ما وظللت أنا الصغير أرقبه من داخلها ، فأراه يتواصل مع رجل بالمكان كمن كان له ولي حميم ، فعلقت له عندما قضى وعاد (واضح تماماً انه صديقك) قال (لا .. ولكن بادر الناس بمعاملة حسنة لن يملكوا إلا ان يعاملوك بالحسنى وإن لم يعرفوك) .. لا أحصي كم هي عدد تلك الامثال الكبيرة ألتي ضربت بشواهد صغيرة عابرة منه ولكنها كلها بقي أثرها معنا حتى اسرفنا في العمر بعدها سنين عددا .. وإنني جازم ، أنه حينما كان بطلاً للسودان في رياضة (الإسكواش) العنيفة كان مع كل طرقة من مضربه يلطم بها الكرة المطاطية الصغيرة على الجدار تحمل في غدوها قيمة وعبرة ثم عندما ترتد عن الجدار ترجع بحكمة منه وأثر بليغ ينطبع في نفوسنا ونفوس كل من حولنا .. وحتى في اعظم أحزانه وآلامه يظل مهيباً لا يئن أمام المشفقين عليه من وطأة الألم .. فعندما كفّن الموت والدتي ورحلت ، طعن الأوراق بقلمه فكتب عنها ما لم يكتبه باكٍ على مفقود له من قبل .. كتب عن رفيقة حياته بظنه أن كل النساء جمعن فيها ، فرأيناها بكلماته كما لم نعرفها يوماً في حياتها بيننا قط ، ويا ليتنا عرفناها هكذا قبل الرحيل .. واستمر يكتب عنها ولم يتوقف ولم يجف حبره يوماً أو ينكسر القلم .. والآن ، وهو يعيش ما بعد منتصف الثمانين من عمره مازال هو المعلم بضرب الامثال العليا في كل فضيلة وإيثار وخلق كريم .. ومازلنا نحن طلاباً في مدرسته نجلس في حضرته متأدبين على مقاعد الدرس ونستمع منه وهو ينطق فعلاً وليس قولاً فنتعلم ما لم نتعلم من غيره ..
هكذا يتوجب علينا إن اردنا بيان هويتنا وحقيقة وجودنا وانتمائنا ثم تكاملنا الاجتماعي أن تكون ضربة البداية هي (بورتريه) نرسمه لخاصة كل عظماء شعوبنا لا سيما من يقبعون في عقر ديارنا طول دهرٍ ولم يكتب عنهم أحد ..
عندما نعى (السادات) في أول بيان له وفاة الزعيم (جمال عبد الناصر) قال (فقدت الإنسانية كلها رجلاً من أغلى الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال ..) ولكننا على ذات المنوال نعلن (أنه الآن يحيا بيننا رجل لا ككل الرجال .. رجل هو كل الرجال) ..  إن كلماتي تدين له كما تدين له قدماي التي اسعى فوقها بإذن ربي .. عجز اللسان والبنان عن وصفه ، كما عجز الشاعر عند من يحب أن يحدق بوجهٍ وأن يرقص بساق ..  وإنما كان من نعمة ربي أن كان هو والدي وليس سواه (أحمد الكردي) وكفى ..

بوصلة الوجدان الشعبي

بوصلة الوجدان الشعبي ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

قضت الحبكة الدرامية في فيلم الأوسكار الانجليزي (Darkest Hour) من اخراج (جو رايت) وبطولة (جاري أولدمان) باحترافية بارعة تشخيص الأزمة الكبرى التي ضجت تبعاً لها قاعة مجلس العموم البريطاني في أيام الحرب العالمية الثانية جراء احتجاجات اللوردات والنبلاء من رجال مجلس الحرب على تردد رئيس الوزراء (ونستون تشرشل) W. Churchill في اتخاذ موقفاً حاسماً لقبول التفاوض مع الألمان خوفاً من اجتياحهم بريطانيا كما حدث مع بلجيكا وفرنسا وكان هو  أميل إلى رفض التفاوض ورفض قبول شروط (هتلر) حال التوصل إلى معاهدة سلم بين الدولتين .. كان (تشرشل) يدرك أن النزول على شروط (هتلر) معناه تعليق الصليب المعقوف الألماني على مصالح ودور الحكومة البريطانية جانباً إلى جنب مع العلم الانجليزي رمزاً للسيادة الألمانية ، وسيطأطئ الشعب الانجليزي حينها رأسه .. وحيث ان علية القوم قد تعقد الأمر أمامهم وأعياهم الحل في إقناع (تشرشل) فقد نزل هو إلى ضواحي (لندن) حيث يسعى العابرون من العامة على الطرقات ويتصرفون بحدسهم التلقائي في الاحتماء من الأمطار ، ويترك سيارته ليركب معهم في إحدى الحافلات الشعبية ثم يظل يسأل كل من هنالك من أبناء الشعب الانجليزي العاديين أن لو كانوا هم قيد الأمر اللازم فهل سيقبلون بالتفاوض رغم الثمن المدفوع أم يرضون بالحرب مع الموت بشرف ولربما كان خيار الحرب حينها هو السبيل الأكثر سلماً .. الكل اجابه بالرفض المطلق للحياة هوناً تحت سقف الألمان ، قالوا ذلك وكانوا هم الأجدر من رجال الحرب بالخوف على حياتهم ومعاشهم .. وحتى الطفلة البريئة في الحافلة رفضت .. كتب (تشرشل) أسماءهم على ظهر علبة أعواد ثقاب وهو الذي لم يعرفهم قط من قبل ولكن ذلك كان اوقع كثيراً في التأثير على رجال الدولة بالبرلمان .. كان ما فعله (تشرشل) هو استشعار لبوصلة وجدان عموم الناس فرآها تتجه نحو ما يضمره أبناء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من اعتداد بالذات وعزة للنفس تلك التي بدت فيهم بدءاً من الحفاظ على تقاليد نطق الكلمات الإنجليزية على صورتها الرصينة وحتى نظام الهيئة الملكية الموقرة على مدى القرون واختلاف الأجيال ، ومن هم على نمط (فيلاس فوج) الشخصية الانجليزية الصميمة محور رواية (جول فيرن) العالمية (ثمانين يوماً حول العالم) يحصي عدد خطواته في السير إلى امكانه المعتادة كل يوم ويرقم أطقم ازيائه الرسمية من ربطة العنق إلى الحذاء بحسب كل يوم من أيام الأسبوع ..
 هكذا انطلق (تشرشل) بوحي بوصلة وجدان الشارع الانجليزي العام والبسيط إلى قاعة البرلمان ليضرب على أوتار اللوردات والنبلاء ورجال مجلس الحرب بنفس اتجاه تلك البوصلة الوجدانية ، فكانت النتيجة أن حصل على تأييد مطلق وبحماس شهد له التاريخ كان فيه من كان في الحكومة مع من كان في المعارضة سواء .. وسطع نجم (تشرشل) كأشهر رئيس للوزراء في تاريخ بريطانيا العظمى .. ولعله بذات المنطق في التماس بوصلة الوجدان الشعبي قام بتحويل معركة انجلترا مع الألمان الى معركة طائرات باستغلال الصعوبة التي واجهت الألمان في اختراق الحدود البحرية المحيطة ببريطانيا كمدخل وحيد لها ، فلم يكن مفر من استخدام الجو حيث رجحت فيه كفة الطيران الانجليزي ..
إن الشاهد الرئيسي في هذه الواقعة التي كانت محور الدائرة وحجر الزاوية فيما قد يستفاد من الفيلم هي أن الخبرة الأكاديمية والمهنية الكثيفة من الممكن ان تكون عائقاً حقيقياً احياناً بسبب المبالغة في تعقيد التفكير أمام حل بعض المعضلات الحيوية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بل وفي أمور استراتيجية عالية الأهمية .. ولكن قد يأتي الحل جزلاً سهلاً بسيطاً واضحاً  من عامة الناس تنطق به حكمتهم كأنهم يرون من جدار شفاف في حدود مجريات حياتهم اليومية القصيرة وليست مثقلة قريحتهم الفطرية بعبء زخم الخبرات العلمية والمعرفية المتقدمة .. فأحيانا اعظم المعضلات الاستراتيجية تحتاج فقط إلى رؤية أمثال أولئك الناس العاديين أو البسطاء .. وربما يحسم (بيدق) لا يؤبه له بكونه الأدنى أهمية في لعبة الشطرنج مبارة كاملة لصالح فريقه بحركة بسيطة تبدو كما لو فكر فيها هذا البيدق بعقله هو وليس بعقل الملك او الوزير .. ولذلك عندما تكون الحرب هي الخيار الأكثر سلماً فلا مناص من تحسس بوصلة الوجدان الشعبي من ادنى فرد إلى أعلى فرد في الأمة  لاسيما إن كانت تلك الحرب ليست حرب قتال وسلاح وإنما حرب شرف وأخلاق لعموم الأمة..

الجسور الثقافية

الجسور الثقافية ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
لعل من يطالع رواية (الجذور) لمؤلفها (اليكس هايلي) يرى أنه قد شاء من ضمن أغراضه في تأليف الرواية أن يعرض تصوراً لنسيج التكامل الاجتماعي السلمي والمتجانس بالفطرة هناك في قرى افريقيا القديمة وبلداتها .. ثم كيف كانت صدمتهم قاسية أولئك الذين انتزعوا من بيئتهم مرغمين ليدخلوا في نسيج اجتماعي من شكل جديد غير مألوف لديهم وفي مكان غريب .. هكذا فعل قادة الرق من بيض الولايات الأمريكية من ذوي الاصول الأوروبية فيمن استقدموهم قهراً كعبيد سود من باطن افريقيا الهادئة المطمئنة .. كان نمط حياتهم الجديدة تحت الأسر عسيراً مؤلماً بنفس قسوة انتزاع الجلد عن اللحم .. ومرت عقود وقرون إلى أن صار لأحفاد أحفاد هؤلاء الزنوج المساكين بعد أن تم لهم التحرير فرصة  لإعادة تكوين شكل جديد لتكاملهم الاجتماعي في تلك الاراضي التي باتت موطناً لهم غير موطن اجدادهم .. وربما كان نسيجهم الاجتماعي الجديد مع اقرانهم من احفاد السادة البيض فيه ملمح ما من فطرتهم القديمة ، ولكن لن يعود هذا كما كان ذاك مطلقاً  ، وحتى بعد ان صار واحد منهم رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية .. ومنذ ذلك الحين صار التفكير المعاصر في تحقيق التكامل الاجتماعي الشامل لأبناء آدم قائم على شرط التواصل والصلة بين كافة شعوب الأرض ، ولا مناص أن تكون هذه الجسور الممتدة بينهم جسوراً ثقافية حيث لم يعد هناك سبيل لهيمنة حضارية جبرية لشعب على آخر وحيث أن الجسور الثقافية لاتزال تعكس حالة كل شعب أو فئة اجتماعية من خلال المميزات الخاصة لطرق حياتهم  ثم من أين يمكن الدخول إليها لعمل التعارف المطلوب كما أمر رب العالمين .. وصدق عالم النفس الاجتماعي (جدسون هيريك) C. J. Herrik عندما قرر أن التكامل الاجتماعي بين الأفراد وبين الشعوب على السواء لا ينطوي على معنى التآزر فحسب بل وعلى معنى التغاير أيضأً وذلك حتى يكون التكامل دينامياً لا تكاملاً ثباتياً (استاتيكياً) ..لذلك كان لابد من اللجوء إلى منهج التحليل الفلسفي من أجل إظهار المكونات الثقافية المتفردة لدى أي من الشعوب ، وحيث لنا أن نعمل وفق وصية الفيلسوف الإنجليزي (فيتجنشتاين) Wittgenstein بأن نترك كل شيء على حاله لدى كل شعب ولا نعبث به حذفاً وتقطيعاً وتخليقاً إلا ما شان منه كرامة الإنسان ثم نكتفي فحسب بالتحليل من اجل الفهم والمعاملة ونقل وتبادل الأثر واختيار امثل السبل للتواصل ..
إن مد تلك الجسور الثقافية من أجل التكامل الاجتماعي الشامل والمتفاعل بين الناس هو الذي يفسر بجلاء ما يتميز به الكائن الإنساني حقيقة عن غيره من الكائنات التي حاول الكثير من علماء الأحياء والانثروبولوجيا إيجاد نسب وأصل مشترك بينها وبين الإنسان مثل قردة الشمبانزي وغيرها ، وقد ثبت هذا التميز للإنسان في فعل انفرد به على عدة أوجه منها المثابرة على المنتج المتواصل واتساع مجال الحياة الزمني نحو المستقبل وهذا بعكس ما لدى الكائنات الأخرى غير الإنسان حيث يتسع المدى الزمني لديها نحو الماضي ، وبالتالي فليس ثمة ما يعرف بالتخطيط الاستراتيجي في صياغة الصور الجديدة والمتطورة للمستقبل البعيد إلا لدى الإنسان .. كذلك ايضا (الاستقرار الوجداني) الذي يتطلبه الاستمرار في عمل ما بفعل ارتباط الإنسان بقيمة الهدف من هذا العمل ، وهو أيضأً ما يخلق الأساس النفسي المهم لظهور السلوك التعاوني بين الناس الأمر الذي يحيلنا فوراً إلى مبدأ انساني اساسي وهو (القدرة على اعتبار الآخر والاستجابة له في مستوى الخيال) وهو على نحو ما عبر الدكتور (مصطفى سويف) احد أبرز علماء النفس في الشرق الأوسط بقوله (قد تصادفني في الطريق دمية لا البث أن اشتريها لأني اتخيل مقدار الفرح الذي ستدخله على ابنتي عندما افاجئها بها ، وقد أؤجل شراء شيء يلزمني من أجل ان أشتري بثمنه هدية اقدمها لصديقي ... في هذه القدرة تكمن بذور المشاركة الوجدانية واستطاعتنا تغيير موقفنا تبعاً لموقف الآخر)   ..
وعلى هذا الأساس ، وكما قامت تنظيمات في العالم بإنشاء مؤسسات انتاجية تعاونية تقوم في جوهرها على الرابطة الاجتماعية التكاملية بين افرادها .. قامت ايضاً حركات تحقق نفس الغاية في التكامل الاجتماعي العام بواسطة عنصر الثقافة والتبادل والتداخل الثقافي التعاوني والذي يظهر فيه نقاط الاختلاف والتمايز بين الشعوب وفي نفس الوقت تكون هذه النقاط عينها هي أدوات ولوازم التكامل الاجتماعي الثقافي ، الأمر الذي يمكن أن يجسد هذه الحركات على هيئة (تعاونيات ثقافية) إن جاز التعبير ..
فإذن ، والمقام هكذا ، يكون علينا واجب تشجيع وتقوية اي مبادرة في بلادنا لإنشاء تعاونيات ثقافية والإشادة بمخرجاتها الفاعلة .. عسى الله ان يجعلها مفتاحاً تفتح به ابواب ونوافذ التكامل المجتمعي لأواصر البلاد ، ووعياً وعلماً سائغا للقارئين ..

رائحة التراب

رائحة التراب ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
عندما تصمت كل دعاوى الهوية والمواطنة .. يعلو صوت أخير معلنا مصيرنا المحتوم بالأرض ، وتتكلم الأرض عن حقها.. يتغير الإنسان ويتبدل الأشخاص على مر الزمان ، ويأتي بشر على إثر بشر .. وتصير وجوه الناس حيناً حمراء وحيناً آخر بيضاء أو سمراء .. وتغادر اسراب الطيور مراتعها في قلب المدن دوماً إلى أماكن جديدة فربما هي لا تعرف معنى الأوطان .. وتظل الأرض هي الوطن الحق للإنسان ، تنبض بصمت تحت آثاره عليها فتطبع بصمتها على كل هامات المنازل والبيوت بأسطحها المربعة واحواش الرمال ، وتدمغ الشوارع والأرصفة ومنابت الأشجار وهوام الطريق بدمغة لا تتكرر في غيرها .. الوطني على الحقيقة هو من عشق أرض بلاده بلا تحديد لشمال أو جنوب وعشق من أجلها وجوه الناس فيها من كل مضرب وصوب ، وعشق لأجلها منازل الطابق الواحد والطابقين وقباب المساجد وقطاطي القش في الريف وعواصف الشمس الاستوائية وغبار الشتاء والصيف .. فأجمل ما في أرض بلادي أن ظل سمتها ومحياها بارزاً ولم يختفي ترابها الأسمر تحت أرصفة الحارات وتحت الأسفلت القاسي .. فلا يزال التراب الأسمر معلناً عن نفسه كلما بللته زخات المطر ورشات المياه برائحة كما رائحة الأم للطفل الرضيع يظل الواحد ينتشي بها حتى ارذل العمر .. ولن يضيع النيل العظيم وإن علت فوقه الجسور كثيفة ، وإن غطت العبّارات والعوامات الكثيرة وجه النهر .. والخير لبلادي في أن يظل شكل الأرض والعمران فيها ما كان منذ بدايات الخرطوم وامدرمان وحتى مطالع القرون الجديدة ، وأن الجديد فيها لا يمحو القديم ثم هكذا يكون أبنائها .. إن ارض السودان كانت هي أولى بكلمات الشاعر الأمريكي (وولت وايتمان) في ديوانه (أوراق العشب) :
)  إني اعتقد أن كل ورقة عشب لا تقل عن رحلات النجوم والافلاك
نجد الكمال نفسه في حبة الرمل وفي بيضة العصفور الصغير
على حين تحاكي الضفدعة أسمى أشياء الكون
وتخاطب أشجار الكروم اشجار الحور في السماء)
وأولى ايضاً بأوصاف الروائي الانجليزي (جورج ميرديث) في قصيدته 'ميلامباس) :
(تدور الغابات كظلال الشجر المورقة
تشبه حركاتها حركة الحياة ذات الجذور الضاربة
تمنع الفوضى حيث تنصت إلى التراتيل البدائية)
ولما كانت الحياة الطبيعية الحقيقية تصل إلى أعلى درجات كمالها في الإنسان الذي يعرف كيف يستمد طاقاته من الأرض .. وكما كان (ميلامباس) في الأسطورة الاغريقية يستمد الحكمة والنظر الثاقب من كائنات الأرض فتريه العاطفة البدائية النقية على حقيقتها .. وكما عرف (حي بن يقظان) في الرائعة الروائية الفلسفية بريشة (ابن طفيل) طريقه الى الله دون عون من بشر قط ولكن فقط بمحض تأملاته في ارضه وكائناتها .. كذلك نكون نحن ، أو علينا أن نكون ..
لقد كان الخلاف على هوية أهل السودان مثلاً اكثرنا حوله الجدال بسؤال انفسنا مراراً في محافل الثقافة والسياسة والعلم وحتى على موائد الطعام (من نحن .. وما هويتنا ؟ أهي العروبية أم هي الافريقانية ؟) .. والإجابة بالانحياز لأي منهما يخلق مشكلة زائفة ، فمن سلامة المنطق أن يكون القياس على الماهية بالدوائر الصغرى أو الأكثر تضييقاً حتى يأتي الحكم اشد تركيزاً ، والدائرة الضيقة هنا هي أرض الشعب وأرض القبيلة على سنة الله في الخلق وهي البلد وليست ارض شعوب كثيرة بنحو القارة .. وأفريقيا ما هي الا قارة أي قطعة واسعة تضم فيها اصحاب الأعراق الزنجية وبنو (حام) كما تضم شعوب البجر المتوسط وأطراف الأطلسي .. وسواءً تحدثوا العربية أو الامازيغية أو السواحلية او الفرنسية بلكنة عرجاء فليس هذا سبب كافٍ للقول بهوية أفريقية .. ليست هنالك هوية أفريقية كما ليست هنالك هوية عربية إذ العربية لسان وأداة تواصل وفهم .. ولكن الهوية هي الانتماء الحقيقي لأرض ولدنا فيها ونشأنا عليها واختلطت شمسها وهوائها بلحومنا ودمائنا ، ولا عزاء في ذلك لمن ولد ونشأ في بلد أخرى بأنه ينتمي إلى أرضنا فقط بوثيقة جواز سفره ولما يصبه من الأرض شيئاً مما أصاب قاطنيها .. فمن كان سودانيا فذلك لأنه خلق على أرض السودان وتلك هويته فلا يعود محتاجاً لاستيراد هوية من وراء حدود أرضه بعروبية أو بأفريقانية .
ولعل تأثير الأرض يظهر جليا في اسلوب ونمط التواصل ، فلأننا على هذه الأرض دون غيرها فإننا نتكلم العربية بدارجة محلية ليست تماثل دارجة من يتكلمونها في الأقطار الأخرى .. فالمحك إذن ليس هو ان السودانيون يتحدثون باللغة العربية ولا أن الجزائريون يتحدثونها ، وإنما المحك هو في كيف يتحدث السودانيون العربية وكيف يتحدث الجزائريون العربية .. بحيث إن اراد باحث أن يفهم عقول السودانيين في تواصلهم فليس عليه أن يدرس اللغة العربية في نسختها الفصيحة القياسية بل عليه أن يدرس خصوصية استخدام السودانيين للغة العربية في لهجاتهم الدارجة .. وأما عن الجانب القاري ، فلعل ابناء العمق الافريقي في الوسط والشرق والغرب والجنوب من ذوي الادمة الزنجية السمراء هم المهمومين من دون العالم برسم هويتهم على الاساس القاري بالآفريقانية وليس على اساس اختلاف مناطقهم وأراضيهم داخل أفريقيا .. في حين نرى الالماني والانجليزي والفرنسي في أوروبا لا يقسمون على أوروبا نفسها في تعيين هوياتهم وإنما يقسمون على بلدانهم مباشرة فالألماني يقول أنا ألماني والانجليزي يقول أنا انجليزي والفرنسي يقول أنا فرنسي ، وهكذا .. ومثل ذلك في دويلات آسيا وامريكا . والشاهد في هذه الدعوة إلى افريقانية الهوية هو خصوصية الحالة الاستعبادية التي خضع لها شعوب افريقيا السوداء منذ القرن الثامن عشر في بلاد اجنبية بعيدة خارج افريقيا تماماً نحو اواسط وأقاصي الغرب حُملوا اليها قهراً وتعذيباً من لدن اصحاب الجلد الأبيض القوقازيين أو الآريين، ومن هناك نشأت نداءات وحركات التحرر باسم كافة من ينتمون لشعوب افريقيا ، ثم من هناك ايضاً تحركت تلك النداءات بشكلها الجاهز هذا لتصير اجندة عمل وبرنامج ترسيم هوية داخل افريقيا نفسها ، أي انه تم استيراد الفكرة ..
إذن ، ليست القارية هوية وليست اللغة بذاتها كفصحى هوية ، وإنما الهوية هي الانتماء لأرض لتبدأ من القرية ثم ما اعلى منها .. وكلما اتسعت الدائرة ضعف أثر الهوية .. وهذه الأرض قد شكلت مزاج وعقل من قام عليها .. وعلى ذات المنطق تكون هوية السوداني أنه ابن ارض السودان وكفي ، ولنتجاوز ذلك الجدل الزائف حول أصل الهوية فإنسان هذه الأرض هو عنصر قد انصهرت فيه أعراق عديدة فلم يعد لها فيه بذاتها تمييز وتفصيل ، وليصبح كل واحد منا هو ما هو عليه نتاج أخير ومحصلة نهائية .
أظهرت لي الغربة .. كم اعشق ثرى وطني .. وكم طغى الحنين إليه فخنق الدمع الكلمات في أصل اللسان .. وكم حبست العبرات عن العيون النظر .. وكم صارت المآقي جوفى من شدة الظمأ لنيل جرى مجاري الدم فاختلط بنبض القلب وتعلق بأستار الروح .. وكم بات الوجد حاراً .. حاراً يصهر ما بين النفس والضلوع .. يصهر فؤادً لطالما نشق عبق أزهار النيم في مطالع الصيف بعد شتاء قصير ..
إن الوطن ليس هو بيوت وأناس وأرض وماء .. ليس هو رزق ومال وعلم ونماء ..
إن التعريف الوحيد للوطن هو انه (أم) فكما تشكلت في رحم أمي نطفة وعلقة ومضغة وطفلاً    تشكلت في رحم الوطن تراباً وعشقاً وشوقاً وهوى .. فأنا لي أم من بني الأديم كانت هي الإنسان .. ولي أم من بين البلدان كانت هي السودان ..


الانسان الحائر بين الحقيقة والخيال (بحث في جدلية العلم الكوني والمجلد السردي والنص المحكم)

الانسان الحائر بين الحقيقة والخيال
(بحث في جدلية العلم الكوني والمجلد السردي والنص المحكم)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مدخل :
هذه المقالة تبحث في العلاقة الجدلية للتناسب العكسي بين اتساع الخيال وضيق القوانين العلمية ليكون الناتج هو مجلدات سردية سواء بالمرويات الأدبية أو بالنظريات العلمية، مما يستوجب الاسترشاد والتوجيه بمراجع كونية علوية هي النصوص المحكمة.
جدلية العلم والسرد والرسم الخيالي :
ذكر (جيلبرت رايل) Gilbert Ryle في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين اذهلتهم صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدوه فيها، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخاري. فقام أحد الفلاحين وقال "نعم سيدي المطران، نحن قد فهمنا تماماً كل ما قلته عن الآلة البخارية، ولكن بالفعل هنالك حصان ما داخل تلك الآلة، أليس كذلك؟". (1) 
إن هذا الفلاح البسيط لم تيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرها خيل، وبالتالي فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وانما من الداخل، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال. وبالرغم مما يبدو من سذاجة الفكرة لأول وهلة إلا أنه لو حدث الأمر كما تصوره الفلاح فعلياً، عندها كان سيكون هذا فتحاً في تاريخ الكشوفات العلمية أعظم ربما من اختراع الطائرة دون طيار. إذا أن ذلك سوف يعني أن العلم Science قد بلغ درجة إلى الحد الذي أمكن فيه تطوير عقل الحصان ليحل محل الإنسان في قيادة القطار فيكون هو وحده القائد والمتحكم فيه. هكذا تكمن خطورة الابداع الإنساني فيما يسمى (الخيال).
ولو أننا اعطينا كل فرد في العالم في وقت واحد ورقة بيضاء، وطلبنا منهم أن يرسموا كائناً خرافياً أو اسطورياً بمحض الخيال المجرد، ثم جمعنا كلها وأخضعناها للمقارنة الدقيقة لما وجدنا أي تطابق بين أي منها، ولكنها كلها برغم هذا التباين لم تخرج عن حدود مفردات الواقع المشتركة بينهم من طول وعرض وارتفاع وعمق ودائرة ومثلث ومربع ومتوازي والخط المستقيم والخط المتعرج والمنحني ومبدأ العين ومبدأ الأنف والفم واليد والأرجل، وهكذا. هي فقط إعادة تشكيل وتركيب وترتيب أوضاع بتصورات فردية لنفس المفردات الواقعية المشتركة بين الجميع والتي تشكل سقف أو حدود الخبرة لديهم ودون أن يأتي أحد بمفردة أو عنصر خارج عن هذا العالم الذي نعيش فيه مما يعني أن احتمالات تكوين وإعادة تكوين الاشكال من هذه العناصر أو المفردات وفق الخيال الإنساني المجرد هي احتمالات مفتوحة أو لا نهائية. وفي مجمل الأمر، يحاول الانسان دائماً الخروج من حدود أو إطار الواقع المفروض أمامه إلى آفاق الخيال المرسوم في ذهنه عن هذا الواقع. وعلى هذا يمكن القول أن كل الابداعات العلمية النظرية قد ظهرت على أساس من افتراضات أملتها هذه المخيلة الإنسانية كتفسير لحقيقة الوجود الذي نعيش فيه. وما يدعم هذا القول هو الكشف عن طبيعة مسألة الفرضية العلمية في ذاتها ومن أين يأتي وكيف يتكون في ذهن العالم، فإذا علمنا أن أكثر ما يتصل بنشأة الفرضيات العلمية هو العامل الباطني – هذا بخلاف العوامل الخارجية التي تنتج الفرضية بناء على مقدمات مسبقة تترتب عليها نشأة الفرضية منطقياً – لتأكد لدينا دور المخيلة التجريدية المهم في البناءات العلمية. فهذا (عبد الرحمن بدوي) يؤكد على لسان الطبيب وفيلسوف العلم الفرنسي (كلود برنارد) C. Bernard في كتابه الشهير (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي) أن أكثر الظواهر التي شاهدها كبار العلماء وأقاموا عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها التي يشاهدها الناس كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه لديهم، فظاهرة سقوط الاجسام مثلاً هي ظاهرة مشاهدة في كل وقت وعند كل انسان ومع ذلك لم يصل أحد قبل (نيوتن) I. Newton إلى وضع قانون الجاذبية، فالأمر يتوقف في هذه الحالة على العوامل الباطنة أي الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد، وهذه العوامل الباطنة هي ما تجعلنا نفترض بنوع من الوجدان أو العيان الحدسي ما عسى أن يكون القانون الذي عليه تجري الظاهرة وبحيث أننا لا نستطيع أن نضع قواعد للاختراع في العلم ولا أن نعلم القواعد التي يمكن أن تراعى في إنشاء الفرضيات الجيدة أو المنتجة لأن هذه مسألة فردية خالصة، إنما القواعد التي نستطيع أن نضعها هي تلك المتصلة بما يتلو وضع الفرضية، أما قبل وضع الفرضية فالأمر يتعلق بشيء ذاتي (2) وهو ليس شيئاً غير ما نسميه بالمخيلة والخيال. إن تكوين الافتراض العلمي في ذهن العالم يتبع تماماً رهان (بيضة كولمبوس)، فعندما عاد (كريستوفر كولمبوس) Ch. Columbus من رحلة استكشافه لأمريكا غانماً استخف بعض حساده بكشفه وقللوا من شأن إنجازه في حفل تكريم ملك اسبانيا له حتى أن أحدهم قال أنه لو أطلق سفينة شراعية بلا ربان فحتماً ستصل إلى ما وصل إليه، فاستمع إليهم (كولمبوس) ثم استأذن الملك في الرد عليهم، فأخذ بيضة من السلة وتحداهم أن يستطيع أحدهم أن يوقف البيضة على رأسها المدبب، فهذ حتماً أسهل من اكتشاف أمريكا، فعجز الجميع عن ذلك، أما (كولمبوس) فقد نقر قمة البيضة المدببة فأحدث في قشرتها تجويفاً صغيرا فكان أن أمكن للبيضة أن تستقر واقفة عليها. كلهم كان من الممكن أن يفعلوا ما فعله (كولومبوس) ولكنهم كانوا لا يمتلكون نفس مخيلته، فضاقت أبصارهم عن رؤية الفرضية الكامنة وراء حجته. وكذلك سقطت الملايين من ثمار الأشجار على رؤوس ملايين العلماء أو ما نحو ذلك دون أن يستنبط أحد منهم فكرة الجاذبية، وحده (نيوتن) Newton I. فعل.
ثم رأينا كيف أدى العامل الباطني في تكوين الفرضية العلمية إلى ادخال مفاهيم جديدة في العلم مثل : (دور الملاحظ) role of observer و(سقوط السببية ) collapse of causality و(حرية إرادة الالكترون) free well of Electron حيث لوحظ أن الالكترون في مداره حول نواة الذرة يخرج عنه دون سابق انذار ودون مسوغ معلوم ليبدأ مساراً جديداً مما يدل على عدم خضوع الجسيمات الدقيقة لقانون سببي (3). ولقد ترتب على هذه المفاهيم التصور بانفلات المادة بفعل الانعكاسات المتبادلة بين (الكون – الوعي) الأمر الذي أفرز ما سمى بظاهرة (الشذوذ السببي) causal anomalies والتي تتجاوز القياس الاستقرائي التقليدي ويفقد بسببها عنصر التنبؤ العلمي (4)، ومن ثم أصبحنا نستطيع أن نتصور - على غرار مبدأ اللا نهايتين لدي (بليز باسكال) – عوالم على مدى الكون الكبير (نسبية أينشتاين) والكون الصغير (الكوانتم) يكون من المستحيل فيها فيزيائيا تطبيق أياً من منهجي (التحقق) Verification و(التكذيب) Falsification على قضايا تجريبية معينة إلا على نحو احتمالي فقط (5)، وهو ما تمثل في ما عرف في الأدبيات فيزياء الكوانتم Quantum physics بمبدأ الارتياب أو اللايقين uncertainty principle لدى (هايزنبيرج) Heisenberg ويفيد عدم قدرتنا على الحكم بماهية الجسيم لكم الطاقة نسبة لعلاقته بالضوء المسلط عليه معملياً، فالجسيم أصلاً في حالة حركة فإذا اسقط عليه الضوء من مصدر بعيد تشتت تركيز الأشعة الضوئية المنتشرة ولم تكفي لإدراكه، وإذا اسقط من قريب زاد تركيز الأشعة الضوئية من سرعة حركة الجسيم فلم يمكننا تعيينه أيضاً (6). وانحسب هذا الأمر إلى ميدان الرياضيات كذلك حيث برز العالم الألماني (كورت جودل) K. Goedel بمبرهنة (عدم الاكتمال) incomplete فحتى الرياضيات في شكلها الصوري الصرف القائم على البديهيات تنفلت من تحت يدها قضايا سوف تبقى بالنسبة للإنسان إلى الأبد غير قابلة للفصل فيها لأنه لا يمكن اثباتها ولا دحضها، إذن فالرياضيات التي تفسر بها قوانين العالم ليست دائماً مكتملة (7). وهكذا تذوب الأحكام المنطقية الصارمة على كل القضايا بالصدق والكذب وحدهما، وصار الاتجاه نحو تكوين واحلال (منطق القيم – المتعددة) Many – valued logic حيث اثبات اشتمال الحساب المنطقي على قيم غير محددة أو غير متعينة بين طرفي الصدق والكذب، فالقضايا يمكن أن تقع في حالة ظرفية معينة من أحوال حدوثها ولا يكون في مقدورنا وقتها القطع بأحكام الصدق أو الكذب عليها (8). وكان هذا هو المنطق الذي أدى ببعض العلماء الفيزياء المعاصرين ممن اتسعت لديهم مساحة الخيال فتواضعوا على نظرية فيزيائية تضم كافة نتائج الفيزياء الحديثة (الكوانتم والنسبية) تعرف بنظرية (الأوتار الفائقة) Superstring theory والتي تم التعبير عنها بنحو اخر بنظرية M (M Theory) ليخلصوا فيها إلى أن هذا الكون هو أكوان متعددة متوازية قد تتحقق فيها كل الاحتمالات الساقطة أو التي تم استبعادها عن كوننا هذا الذي نعيش فيه من خلال تمدد جسيمات الطاقة ونفاذها إلى تلك المتوازيات الوترية الكونية فلا يصدر – كما نتوقع والحال هكذا – خيال بإعادة تشكيل مفردات على غير الواقع في الكون الراهن ألا ولزم له صدى وتجسد في كون آخر، فقد صممت هذه النظرية بطموح أن تحوي كل شيء. وعندما سئل الفيزيائي النظري في المركز الأوروبي للبحوث النووية في سويسرا (جون إليس) J. Ellis عن نظرية الأوتار الفائقة، قال بأنه يعتقد أن من الخير أن نفكر في صورة الأوتار التقليدية التي نعرفها ونألفها كأوتار آلة (الكمان) على سبيل المثال، فنحن إن قرنا وتر بالكمان أمكنه أن يهتز بتوترات عديدة وعلى مستويات مختلفة، والوتر الفائق على هذا المنوال فأنواع الجسيمات الأولية المختلفة تقابل فيما يبدو الاشكال المختلفة لاهتزازات تلك الحلقة المنتجة للأنغام المختلفة الصادرة عن وتر كماني واحد، فهناك في الحقيقة عدد غير محدود من الأساليب الاهتزازية التي يمكن أن يتخذها الوتر الفائق، والجسيمات الأساسية التي نعرفها حتى اليوم والأشياء التي يتكون منها كل ما حولنا تقابل بالضبط السلم المنخفض في البناء النغمي لما يمكن أن يصدر من وتر واحد معين (9). إذن ليس بغريب أن يسعى الخيال السردي لدى الروائي الإسباني (ثيرفانتس) أن يبدع ضمن أشهر روائع الأدب العالمي لشخصية خلاقة بنحو (دون كيشوت) Don Quishott فيجعله يغرق في أدب الفروسية وقصص الفرسان في زمان النبل والنبلاء الذي أفل منذ سنوات بعيدة حتى تمثلها كلية واختلطت بشخصيته وتصوراته وطغت على عينه فلا يعود يرى الحاضر الذي يعيش فيه، ولا يرى نفسه إلا فارساً يعيد اسطورة شرف الفرسان وعهد النبلاء بكل تقاليد النبل والفروسية حتى ولو كان ذلك محض خيال رمى به إلى مبارزة طواحين الهواء على أنها عمالقة أشرار فيسقط على الأرض مدرجاً بالدماء والجراح تنزف، ولكن ما يجعلنا نفسر الأمل الذي كان دافعة للقيام والمضي في طريقه الذي عزم  كان أن يكون هذا الخيال قد جري حقاً على وتر كوني آخر في لحظة ما ولو بشكل ضمني في عقل الكاتب. ولكن الشاهد في هذه السردية التراجيدية الساخرة لدون كيشوت أن يستحضر بخياله آفاقاً غير متحققة بالواقع الراهن أو أنها أنجزت في ماضٍ سحيق ولم تعد، أو أنها تكمن في مستقبل بعيد. 
كل هذا يمثل سرداً كونياً لمحاولات الإنسان أن يؤكد قدرته على وضع يده على العالم بأسره بأن يبني من حصيلة الشواهد حوله افتراضات لرؤى كونية شاملة world-view من أجل أن يعطي بها تفسيراً مستساغاً للعالم، وربما ظن أنه كلما تطورت خبرته وازدادت حصيلة هذه الشواهد المدركة لديه واتسعت بها عنده حجم الافتراضات التفسيرية كلما ضاقت الهوة بين نسبة الحقيقة ونسبة الخيال في الواقع وفي وعي الانسان، ولكنه في كل مرة يجدها تتسع أكثر. فإذا كان البطل الاغريقي الأسطوري (سيزيف) قد حكم عليه بأن يصعد بالصخرة إلى قمة الجبل العالي وعندما يبلغها تسقط الصخرة إلى سفح الجبل ليعود (سيزيف) ليحملها مرة أخرى إلى القمة وهكذا إلى الأبد، فإن العلم في بحوث العلماء يفعل نفس ما يفعله (سيزيف) بالصخرة حيث أن العلماء في كل مرة يحققون كشفاً يبلغون به قمة العلم سرعان ما يتبين لهم أن هنالك قمم أخرى أعلى ورائها عليهم بلوغها لدرجة أن يظهر أن جهل الانسان هو الذي يتسع وليس علمه فسبحان القائل ".. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (القرآن الكريم، الاسراء 85). ولكن الانسان في نهاية الأمر يجد لزاماً عليه أن يتحرك في الوجود حوله ولا مفر، وينشئ بهذه الحركة ضروباً في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وهو ما يتطلب اتجاهاً للحركة وغاية لها وهذا بدوره يفرض أمام الانسان قيمة ما تدله على المعنى والمغذى الذي اختاره لوجوده في العالم والحياة، فإما أن يكون أثراً وإما أن لا يكون ، ولذلك فكما أن الغلاف الجوي يحيط بالكرة الأرضية في مدارها الكوني كذلك يحيط الخيال بالعلم ويلتف العقل الانساني حول الحقائق الثابتة والقوانين العلمية في معرض تأويلها وتوظيفها بحسب ما لديه من رؤية كونية شاملة. ولأجل هذا كثيراً ما ينشئ الانسان مجلداً سردي يضع فيه ظواهر وأحوال وقوانين ونظريات الوجود، وكل مجلد سردي هو ملف معني بقضية محددة تصنف فيه كل المحاولات التخيلية تجاه هذه القضية، وهذا التصنيف هو مما يفيد ويغذي النقد Criticism. وهكذا فإن السرد هو القالب التداولي في التعبير الضروري عن الفكرة العلمية في جملة المحيط العقلي الخيالي، كما أنه الناقل للخبرات المتراكمة بين أجيال الإنسان - في رسائل منطقية على مستوى الفهم - وفي رسائل أدبية على مستوى الشعور – لتؤدي دورها الأساسي وهو إعادة بناء وتصور الواقع والعالم على نحو اكثر تطوراً في كل مره بنفس القدر الذي يجسد فيه السرد أيضاً ما خفي على مدونات التاريخ قياساً على ما ثبت من هذا التاريخ. كما أن المجلد السردي الذي يدون فيه الانسان ما يقع لديه من الكون إنما يمثل على الأرجح المسافة أو فضاء الجدال بين الحقيقة الواقعة المعلوم ثبوتها والافق الخيالي على غرار اللوحة التشكيلية المتكاملة العناصر والابعاد. ولذلك كان النقد criticism يفرض على السرديات شرطي البناء النسقي systematics والتراتب والتكامل والاتساق السياقي coherence of context لعناصر المروية أو القصة، فالسرد إذن هو أداة الخيال ومطيته. أما على صعيد التأثير السردي في رسم مقولات العدم والمصير والمجهول القادم فيمكن أن نجد تعبيراً عنه في ذلك القلق الناشئ عن تلك الفكرة السردية التي ضمنها (دان براون) Dan Brawn بالنص اللافت للانتباه في روايته (الأصل) Origin التي صدرت مؤخراً :
"تذكر (لانغدون) أن اختبار تورينغ كان تحدياً اقترحه مفكك الرموز (آلان تورينغ) لتقييم قدرة الآلة على التصرف بطريقة لا يمكن تمييزها عن سلوك الانسان. في الأساس، يقوم حَكَم بشري بالإصغاء إلى حديث بين آلة وإنسان. وفي حال لم يتمكن من معرفة أي من المشاركين هو الانسان، تعتبر الآلة ناجحة في الاختبار. تم اجتياز تحدي تورينج في الاختبار الشهير الذي اجري عام 2014في الجمعية الملكية في لندن. ومنذ ذلك الحين تقدمت تكنولوجيا الذكاء الصناعي بوتيرة سريعة للغاية." (10)، هكذا يعكس هذا النص جدلية تطور الذكاء الاصطناعي في الانتقال من حالة العقل الحسابي Reason الذي لا يتجاوز عمليات تحصيل الحاصل المنطقية الرياضية tautology في معالجة المعلومات المعطاة على نظام التغذية الراجعة feed back وهو ما جعل الآلة حتى الان رهن تحكم الانسان وسيطرته، إلى حالة العقل الانفعالي Mind والذي يتجاوز حدود التفكير الرياضي استقراءً واستنباطاً ليبلغ العمليات الشعورية الآدمية ومهارة ارسالها بالطبقات الصوتية للغة مما لا يخضع لأي وظائف حسابية أو صياغات علمية ابتداءً، وهذا العقل الانفعالي يحتوي العقل الحسابي ويسيطر عليه في التوظيف والاستخدام التداولي في الحياة العامة، وهو ما يجعل البشر بشراً. والان وبعد اختبار تورينح ودخول الذكاء الاصطناعي بقدراته الفائقة فضاء العقل الانفعالي فما مظان أحوال الانسان في الوجود بعدها وكيف سيعيد رسم أدواره المستقبلية في خضم ما أوكت يداه وبما كسبت. إن دخول هذا الأمر إلى الأنماط السردية على هذا النحو الذي يثير المخاوف على مكانة الانسان في العالم من حيث بقاؤه وتميزه إنما يعيد السؤال حول الخصوصية العقلية للإنسان بكونه يملك المخيلة الفريدة التي مكنته دوماً من ممارسة حياته في هيئة شعوب وقبائل يختلفون في ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق وأنماط حياتهم، ثم بالدرجة الأعلى أنهم عبروا عن هذا كله  بكيفيات متعددة حتى في استخدام اللغة الواحدة (11)، فكان التعبير عن طريقة ما في الحياة يتناسب وكيفية معينة في استخدام اللغة العادية الأمر الذي قد لا يتصور أن يسمح به تطور الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالمستوى الخاص لٍكل طريقة حياة على حده وإن كان من الممكن تصوره بالنسبة لصور الانفعال البشري على وجه العموم أي في كلياته المبدئية وليس في خصوصيته لدى كل طريقة في الحياة لشعب أو قبيلة وفي صياغات وأشكال التعبير عنها، وهذا إذا سلمنا ابتداء بأن تعدد واختلاف وتمايز بني الانسان الذي يجعل منهم شعوباً وقبائل إنما هو خلق رباني ماضٍ بلا تبديل ما دامت السماوات والأرض وهو في قوله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (القرآن الكريم، الحجرات 13). وليس هذا فحسب، فإن التعبير اللغوي التداولي الذي يعد مكوناً لازماً لكل طريقة في الحياة ليس فقط يمثل النسيج الرابط لعقول الأفراد المنتمين لشعب معين أو قبيلة وإنما أيضا هو الناقل لكافة محمولات ومضامين الخبرة لدى الشعوب الأخرى إلى داخل الشعب المعين ليتم إعادة التفاعل معه وهو ما يجعل مجمل الخبرات الحياتية لدى كافة الشعوب مما يمكن نقله إلى العالمية من خلال الوسيط والقوالب السردية. وهذا ما يمكن أن يكون قد دعا علماء وفقه اللغات وفلاسفة اللغة إلى افتراض تصوري للغة المتداولة عرفوه اصطلاحاً (اللغة الفوقية) Meta-language فتكون هذه اللغة الفوقية لغة شارحة على (لغة الموضوع) Object-language والتي هي نمط اللغة المحكية المستعملة تداولياً لدى شعب أو قبيلة تبعاً لطريقتهم في الحياة واختلافها عن غيرها من طرق الحياة الأخرى، وكان ذلك التقسيم حرصاً على الفهم والتفسير الكامل للوسيط اللغوي وما يحويه.
 ولأجل هذا من المناطقة من جعل (اللغة الفوقية) هذه على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى disjoint هي اللغة الفوقية المنفصلة عن لغة الموضوع وتدرس العناصر والمضامين والدلالات التي تحويها لغة الموضوع فهي بمثابة شرح لهذه المضامين والدلالات وليس شرحاً مباشرا لسياقات اللغة نفسها، والمرتبة الثانية overlaps هي اللغة الفوقية المتداخلة في لغة الموضوع لتعنى بشرح مكوناتها النحوية والتركيبية في سياقاتها، والمرتبة الثالثة  containsهي اللغة الفوقية التي تحتوي لغة الموضوع وتحيط بها من حيث أنها تشرح الأطر الصورية الرياضية والقواعد المنطقية العامة في بناء كل لغات الموضوع (12).
ولكن بالرغم من افتراض لغة شرح فوقية كانت من أجل الإحاطة الكاملة بفعالية اللغة والتحكم في أدائها التداولي والنقلي للخبرة، يظل السؤال قائماً (إذا كانت لغات الموضوع تتجلى ابداعياً في التكييف السردي التخيلي لسمات الملكة العقلية والتصورية والوجدانية لشعب ما، وأنها تظل تتسع على مر الزمان من حيث ارتباط فكرة العقل باللغة ليس بكونها فقط وسيلة للتعبير والاتصال وإنما بكونها عنصراً تكوينياً في طريقة حياة يتوافق مع كل العناصر الأخرى فيها لتشكل وعياً حضارياً معيناً، فكيف إذن للغة الفوقية أو لغة الشرح أن تلحق بهذا الاتساع المستمر للغة الموضوع وتقوم بالإحاطة والتداخل والتخارج بصددها)، إن الأمر في هذا لأشبه بمحاولة علماء فيزياء الكوانتم بالإحاطة والسيطرة على جسيم الطاقة وتفسير ماهيته برغم حالته في مبدأ الارتياب أو اللايقين لدى (هايزنبيرج). 
النظرية العامة للزومية النص المحكم :       
  عندما يواجه الانسان الكون بعقل مكشوف اعزل من المراجع والنصوص، فإنه يمكن وصف حاله قياساً على ما كتبه (كارل بوبر) K. Popper فيما ما يحدث الطفرات في داخل البنية الجينية الوراثية لدى الكائن " إن الطفرات على المستوى الجيني ليست فقط عشوائية، بل أيضاً عمياء تماماً، إنها عمياء بمغذيين فأولاً، ليس هناك أي تعقب لهدف محدد. وثانياً، بقاء طفرة لا يمكنه أن يحكم الطفرات الأبعد ولا ترددات واحتمالات حدوثها" (13). وكذلك "على المستوى العلمي، نجد أن اتخاذ حدس افتراضي أو نظرية جديدة قد يحل مشكلة أو مشكلتين لكنه دائماً يفسح المجال للعديد من المشكلات الجديدة ولنظرية ثورية جديدة تمارس فعلها تماماً كما لو كانت عضواً جديداً فعالاً من أعضاء الإحساس، وإذا كان التقدم لافتاً فسوف تختلف المشكلات الجديدة عن المشكلات القديمة، سوف تكون المشكلات الجديدة على درجة من العمق تختلف اختلافاً جذرياً، وعلى سبيل المثال حدث هذا مع نظرية النسبية وحدث مع ميكانيكا الكوانتم ويتحقق الأن بشكل مذهل مع البيولوجيا الجزيئية. في كل حالة من هذه الحالات تفتح النظرية الجديدة آفاقاً جديدة مترامية من المشكلات غير المتوقعة" (14).
إن ما تشمله دلالة الخيال والمتخيل ليس فقط كافة الممكنات غير المحدودة في تأليف وإعادة التأليف لمفردات الخبرة في مركبات ذهنية جديدة في كل مرة، وإنما أيضاً الحيز المتسع من المتغيرات غير المحدودة أمام كل ثابت علمي، على منوال استشهادات (كارل بوبر) تلك، وكلاً منهما يغذيان التصور السردي للعالم لدى الانسان. ولكن الفرق أن منها ما يتحقق في وجود عيني فعال، ومنها ما يظل مجرد حالة سردية لا تتحقق. وبقول آخر من السرد المتخيل ما يكون فرضية تتحقق كاكتشاف علمي أو اختراع صناعي، ومنها ما يظل دوماً في حيزه كفرضية لا تقبل التحقق.
والمشكلة ليست في المخيلة بذاتها وإنما المشكلة هي أن المجتمع الإنساني يحتاج إلى طريق يسير عليه بثبات مهما تغيرت الصور المتخيلة من حوله حتى لا يضيع. والمقصود هو حاجة الانسان لثوابت قيمية برغم كل المتغيرات، وهذه الثوابت هي ما يضمن لديه الحق الواحد والعدل الواحد والاستفادة الإيجابية من كل متغير علمي والاستخدام السليم لكل ثابت علمي. فالأمر تماماً كالدستور بالنسبة للدولة، فالدولة بلا دستور حتماً زائلة وبسرعة. ولكن هذه الثوابت للقيمة الارشادية للإنسان في الكون حتماً لابد من اشتمالها على الوصف الكلي للكون ما علمنا منه وما لم نعلم، ولا يكون هذا ممكناً إلا إذا نظرنا إلى الأمر وفق (حجة الساعة) كما قدمها (وليم بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology رداً على الالحادية الداروينية، حيث أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة، هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك. ولذلك جعل الله تعالى من القرآن الآيات المحكمات على ظاهر نصوصها بما لا يمثل شبهة ولا يحتاج لتأويل وهو أغلب آي القرآن "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" (القرآن الكريم، آل عمران 7). والتي هي ترسي الثوابت التي لا يؤدي الخيال الانساني دوراً فيها بذاتها ولا يملك الانسان إلا اتباعها دون فحص العلة الربانية منها على نحو سؤال العلماء للسببية في الطبيعة، وربما صح في ذلك مذهب (ابن حزم) الظاهري عندما قال "لسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب، بل نقول ليس منها لسبب إلا ما نص عليه منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء" (15)، والحديث النبوي الصحيح أيضاً على منوال ذلك. وإنما للخيال السردي أن يدور كما يشاء وكيفما شاء حول هذه الثوابت المطلقة المعطاة بالنص المحكم ولكن ليس في تأويلها بذاتها، ثم لعل أن النص المحكم يكون هو العامل الوحيد الذي يسمح لأصحاب النظريات العلمية – نظرية (داروين) Ch. Darwin في تطور الجنس البشري مثلاً – أن يكون لها من الفائدة في فهم الحقائق الراهنة بين أيدينا، أي في مجالاتها وتطبيقاتها الفعلية القريبة في الوجود الفعلي للإنسان أمام الطبيعة في العالم ممن خضع بصورة حية إلى إجراءات الملاحظة العلمية والتجربة. أما أن تجعل مثل هذه النظرية من نفسها شرطاً لتفسير الأصول البعيدة وأحوال النشأة الأولى وتفرعاتها فهذا مما لا يمكن قبوله نظرياً أو عملياً بحال بكون ذاك أمر لم يزل في حيز الافتراضات التي لا تتحقق برغم كل التقدم العلمي الراهن، فإن الله تعالى قد حسم فيه القول "ما اشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا" (القرآن الكريم،الكهف 51). فالإشهاد هنا لا يعني فقط الرؤية البصرية، حيث لا دليل في النص على قصره عليها، لذلك يمكن أخذ الاشهاد على معناه المطلق بما يفيد كل ما يدل على التثبت اليقيني. والمطالبة بتوقف العملية التخيلية الافتراضية في هذا الأمر يكون بسبب أن التخييل لا يكون إلا على مفردات وردت إلى حيز الخبرة عبر المنافذ الادراكية الحسية أولاً ثم يتم تركيبها في أشكال وهيئات متخيلة، ولكن عملية الخلق الأول لم ترد إلى المنافذ الإدراكية الحسية أصلاً لتكون عنصراً من عناصر الخبرة لدى الانسان.
إذن فالنص المحكم في القرآن الكريم هو محدد الثوابت في توجيه حركة الانسان في الوجود والقيم التي عليه أن يحملها في إدارة الحياة. وعموم آيات القرآن الكريم هي اللغة الفوقية الشارحة والضابطة الوحيدة الممكنة ليس على لغات الموضوع التداولية بين الشعوب والقبائل وإنما على مفردات وتأليفات المخيلة الإنسانية ومجلداتها السردية حول الأسئلة الكلية على ماهية الوجود والعدم والغاية والمبتدأ والمنتهى مما لم نشهد خلقه في هذا الكون.
خلاصة :
إن الانسان يحمل العالم في رأسه ويعيد بنائه فيه مرات ومرات ربما بلا منتهى ثم يضع ما تصوره برسم خياله في حكايات وصور وفرضيات تفسيرية، فالخيال المجرد كالدائرة التي لا تبدأ لتنتهي بل تستمر، فإن لم يكن هناك عقال رابط للخيال الدائر بحد من الثوابت الأخلاقية والمعرفية يركن إليها الإنسان كمنطلق ومرشد وغاية في ممارسته الذهنية تلك لظل يدور بلا غاية وربما ينتج علماً وعمراناً ولكنه لن ينتج حضارة مجتمعية وقيم إنسانية وكونية عليا، ولربما أضاع الانسان نفسه. 
الاحالات المرجعية:
(1) Gilbert Ryle - Philosophical symposium (The physical basis of Mind) – Basil Blackwell, Oxford , 1957, p. 75.
(2) عبد الرحمن بدوي – مناهج البحث العلمي – وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثالثة، 1977م. ص 147، 148.
(3) Dictionary of philosophy – edited by; I. Frolor , Progress publication , 1984 , p. 348.
(4) Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – Rutledge & Kagan Paul , London , 1967.p. 24.
(5) Hans Reichenbach – philosophic foundation of Quantum mechanics – University of California, 1944 , p. 29 , 30.
(6) ستيفن هوكينج – موجز في تاريخ الزمان – ترجمة/ عبد الله حيدر، أكاديميا، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، ص 74، 75.
(7) رولان أومنيس – فلسفة الكوانتم، فهم العلم المعاصر وتأويله – ترجمة/ أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 350، 2008م، ص 151.
(8) Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – p. 23.
(9) بول ديفيس، جوليان براون – الأوتار الفائقة، نظرية كل شيء – ترجمة/ أدهم السمان، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الثانية، 1997م، ص 142.
(10) دان براون - الأصل – ترجمة/ زينة إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص 50.
(11) Ray monk – Wittgenstein and the two cultures – BBC radio, 66 prospect, July 1999 , pp. 1-2.
(12) Michael Fisher – Language, Meta-language – J. of the IGPL, vol. 4, no 2, p. 260.
(13) كارل بوبر – اسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية – ترجمة/ يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 292، 2003م، ص 38.
(14) كارل بوبر – اسطورة الإطار – ص 37.
(15) محمد أبو زهرة – ابن حزم، حياته وعصره آراؤه وفقهه – دار الفكر العربي، ص 436.
 

الخميس، 7 يونيو 2018

الفصل الدلالي بين مفهومي (بشر) و(انسان)

 تحقيق منطقي للفصل الدلالي بين مفهومي
 (بشر) و(إنسان)
(دراسة في حذف القول بالترادف في فهم القرآن)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مقدمة :
مما هو مشار إليه تاريخياً أن الديانات ، أي ديانات ، منذ فجرها البعيد كانت أشمل وأعم وأكبر من المعرفة العلمية وحقائق العلم المكتشفة . وكذلك أيضاً كانت الفلسفة ، وكان هذا قائماً بطبيعة حال مدى كلية النظرة في الديانات والفلسفات والعلوم وفق معانيها الإصطلاحية . فالعلم هو ما استند على الحقائق اليقينية للموجودات في صورتها التجريبية ، أما الديانات والفلسفات فقد تحوي شيئاً كثيراً من حقائق العلوم لكنها بالتأكيد تتجاوزها برسم التصورات النهائية والعلل الكلية البعيدة والتي تحكم على الكون والوجود منذ تصور بداياته الأولى وحتى تصور ما سينهي إليه في قول واحد.
وإذا انتقلنا من هذه الرؤية العامة إلى تحديد القول في النصوص الدينية القرآنية التي تحمل من الحقائق والقوانين العلمية ما صار لدينا قاطعاً وثابتاً ببرهان العلم ومنطق البحث والشهود العيان ، فبالضرورة حتى وإن كان نسبة هذه النصوص أقل كثيراً من جملة نصوص القرآن مما لم يعلم دلالاتها العلمية بعد ، فلن يكون لدينا حق منطقي في أن نحكم بأن النسبة الغالبة الباقية غير المعلومة الدلالة تلك لن تثبت على النحو العلمي أو أنها غير قابلة للتحقق بالمعنى الذي أرادته (الوضعية المنطقية) Logical positivism فالقاعدة المنطقية هنا (أن ما تم تحقق ثلثاً منه بشكل علمي يقيني ، لا يستلزم مطقياً توقع عدم تحقق الثلثين الباقيين إلا أن يقع ذلك بالفعل) . وهذا هو الحال في الفهم الإنساني العلمي للقرآن الكريم ، فما تحقق منه علمياً حتى الآن في كافة المجالات فإنه يكون قانوناً علمياً Scientific law وتلك النسبة المعلومة لدينا منه تشير منطقياً إلى ثبوت وتحقق المزيد مع نمو وعينا العلمي وتطور وسائل البحث العلمي  . عند هذا الحد يصبح المنطق السليم أن القرآن الكريم بكونه يحتوي قوانين علمية وحقائق راهنة وماضية  اضافة لاحتوائه المخطط الأخلاقي والتشريعي الكلي هو أشمل وأعم وأوسع من جملة هذه الحقائق ليصف بذلك الوجود على نحو كلي ما حضر منه أمام أعيننا وما لم يحضر بعد ، وما وصفناه منه بأنه الفيزياء وما نصفه بأنه ميتافيزياء . وبناء على هذا المنطق أن القران يقود العلم ، أي أن العلم في سيره وتقدمه لابد أن يتحاكم إلى القران وينضبط عليه وفق اتساعه وليس العكس .
وهذه الدراسة تتناول تطبيقاً لهذه الأطروحة على صعيد إثبات عدم الترادف لكلمات القرآن في دلالاتها بصدد وصف الأحوال ، والنموذج التطبيقي لذلك هو اختلاف دلالة كلمة (بشر) في استخدامها القرآني عن كلمة (إنسان) الأمر الذي من شأنه أن يرسم – عبر منهج تحليلي استنباطي – تصوراً معرفياً وصفياً لمجمل المتعلقات والمقاصد في خلق الإنسان وتكليفه . ويكون هذا على محورين :
المحور الأول هو المبادئ والشروط الملزمة للبحث العلمي في القرآن الكريم وحدود التأويل عليه . والمحور الثاني هو متن الحقيقة في فهم علامات التمييز بين دلالة (بشر) ودلالة (إنسان) على ضوء مجمل السرد العام لخلق الإنسان في القرآن الكريم .
أولاً – الشروط والمبادئ الأصولية الملزمة :
 يمكن تعيين مبادئ أصولية ملزمة لابد من التقيد بها فبل الشروع في أي دراسة علمية كونية في سبيل الفحص والتنقيب عن إشاراتها في القرآن الكريم بغرض تكوين تصور كلي يتجاوز الفرض العلمي الجزئي نحو قضية علمية ما ويخدمه في نفس الآن ، وذلك بضبط حيز الاستنباط والاستدلال العام فيه وبضبط حيز الدائرة المغلقة للفروض بحيث لا يتيه الخيال ويسرف في تأسيسها – هذا من جهة ، ومن جهة أخرى حتى لا تكون نصوص القرآن العظيم رهناً للتفكيك كلُ يقول فيه بهواه .
وهذه المبادئ أو الشروط هي ما يلي :
1- الإيمان البرهاني الوثوقي بأنه ليس هناك ترادف في القرآن كلمة بكلمة ولا زيادة مضافة بغير دلالة في النص . فكل كلمة وردت في القرآن وفي داخل سياقات الآيات هي معنية بذاتها معنىً ودلالةً وحكماً وإن تشابهت الكلمات في ذلك . فلو كان في علامات signs القرآن ترادف لأمكن نزع كلمة ما ووضع بدلاً منها الكلمة مرادفتها دون أن يتغير المعنى ودون أن تتغير الدلالة ، وهذا هو ما يسمح باستعمال التفكيك على النص القرآني واعتباره نصاً أدبياً كباقي نصوص الأدب وليس نصاً مقدساً وهو ما يجوز ولا يمكن في حق القرآن وحاله ، لأن الترادف على هذا الوصف يكون به شيء من الاعتباطية في الاصطلاح على الدلالة بمعنى أن إدخال الكلمة أو مرادفتها في ذات السياق لا يكون فيه فرق بينهما فإدخال أيٍ منها هو سيان مع الأخرى . ولكن الشاهد الأصولي الثابت أن كل سياق في القران مقصود لذاته بعلاماته وكلماته فلا بديل لكلمة بأخرى في الموضع في السياق . وقد يتأكد ذلك المبدأ الأصولي عملياً في آية قرآنية واحدة اشتملت على ثلاث كلمات مما يقع عليها الظن بالترادف ويفيد حضورها في سياق واحد دلالة لمنع الترادف ، فقال تعالى (... وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) – الأعراف 198-  فالكلمات الثلاث (تراهم) (ينظرون) (يبصرون) هي كلمات من عائلة لغوية واحدة فلو كان بينها ترادف لما كانت هنالك حاجة إذن لكتابتها برسوم مختلفة ولكان التكرار لواحدة فقط منها يفي بالمقصد . 
2- عدم إخراج أي علامة لغوية من عائلتها اللغوية ، وهو ما عبر عنه (لدفيش فيتجنشتاين) L. Wittgenstein بمقولة (المشابهات العائلية) حيث يتحدد بها منتهى السقف الدلالي في استخدام الكلمة ، أي أن العائلة اللغوية التي تنتمي إليها أية كلمة أو علامة لغوية هي محصلة كيفيات الاستخدام الممكنة كلها لتلك الكلمة في السياقات المختلفة وما يحفظ لها خصوصيتها عن سائر الكلمات والعلامات اللغوية  وبما يسمح لها بالتبادل الدلالي في الاستخدام المجازي بينها وبين العلامات والكلمات المشتركة معها  في العائلة اللغوية مع حفظ عدم الترادف بينها . ومثال ذلك عند الاستعمال اللغوي لأغراض التشبيه والاستعارة البلاغية ، فيمكن استعارة اللون الأبيض للتعبير عن القلب الطيب وللتعبير عن نقاء السريرة وللتعبير عن صدق القول والشفافية . وما يحدد العائلة اللغوية في استخدام الكلمات هو الأجناس الوصفية العامة والكلية للوجود والتي يتم بموجبها تصنيف الكائنات بحسب مقابلاتها اللغوية ، فالعلامة التي تصف حالة مادية على صورة معينة عندما يتم استعارتها لوصف حالة معنوية فإنه يتم تداولياً اختيار الحالة المعنوية التي تلائم الوصف للحالة المادية فيحصل بذلك الاشتراك في العلامة . فاللون الأبيض في طلاء الأسطح المادية هو أبرز لون يتصف بالنصاعة والوضوح والحساسية ، فعندما يتم التشبيه عليه القلب الأبيض فإن القلب فعلياً من حيث مادته ليس أبيضاً ولكن فقط معنوياً تمت استعارة اللون الأبيض لوصف حاله المعنوية من خير وطيبة وصدق وصفاء نية فيكون ذلك دالاً على الملائمة المعنوية الاشتراك في العلامة وبالتالي يكون هذا الاستخدام في اطار جنس عائلي لغوي معين ، وذلك بالعكس تماماً من استخدم الأبيض لدلالة على الكراهية والحقد والحسد والغموض حيث لم يتعارف الناس في كافة شعوبهم وعلى مدى تاريخهم باعتماد هذا الاستخدام وإنما كانت دائماً هذه الأحوال المعنوية السالبة مستعار لها الأسود فيكون دالاً معنوياً على اسوداد القلب بمثل ما هو دال مادياً على ظلام الأسطح المادية وتعتيمها .
3- عدم اعتماد أي استدلال على التأويل لمعنىً باطن في النص والسياق القرآني بما يخلف ظاهر معناه . وهذا مستفاد من مبدأ المشابهات العائلية اللغوية في تحديد سقف المشتركات الدلالية للعلامات في النصوص والسياقات . وعنى ذلك – على النحو المنطقي – أن ظاهر النص هو درجة من درجات التفسير ثابتة وواضحة من محض القراءة . وكذلك المعاني الباطنة هي لا تلغي ولا تصرف المعنى الظاهر وإنما بمثابة درجات أعمق أو أعلى ولكن على نفس السلم أو الدرج دون الخروج عنه ، وإلا لو خرج التأويل عن خط الدرج أو السلم وناقض التفسير الظاهر صار الأمر تفكيكاً لا رابط معه للسياق النصي . فمثال في التأويل هو على نحو الدائرة الصغرى وهي حد التفسير الظاهري تحيط بها دائرة أكبر وأكثر اتساعاً ولكن كل من الدائرة الصغرى والكبرى ترتبطان أو تنطلقان من نفس المركز وهو هنا المشابهات العائلية اللغوية . إذن فالاستدلال على التأويل بالاستنباط للمعنى الباطن لا يعارض بل يتكامل مع تفسير المعنى الظاهري أو المباشر .
4- حتمية التزام الوحدة السياقية للبناء الكلي القرآني – وأيضاً الحديث النبوي- فإن من اكثر الأمور تضليلاً عن الحق في التعامل مع التفسير الظاهر للمعنى أو التأويل الباطن هو (جعل القرآن عضين) أي فصل النصوص بحسب الحاجة عن البناء الكلي للقرآن مما يؤدي إلى إسقاط كثير من الأحكام المتكاملة وفقدان العديد من الدلالات التي تكون الصورة الكلية للموضوع المراد الاستدلال عليه أو الاستنباط منه . وهذا ما يؤدي إلى القول بتفكيك النص النص وموت المؤلف وتحرير العلامات اللغوية بما يحتمل الأضداد والتناقضات في سياق الآية الواحدة . والوحدة السياقية للنص تكون على اتجاهين ، اتجاه في الربط الاحصائي لكافة الآيات المتعلقة بموضوع واحد بما يشكل اكتمال أبعاد الرؤية له وتمام زوايا المربع ، واتجاه آخر في ربط الرؤية العامة للموضوع بكافة الآيات المخصوصة له مع عموم سياق القرآن من أول سورة (الفاتحة) وحتى آخر سورة (الناس) . وفائدة ذلك أولاً أن أي البحث لا يغفل بعداً أو زاوية لموضوعه إلا أحصاها عبر الآيات المخصوصة لها قدر الامكان مما يقلل الفرص المتاحة للثغرات ، وثانياً أن ربط الآيات موضوع البحث بعموم آيات القرآن يوسع الدائرة حساب العلاقات للموضوع حتى مع ما هو خارج عنه أو غير داخل فيه بصورة مباشرة مما يفيد في تحقيق التركيز وتمام النضج في فهم الموضوع وتقوية الأحكام والحد من كثير من السقطات الاستدلالية والاستنباطية ورفع كفاءة الاجتهاد بالقرب أكثر الشيء من الالتزام بروح القران ، وأيضاً رفع ما يحتمل من الوقوع في التناقضات والتعارضات الظنية بين الآيات أمام الباحث فيها .
إذن ، وتلخيصاً لهذه الشروط اللازمة لبحث أي موضوع معرفي في القرآن الكريم ، ما يلي :
1- ليس هنالك ترادف في القرآن الكريم .
2- عدم جواز اخراج أي علامة من عائلتها اللغوية في التأويل والاستدلال .
3- التزام التأويل المتعلق بأي درجة من درجات المعنى الباطن لدلالات الآيات القرآنية وذلك بعدم مخالفة أو معارضة درجة التفسير الظاهر للمعنى .
3- التزام الوحدة السياقية لكافة آيات موضوع البحث المحدد مع مراعاة الوحدة السياقية للبناء الكلي العام للقرآن بما يضمن خلو الفكرة من أي تناقض .

ثانياً – متن الحقيقة في حذف الترادف بين البشر والإنسان :
إن كلمة (البشر) في القرآن الكريم تختلف دلالياً عن كلمة (إنسان) ، فبالقياس إلى مبدأ عدم الترادف في القرآن يكون الاختلاف في العلامة اللغوية Sign هو اختلاف في الدلالة reference . وإذا أمكننا القول أن العلامتين (بشر ) (إنسان) هما من عائلة لغوية واحدة  فإن هذا يعني أنهما ليستا تبادلاً على دلالة واحدة ، أي أنه ليس بينهما ترادف بل إن ما بينهما هو (مشابهة عائلية) وفق قاعدة (فيتجنشتاين) في التحليل اللغوي - المشار إليها آنفاً - والتي تقضي بأن الأمر في اللغة هو بنحو التكوين العائلي تماماً من حيث انتماء أفراد مستقلين في شخوصهم وذواتهم إلى عائلة واحدة ترسم عليهم سمات مشتركة مهما اختلفوا عن بعضهم . فإذن ، يكون الاختلاف بين (بشر) و(إنسان) ليس في العائلة اللغوية ، حيث أن الاختلاف للعائلة اللغوية إنما يعني اختلاف جذري في الشكل والمضمون بين العلامات في مقابلاتها النوعية، ولكن التمييز باشتراك العائلة اللغوية إنما هو محض تفاوت كيفي أو كمي مع بقاء الرابط المشترك وهو ما عليه حال التمييز بين علامتي (بشر) (إنسان) .
عليه ، تقوم الفرضية Hypothesis المحورية لهذا الادعاء على ما يلي :
1-  أن العلاقة بين البشر والإنسان علاقة تداخل وتصنيف وليست علاقة ترادف ، فالبشر هم الدئرة النوعية العامة والإنسان هو ضرب من ضروبها ، أو – بضبط المصطلح – أن البشر هو (جنس) والإنسان هو (نوع) من الأنواع في حدود هذا الجنس على اعتبار أن الجنس هو الفصيل الوجودي العام الذي يحتوي في طيه وجود الأنواع باختلافاتها النوعية . من هنا يتكون افتراض حذف الترادف في الاستخدام بين المفهومين ، وأن المرجعية الأساسية الواضحة لهذا الحذف أو التمييز هي الدلالة السياقية للقرآن الكريم في ورود كل من المفهومين . وإيضاح ذلك على ما يلي :
قول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30 – يفيد أولاً ، من ناحية دلالة الكلمات ، إذا كان المسمى الوصفي للإنسان (خليفة) منذ أول خلقه (آدم) عليه السلام فإذن يكون (آدم) خليفة . وأن حكم الخلافة منطقياً أن يكون الخليفة شرطاً من جنس المستخلف بعده ، فلا امتداد إلا في ذات السياق سواءً كان في اللغة أم كان في الوجود فالشرط أن يكون في حدود الجنس حتى ولو كان نوعاً مختلف أو ضرباً آخر من الضروب وعلى نفس الحيز المكاني . فمن الذي خلَفه (آدم) إلا أن يكون نوعاً من الأنواع في الجنس المشترك معه وهو (البشر) ، وأما عن حقيقة هذه الأنواع فهو المختلف فيه ومازال يجري التقصي نحوه . وثانياً ، أن حكم الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء بطريقة السؤال المفيد للتعجب بتعقيب مباشر بعد تلاوة قرار الله تعالى عليهم بخلق الإنسان إنما يدل على أن حكم الملائكة هذا جاء كردة فعل مسبقة البرمجة أي دون تفكير تأملي وحساب وتحقيق منطقي بل من واقع خبرة عملية سابقة . كما أن قول الله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) على الأرجح يشير إلى حصول ثمة علم لدى الملائكة - وهو ظاهر فيما قالوه عن الخليفة - وعلم الله إنما أكبر وزيادة عليه . وآية تأكيد وجود الشاهد التاريخي في علم الملائكة بفعل من ينتمون للجنس البشري قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدو ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) – البقرة 21- فالخطاب للناس غير محدود بمرحلة بعينها مما أنه ممتد منذ (آدم) عليه السلام ، وكما أنه خطاب مباشر إذن (الذين من قبلكم) هم من كانوا بخلاف الإنسان وعلى نفس جنسه من أنواع البشر ما يعلمهم الله تعالى ، وأيضاً الخطاب المباشر (هو ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن وارسلنا السماء عليكم ددراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشئنا قوماً آخرين) الأنعام 6-  ، فالخطاب المباشر هو للناس كافة ، بينما الخطاب بضمير الغيب قد يمثل خطاباً لفئة معينة معلومة وثابتة تاريخياً ، والسياق النصي للآية يتحدث عن فئة ما بضمير الغيب (يروا) ثم يحول الحديث إلى التوجيه المباشر للفئة الحاضرة بقول (لكم) ، ولعل دلالة ذلك هي أن المشار إلهم بـ ( قرنٍ آخرين) هم بشر سابقين على نوع الإنسان منذ (آدم) المخاطبين – أي نوع الإنسان – بـ (لكم) ، ثم يدعم هذا عود الحديث مرة أخرى بضمير الغيب (فأهلكناهم بذنوبهم) حيث أن ذلك هو ما جرى لهؤلاء القرن الآخرين وهو ما يتفق وعلم الملائكة بفساد من كانوا قبل (آدم) عليه السلام . ومن جهة أخرى ، ورد هناك إثبات لاستمرارية خلق الأنواع بذات النهج واستخلافها بعد الإنسان في قوله تعالى (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) الأنعام 133 – والإشارة المفتاحية هنا إلى دلالة الكلمة (ما) وهي على غير الكلمة (من) المخصوصة بنوع الإنسان .
وأيضاً شاهدة آخرى من واقع النبوة في قول الله تعالى في خبر (مريم) (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) مريم 17 -  ولم يقل (إنساناً سويا) مما قد يدل أن هذا الروح الآتي للسيدة (مريم) كان لابد له ليهب لها الغلام أن يتمثل بهيئة بشرية ولكنه يمتنع في ذات الوقت أن يكون إنساناً لأنه لو كان إنسان لكان حتما من نسل (آدم) مما يتعين معه ثبوت أب للمسيح (عيسى بن مريم) وهذا ممتنع بالقطع . ويكتمل الإثبات في الفصل الدلالي بين المفهومين (بشر) و(إنسان) بورود العلامتين في سياق آية واحدة في خبر (مريم) في قوله تعالى (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم إنسيا) مريم 19 - بما يستحيل معه التكرار أو التوحيد الدلالي للعلامتين المختلفتين مرة في صدر الآية ومرة في عجزها . وهنا ينتج استدلال في اتجاه آخر ولكنه مكمل للفكرة الأساسية ، وهو أن خلق المسيح (عيسى) عليه السلام من أم وبلا أب ينفي تماماً القول بخلق الإنسان تطوراً ويثبت الخلق المباشر للإنسان بقدرة العلي القدير . فإذا كان التطوريون الدارونيين يقبلون منطقياً تصور خلق (آدم) تطوراً عن أصل سالف له بفعل الانتخاب الطبيعي ، فكيف لهم أن يقبلوا بتخليق إنسان بكافة مراحله التكوينية داخل رحم الأم دون مس من رجل بذات النوع الإنساني وبلا تهجين . وحتى إذا افترضنا جدلاً أن الخلق التطوري يصح في عموم الكائنات باستثناء الإنسان ، فإن الخلق المباشر للإنسان باليد الإلهية وبكلمة (كن فيكون) على خلاف باقي الكائنات لهو مدعاة أكبر لإثبات القدرة اللإلهية في الخلق ، وفي نفس الوقت كسر وإسقاط للتصور الأرسطي لدى من تبنوه من بعض أهل الكتاب وغيرهم  في القول بعدم التدخل المباشر لله تعالى في الكون المخلوق له بأمر مباشر .
وعلى ذات السياق الاستدلالي ، فإن التوجيه الإلهي لرد لرسول صل الله عليه وسلم (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) الاسراء 93-  يحمل الإشارة إلى أن بعث الرسول كان للإنسان وللبشر كافة ، أي للجنس وللنوع ، حتى إذا ما كان هناك ما لم نعلمه من أنواع البشر بجانب الإنسان ، فإن الرسالة تشمله .
2- أن (الإنسان) بكونه نوعاً للجنس (بشر) قد خلق خلقاً خاصاً مباشراً من طين ومن حمأ مسنون على نفس وصفه في آي القرآن الكريم بكل تفاصيل وعلامات ومعاني ودلالات هذا الخلق على ظاهر النص دون حاجة لتأويل بعيد أو قريب . فإذا توافقت فرضية حذف الترادف بين علامة (إنسان) وعلامة (بشر) فتكون تبعية النوع (إنسان) للجنس (بشر) هي تبعية انتماء – كما سلفت الإشارة – ولكن بخلق مباشر مستقل وليس في الأصل بتبعية نسل الذي هو التوالد التلقائي أو التهجين القصدي ، فتبعية الانتماء من غير نسل تنفي عن الإنسان مصدرية النشوء والارتقاء له عن أصل أو نوع بشري آخر على شرط التطور والتحول الانتقائي الدارويني . وشواهد القرآن على ذلك بنحو قوله تعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) السجدة 7 -  وقوله تعالى (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) – الأنعام 2 – فتلك الآيات على ظاهرها تفيد جلياً الحكم المباشر بمادة خلق الإنسان ، وأن الله تعالى بدأ خلق الإنسان بصنع مباشر من (طين) كما في قوله تعالى (قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ص 75 -  وليس من (خلية) حيوانية ، فيكون الإنسان بذلك خلقاً مباشراً دون سلسلة تطورية دارونية وأن المقصود بالخلق من طين ليس هم عموم أنواع الجنس بل الإنسان وحده فقط الأمر الذي يجعل نسبته للجنس العام (بشر) هي محض تبعية تصنيفية (من تصنيف) وليس توليدية . وهذا لا يتعارض مع القول بأصل عام – تكويني وليس تطوري – للخلق الحي وهو (الماء) تبعاً لقول الله تعالى (... وجعلنا من الماء كل شيء حي) الانبياء 30 – فالماء هو عنصر تكويني للمادة الحيوية للخلق ولا ينافي هذا تعدد التفاعلات الكيفية المتميزة له – أي الماء – باختلاف الكائنات لدى كل كائن على حده سواء كان من طين أم كان من غير ذلك ، فالماء لا يحدد شخصية الكائنات ولا يفرض فيها عنصراً تطورياً بذاته بما يؤدي إلى انبثاق هذه الكائنات بعضها عن بعض . فإذا كان قول الله تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا) الفرقان 54-  تفيد دلالة الخلق العام للبشر كجنس من عنصر الماء فإن الطين كان هو مادة التمايز والفصل النوعي للإنسان الآدمي عن باقي الأنواع للبشر بما يمتنع معه أن يكون قد صدر عن نوع منها .         
3- لابد من التمييز الضروري بين (البشر) و(أشباه البشر) ، فأشباه البشر هم من تحدثت عنهم مراجع الأنثروبولوجيا الطبيعية ومن بينهم حاولت المراجع الدارونية تعيين الحلقة الوسطى – بحسب وجه نظرها - في الانتقال التطوري عن جذر يكون بمحل الأصل العام للإنسان وأبناء عمومته من الشمبانزي والقردة العليا ، وقد تعارفت تلك المراجع على تسمية أولئك الأشباه باسم (الأناسي) أو (الأوادم) وهذا بفعل الخلط في فهم تلك المفاهيم والتي أوضحها وميز بينها دلالياً القرآن الكريم ، فيقولون مثلاً (آدم/ إنسان نياندرتال) (آدم/ إنسان كرومانيون) (آدم/ إنسان جاوه) ومما يبرز هذا الخلط في المفاهيم لدى تلك المراجع في الأنثروبولوجيا الطبيعية أنها تفرق بين (آدم) المعروف حالياً و(أشِباه البشر) وذلك من خلال الوضع المنتصب القامة ، التمييز الوظيفي بين الأيدي والأرجل ، نمو فراغ الدماغ ونمو المخ ، الصفات النفسية . وهذا يدعم القول بأن أشباه البشر ليسوا بشراً ، ناهيك عن نسبتهم إلى الضرب النوعي داخل جنس البشر وهو (الإنسان) . بل الأكثر من ذلك أنه إذا كان الوصف العام لأشباه البشر هؤلاء أنهم على حالة بدائية أقرب للطبيعة الحيوانية الفطرية ، فإن ما ذكر بصدد أنواع البشر في آيات القرآن التي تم الاستشهاد بها يدل ربما على تفوقهم حتى على نوع الإنسان في ذكائهم وقدراتهم وبنحو أكثر تطوراً . وإذا نما تساؤل عما إذا كانت الحفريات الأثرية قد أثبتت شيئاً من أنواع البشر البائدة تلك وآثارهم فليس أمامنا إلا أن نستلف نفس التعبير الذي ساقه (داروين) في كتابه (أصل الأنواع) The origin of species  للإجابة عن ذات السؤال فيما يتعلق بآثار الضروب الانتقالية الوسطى التي تربط النوع بأصله في التحول التطوري ، حيث نص أننا (إذا تدبرنا أي نوع من الأنواع على اعتقاد أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة تطورات وقعت على صورة غير معروفة لدينا ، كان لا مندوحة لنا من التسليم بأن الأصل الأول الذي عنه نشأ النوع ، مصحوباً بالصور الوسطى التي اشتقت منه وكانت تربط الأصل بفرعه الأخير ، قد انقرض جماعها بتأثير سنة الانتخاب الطبيعية ذاتها ، تلك السنة التي تحدث بفضلها الصور وتبلغ درجة الكمال التكويني . تقضي هذه الحقيقة بأن صوراً انتقالية وسطى تربط بين كثير من العضويات التي نلحظها في الطبيعة لابد من أن تكون قد عمرت الأرض في خلال الأزمان الأولى . فإذا كان الانقراض قد مضى بتلك الصور ، فلم لا نجد هياكلها العديدة مطمورة في الطبقات التي تؤلف سطح الكرة الأرضية ؟ ... الاعتقاد بأن السجل الجيولوجي الذي يؤيد صحة مذهب النشوء على حال من الاضطراب والنقص قل أن تسبق إلى حدس الباحثين . فطبقات الأرض على أنها دار عاديات طبيعية  بعيد عن الوهم أن يصور فرط عظمها ، فإن الصور المحفوظة فيها ناقصة مشوهة ولم تطمر فيها إلا من خلال فترات متباعدة من الزمان) . فإذا كان هذا هو الحال في أساس نظرية النشوء وأن ليس باللازم لتأييدها إيجاد الحفريات الدالة على صورها الجذرية الوسطى والتي قد تكون اندثرت عبر ملايين السنين في طبقات الأرض المتحولة ، فلما لا يكون منطقياً الادعاء بأن أنواع جنس البشر قبل آدم عليه السلام قد فنيت وزال أثرها تماماً ، خاصة إذا كان هذا الفناء ليس بفعل انتخاب طبيعي كما ذهب (داروين) وإنما بفعلٍ عقابي أو انتقامي على ما سلكوه سلفاً ، فإن الله تعالى قال في خبر مباشر جلي (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) مريم 98 -  فكان تدميرهم ماحياً لكل أثر لهم ، وليس ثمة ما يدل عليهم سوى الخبر القرآني . ثم اضافة إلى هذا التأكيد تأكيد آخر في وصف الإنسان في القرآن بـ (الخليفة) بما يفيد زوال كل الأثر السابق وفناء كل أفراد النوع أو الأنواع البشرية التي استخلف بعدها (آدم) عليه السلام .
الخلاصة :
1-  أن الانطلاق من البحث اللغوي الدلالي للسياقات القرآنية الدالة على حذف الترادف بين المفاهيم بصدد إنشاء تصور علمي معين ، ليثبت أن النص القرآني هو الحكم على البحث العلمي في أي موضوع وليس العكس . وذلك على اعتبار اأن القرآن الكريم هو الدائرة الخبرية الكلية بالكون والشاهد على الوجود ، فيمثل بذلك الإطار المعرفي المحيط بالعلم Science وليس أن العلم هو المحتوي للقرآن .
2- لفت الانتباه إلى أن تحقق (التكامل السياقي) المجرد للسرد النصي في بناء اطروحة أو تصور معرفي – علمي كلي أو جزئي بما يعطي نظرية ما ، إنما يجب اعتباره أحد عوامل الإثبات العلمي للنظرية المعنية حتى دون غلبة الرجوع والإحالة إلى الإجراءات والفحوص التجريبية ، وبحيث لا تكون هذه الإجراءات والفحوص العامل الحاسم في الأحقية المعرفية النظرية دون التكامل السياقي السردي الخالي من التناقض .
3- التركيز على حذف الترادف في القرآن الكريم بين المفاهيم المتداولة فيه يظهر ثراء الكنز الدلالي في التراكيب والأغراض السياقية الوظيفية لآيات القرآن ، كما يبرز المقاصد الحاضرة والمتوقعة على نفس قدر إبرازه للشواهد التاريخية المندثرة والتي تفيد كشف مغاليق التفسير للأحوال الراهنة والمستقبلة . فهذا التركيز إذن على حذف الترادف يشير إلى معاملة كل علامة Sign على قدر قيمتها الدلالية في السياقاتى القرآنية المتعددة . وأيضاً يعطي هذا اختباراً تدريبياً على ضبط لغة العلم وتحقيق قدرتها الوصفية بنحو أكبر . 
مراجع الدراسة : 
1- عبد الرحمن بن ناصر السعدي – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – دار ابن حزم ، 2003 . 
2- تشارلز داروين - أصل الأنواع - ترجمة/ اسماعيل مظهر ، مكتبة النهضة ، بيروت ، 1973 .
3- فاروق عبد الجواد شويقة - الأنثروبولوجيا الطبيعية والسلالات البشرية – البيطاش سنتر للنشر والتوزيع ، 2009 .
4- محمد إقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – ترجمة / عباس محمود ، مراجعة / عبد العزيز المراغي (بك) ، مهدي علام ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة .
5- وائل أحمد خليل - قاعدة خرق الأنساق ، رؤية فلسفيه منطقيه في استنباط الفرض العلمي في القرآن الكريم - (مجلة تفكر – جامعة الجزيرة – السودان) ، 2005 .

6- وائل أحمد خليل - ضوابط وقواعد التأصيل الإسلامي للمعرفة في صياغة المناهج والبحوث تكاملا مع ضوابط الإعجاز العلمي في مصادر الوحي - (مؤتمر قسم الدراسات الإسلامية – جامعة الخرطوم – السودان) ، 2012 .

7- وائل أحمد خليل - منطق المشكلات الزائفة ، دراسة في المسالة  المنهجية العلمية للتفسير والتأويل - (إصدارة مركز التنوير المعرفي – السودان) ، 2007 .


8- Ludwig Wittgenstein- Philosophical Investigations- Translated by:  G. E. M. Anscombe , Basil Black Well, Oxford,1953 .

9- N. R. Hanson - Patterns of Discovery – Cambridge University press , 1955 .